الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سفير جهنم

دلور ميقري

2023 / 2 / 10
الادب والفن


كانت تنظر إليّ بشغف وحنان، بل وبلهفة من افتقد شخصاً عزيزاً منذ عقود. رأيتها مع جمهرة من الناس، يقفون بانتظار مصعد الفندق. دققت فيها النظر، فيما أشحن بطارية ذاكرتي: " لعلها هيَ نفسها، الفتاة الموسكوفية، التي قضيت معها ذات مرة ليلة حمراء، ثم فقدتها بعد ذلك أبداً؟ "، قلت في نفسي. ثم استدركت على الفور، ساخراً من وهمي: " لكن بعد كل تلك السنين، من المفترض أنها ستكون بمثابة الأم لهذه الفتاة ".
بلى، لقد كانت هذه فتية، بديعة القسمات، جدائلها الشقر، الكثيفة، تسوّرُ خصرها الرشيق. وكان ثمة رجال آخرون، ينظرون إليها بدَورهم بإعجاب؛ وربما أيقظت أيضاً في نفوسهم ذكرى جميلة. بسبب تأخر المصعد، فضّل بعضهم متذمراً أن يرتقي الدرج. عندئذٍ حشرت نفسي مع من بقوا ثمة، دون أن أنظر مباشرةً إلى الفتاة الشقراء.
على الأثر، فتح بابُ المصعد. ولجتُ مع الآخرين، لأجد نفسي في مكان مربع، أنيق، ولو أنه مؤثث لغدا كأنه حجرة فندق من الدرجة الممتازة. بدأ كل من الموجودين يضغط على زر الدُور، المزمع أن يصل إليه. عندما جاء دَور فتاتي الشقراء، فإنها بدأت بالضغط على الزر فيما ترمقني بنظرة باسمة وغامضة في آنٍ معاً. عدتُ أخاطب داخلي: " إنها تدعوك إلى عدم الضغط على الزر! ".
تهيأت إحداهن للخروج، ملتفتة بوجها ناحية باب المصعد، إلا أنه لم يقف. عند ذلك، مدت الشقراء يدها وضغطت على الزر. وإذا المصعد يرتج بقوة، ومن ثم بدأ بالنزول بسرعة هائلة. صرخ البعضُ بالفتاة: " ماذا فعلتِ بحق الجحيم؟ ". شعرتُ برعب طاغٍ، وكذلك كان حالُ الآخرين ولا ريب، فيما المصعد يهتز بنا بقوة. إلا الفتاة الشقراء، فإنها ظلت رابطة الجأش وما لبثت أن مدت يدها مجدداً لتضغط على الزر دون توقف. ما هيَ سوى ثوان، والمصعد يتهادى ببطء ثم ما عتمَ أن توقف. دفع أحدنا البابَ بعنف، رامياً بثقل جسمه إلى الخارج. وإذا به يطلق صرخة كالعواء، بقي صداها يتردد لبضع لحظات.
" انتبهوا! "، صرخ رجلٌ متوسط العمر بلسان ثقيل وكما لو أنه ثمل. ثم أضاف: " هذا الباب، على ما يبدو، يفضي إلى هاوية وادٍ سحيق "
" ثمة باب آخر للمصعد، فهلم نخرج منه "، قالت الفتاة الشقراء بنعومة. وبالفعل، دفعت البابَ الآخر لينفتح على حافةٍ صخرية، ضيقة. ألصقت الفتاة ظهرها بحائط المصعد الخارجيّ، لتخطو من ثم خطوتين وتجتاز الحافة الخطرة. بقيتُ إلى الأخير، كوني أخشى من الأماكن العالية. لكن هيَ ذي الفتاة، تمد لي يدها مشجعةً: " هيا، إنهما خطوتان لا أكثر. أنظر إلى وجهي، حَسْب، وأنت تمشي "، قالتها بشيء من التهكّم.
صرنا جميعاً فوق سقف المصعد مباشرةً، وكان المكان تحت أرجلنا صلباً ومترباً. في تلك الجهة، أين سقط الرجل التعس، كان ثمة واد يجري فيه نهرٌ من المعادن المنصهرة وقد تصاعد منها البخار. أما خلفنا، فثمة واد يشقه نهرٌ أخضر اللون، جديرٌ بما يحيطه من جنائن وارفة الظلال. وكان هناك مراكب صغيرة، شبيهة بالجندول الفينيسي، تنقل أشخاصاً مستلقين برخاء وكسل.
على حين غرة، سمعنا جلبة، متأتية من حافة صخرية أخرى، تشرف على وادي الجحيم. بادر الرجلُ الثمل بالدنو أكثر ليرى ما يجري، لكنه سقط إلى قاعدة الحافة. أطللنا جميعاً إلى تلك الناحية، لنجد رجلاً يرتدي سترة كحلية، مشتبكاً مع رجل نحيل أصغر سناً. في الأثناء، كان الأول يضرب بقدمه على أصابع الرجل الثمل، الممسك بالحافة، محاولاً رميه إلى أسفل. كان ظهرُ الرجل الشرير إلينا، يفصله عنا نحو ثلاثة أمتار. قالت لي الفتاة الشقراء: " أمسك هذا الكرسي وأضربه على مؤخرته كي يسقط في الهاوية ". كان الكرسي في متناول يدي، فرفعته كي أطيح به ذلك الرجل، عندما قفز بعيداً.
" هه! أتحاول اللعب معي؟ إذاً أنزل إلى ساحة المعركة، لتريني قوتك وشجاعتك "، قال لي وهوَ يحدجني بنظرات نارية. وقفت متردداً، والكرسيّ يهتز بيدي. وإذا الفتاة الشقراء، تصرخ فيّ ألا أفعل. ثم التفتت إلى جماعتنا، لتقول وهيَ تومئ إلى الكرسي في يدي: " سنحطمه، وكل منا يحمل خشبة ونهجم جمعاً على هذا الرجل الشرير ".
سقط الرجل الثمل إلى أسفل، مطلقاً عواءه الأخير. وما أسرع أن لحقه الشاب النحيل، بركلة عنيفة من لدُن الرجل الشرير. عند ذلك نزلنا إلى حافة الهاوية، وكل منا يحمل هراوته، وما لبثنا أن صرنا بمواجهة سفير جهنم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر