الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دولارات وسيارات: من أحرز كأس خليجي 25، ومن وضعه في خزائنه؟

عباس عبيد
أكاديمي وباحث.

(Abbas Obeid)

2023 / 2 / 12
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


إنه موسم الكرم. جود متدفق على شرف استضافة خليجي 25. كرنفال عطاء بصري وعراقي يبدو أشبه بالمنافسة: من يُكرم أكثر من الآخر؟ السماء هي الأخرى، أرسلت أمطارها بسخاء باذخ. وفجأة. ما إنْ فاز المنتخب العراقي بلقب البطولة حتى بدأ السياسيون يتسابقون لمجاراة تلك النزعة الحاتمية. صور وأخبار لقاءاتهم بلاعبي المنتخب تتصدر العناوين. هداياهم "مكرماتهم" تنهال على الأبطال المتوَّجين باتصالات هاتفية على الهواء، إحداها كانت ضمن برنامج عربي شهير. حمى مزايدة راكمت حصيلة الهدايا الثمينة: (قطعة أرض لكل لاعب، جواز سفر دبلوماسي، سيارات حديثة، مبالغ مالية كبيرة بالدولار ...إلخ). سرعان ما أثار الأمر غضب واستهجان الكثير من العراقيين، وهم يرقبون تهافت أبطالهم على جوائز الساسة. هل كانت هدايا بريئة؟ هل يجوز –أخلاقياً- للاعبي المنتخب قبولها بأريحية؟
لا أحد سمع شيئاً عن افتتان أولئك السياسيين بعالم الرياضة. لا وجود لما يؤكد اهتمامهم بكرة القدم تحديداً، أو إدراكاً لما يمكنها أن تقدمه. تلك حساباتهم في فيسبوك وتويتر توثق نشاطاتهم على نحو شبه يومي، وهي لا تخبرنا أنهم جربوا اللعبة، أو قرأوا كتاباً عنها، أو حضروا مباراة واحدة في الدوري العراقي، لأجل الاستمتاع، ومساندة فريقهم المفضل. حين يمارس السياسي سلوكاً معلناً فهو يتحرك وفقاً لغايات خاصة. صحيح أن السياسة مبنية على المصالح، لكن المراد بذلك مصالح الجماعة لا الفرد، المجتمع بكافة تنوعاته لا أقطاباً يمثلون الطوائف والأحزاب. ثم إنَّ "الهدية" تخضع لقوانين وأعراف، وهي موضوع يثير -برغم ظاهره البسيط- الكثير من الإشكالات الفلسفية، والأخلاقية، والقانونية. لكن دعونا نعرف أولاً من الذي صنع الفوز بكأس خليجي 25، ومن الذي يستحق الهدية.
شخصياً، وأنا أزعم أن لي خبرة في عالم كرة القدم، كانت نسبة المُسهمين في إحراز لقب البطولة هي كالآتي: 85 % للجماهير العراقية التي آزرت منتخبها بمنتهى الحماس، والعاطفة الوطنية الجياشة، فوق المدرجات، وأمام الشاشات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي. 5 % لمنظمي حفل الافتتاح، فقد شجع المزيد من العراقيين، ودفع بجمهور نسوي غير مسبوق، وعوائل بأكملها لحضور المباريات. 8 % للاعبي المنتخب والكادر التدريبي. صحيح أنهم قدموا أقصى ما يمتلكون من مهارات وخبرات، غير أن المتتبع المحايد لن يجد فارقاً كبيراً يميز مستوى أدائهم متوسط الجودة، عن سائر المنتخبات الأخرى، لا سيما وأن أغلبها لم يشارك بتشكيلته الأساسية، بل بمنتخب رديف. الدرجتان المتبقيتان هما من نصيب الحظ، فكرة القدم مستديرة، والمباراة النهائية بين العراق وعمان شهدت ثلاث ضربات جزاء. تلك حقيقة قد لا يود بعضهم التصديق بها، وهذا من حقهم بلا جدال. لكن، لا جدال أيضاً في أن الذي صنع الفوز هو الحضور الكبير للجماهير، ومؤازرتهم العاطفية الصادقة. ولو كانت البطولة قد أقيمت في أي بلد آخر لما كان الفوز أمراً ممكناً. فريق يلعب فوق أرضه، بمؤازرة حماسية من 65 ألف مشجع فوق المدرجات، ونصف مليون آخرين يهتفون في محيط الملعب، وخلفهم ملايين يقيمون له الولائم والأعراس، وهو أمام خصم رجعت الطائرات بمشجعيه بسبب سوء التنظيم، ماذا يريد أكثر من ذلك؟
ببساطة، البطل الحقيقي هو تسامح أهل البصرة، وكرمهم الفطري، وهو زخم المساندة المبهرة لمئات الآلاف، ممن احتشدوا للتضامن مع منتخبهم. كانوا يمثلون سائر المدن العراقية، بما فيها محافظات كردستان. عراقيو الخارج كان لهم حضورهم أيضاً، بعضهم نشطاء مؤثرون، حرصوا -بعد كل فوز- على نشر أجواء احتفالاتهم العائلية في وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض منهم عاد إلى العراق ليشهد كرنفال الفرح عن قرب. هؤلاء جميعاً جعلوا من المنتخب العراقي ممثلاً رمزياً لهوية كبرى ينشدون الانتماء إليها، للدولة الوطنية التي هي وحدها القادرة على منحهم سبل السلام والرخاء. أنهكتهم سنوات العنف، والفساد، والتقاتل بلا معنى، وأرهقتهم العزلة عن العالم. ولأنهم يريدون العيش مثل بقية البشر، فقد وجدوا في بطولة خليجي 25 فرصة لبداية التعافي. ساندوا منتخبهم تحت أمطار غزيرة، ودفعوا أمولاً طائلة لشراء تذاكر المباريات، برغم الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار. كل كيلومتر قطعوه للوصول إلى البصرة، كل هتاف، كل تصفيقة، كل قطرة مطر بلَّلت ثيابهم، كل دينار خرج من جيوبهم المتعبة لمافيا السوق السوداء كان هو الطريق الموصل للكأس. لو كان المنتخب قد فاز بكأس العالم لما عبروا عن فرحهم بأكثر مما فعلوه. لكن كيف انتهى الكأس في آخر المطاف في خزائن السياسيين؟
أيُّ سياسي هو لاعب بالضرورة، نهَّاز فرص، يتحرك ويناور، مثله مثل لاعبي كرة القدم، أو أية لعبة رياضية أخرى. يدافع مرة، ويهاجم أخرى. يلجأ إلى اللعب الخشن، وإلى الغش أحياناً. هو يعلم أن خصومه الماثلين أمامه، والمتربصين به يشتركون معه في استخدام شتى الوسائل لتجنب مرارة الخسارة، ولتحقيق فوز يتردد صداه المدوي معلناً انفرادهم بالصدارة.
بدأ الساسة يخسرون تدريجياً. صاروا يدركون أن رصيدهم ينفد بمرور الأيام، وأن أغلب الناس لم يعودوا معنيين بسماع بطولاتهم المزعومة، ولا حججهم المجمِّلة للخراب. كانت ثورة تشرين قد كشفت لهم عن جمهور عراقي كبير لا يعرفونه. تماماً مثلما حصل لهم مع جمهور خليجي 25، حين تعرفوا على الوجه الحقيقي لأهل البصرة، ولمئات الألوف من عراقيين آخرين يريدون الترفيه عن أنفسهم قليلاً، يحملون علم بلادهم فقط، ويرددون الأغاني الوطنية فحسب. أي أنهم اجتمعوا بأعداد غير مسبوقة، وفقاً لأسس أخرى هي خارج حيز المفكر فيه من قبل الساسة. مشهد اليوم الأخير من البطولة تحديداً، الخمسمئة ألف عراقي الذين احتشدوا حول جذع النخلة كان رفضاً ضمنياً لرثاثة السياسة القديمة. مشهد مقلق حقاً. فالسياسيون لا يحبون الجموع، ولا سيما تلك التي لا تهتف بأسمائهم.
هذه الأسباب هي التي دفعت الساسة لركوب موجة الفرح الشعبية بخليجي 25. وهداياهم الممنوحة للاعبي المنتخب الوطني جزء من حملة علاقات عامة. خطة لعب هجومية، محاولة لتقديم أوراق اعتماد وطنية منتهية الصلاحية. كل لقاء جمعهم بلاعبي المنتخب لم يكن في حقيقته حفل احتفاء وتكريم. كان مباراة من نوع آخر، مباراة بلا جمهور، غير مهمة، وليست ودية حتى. فاز فيها السياسيون لأنها أقيمت على أرضهم، ووفقاً لقوانينهم. هل يُحتسب ذلك فوزاً؟ لاعبو المنتخب تركوا مرماهم بلا حراسة، بمحض إرادتهم. داروا بالكأس على كثير من الأقطاب، كانوا يهدونهم الكأس، ومعه متعة أخرى، فرصة أن ينتصروا على أبطال اللعبة فيما يبرعون فيه. ببساطة، كانت مباراة الساسة واللاعبين عبارة عن (WWE)، مباراة مصارعة حرة معادة مراراً. لا حقيقة للعب فيها. مجرد وصلة استعراضية متفق عليها، تخفي مصالح الطرفين.
نحن ننسى أن للاعبي المنتخب "أجندات" أيضاً. طوال أسبوعين كانوا محملين بثقل هائل من الأماني، صاروا أبطالاً أنقياء لأن الناس أرادت لهم هذه الصورة، نمَّطتهم بدور أكبر منهم في الحقيقة. حسناً لقد كسبوا المهمة، وربحوا الكأس، فلماذا عليهم أن يرفسوا النعمة؟ أن يرفضوا "الرزق" الوفير المتهافت عليهم من كل صوب؟ لا وجود لمادة قانونية تمنعهم من تقبل الهدية. لنكن واقعيين. لنتخيل أستاذاً في الفيزياء، يحمل شهادة الدكتوراه، ويعمل تدريسياً في إحدى الجامعات العراقية، كم سيلزمه من السنوات ليحصل على ربع ما تلقاه شباب في مطلع العشرين من العمر، بعضهم لم يكمل حتى دراسته الإعدادية؟ قطعة الأرض وحدها أصبحت حلماً صعب المنال، فأكثر الأحياء بؤساً في بغداد صار سعر المتر الواحد فيه يتجاوز المليوني دينار!
لنترك صديق آينشتاين متأملاً في النسبية، أو في فلسفة الكوانتم، فتلك علوم صرفة لا لعب فيها. لنرقب مثالاً آخر. هل مررتم بمحال الصيرفة في اليومين الماضيين؟ كانت مسرحاً للعبة مثيرة هي الأخرى. بدا أصحابها متجهمين وهم يسرعون في غلق محلاتهم بغضب بالغ. كانوا أشبه بجمهور فريق مني بخسارة ثقيلة. الدينار العراقي يترنح، والدولار المغرور يمعن في الاستهزاء بخصمه، يتفنن في تسجيل الأهداف بالثواني. كأننا أمام مشهد من مباراة بين البرازيل وجزر القمر.
في الرياضة، كما في السياسة هناك مسافة بين الاستثنائي والعادي. فوز العراق بكأس آسيا في العام 2007، كان حدثاً استثنائياً لفريق قادم من بلاد تشهد حرباً أهلية جنونية. أما الفوز بكأس خليجي 25 فلا. أتحدث هنا عن الجانب الرياضي، لا عن تفاعل الجماهير، وتوحدها مع الهوية الوطنية، فهذا المنجز يُحسب لها في المناسبتين. لاعب الكرة مهم فوق المستطيل الأخضر، لتسعين دقيقة فقط. إلا إذا وظَّف شهرته ليكون فاعلاً ناشطاً في المجال العام. لاعبونا للأسف ليسوا كذلك. إنهم أناس عاديون. ليسوا شياطين، وليسوا ملائكة أيضاً. وربما لو كان بعضنا في مكانهم لوجد تبريراً ما: الأوضاع صعبة للغاية، والرسول قبل الهدية. سيبقى عليهم فقط أن لا يصدقوا بأنهم صنعوا لنا معجزة.
خيبة ظن كثير من العراقيين، امتعاضهم، وشعورهم بالمرارة من لقاءات "التكريم"، كل ذلك لا معنى له عند "الأبطال" الشباب. هم ليسوا مسؤولين عن إفراط الآخرين بالأمل، فلديهم أحلامهم الخاصة. تسحرهم فكرة الاحتراف الممهد لنجومية السوبرمان، لأن يكونوا معروفين على صعيد العالم، كرياض محرز، وأشرف حكيمي، ومحمد صلاح. وفي أثناء طريقهم نحو أحلامهم السعيدة لا بأس في تناول بعض السندويتشات الصغيرة الموزعة مجاناً: قطعة أرض سكنية، جواز سفر دبلوماسي، سيارات حديثة، وآلاف الدولارات.
لا شيء أكثر مرارة من طعم الحقيقة. وقيمة كرة القدم، والرياضة عموماً تأتي من قدرتها على جعلنا أكثر فهماً وتقبلاً للحقائق، وأكثر شجاعة على الجهر بها بلا خوف أمام أقوى سلطة. تماماً مثل قيمة الفن. يمكن للساحرة المستديرة أن تسمو بأخلاقيات الإنسان، أن تمنحه ثقة بالنفس، تهذِّب اندفاعه الغرائزي، وتعلمه أن الهدف الكبير يحتاج إلى صبر، وروح مثابرة. يمكنها أيضاً أن تسهم ببناء الأوطان، وتعافي المجتمعات، وأن تنشر السلام في ربوع الأرض. كان الكاتب الأورغواياني الجميل "إدواردو غاليانو" يقول: إذا تحركت الكرة تحرك معها العالم.
رجل دولة حقيقي من طراز "إيمانويل ماكرون" يفهم جيداً ما تعنيه عبارة غاليانو، فقد كان تلميذاً ل"بول ريكور"، أبرز فلاسفة العصر. لا يزال العهد قريباً بنهائي كأس العالم الأخير. بعد انتهاء اللقاء لم يذهب اللاعب ليصافح الرئيس. الرئيس "ماكرون" هو من نزل من مقصورة كبار الشخصيات، لكي يواسي اللاعب "كيليان إمبابي"، ويأخذه بالأحضان، في مشهد لافت نقلته شاشات العالم. تلك ليست خدعة استعراضية نفعية، فقبلها كان ماكرون نفسه هو من أقنع نجم بلاده بضرورة البقاء في الدوري الفرنسي، وعدم الرضوخ لمغريات ريال مدريد التي لا تقاوم. يومها، لم يمنحه قطعة أرض، ولا سيارة، ولا دولارات. قال له شيئاً أغلى من ذلك بكثير: "لا ترحل. ليس الآن بالتحديد. أطلب منك أن تبقى، فأنت مهم جداً لفرنسا"، فوجد إمبابي نفسه ملزماً بالاستجابة، وأذهل بأدائه العالم في ختام المونديال. في الحقيقة، كان رئيس الدولة العظمى يترجى لاعب الكرة، ومواقف مثل هذه هي التي جعلت من ماكرون، وإمبابي أبطالاً عند الشعب الفرنسي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض


.. واشنطن وبكين.. وحرب الـ-تيك توك- | #غرفة_الأخبار




.. إسرائيل.. وخيارات التطبيع مع السعودية | #غرفة_الأخبار


.. طلاب بمعهد ماساتشوستس يقيمون خيمة باسم الزميل الشهيد حمزة ال




.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟