الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين موتين!

سناء فهد هلال

2023 / 2 / 15
الادب والفن


يا موتنا العاري كفضيحةٍ وسطَ النهار :
كنّا نحتاجُك موتاً على مقاس آدميّتنا، موتاً يكون لنا تَرفَ تهجئَتِه وملاقاتِه، موتاً يلتزم حدودَه أمام هشاشتِنا، نستمهلُه قلّةَ حيلتِنا وتلفَ أرواحِنا الهرمةِ، يمهلُنا حقَّنا في رَتقِ جراحنا واستكمالِ أيّامنا المَرصودة.
نحتاجُك موتاً عادياً، رحيماً، شفيفاً، تسكن نفوسُنا إلى عدالتكَ، موتاً يغادر فيه الميّتون فُرادى، ولِيأخذوا ساعتَها ما يأخذون معهم من الفرح، وما تيسّرَ من الدموع الحيّة ما داموا سيخفّون إليكَ بكهولتِهم، وليس في جعبتهم أحلاماً نيئةً، ولا على شفاههِم أحاديثَ لم تكتمل، وما في خاطرِهم حريةً ثملتْ من دمهِم ولم تزلْ.
نحتاجُكَ موتاً نتمثّلُ به قيامَتَنا، وأنّنا لم نُفتدَى بالمَجَّان، وبأنّنا متنا بآجالِنا المرسومة، بجَلالِ توقّفِ النبضِ فوق الأرضِ لا تحتها، على فراشٍ دافئ لا مستغيثينَ تحت أطنانِ العذاب، بجَهجهةِ حريّةٍ موعودةٍ لا ب(عصّة قبرٍ) فوق سجونِنا المعتمة، برفقِ وهناءةِ أيادٍ مطمئنةٍ ٌتهدهدُنا، وغيرها تكفكفُ دمعَنا، وكثيرها يواسي ضعفَنا.
نحتاج موتاً متهادياً ينسانا قليلاً ثم يأتي لِماماً، ليتسنى لأجسادنا النضرةِ أن تفرغَ رويداً من دَبيبِ الدم الساخن، حتى إذا ما سكن النهرُ فينا وارتسمت الضفافُ، نقولُ: وصلْنا، مرحباً يا موتُ (لا غالب ولا مغلوب).
نحتاجكَ يا موتُ ونحن نجرعُ كأسَنا الأخيرة أَجلّاءَ، مُطمأَنّينَ، مُهندَمينَ، لا أن نُهرَع إليك نُوَّماً مذعورينَ، نريد لموتِنا جنازاتٍ حارّة، ترفعنا سواعدُ فتيّةٌ ويبلسمُنا عناقٌ مديدٌ، نشقُّ طريق الغيابِ الأليف تاركينَ صورنا الحيّة تفترشُ مائدةَ الوقت، ومقاعدنا زاخرة بضحكاتناِ، نمضي إليكَ وأطيافُنا جالسةٌ على عتباتِ البيوت، وظلالُنا سادرةٌ حيث تشتهي.
نحتاجكَ موتاً وشيكاً يمنحُنا بضعَ دقائقَ إضافيةً لوصيّةٍ أخيرةٍ، أو ذكرى حديثٍ لا يطول، لأن يعيشَ أحدُنا برهةً في مدى الوداع الأخير، مجلّلاً بالمَهابَة، مسيّجاً بالرضا العميق، موتاً لا تنطفئ فيه نارُ مواقدِنا، لا تفرغُ فيه قدورُنا، لا يتبرَّم منّا أحدٌ في حنانيه، لا يشفق علينا كائنٌ من كان بطرودِه الغذائية، ولا بدمغةِ التعاطف في خيامنا المذعنة للريح والفاقة والتشرد.
نحتاج موتاً لا يلصق في ذاكرتنا كمشهدٍ سرياليٍّ تبدو الحياةُ معهُ وهماً تلبّستْه أجسادُنا مصادفة في مسرح العبث، موتاً لا يحسبنا خدعةً للضوء والظلّ في بروفات القتل السينمائي، وأفلام الخيال العلمي، ولا حتى موتاً سريريّا يُحيلُ حياتنا إلى ظاهرةٍ عاطفيةٍ ساذجةٍ بعد أن قالت الطبيعة الصمّاء قولَها الفصل، وأسدلت الستار على صوت الأنين الخافت تحت الأنقاض، المشهدُ الذي سيخلِّدُ العيونَ المروّعةَ في ذاكرتنا إلى الأبد.
اكتفينا يا موتُ تخْمةَ أعمارِنا فقراً، حتى جاءَتنا دعوةٌ جماعيّةٌ على نفقةِ البلاد، لكنّنا حُشِدنا على طاولةٍ متداعيةٍ يجلس عليها المدعوّونَ إلى العشاء الأخير، وُضِعَتْ عليها أشدُّ الأطباقِ سُميّةً لشعبٍ يُحتضرُ أصلاً، شعبٍ لا يستر عريهُ سوى كرامةٍ لم تدجِّنها سنواتُ الذلّ وأصنافُ القهر .
نحتاج موتاً لا يقوِّضُ ما ظلّ واقفاً على مدار سنوات الحرب والقَصاص، لا يضعُ الذكرياتِ والأحلامَ في صرّةٍ ويحرقها، ويغرز نصل الألم ماضياً في قلوب السوريين.
لا نحتاج موتاًٌ تتفتّتُ فيه القلوب تَضوُّراً إلى تلويحةِ كفٍّ، أو ترصداً لصوتٍ هامسٍ من تحت الأنقاض، يسمعهُ الآباء والأمّهات والأخوة بقلوبهم المتوجِّسة، والمنقذونَ بأدواتهم البدائيةِ.
نحتاج موتاً لا يعدِّلُ من أدواته، لا يتفشّى كالعطب ويتآكلُ أرواحَنا منحازاً إلى سنوات الظلم والظلام، موتاً لا يجثم فوق صدورِنا، لا يستثمر في محنتِنا كما لو أنّه يفتتحُ مزادَه الثالث عشر لأكبرَ مقبرةٍ جماعيّة، بالصوت والصورة.
نحتاجُ موتاً لا يعقدُ قرانَه على يأسنا، لا يصيرُ معه عرّابُ قهرِنا حارساً مؤتمناً على أطفالنا، وهو يجدولُ أعمارَنا، يلوِّحُ باستخدامنا في سوق العرض والطلب، نحنُ العملاء الذين بلا أهليّة وطنية تُذكر، نحن من ليس في قيودِنا الرسميّةِ سوى بطاقتِنا الذكيّة المحتسِبةِ، ووجودنا كلّه لا يعدو رصيداً بنكيّاً في بورصة الإعمار والأعمار.
نحتاجُ موتاً شَفوقاً يشهرُ صافرته وينهي الجولةَ لصالح أحد الصديقين اللّدودين، (الحياة ، الفناء)، لا يستمرئُ اللعبة كسجّانٍ لئيمٍ ويطيل أمدَ عذاباتنا، ويتركنا عالقينَ بين حافتي الجنون واللاجدوى.
نحتاجُ موتاً نفهمُه ويفهمُنا، لا نتمرّسُ به بلا وداعٍ ولا مقدِّماتٍ، موتاً رحباً لا يصابُ بعدوى الحضارة والحياة السريعة، لا ينفذُ كالعطبِ إلى أبنيتِنا المتهالكةِ وأرواحنا المتصدِّعة.
نحتاجُ موتاً واضحاً، لسنا مقيّدينَ على سجلّاته، لسنا قرابينَ على مذبحِه، لسنا مخَلِّصينَ على درب آلامِهِ، لا يلقي في ضمائرِنا انحسارَ المعنى من الوجودِ برمَّتِه، ووصمةَ القهرِ، وانكسارَ الروحِ هلاكاً إثرَ هلاك.
نحتاجُه موتاً لا يكونُ أرعناً لتجرَّه عربةُ الفناء بلا نهايةٍ إلى الهاويةِ، موتاً لا نفوذاً، لا ينحدرُ بهشاشتِنا إلى الدركِ الأسفل من العبثيّةِ، لا تتحوّلُ معه مصائرُنا إلى أرقامٍ بحثيّةٍ في سجلّات الجيولوجيّين، ولا إلى تعاطفٍ مشروعٍ لجثّةٍ مكتشفةٍ في مَديونيّةِ حقوق الإنسان للإنسان، ولا هدفاً منظوراً لهاويةٍ عالميّةٍ محتمَلةٍ تستدعي القلقَ الجبان، ولا حتى خبراً يحصدُ ملايّين المشاهداتِ في صفحةٍ الكترونيّةٍ، تعمّقُ جراحَنا المنكوءةَ أصلاً، وتزلزلُ هاماتِنا المحنيّةِ حزناً، وكأنّنا في انخسافٍ كلّيٍّ وجوديًّ، يغدو الأمانُ والإنسانيّةُ معهُ سمسارينِ إضافيّينِ، مستثمرينِ حاذقينِ في أعمارِنا، تلك التي مادونَ الحيّزِ السيّادي للإنسانيّة المنقسمةِ على جوهرِها، والماوراءَ اعتباراتِ سادةِ العالم الجُدد، وقاذوراتِ السياسة، وكأنّنا في حفرةِ موتٍ جماعيٍّ مَحضُ لقطاءٍ، حتى الزمنُ يتبرّأُ منا، ويلقي على الضحيّةِ نظرةَ ازدراء.
نحتاج موتاً وَرِعاً، لا يفقدُنا سكينتَنا، موتاً لا يستسيغُ (تحت أيّ مسمّى ) أن يُقيمَ الهلعُ في أكثرِ الأماكنِ أماناً وحميميةً، إقامةً يعيشُ الغدرُ والحبُّ خلالَها في منزل الزوجيّة شريكينِ متلازمين، كأن يعقدَ السلمُ والحربُ صفقةً بينهما على أرضِ أحلامِنا، يرتادانِ خندقاً واحداً، يَسرّانِ لبعضهما عن الخياناتِ المحتمَلةِ والأسلحةِ المحرَّمةِ، يتسامرانِ ويشربانِ نخبَ حتفٍ مُنتظَرٍ لأحدِهما أو كليهما أو لمن تحت لوائِهما، في كأسٍ تلوّثتْ بالدمِ والغبارِ تفوح منها رائحةُ النتنِ والعارِ والخيانة.
كأنْ تشعرَ بالموتِ ينامُ جانبَك، تجدُ نفسَك مضطراً لمساكنتِه وأنت تعلمُ بنفاقِه ومداهنتِه، لا يتركُك حتى لو تنازلتَ له عن سريرِكَ، أو تلحّفتَ معه غطاءً مشتركاً، يظلُّ يناورُكَ ويكرّرُ سحبَ الغطاءِ تجاهَه، ولِطولِ إقامتِه في فراشِكَ تصبحان عاريّين تماماً، تنسيانِ الخصومةَ ويمارسُ عليك بكلّ وقاحةٍ وفجورٍ ساديّتَه، هو لرغبةٍ في نفسِ سيّده، وأنتَ (لمازوخيتِك) وخوفكَ من جبروتِه، وكأنّك في لحظات الهلعِ تلك هاربٌ من الجحيم إلى الجحيم، لا تملِكُ سوى أن تكونَ شهرزادَ، تهَبُ شهريارَها كلّ الأغطيّةِ والفراش والمسوِّغاتِ والملذّاتِ، وليأخذْ ما شاء من الدفءِ والعهد والوعد والذكريات كلِّها شريطةَ أن ينامَ، أن يتركَنا لنحيا الأيامَ المرصودةَ لنا وفقَ ما تخوِّلهُ لنا آلةُ الجسد الآيلةِ للذبول، أن تمرَّ أوقاتٌ لا نشعرُ به جاثماً على صدورِنا، شَرِهاً للنيل منا والتنكيلِ بأجسادنا، فالميّتونَ أقلُّ معاناةٍ منّا، إذ لا يحتاجون إلا دماغاً توقّفَ عن النشاط فجأةً، أو مضخّةٍ تصلّبتْ شرايينُها من ضخِّ الدماءِ والعواطف المستهلَكةِ، وأعلنت استقالَتها من مهمَّة السَريان واللهاث اليوميّ، تورّمت من وجباتِ الحبِّ المُعادَة، وأنفقت طاقتَها في ممرّات الحياةِ اللّاهبة، امتلأت جيوبُها بالتقرّحات والهواء الفاسد لتبصقَنا خارجَ عالمِ الجسدِ المنكوبِ إلى عالمٍ أكثرَ سكينةٍ ورأفةٍ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحنين الى الموت
فهيم علي ( 2023 / 2 / 15 - 14:59 )
صدقاً السيدة، الموت في وطننا رحمة إلا أنك حاولت كثيراً أن تعطيها بعد جمالي، كي يموت واحدا بهدوء بقدر الامكان رغم أن ليس هناك بعد جمالي في الموت. تحياتي


2 - الاجمل
رسول حسن ( 2023 / 2 / 15 - 15:26 )
ليس في الموت ما هو الأجمل ولكن أنت صنعت من الموت جملة موسيقية كما يفعلها قوات سوريا ديمقراطي. كل الاحترام لك سيدتي


3 - كل الود
جوان اي رقيب ( 2023 / 2 / 15 - 15:29 )
اين كنت بكل هذه القامة الشاهقة ؟ جميل أن نقرأ حول ملحمة الموت..مساء الخير


4 - هادىء
ابواسماعيل ( 2023 / 2 / 15 - 15:31 )
ربما هذه الملحمة هي تدخل في باب البرجوازية العصرية، عندما نجمل الموت فهو للأخرين، رغم كل شيء. انت مبدعه


5 - الانتماء
جومرد حسين ( 2023 / 2 / 15 - 19:19 )
الموت هو انتماء جميل واصيل إلى الأرض، ما اجمل الموت وانت في ديارك وتحت انقاضك التي منها وإليها اتيت وذهبت، هو أن نحيا بشرف أفضل من أي موت. يبقى الموت بشعاً مالم يقارن بالانتماء, ابدعت سيدتنا


6 - كل الشكر لك
شيرين عبدالله ( 2023 / 2 / 15 - 21:15 )
اعتقد الموت ليس جميلاً ولكن بالنسبة الى واقعنا هو الافضل، نحن ندينون لك بهذه الفكرة. كن مبدعه دائما


7 - شكرا
جهاد علي ( 2023 / 2 / 16 - 02:38 )
صحيح أن الوطن العربي وضعه ليس على ما يرام، ولكن علينا ان نتسلح بالصبر والعقل ونعلم أجيالنا بأن عليهم أن يستعملوا عقلهم في اسوء الظروف. دمتم مبدعت سيدتي


8 - شيرين عبد الله
سناء هلال ( 2023 / 2 / 16 - 06:12 )
مدينة لك بحضورك الجميل.ليت موتنا كان مجازا في مجاز مثل هذا النص .


9 - تحياتي
اديبة رسول ( 2023 / 2 / 16 - 23:41 )
اعتقد الاستاذة سناء، عما يقولوا لكل نمط من المعيشه نمط من التفكير، بمعنى حالتنا تستدعي الموت، رغم أنه الافضل في حالتنا السورية. كل الود لك


10 - تحياتي
اديبة رسول ( 2023 / 2 / 17 - 18:05 )
اعتقد الاستاذة سناء، عما يقولوا لكل نمط من المعيشه نمط من التفكير، بمعنى حالتنا تستدعي الموت، رغم أنه الافضل في حالتنا السورية. كل الود لك

اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي