الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأخدود

دلور ميقري

2023 / 2 / 19
الادب والفن


البناءُ، كان متعددَ الطوابق. وبالوسع تشبيهه بخلية نحل، لولا الفوضى الضاربة أطنابها في كل مكان فيه. ويلوحُ لي، وأنا أستعيد ذكرى ذلك المكان وما حفلَ به من غرائب، أنه كان سكناً جامعياً في أدواره العليا ومعهداً تعليمياً في دوره الأرضيّ. ولكن، بأيّ صفةٍ كنتُ هناك في يوم حصول الواقعة، التي أسجّلها الآنَ: أكنتُ طالباً أم مجردَ ضيفٍ أو زائر؟
على أية حال، فمن المؤكد أنه كان مكاناً أليفاً، بالرغم من أنني رأيتني فيه غريباً لا أكاد أعرفُ أحداً من ساكنيه. أما الزمن، فلعله كان عشية يوم عطلة، أنقسمَ فيه الطلبة بينَ المهتم بدروسه وبينَ الباحث عن اللهو هنا وهناك. من ناحيتي، فإنني كنتُ قد تيقنتُ سلفاً، باستحالة وجود شخصٍ أعرفه في هذا المكان: لقد كانَ، حَسْب، مكاناً للذكرى؛ تماماً، مثلما أستعيده الآنَ على الورق.
لقد استُهلت الواقعة في حجرة أليفة، وجدتني فيها وحيداً، لحين حضور فتاة تضع على عينيها نظارة طبية. لاحَ من طريقة كلامها معي، أنها كانت تعرفني فيما مضى من زمن. وكان برفقتها فتاةٌ في مثل سنها، بيدَ أن جمالها كان مبهراً. وكان لهذه الأخيرة، إيماءةٌ، سحرتني بشكل خاص؛ يميل فيها رأسها قليلاً، فيما تحدق بي عيناها ملياً وباهتمام. قالت ذات النظارة الطبية، تقدّم لي صديقتها: " أخبرتها أنك رسامٌ، وهيَ جاءت تطلب منك خدمةً ". هنا، ابتسمت الأخرى بود وقالت موضحةً طبيعة طلبها: " أريد منك رسماً لختمٍ رسميّ، يُشبه هذا ". قالتها، فيما كانت تمد لي يدها ببطاقة. ثم أضافت: " إنها تسمح لحاملها بارتياد مسبح السكن الجامعيّ. بعدما تنتهي أنت من الرسم، سيقوم أحد الأصدقاء بنقشه على حبة بطاطا، ليُصار لاستخدامه كختم مزيّف "
" إذاً أدعكما الآنَ، لكي تتدبرا معاً الموضوعَ "، قالت ذات النظارة الطبية وهيَ تنهض لتغادر الحجرة. بقيت الأخرى تنتظر جوابي، فيما كانت إيماءتها تهيمنُ على كياني وتبلبله. أبديتُ موافقتي على مضض، مدفوعاً برغبتي إرضاء الفتاة الجميلة. على الأثر، أنجزتُ الرسمَ بحضورها وفي خلال فترة وجيزة. قالت لي وهيَ تستلم الرسم، الذي حاز رضاها: " أتمنى أن ألتقيك بعد قليل في المسبح، فثمة حفلٌ سيقام فيه هذا المساء ".
سرعانَ ما وجدتني في المسبح، أدير نظري في أرجائه بحثاً عن فتاة الختم. وكان جانبٌ من المكان قد أعدّ لحفلٍ راقص، وعلى أنغام الموسيقى الغربية. عبثاً كانت عيناي تبحث عن فتاتي، وسط هذا الحفل الصاخب. وكنتُ أتنقل بارتباك، مرتدياً مايوه السباحة. إلى أن قررتُ، محبطاً، مغادرة المكان. عندما وصلت للركن، المنتظمة فيه خزائنُ الملابس، فإن المشرفة هناك خاطبتني بشيء من التهكّم: " الملابس جميعاً، نقلت إلى الطابق الثاني ". لم أجد حرجاً في مغادرة المسبح بالمايوه، كوني رأيتُ آخرين يفعلون ذلك. لحقتُ بهم، متأملاً استلام ملابسي. لما وصلتُ للمكان المطلوب، هالني مشهد أكوام الملابس، المرمية على الأرض وكيفما اتفق. قال أحدهم بلسانٍ مخمور: " بما أنه من المحال العثور على ملابسي، فإنني سأستعير ما أجده مناسباً لي ". من جهتي، ارتأيتُ اختيارَ سترة رياضية مناسبة. ثم وجدتني أندسُ ثانيةً بين أفراد ذلك الطابور، وكانوا متجهين إلى ناحية المدخل.
عقبَ خروجنا من المدخل بدقائق، لم يعُد ثمة درجٌ وإنما طريق ترابيّ مبتل بماء المطر. فكّرتُ عندئذٍ بالعودة إلى المبنى، ولكن هذا كان قد اختفى أثره. وهوَ ذا أخدودٌ، ينفتحُ على الأثر لعينيّ، وكان يظهر من خلفه ما خُيّل لوهمي أنه منظرُ الشام بجبالها وغوطتها. ولكنه لم يكن وهماً، طالما أنّ أصواتٍ من الطابور تعالت وهيَ تُسمّي مسقطَ رأسي. غبطتي الغامرة بهذه الحقيقة، سرعان ما بددها فكرة أخرى، مريعة: " إنك في طريقك للهلاك، لو لم تتراجع على الفور! ". ثم بدا أن العودة كانت ضرباً من المحال، بسبب ضيق الأخدود وكثرة مَنْ يدفعونني مِنَ الخلف. إلى أن واجهنا جدارٌ عال، يقف بالقرب منه رجالٌ يلوح من هيئتهم أنهم أفراد أمن الحدود. امتلأ داخلي غماً ويأساً، فيما أُدفَعُ دفعاً باتجاه سلمٍ خشبيّ، مسندودٍ على الجدار.
صاحَ أحدُ رجال الأمن، مخاطباً إيانا: " لن نتمكن من التدقيق في أوراقكم، وذلك بسبب كثرتكم، وأيضاً لأنكم قدمتم من بلد صديق. فما عليكم سوى ارتقاء السلم الخشبيّ، لاجتياز الأخدود والوصول إلى المدينة ". هدأت نفسي قليلاً، وها أنا ذا أبدأ بارتقاء السلّم حينَ حان دوري. كوني مصاباً بعقدة الخوف من الأماكن المرتفعة، فإنني ثبّتُ نظري بفتاةٍ كانت قد أضحت بأعلى السلّم. ولكنها بدلاً عن النزول إلى الجهة الأخرى من الجدار، إذا بها تقدّمُ رجلاً وتؤخر أخرى. أخذ السلم عندئذٍ بالاهتزاز، فما كان مني سوى الصراخ بتلك الفتاة بالكف عن العبث بأعصابنا. حينما التفتت بوجهها إلى ناحيتي، فإنني فوجئتُ بأنها صديقتنا؛ صاحبة النظارات الطبية. خاطبتني بهدوء، وفي آنٍ واحد، بنبرة متوعّدة: " لا تصرخ هكذا، كيلا يفطن رجال الأمن لوجودك معنا ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب