الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة الكوارث

جمال الهنداوي

2023 / 2 / 20
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر


في بعض تلك الأيام، وعندما كانت في العراق أربع صحف فقط لا يميزها من بعضها إلا لون الحبر الذي تخط به أسماؤها، كانت أجهزة"التيكر"هي أعلى مستوى من وسائل الاتصال المتوفرة مع العالم، في إحدى تلك الأيام,في أوائل الثمانينيات، فوجئنا بعنصر أمني بملابس مدنية يحتل غرفة المبرقات في الجريدة، وكان حجمه وتجهمه ونظراته الحادة المتشككة تشير إلى أنه يعمل في جهاز أمني رفيع اتفق حدسنا الهامس يومها على أنه جهاز المخابرات العراقي بالغ السطوة والنفوذ، وبعد أيام عرفنا-همسا كذلك- أن هذا العنصر كان مكلفا بمراقبة تقارير وكالات الأنباء الأجنبية واقتطاع أي خبر يرد فيه عن ارتفاع مناسيب دجلة واحتمال تعرض بعض أجزاء العاصمة للفيضان، ومنعها من الوصول حتى إلى أعين وأذهان العاملين في الصحيفة، وفعلا..فلم يكن هناك من يتحدث-ولو همسا- بالأمر..فمع أن نشرات الأخبار الأجنبية كانت تتناول الحدث يوميا، ورغم المنظر اللافت الذي لا يمكن التعتيم عليه لمساطب العشاق في أبو نؤاس وهي مغمورة في الماء، إلا أنه ما لم يكن مكتوبا في الجريدة الرسمية لا يمكن أن يكون موجودا، وأن مجرد الحديث عنه يضع المرء فورا تحت طائلة التخابر مع الانظمة المعادية..أو في خانة الطابور الخامس على أقل تقدير، فيومها كان من التجاوز، ان لم يكن من التجديف، أن يلوك الشعب ان القدر غير محسوب بدقة ضمن الاستشراف المستقبلي للقيادة التاريخية ، وأن الله قد لا يكون معنيا بتسليك الخطط الخمسية لدولة القائد الرمز.
المهم..أن هذا التكتم والتحرز المطبق لم نتلمس ما يواكبه حينها من استعدادات إلا اكوام مهملة من التراب وضعت على الرصيف المحاذي للنهر وأكياس –أكثر أناقة- من الرمل تشاهد من بعيد على الضفة الأخرى المحاذية للمجمع الرئاسي، ولم نلحظ وقتها أي استعدادات أو ممارسات تعبوية غير عادية حتى على مستوى الدوائر المعنية بتنظيم الري في العراق أو أجهزة الدفاع المدني، والأهم الآن..والأكثر ايلاما.. أن هذا التاريخ المزري من التراخي والفوضى وغياب الاستعداد وإهمال التخطيط ما زال هو المهيمن على تفكير وعقلية القائمين على الأمر في بلادنا المنكوبة..
فان كنا قد نجد للنظام السابق عذرا في تهاونه من خلال أسس وصميم مبررات وجوده فإننا قد نلاقي صعوبة كبيرة في هضم كل هذا التبسط مع موضوع الكوارث في بلد يستنبت فيه الموت ويزرع على أرصفته وأزقته بإسراف,خصوصا مع خبرتنا مع الأجهزة الحكومية التي لا تجيد التعاطي حتى مع الحوادث البسيطة وتختفي وتغيب وتغرق مع أول زخة مطر ولا نشعر بها ولا نرى لها وجودا الا بعض التواجد المهمل الآمن من المسائلة. وهذا ما يثير الكثير من التساؤلات-بل المخاوف- عن مدى استعداد وجاهزية اجهزتنا المختصة في التعامل مع أحداث بمستوى الكوارث التي نراها تتكرر في العديد من بلدان العالم,والتي قد نكون في موعد مع أحداها دون أن نكون في وضع يؤهلنا للتعامل مع الحدث بما يضمن أن يكون خفيف الوطء على أيامنا المثقوبة.
إن الكوارث ليست بعيدة عنا,وإن كنا نتظلل بما حباه الله علينا من موقع بعيد عن غضب الطبيعة فإن التغيرات المناخية والديموغرافية قد تفاجئنا بما نؤخذ به بغتة وبلا مواعيد, كما أن الخوف لدينا أكبر من الحوادث التي يسببها الإهمال وسوء التخطيط والافتقار إلى الخطط والتدريب الحقيقي والتوعية الإعلامية ووسائل التعبئة الشعبية في إعداد خطط المواجهة.
يكاد القلب يتمزق وهو يشاهد قلة حيلة أهلنا في سوريا في مواجهة كارثة الزلزال، وأرقام كبيرة ومخيفة تردنا عن زلزال قهرمان مرعش ومناظر لم نألفها عن الدولة الأكبر إقليميا وهي تناضل لانتشال مواطنيها من تحت الأنقاض، وقبلها كنا نراقب مشفقين لهياج الطبيعة الأقسى على الولايات المتحدة ومدنها الساحلية، ولكن نفس هذه الصور كانت تحمل لنا مشاهد للمنظومة الاغاثية والتطوعية عالية الجهوزية والتنظيم والتفاني والإيمان والانتماء، وكذلك الأداء الاعلامي والتوعوي بأهمية الدور الذي يمكن أن يقدمه المواطنون لمجتمعهم وبلادهم وللعالم وكذلك الانضباط والوعي الشعبي المتفاعل والمآزر والداعم لهذه الجهود مما يساعد على حصر الخسائر في الارواح في مستوى متدن نسبيا مقارنة بالحشود الغفيرة التي تقدمها الدول المتخلفة قربانا لمذبح العجز والتهاون والإهمال.
إن الدول التي تكترث لحياة وسلامة وأمن مواطنيها.. تهتم بمكاشفة وتوعية شعبها بالتغيرات البيئية والمخاطر التي من الممكن أن تصيب المجتمع على حين غفلة وتراخ وتستحدث دائما أجهزة على مستوى عال من التجهيز والجاهزية والقدرة والتمكن من التحرك السريع والتعامل مع أية مستجدات او ظروف طارئة أو غير طبيعية, لإنقاذ الضحايا وتقليل الخسائر قدر الإمكان. وهذه الاجهزة يجب أن تكون في حالة تأهب مستمر ومتحصلة على الخبرة المتأتية من المناورات والمظاهرات والتدريب المستمر والحقيقي لما لذلك من أثر في تقييم مواطن الضعف والقدرات وتطوير خرائط الأخطار في كل مجتمع مستهدف لتشخيص مفاصل الوهن والضعف في المنظومة الوقائية للبلاد، والاهم هو الجهد التثقيفي للمواطن على الوسائل التي يمكن من خلالها أن يكون أداة دفع للأضرار أكثر من كونه منتجا لها، وهذه من الأمور التي يجب أن تكون خارج ثقافة المناكدة والشقاق التي تسم أغلب ممارسات أدائنا السياسي والأمني والإداري، خاصة أننا محاطون أما بجار شامت أو لا يمكن الركون له، كما أن الكوارث لن تنتظر لتسألنا عن انتماءاتنا و"أطيافنا"وهي تحصد رقابنا بالجملة.وهو ما يجعل من الأهمية بمكان تخليق إعلام توعوي تثقيفي باهمية وسائل الدفاع المدني والضغط المستمرعلى الدولة لجعل هذا الامر من ضمن اولوياتها، أي اعلام يهتم بتحفيزالجهد المدني لدرء الكوارث ، لا أن يكون هو كارثة بحد ذاته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما قصة الخلاف الحدودي بين السعودية والإمارات؟


.. تقرير أميركي يرجح: إيران استعانت بصواريخ كورية شمالية في هجم




.. بعد غياب طويل.. طوابير من أجل الحصول على الخبز في قطاع غزة


.. أستراليا تعرض الإقامة الدائمة لـ -بطل سيدني




.. اكتشفوا حقبًا ومراحل مفصلية من التاريخ في برنامج رواة التاري