الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فابريزيو دي أندري- نحو يسار أخلاقي جديد

ألكسندر ف. براون

2023 / 2 / 20
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


نشر المقال في موقع culturico بتاريخ 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2019

الكاتب: ألكسندر ف. براون


يغرق اليسار في حالة من الفوضى في إيطاليا وأوروبا ومعظم دول العالم. في ظل الفراغ الذي أحدثه موت الشيوعية [سقوط الاتحاد السوفياتي]، ازدهرت أحزاب “الطريق الثالث” الوسطية وحركات العدالة الاجتماعية. مهما كانت قضاياهم نبيلة، إلا أن الطبقات العاملة المحرومة تتخلى عنهم على نحو متزيد لصالح الأحزاب اليمينية القومية، التي تقدمهم كأكباش فداء. هنا، في هذا المقال، أقترح أن استمرار شعبية المغني-المؤلف للأغاني الإيطالي فابريزيو دي أندري يلمح لنا للفكر السياسي المستقبلي؛ فكر يجمع العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وخاصة، أنه يبحث بكل قلبه عن فلسفة شاملة لتوفير مساحة آمنة لدعواته الأخلاقية العديدة- البيئية والمساواتية والديمقراطية.


في كل أنحاء العالم اليوم، نشهد على نحو متزايد استياءً من أحزاب يسار الوسط التقليدية، لصالح السياسات القومية التي يعبر عنها كل من [دونالد] ترامب و[رئيس حكومة إيطاليا السابق واليميني المتطرف ماتيو] سالفيني و[رئيس حكومة الهند ناريندرا] مودي. في إيطاليا، البلد الذي سيركز عليه هذا المقال، نال حزب الديمقراطية حوالي 23 بالمئة في انتخابات عام 2018، وهو انخفاض شديد في نسبة الأصوات التي نالها في الانتخابات السابقة. وبدلاً من ذلك، ازدادت نسبة الأصوات التي نالتها الأحزاب الشعبوية: عصبة الشمال المهيمنة على الشمال الغني، وحركة النجوم الخمسة في الجنوب الفقير. مهما كانت الأسباب التي يعطيها المرء لهذا التحول السياسي- وقد جرى استعمال الكثير منها لمحاولة شرح ذلك- فمن دون شك أن شكلاً محدداً من السياسة جسده أمثال [طوني] بلير و[رئيس الحكومة الإيطالية الأسبق ماتيو] رينزي و[بيل] كلينتون يتراجع بشكل كبير في أنحاء العالم.

وبطبيعة الحال، إن تسمية هؤلاء السياسيين وأحزابهم بـ”يسار الوسط” هو سطحي للغاية: فقد جرى وصفهم كلهم على أنهم يعكسون رؤية سياسية تعرف باسم “الطريق الثالث”، وهو الموقف الذي حل ببطء مكان المثال الماركسي المرتكز على إلغاء الرأسمالية، وترتكز سياستهم على الدمج بين سياسات الرعاية الاجتماعية اليسارية والآلية الاقتصادية النيوليبرالية. هذا المقال لن يركز على الأسباب الكاملة وراء ازدهار وتراجع سياسات “الطريق الثالث”: فالموضوع ما زال حديثاً جداً، وللتعامل معه على نحو صحيح يتطلب مساحة كبيرة، وهذا الأمر ليس من مؤهلات المؤلف. يحتفظ هذا الشكل من السياسات بأقلية مؤثرة من المدافعين، ولا يمكن استبعاد عودتها إلى الظهور من جديد.

بدلاً من ذلك، سيركز المقال، ربما على نحو مفاجئ، على المغني الشعبي الإيطالي المتمتع بشعبية هائلة، والمتزايدة في السنوات الأخيرة، على الرغم من التزامه العميق من خلال كلمات أغانيه بالعدالة الاجتماعية، والحرية الأناركية، والمساواة الاقتصادية المتعارضة تماماً مع التزايد المطرد لكراهية الأجانب والآراء اليمينية الفاشية في إيطاليا. ونظراً إلى أسباب تزايد شعبية هذا الصوت النبوي الشعري في الغرب، فقد يساعدنا على كشف نفاق أحزاب “الطريق الثالث” اليوم والإضاءة على حاجتهم المستمرة للتكيّف [التلوّن] من أجل البقاء.

لا تهدف هذه المقالة إلى التبجيل وعكس انطباع شخصي، ولكن يبدو من الضروري توصيف استمرار شعبية فابريزيو دي أندري منذ وفاته عام 1999، بعد مسيرة موسيقية امتدت طوال 40 عاماً، حيث أن تأثيره المستمر مثير للإعجاب. مؤخراً، كتبت نصاً قصيراً في كتاب (1)، واصفاً فيه إلى جانب سواي من الكتّاب لقائي الأول واستمرار انبهاري بمدى عمق موسيقى وكلمات هذا المغني.

هذا الكتاب هو واحد من بين عدة كتب حول المغني الذي يمكننا رؤيته يزين رفوف المكتبات والمنازل في كل أنحاء إيطاليا. حتى أن هناك صفحة شهيرة على الفايسبوك اسمها: De André racconta la Serie A، تجمع بين الهوس الإيطالي بكرة القدم والأغاني المختارة بعناية من أغاني فابريزيو، عارضة تطبيقاً رائعاً جداً لمجموعة متنوعة وغنية من المواقف والعواطف الإنسانية. حتى أن الكاتبة والصحافية الإيطالية المشهورة فرناندا بيفانو ذهبت إلى حد وصف بوب ديلان بأنه “النسخة الأميركية من فابريزيو دي أندري”. وأنا أتفق معها.


كما أن موسيقاه نغمية، جميلة، وأحياناً شفقية وحزينة. أشعر، كما لو أنني ليغوريّ، بحيث تظهر ذكريات الطفولة في ذلك المشهد المتقشف والدرامي الممتد بين الجبل والبحر، بشكل شديد الجمالية ربما أكثر من أي فن آخر، ربما يتساوى مع أشعار أوجينيو مونتالي.

في شعره أجد الكثير من حياتي الداخلية. إن ذكري للكتابات عن دي أندري قبل موسيقاه ليس من قبيل الصدفة: استمرار شعبيته ليس مجرد مسألة حب الناس لموسيقاه في حين يتجاهلون أفكاره، بالتالي إن حياته الأخلاقية، تبدو شديدة الصلة وحية أكثر من أي وقت مضى.

بإصرار وعناد شديدين، تتحدث أغانيه عن المهمشين، الذين غالباً ما يكونون فقراء متمردين على المجتمع. تحضر إلى رأسي الأغاني التالية: عن شعوب الروما (Sally، Khorakhane)، والترانس (Princesa)، والمثليين (Andrea)، والسكان الأصليين في أميركا(Fiume Sand Creek، Coda di Lupo)، والمدمنين على المخدرات (Cantico dei drogati)، وضحايا الحرب الأهلية اللبنانية [الأغنية ليست عن ضحايا الحرب الأهلية إنما عن ضحايا الاجتياح الصهيوني للبنان، وهي تتضمن في بدايتها تسجيلاً صوتياً للجزار أرييل شارون- بطبيعة الحال الملاحظة من المترجم] (Sidun)، وعدد كبير من الأغاني المرتبطة بالعمل الجنسي بشكل واضح أو ضمني وموضوعات تحرر النساء والاضطهاد (Bocca di Rosa، Via del Campo، Rimini، A Dumenega). كما كتب العديد من الأغاني باللهجات المحلية بدءاً من لهجة مسقط رأسه جنوى، إضافة إلى أخرى بالسردينية والغاوريزية والنابوليتانية، مضيئاً بذلك على وضع الأقليات المتحدثة بهذه اللهجات المحلية.

هذه اللائحة ليست سوى عينة، ولا يمكنني وصف مدى رقتها ودفئها وأصالتها، لا يمكنني إلا أن أدعوكم للاستماع إليها كلها وتعلم ما يلزم من الإيطالية واللغات الأخرى بداية إذا تطلب الأمر. لم يكتب أغانٍ فقط عن المضطهدين، إنما عاش فلسفته: بعد أن خطفته عصابة في سردينيا بهدف الحصول على فدية واحتجازه كرهينة لمدة أربعة أشهر، أعلن تضامنه مع الخاطفين في النهاية: “لقد كانوا السجناء الحقيقيين، وليس أنا” (في حين لم يظهر أي تعاطف مع قيادة العصابة مطلقاً، التي تجنبت التعامل المباشر مع الرهائن وعملية الخطف).

من الصعب جداً، تخيل أنصار ترامب أو سالفيني يؤيدون هذا النوع من الخطاب، الذي يبرر بشكل أساسي الأعمال “الإجرامية” الناتجة عن الفقر. مع ذلك، فإن سالفيني نفسه، كما العديد من ناخبي اليمين في إيطاليا، من أشد المعجبين بموسيقاه.

مع هذه الخلفية، يجب سؤال أنفسنا، ما هو بالضبط الموقف الأخلاقي لـ دي أندري تجاه الفقراء والمضطهدين في الحياة والذي ما زال يعجب الناس، حتى أولئك الذين يشعرون بأنهم ممثلون من قوى سياسية تضطهد الأقليات والسكان المهاجرين، وكيف يتناقض ذلك مع المواقف تجاه العدالة الاجتماعية والسياسة الاقتصادية اليوم؟

فلنبدأ بالحقائق. إذ تنال الأحزاب التي تمثل أيديولوجيا “الطريق الثالث” ما تبقى من أصواتها القليلة من الطبقات الوسطى الغنية بدلاً من الفقراء والطبقة العاملة، الذين يصوتون في كل أنحاء أوروبا لصالح الحركات اليمينية الوليدة. كان دي أندري، وهو الأناركي اليساري والمناهض للرأسمالية، مرتعباً من دون شك من هذا الدمج بين الديمقراطية والرأسمالية الذي طبقته الأحزاب المساواتية الممثلة للطبقات المفقرة. في الواقع، حتى أنه توقع ذلك على نحو صائب في إحدى أغنياته، (La Domenica delle Salme)، التي كتبها بعد وقت قصير من سقوط جدار برلين وانهيار الشيوعية في أوروبا. اليوم، إن الأحزاب الشعبوية، ورغم أنها لم تقدم حلولاً سياسية ملموسة للمحرومين من حقوقهم، تجتذب بكل سهولة أصوات الكثير من الغاضبين على الرأسمالية.


يمكن المحاججة أنه بما خص العدالة الاجتماعية، إن دفاع دي أندري الشغوف عن السكان الأصليين في أميركا وسواهم من الأقليات يندرج تماماً مع الأيديولوجية السياسية لـ”الطريق الثالث” ومع النشاط السياسي المعاصر الداعم لحقوق الأقليات مثل حركة #MeToo وحياة السود مهمة. تتجلى رؤية دي أندري المماثلة للتاريخ البشري باعتباره نسيجاً للأقليات المضطهدة من قبل الأغلبيات [المهيمنة] العديدة بشكل واضح في كلمات أغنية (Smisurata Preghiera)، مظهراً ازدرائهم من خلال: “فوق حطام السفن، من أعلى الأبراج… يزرعون بهدوء أشكالا متنوعة رهيبة، من غطرستهم”، مظهرين شفقتهم على أولئك “الذين يعانون من يأس شديد، يتخذون خطواتهم الأخيرة من خلال استقياء المرفوضين”.

أصبح حل القضايا المجتمعية المرتبطة بالتمييز مثل التمييز الجنسي والعنصرية ورهاب المثليين ورهاب الترانس ومعاداة السامية والإسلاموفوبيا، قضية أساسية بالنسبة لأحزاب “الطريق الثالث”، وطغى التركيز على انعدام المساواة الاجتماعية على تلك الاقتصادية. لقد صيغت فكرة “الصوابية السياسية” باعتبارها إهانة ضد ناشطي هذه الحركات، يدل المصطلح نفسه أن تلك الحركات “لا تستند إلى مبدأ قوي لتعريف عقلاني للطبيعة البشرية، إنما على النسبية الكلية”. يقدم المؤلف الذي أستشهد به ههنا، أوجينيو كابوزي، أمثلة عن عن التعددية الثقافية والهوية الجنسية القائمة على الاختيار لإثبات هذه النسبية. (2)

العديد من النقاشات القائمة على “ردة الفعل الصوابية السياسية” هي في حد ذاتها محفوفة بالتفكير الضئيل والتحيزات الصارخة. في هذه الحالة يدمج كابوزي بين كيانين مختلفين تماماً،العقلانية والطبيعة البشرية، ويقيم كل حجته عليها. من الواضح أن نيته هي تصوير فكره على أنه حكيم وعقلاني، وفكر حركات العدالة الاجتماعية على أنه غير عقلاني، بل حتى هستيري، ضاع ما بين مذهب المتعة الجامح خلال الستينيات وبين أخلاقوية الزمن الحالي، ويتبنى كل ما هو مراوغ. مع ذلك، ربما عن طريق المصادفة، إنه يعثر على قضية ذات صلة كبيرة بـ دي أندري، لأنه لا يمكن أن يكون هناك شك بأن اللغة الأخلاقية التي تستعملها حركات العدالة الاجتماعية لانتقاد الظلم الاجتماعي هي من دون شك قوية جداً. بذلك، إنه يدعو إلى سياق فلسفي أمضى دي أندري كل حياته يفكر فيه.

طوال تاريخ البشرية، كان لكل حركات العدالة الاجتماعية أساس أخلاقي من خلفية ثيولوجية أو فلسفية. اعتقد يسوع والنبي محمد بوجود قانون إلهي متجذر في بنية الوجود، وما تزال هذه الأفكار يعتقد بها المليارات من الناس حتى اليوم. تعتبر نظرية العقد الاجتماعي والنفعية والكانطية وأخلاقيات الفضيلة طرقاً بديلاً لفهم ما هو “الصالح العام” في وسط عالم من الأفراد الأنانيين. يعتبر ماركس الأخلاق شيئاً يستحيل فصله عن إعادة التنظيم الشيوعي للمجتمع، ولكن يندرج فيها بشكل ضمني فكرة أن ازدهار الفرد (المتحرر من قيود الرأسمالية) هو “الخير” المطلق.

غالباً، ما ينظر إلى الأخلاق، سواء كانت من مصدر إلهي أو إنساني، على أنها فرض فوقي على الناس من قبل المشرع، وهو أمر يكرهه الأناركيون مثل دي أندري. مستلهماً شعره من الرمزية الفرنسية، والقواسم المشتركة غير القليلة مع الكتاب المناهضين للاستبلشمنت بدءاً من [جاك] كيروك وصولاً إلى [بيار باولو] باسوليني، تشاركَ دي أندري مع أبناء جيله في سعيه لتعطيل القيم التقليدية والانتفاض، وصولاً إلى الأعمال “الجرمية”. اعتبر أحد أبطاله الفكريين الأوائل، الأناركي الفردوي ماكس شتيرنر في عمله الأساسي “الأنا العليا وذاتها”، أن القانون والحق والدين (في الواقع النزعة الإنسانية والنفعية والليبرالية) هي كلها مفاهيم مصطنعة تعيق حرية الإنسان. (3) مع ذلك، وعلى الرغم من نفوره الواضح من السلطة السياسية، بقي دي أندري معجباً بالدين طوال حياته. عام 1969، وسط حركة الاحتجاج الطلابية، أصدر ألبوماً بعنوان (La Buona Novella)، تضمن وصفاً لتعاليم يسوع المسيح كما وردت في العهد الجديد. حتى أنه بنفسه وصف الألبوم كـ:


“مقارنة بين الأمثلة الأفضل والأكثر منطقية لثورة عام 68، وفي بعض الأمثلة، بالتأكيد أعلى من وجهة نظر روحية، ولكن المماثلة من وجهة نظر أخلاقية-اجتماعية، أثارها رجل نبيل، قبل 1969 سنة، ضد إساءة استخدام السلطة، وباسم المساواة والأخوة العالمية. هذا الرجل اسمه يسوع المسيح. وأعتقد، أنه كان، وسيبقى، أعظم ثوري في كل العصور”. (4)

في المقابل، يظهر موقفه من الإكليروس الكاثوليكي في العديد من أغانيه، حيث ينتقد بشكل مباشر موقفها الأخلاقي تجاه الانتحار وتعاطي المخدرات والعمل الجنسي والعديد من “العلل”. الأغنية الأكثر شهرة، حين فكك الوصايا العشرة في أغنية (Il Testamento di Tito) آخر أغنية في ألبوم (La Buona Novella): شانّاً مواجهة مباشرة لفكرة القواعد العالمية المحددة من قبل المشرع الإلهي. حتى عندما وصف هذه القيم الخاصة بزمن سابق والمتلاشية والفاقدة صلتها مع الواقع، كان “يبحث عن قيم مفتقدة في عالم النفي التام”. (4) الثورة الحقيقية، مثل تلك التي أوحى بها يسوع، أعطت، بالنسبة إلى دي أندري، بالضرورة، وعلى الأرجح، قيماً أفضل. مع ذلك عندما قدم أغنيته (La Città Vecchia) في إحدى حفلاته الموسيقية الأخيرة، هي من أغانيه الأولى والنموذجية بحيث تصف النضالات والنشاطات “الإجرامية” للبروليتاريا الرثة في جنوى، بمفارقة وتعاطف شديدين، قال الكلمات التالية:

“هذه الأغنية، أعبر فيها عما طالما فكرت فيه: أنه في الفضيلة هناك القليل من الفضل، وهناك القليل من الخطأ ضمن الخطأ البشري. أقول كذلك لأنني لم أستطع أبداً فهم بشكل صحيح ما هي الفضيلة والخطأ على نحو صحيح، على الرغم من عمري البالغ 58 عاماً: كل ما علينا فعله هو التحرك في المكان [أو الزمان] حتى نرى كيف تتغير القيم لتصبح لا-قيم والعكس صحيح”.(4)

هذا التعبير عن الشك يشبه على نحو مذهل المقولات التي عبرت عنها فيلسوفة الأخلاقية التحليلية ج.إي.م. أنسكومب في كتابها الصادر عام 1958 “الفلسفة الأخلاقية الحديثة”. (5). كانت أنسكومب على العكس من دي أندري، فيلسوفة أخلاقية ومؤمنة كاثوليكية على نحو عميق وآرائها الاجتماعية محافظة. مع ذلك، ركزت حججها في هذا الكتاب الشهير حول أفكار مشابهة جداً، معتبرة أن المفاهيم “الأخلاقية للغاية” والواجبات الأخلاقية قد فقدت، منذ أن فقدت قاعدتها التاريخية الدينية (في أوروبا على الأقل)، وقد فقدت صلتها بالمجتمع بشكل كامل، وقد ذهبت بعيداً للقول إن هذه المفاهيم يجب ألا تستعمل بعد الآن، إنما تطوير مفاهيم “أقل شدة أخلاقياً” يتطلب حساباً نفسياً للطبيعة البشرية التي نفتقر إليها اليوم. بالطبع، ما زلنا نستعمل كلمات مثل “يجب” و”ينبغي” في حديثنا اليومي كما تفعل الكنيسة الكاثوليكية حيال الإجهاض وكما تفعل حركات العدالة الاجتماعية اليوم حيال مجموعة متنوعة من التمييز. بالنسبة إلى أنسكومب، استعمال اللغة لا أساس له من الصحة: كل المحاولات الفلسفية العلمانية الحديثة للعودة إلى “الواجب الأخلاقي” إلى حالته السابقة قد فشلت. وسنحتاج إلى مقال آخر لتحليل صحة فكر أنسكومب بالمقارنة مع آخرين: من المثير للاهتمام أن كتابها قد أدى إلى عودة ظهور أخلاقيات الفضيلة الأرسطية، حيث يغيب “الواجب الأخلاقي”: بشكل كامل. حالياً، دعونا نندهش من التشابه الكبير بين فكر أنسكومب ودي أندري، يدّعي الاثنان وجود نقص جوهري في فهم أسسنا الأخلاقية في حين يحملان نفس وجهة النظر الأخلاقية الشغوفة. إنه من الواضح للغاية من موقف أنسكومب الأخلاقي الذي لا تردد فيه حيال أفعال مثل المجازر بحق الأبرياء، (5) أو من صلاة دي أندري “غير المحدودة” من أجل تحقيق الكرامة للمنبوذين في المجتمع، حيث شعر الاثنان بـ “الواجب الأخلاقي” العميق، الذي ينبغي به تجاوز التفكير المشروط والعواقبي المتأصل في الفكر النفعي. ومع ذلك، ظهر الاثنان مدركين بشكل شديد لغياب الأرضية الفلسفية لموقفهما الأخلاقي.


إن غياب الأسس هو ما أعتبره يحتاج إلى معالجة، أو على الأقل أخذه بالحسبان، إذا كان لأحزاب اليسار النهوض من جديد من تحت الرماد. يجب عليها اعتماد سياسات أخلاقية صارمة. في حين يصور سياسيون مثل ترامب وسالفيني أنفسهم كثوار أفظاظ يبدو أنهم يسعدون بارتكاب أعمال طائشة وخطرة مثل إلغاء اتفاقيات حماية المناخ، وترك اليائسين يغرقون في البحار والتحريض على العشائرية بين المجموعات الثقافية، يجب أن يقترح هذا الشكل الجديد من السياسات أساساً فلسفياً عالمياً بشكل تكون فيه رؤيته واضحة للكثير من الضرورات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية على حد سواء، والتي تتوزع، على العمل البيئي، المساواة الاجتماعية، والعدالة الاقتصادية. من الطبيعي، أن يحصل العديد من الخلافات: ولكن ما لم يتم اقتراح أطر فلسفية شاملة حقيقية، أتوقع أن تستمر الحركات اليسارية بالتأرجح في وسط الطريق بين الرعاية الاجتماعية والسياسات النيوليبرالية العالمية، وبين العدالة الاجتماعية الشغوفة والنسبية الأخلاقية.

عندما استمعت إلى دي أندري لأول مرة بشكل صحيح، كانت أفكاري السياسية بطور التشكل، بدأ إيماني الكاثوليكي بالتلاشي. يبدو أن كل شيء يتبلور حول المبادئ الأساسية في مؤلفات دي أندري: جذر “الأخلاق” مثل خيالنا، هو أمر مطلوب للتعاطف مع الحياة المختلفة والنضال الدائم ضد التفكير الإقليمي[القومي] والمتمحور حول الذات. الآن، مثله أنا، أقل يقينية. ربما لن نكون أكيدين من الناحية الفكرية من حقيقة المبادئ العظيمة مثل “العدالة” و”الخير”: ورغم ذلك، من الواضح أنه يمكننا التأثر بها بعمق عندما نراها ممارَسة.

يبدو الأمر كما لو أنه يتعلق بالأسئلة الأخلاقية، على عكس من تلك الأمبريقية، على المرء أن يبدأ من قلبه، بتقلباته كما هي، وعندها فقط سيسمح للدماغ بالعمل الحاسم المتجسد بتحليل وتشريح ما هو داخله: إن القيام ما هو خلاف ذلك سيكون مثل مناقشة نوتات الموسيقى في حين نعاني من الصمم. قد لا تأتي الإجابات، كما يشهد دي أندري وأنسكومب. مع ذلك، حتى هذا التواضع يمكن أن يخلق مقداراً كبيراً من الحب والتعاطف مع أولئك الذين يعانون في الحياة، وأولئك المدانين من قبل معايير الآخرين، سواء كانت اقتصادية أو أخلاقية. وعندما يعبر عن قوة هذا النوع من التعاطف بأصالة وشاعرية ستكون غير قابلة للنكران، حتى بالنسبة لمن خاب أمله من سياسات “اليسار” اليوم وبات يصوت لأحزاب ذكورية ومعادية للأجانب. هل يمكن الاستفادة من ذلك؟


Fabrizio De André – Sidun


Fabrizio De André – Il testamento di tito (Live)

الهوامش:


1. Bonanni D., and Anfosso, G., “La mia prima volta con Fabrizio De André: 515 storie” Ibis, 2019.

2. Capozzi, E., “Politicamente corretto: storia di un ideologia”, Marsilio Editori, 2018.

3. Stirner, M., “The Ego and His Own: The Case of the Individual Against Authority”, Verso: Radical Thinkers series, 2014. Originally published: 1844 in German.

4. De André, F., “Sotto le ciglia chissà: i diari”, Mondadori, 2016.

5. Anscombe, G.E.M., “Modern Moral Philosophy”, Philosophy, 1958.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضباط شرطة يدخلون كلية مدينة نيويورك لاعتقال وتفريق المتظاهري


.. اقتحام الشرطة الأميركية جامعة كولومبيا واعتقال العشرات من ال




.. شرطة نيويورك تعتقل عددا من الطلاب المتظاهرين في جامعة كولومب


.. الشرطة في جورجيا تشتبك مع متظاهرين خرجوا ضد مشروع قانون -الع




.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطيني