الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوبئة إمبراطورية

صبحي حديدي

2006 / 10 / 17
العولمة وتطورات العالم المعاصر


الفارق، إذا كان من الصواب استخدام مفردة «فارق» في الأساس، كبير رهيب بين تلك المشاهد التي تصوّر جياع الأرض في أفريقيا وهم ينبشون التراب بحثاً عن عرق يابس يقيم الأود بين الجلد والعظم، وتلك المشاهد الأخرى التي نتابعها بين حين وآخر كلما شاع وباء كوني يستدعي إلقاء مئات آلاف القطعان من الماشية والدواجن. صحيح أنّ الجوع هناك لا يوازي التخمة هنا، ولكن أليس من حقّ المرء أن يتجاسر أكثر فيزعم أنّ التخمة هنا هي معظم السبب في الجوع هناك؟ أليس من حقّ المرء ذاته أن يضع هذه الحرائق (الوقائية من حيث المبدأ) في سياق سلسلة أضيق نطاقاً شهدت أمراض جنون البقر وجنون الدجاج وأنفلونزا الطيور؟
بلانتو، رسام الكاريكاتير الشهير في صحيفة «لوموند» الفرنسية، التقط هذه المسألة بذكاء يجمع الطرافة السوداء إلى التشخيص السياسي ـ الإقتصادي الصائب. لقد رسم خروفاً وعجلاً وطائراً مقيّدين إلى خشبة المحرقة، ورسم عدداً من رجال الأعمال مدخّني السيغار الفاخر يمرّون بالمحرقة غير عابئين، وأجرى على لسان الحيوان هذا التعليق: لماذا نُحرق نحن، وهم يتبخترون؟ والحال أنهم يتبخترون لأنّ مبدأ الخضوع للوقاية لا يمكن أن ينطبق عليهم وأيّاً كانت آثامهم الإقتصادية، لأنّ العالم المتمدّن لم يهتدِ بعد (ولا يلوح أنه سيفعل في أيّ يوم قريب) إلى معايير لمحاسبة مجرمي الحروب الإقتصادية كما يفعل مع مرتكبي الجرائم الأخرى بحقّ الإنسانية. ولم يكن عجيباً أنّ بعض الصحف البريطانية تطوّعت، منذ الأيّام الأولى لظهور مرض الحمى القلاعية، إلى تأكيد مجيء الفيروس من آسيا وأفريقيا وبعض دول الشرق الأوسط.
ذلك لأنّ العالم ليس جُزراً منعزلة، وسواء جاءت الأوبئة من جنوب أو من شمال، فإنّ الكرة الأرضية بأسرها (هذه التي اعتبرتها العولمة قرية صغيرة!) سوف تخضع للعواقب، في كثير أو قليل، والفارق في نهاية الأمر سوف يُردّ إلى حكاية تقنيات الوقاية. لكنّ العالم، في الآن ذاته، ليس متساوياً في آلام وأزمنة ونطاق الخضوع للجائحة، الأمر الذي يعيد التشديد على تلك الهوّة العتيقة الفاغرة: بين شمال وجنوب، وتخمة ومجاعة، وعافية وعياء، ورفاه وتخلّف.
كما يعيد التشديد على كونية الاعتلال، شاء فقراء الكون أم أبى أغنياؤه. ففي المستوى التكنولوجي ـ التجاري يجري الحديث عن الأعلاف الحيوانية التي ألغت، أو نابت عن، الأعلاف الطبيعية لاعتبارات تدور حول تحقيق المزيد من الربح السريع والميسّر. وفي المستوى السيكولوجي ـ الثقافي يأخذ الوباء صفة خواف جماعي في نهاية الأمر، والرعب المعمَّم يبدّل الميول والسلوكيات والأعراف. وفي المستوى السياسي ـ الإقتصادي تبدو والبراهين ماثلة في الصراعات الخفيّة والعلنية حول تصدير أو إتلاف مواشي وطيور بلد دون سواه، وعزوف المستهلك عن البضاعة بأسرها، وما يعنيه ذلك من إفلاس صناعات، وإخراج الآلاف من سوق العمل إلى سوق البطالة...
وفي كتاب حديث بعنوان «هسترات: الأوبئة الهستيرية ووسائل الإعلام»، تثير إيلين شوآلتر المحاججة البسيطة التالية، بصدد وباء من نوع آخر عرفناه بالاسم الرهيب العجيب «آفة حرب الخليج»: لماذا نحتاج إلى أدلة «عسكرية» ميدانية لكي نتأكد من مرض يقدّم لنا كلّ يوم عشرات الأدلة النفسية على أنه مرض حقيقي قائم، بل وانتشر وينتشر تماماً كانتشار الأوبئة الكبرى بالمعنى الكلاسيكي؟ ثمّ، في نقلة بارعة من أوروبا إلى الولايات المتحدة، تسأل شوآلتر: ألا يقوم التاريخ النفسي للوجدان الأمريكي على سلسلة طويلة من الإرتياب الطهوري (البيوريتاني) في وجود أسباب ميتافيزيقية وراء الاضطرابات الصحية الكبرى.
شوآلتر ليست هاوية، وليست مغرمة بالصرعات والتغريد المجاني خارج السرب. إنها أستاذة الإنسانيات والأدب الإنكليزي في جامعة كولومبيا، ومؤرخة مرموقة في التاريخ النفسي للطبّ والأوبئة، وواحدة من أبرز الأسماء في النقد النسوي الأنغلو ـ ساكسوني. وكتابها الهامّ هذا يقول إن البارانويا لا تجتاح الوجدان الأنغلو ـ ساكسوني قادمة من كواكب الشر البعيدة، بل هي صاعدة من النفس إلى النفس على مبدأ الأواني المستطرقة. وهي أوالية إيهام واستيهام حول الأمريكي الذي يأبى تصديق ما يعتمل في داخله وفي محيطه من شرور واعتلال، ويهوى ترحيل ذلك كلّه إلى الآخَر، وإلى الميتافيزيقي الغامض في نهاية الحساب.
وإذا كان المزارع الأمريكي قد نجا بدرجة كبيرة، حتى تاريخه على الأقلّ، من شرور البقرة المجنونة التي تعالى خوارها الرهيب في أرجاء القارّة العجوز أوروبا، ومن الطائر الوديع الجميل الذي صار حمّال فيروسات قاتلة تهاجر طيّ الأجنحة والمناقير، فإنّ وباء حرب الخليج استقرّ أكثر فأكثر في أمريكا، واستوطن أجساد المزيد فالمزيد من محاربي "عاصفة الصحراء" وذرّيتهم من بعدهم (هذه، مثلاً، حال الطفل جايس هانسن الذي ورث المرض عن أبيه). كذلك فإنّ قلق الرئيس الأمريكي جورج بوش حول احتمالات انتشار أنفلونزا الطيور في طول الولايات المتحدة وعرضها، يشير إلى أنّ المزاج الأمريكي الجَمْعي الذي تتحدّث عنه شوآلتر أخذ يتبدّل، بمعنى أنه أخذ يتواضع... وينتمي إلى العالم!
ومن جانب آخر، كيف تقوم الإمبراطورية دون أثمان، فادحة غالباً؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الزمالك المصري ونهضة بركان المغربي في إياب نهائي كأس الاتحاد


.. كيف ستواجه الحكومة الإسرائيلية الانقسامات الداخلية؟ وما موقف




.. وسائل الإعلام الإسرائيلية تسلط الضوء على معارك جباليا وقدرات


.. الدوري الألماني.. تشابي ألونزو يقود ليفركوزن لفوز تاريخي محل




.. فرنسا.. مظاهرة في ذكرى النكبة الفلسطينية تندد بالحرب الإسرائ