الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عامٌ على الحرب في أوكرانيا.. قراءةٌ من منظورٍ تاريخي..

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2023 / 2 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


ما علاقة التاريخ بما يجري في أوكرانيا من تحالُفات؟
الحاضِر هو امتدادٌ للماضي.. وأبعادُ أي صراع في عالم اليوم لا يمكن فهمها إلا من منظورها التاريخي..
علاقة التاريخ بالسياسة علاقة جوهرية.. والتاريخ هو من صُنْعِ السياسة.. وهو السيرة الذاتية للدول والشعوب.. والوعاء الذي يحفظُ ذاكرتها..
هذا ما ينطبق بالكامل على ما يجري في أوكرانيا.. فصحيح أن الناتو والغرب بدا كلهُ كتلة واحدة إلى جانب كييف ضد موسكو، ولكنّ حماسَة المواقف ليست جميعها على نفس المستوى.. فقد بدَت الدول المُطِلّة على بحر البلطيق، هي الأكثرُ تشدُّدا من بين كل الدول الأوروبية.. فما علاقة التاريخ بذلك؟.
عودة سريعة للتاريخ تُرينا حجم الحروب الدموية التي وقعت في هذه المنطقة للسيطرة على بحر البلطيق..
فبِحَسَبِ كتُب التاريخ، فقد سيطر الفايكنغ على روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا أربعة قرون..
والفايكنغ هو مُصطَلح يُشيرُ إلى شعوب شمال أوروبا، التي كانت تنحدر من أصول جرمانية قديمة، وهاجموا أجزاء واسعة من أوروبا، وسواحل بريطانيا وفرنسا، من أواخر القرن الثامن وحتى القرن الحادي عشر..
مملكة السويد كانت إمبراطورية عُظمى في أوروبا.. سيطرت على منطقة البلطيق خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر..
وخلال حرب الثلاثين عاما من 1618 حتى 1648 ، في أراضي الإمبراطورية الرومانية المُقدّسة (وهي مُعظم أراضي ألمانيا اليوم) تمكنت السويد من السيطرة على معظم المُقاطعات الألمانية.. وباتت تشعُر أنها زعيمة البروتستانتية..
الصراع بين السويد وروسيا لم يتوقف على مدى أكثر من قرن ورُبع القرن.. من عام 1600 وحتى 1725 .. وكانت العقيدة العسكرية لجيش السويد مُعادية دوما لروسيا..
بولندا وليتوانيا عانَتا من كثير من الحروب والتحالُفات في القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر..
ورغم كل ذلك، شكّلتا تحالُفا تحت عنوان "الكومنولث البولندي الليتواني" بين مملكة بولندا ودوقية ليتوانيا في عام 1569 ..وازدهر جدا في وقتٍ من الأوقات، ولكن الكومنولث انحلّ في عام 1795 ، بعد تقسيم بولندا بين كلٍّ من الإمبراطورية النمساوية، ومملكة بروسيا، والإمبراطورية الروسية..
**
فنلندا كانت دوما مسرحا للقتال بين السويد وروسيا.. وأصبحت في وقتٍ ما جزءا من مملكة السويد، واندمج البَلَدان..
في العصور الوسطى كانت دوقية موسكو الكبرى، تمثِّل تهديدا لفنلندا من الشرق..
وخلال حرب الشمال الكبرى احتلّت روسيا فنلندا(التي كانت تحت حماية السويد) ثمان سنوات، من 1713 وحتى 1721 .. وأُجبِرت فنلندا على التنازُل عن الجزء الجنوبي الشرقي من أراضيها بالقوة..
وحتى في العصر الحديث، فقد غزا الاتحاد السوفييتي فنلندا في 30 تشرين ثاني/نوفمبر 1939 ، وعلى الرغم من المقاومة الشرسة، اضطرّت فنلندا على التنازُل عن 10% من أراضيها..
فإن كُنا سنصحِّح التاريخ، فمن أي نقطة في التاريخ سنبدأ..
**
تاريخ دول البلطيق بحدِّ ذاتهِ، مليءٌ بالحروب.. ومن أبرزها الحروب التالية:
حرب الشمال الأولى: وهذا مُصطلحٌ يُطلَقُ على سلسلة من الحروب، دارت رحاها في شمال، وشمال شرق أوروبا، في القرنين السادس عشر والسابع عشر..
ووفقا لتسلسلها التاريخي، فيمكن اختصارها كما يلي:
ــ الحرب الروسية السويدية، بين عامي 1554 و 1557 ..
ــ الحرب الليفونية، بين عامي 1558 و 1583.. وهي حرب على أراضٍ واقعة اليوم في استونيا ولاتفيا..
ــ حرب السنوات السبع الشمالية، بين عامي 1562 و 1570 ..
ــ الحرب الروسية البولندية، أو حرب السنوات الثلاثة عشر، بين عامي 1654 و 1667 .. أو الطوَفان الروسي، أو الطَوَفان البولندي..
ــ الحرب الاسكانية بين عامي 1674 و 1679 ..
وكل هذه الحروب تندرج تحت عنوان "حرب الشمال الأولى" ..
هذا ليس سوى غيضٌ من فيض من الحروب في ذاك الجزء من العالم..
ومن ثمّ جاءت حرب الشمال العُظمى..
***
ما هي حرب الشمال العظمى:
وقَعت هذه الحرب ما بين عامي 1700 و 1721 ، في زمن ملك السويد شارل الثاني عشر( أو كارل الثاني عشر)..
وتحالفَ ضدهُ فيها كلٍّ من قيصر روسيا بطرس الأكبر.. ومملكة الدانمارك ــ النروج بقيادة الملك فريدريك الرابع.. ومملكة بولنداــ ليتوانيا بقيادة الملك " أغسطس الأعظم" .. إضافة إلى ساكسونيا..
ثم انضمّت لهذا التحالُف في سنوات الحرب الأخيرة، بروسيا وبريطانيا العُظمى..
تغيرت التحالفات خلال هذه الحرب بتغيُّر الزعماء.. فانضمّت مملكة بولنداــ ليتوانيا إلى مملكة السويد بقيادة الملك (ستانيسلو لييسزينسكي) بين عامي 1708 و 1710 ..
ثم دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب لصالح السويد بعد أن آوت ملك السويد كارل الثاني عشر..
هُزِم بطرس الأكبر في معركة (نارفا) وعاد إلى روسيا ليجمع جيشهُ من جديد، وفرضَ قوانين صارمة، حيثُ رفعَ الضرائب بقوة، وزاد عدد سنوات الخدمة العسكرية لتبلغ 21 سنة.. وبعد أن أصبح جيشهُ جاهزا هاجمَ المُقاطعات التي تسيطرُ عليها السويد في بحر البلطيق، ونجح بالوصول إلى مياه البلطيق، وبنى مدينة " سانت بطرسبرغ".. كمرفأ وعاصمة للإمبراطورية..
وبعدها تحرّك الملك كارل الثاني عشر من أراضي مملكة بولندا ــ ليتوانيا، لمهاجمة بطرس الأكبر، ولكنهُ فشلَ وانهزم في معركة (بولتافا) الشهيرة عام 1709، وأُبيدَ جيشهُ...
**
وكَوْن الملك كارل الثاني عشر كان مُحاصَرا مع بقية جيشهِ وحاشيتهِ بعد معركة بولتافا، ولم يتمكن من العودة للسويد، فقد لجأ إلى أراضي الدولة العثمانية التي كانت على حالةِ عداء مع روسيا.. ومنحَهُ السلطان أحمد الثالث حق اللجوء وعلى نفقة الدولة العثمانية، وقدم له كل الرعاية..
وكان يُديرُ شؤون مملكة السويد عبر السُعاة الذين يتنقلون بين أراضي السلطَنة والسويد، حتى عام 1714 حيثُ عاد إلى السويد بدعم عسكري عثماني ومرافقةِ حاميةٍ عثمانية، ولم تشأ القوات الروسية على اعتراضهِ حتى لا تقع حربا بينها وبين الدولة العثمانية التي كانت قوية ومهيوبة الجانب..
بعد عودتهِ للسويد، أعاد تجهيز جيشه خلال عامين، مُستفيدا من التجربة العثمانية..
وفي عام 1716 ، تحرّك لغزو النرويج، ولكنهُ قُتِل خلال عملية الغزو تلك..
بعدها، فقدت السويد كل مكانتها الأوروبية، وضعُفت جدا، إلى أن أعادت بناء نفسها في العصر الحديث..
ومنذ تلك الهزائم، لاسيما معركة، بولتافا، انتهت مملكة السويد كقوة عُظمى، واتّخذَت منحى الحياد من الحروب.. إلى أن وقعت الحرب الروسية الأوكرانية الحالية، فانحازت السويد إلى جانب أوكرانيا، وتقدمت بطلبٍ للانضمام للناتو..
وحينما صرّح وزير الدفاع عن نيّة السويد بتدريب قوات أوكرانية، أجابتهُ السفارة الروسية في استوكهولم بالقول: لا تنسى معركة بولتافا..
**
هذه صورة مُختصَرة عن الحروب القديمة في شمال وشمال شرق أوروبا، وصراعُ المصالح، وفرضُ الهيمنة في منطقة بحر البلطيق، وشرق أوروبا.. وتلك الحروب تُلقي بظلالها اليوم على الحرب في أوكرانيا.. فهذه الحرب تُذكِّرهم بتلك الحروب..
كل حروب أوروبا القديمة، وضعوا لها حدّا في صلح ويستفاليا 1648 .. وبعدها اتجهت كافة هذه الدول نحو بناء أنظمة ديمقراطية برلمانية حتى وصلت لِما هي عليه اليوم..
التاريخُ يُعيدُ نفسهُ ولكن بطريقةٍ أخرى.. وبشكلٍ أكثرُ تطورا في الحروب، واتِّساعا في التحالُفات..
**
تركيا العثمانية التي منحت اللجوء لملك السويد كارل الثاني عشر ورَعَتهُ وخلّصتهُ من أزمتهِ، هي اليوم من بيدِها ورقة خلاص السويد من أزمتها، بالموافقة على انضمامها للناتو، أو رفضها لذلك..
**
الحرب في أوكرانيا لا أفُقا باديا اليوم لنهايتها.. والطرف الروسي حسب تصريحاتهِ ماضٍ حتى تحقيق أهدافهِ.. بينما الطرف الغربي ماضٍ في تزويد أوكرانيا بالسلاح والمال والخبرات والتدريب، مهما طال الوقت، حَسَبَ تصريحات قادة الغرب..
وما زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى كييف يوم الإثنين 20 شباط/فبراير 2023 بمناسبة مرور سنة على الحرب، إلا رسالة قوية من أنهم ماضون للأخير في دعم أوكرانيا.. وهذا ما صرّح به.. كما يُصرِّح به كافة قادة أوروبا علنا..
فهُم لا يريدون أن يعود التاريخ إلى ما قبل صلح ويستفاليا.. ومن هنا فَقَادة الغرب( الذين يصفون أنفسهم بالعالم الحُر) يرون بالحرب في أوكرانيا حربا على "القِيَم" الأوروبية المُشترَكة..
والقناعة راسخة لدى قادة الغرب، لاسيما قادة بولندا وقادة دول البلطيق، ودول الشمال الأوروبي(التي بينها وبين روسيا القيصرية حروبا طاحنة) أنهُ إن انتصر الرئيس بوتين في أوكرانيا، فالدورُ قادمٌ إلى بولونيا وليتوانيا ولاتفيا وأستونيا، وإلى جورجيا ومولدافيا.. الخ.. أي العودة إلى زمن الإمبراطورية القيصرية الروسية، وإلى حروب ذاك الزمن.. طبعا هذا حسبَ اعتقاد مسؤولي دول الغرب ودول الناتو، وتصريحاتهم..
بل الأمريكي يعتقد أن انتصار بوتين سوف يُشجِّعُ الصين على غزو تايوان.. ومن هنا فالأمريكي ماضٍ بقوة في تسليح وتمويل أوكرانيا..
ولكن هل تخوُّف قادة الغرب في مكانهِ؟.
ربما هناك مبالغَة في الأمر.. ولكن التاريخ كله تاريخ حروب، والقوي كان يُوسِّع مُلكهُ إلى حيث يستطيع.. ولم يُوقِفهُ إلا الخسارة.. أو استسلام العدو.. هذا هو التاريخ.. وهذا ما ينطبق على الجميع بلا استثناء.. في الماضي وفي الحاضر..
وأمام إصرار بوتين، وإصرار قادة الغرب المُعاكِس .. تدفعُ شعوبهم جميعا، وشعوبُ العالم، الثمن
وتسود الفوضى.. والعملية العسكرية الروسية الخاصّة في أوكرانيا، التي كان يُفتَرض أن تنتهي بأيامٍ محدودة، تحوّلت إلى حربٍ طويلةٍ لا يعرفُ إلى الله كيف ومتى ستنتهي.. فالرئيس بوتين لن يسمح لنفسهِ بالهزيمة.. والغرب لن يسمح لنفسه بالهزيمة..
فهل سيكون الحل على قاعدة: لا غالب ولا مغلوب.. أم سيحصل وقفٌ لإطلاق النار ويتجمّدُ كلٍّ في مكانهِ ولكن دون حل، ويبقى التوتر دائما كما بين الكوريتين؟. أم ستحصل مُعجِزة ما ويموت كل قادة الدول المنخرطون في هذه الحرب ويأتي قادة جُدد يضعون حدّا لها؟.
صعبٌ التنبؤ بشيء.. ولكن ليس لموسكو مصلحة في إطالتها.. بينما مصلحة الغرب هي كذلك، لأنهم يضعون نُصب أعيُنهم استنزاف روسيا للنهاية، وإضعافها، حتى يسهُل عليهم تفتيتها.. والقادةُ الرُوس يدركون تماما نوايا الغرب هذه.. والرئيس بوتين قالها في كلمتهِ يوم الثلاثاء 21 شباط/فبراير، في ذكرى مرور عام على الحرب أن الغرب يستخدم النزاع في أوكرانيا لـ "القضاء" على روسيا..
وكلمات نائبة الرئيس الأمريكي "كامالا هاريس" في مؤتمر ميونخ للأمن في 18 شباط/فبراير، أن روسيا باتت أضعف بعد عام من الحرب في أوكرانيا، هي كلمات لها مدلولاتها..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والناتو.. المواجهة الكبرى اقتربت! | #التاسعة


.. السنوار .. يعود للماطلة في المفاوضات|#غرفة_الأخبار




.. مطار بيروت في عين العاصفة.. حزب الله وإسرائيل نحو التصعيد ال


.. مظاهرة في شوارع مدينة مونتريال الكندية دعما لغزة




.. مظاهرة في فرنسا للمطالبة باستبعاد إسرائيل من أولمبياد باريس