الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاشتراكية والاستعمار والاستشراق

جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)

2023 / 2 / 22
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


النص هو ترجمة للفصل المعنوَن «الاستعمار/ الإمبريالية/ الاستشراق» في Histoire globale des socialismes XIXe-XXIe siècle, sous la -dir-ection de Jean-Numa Ducange, Razmig Keucheyan et Stéphanie Roza, Paris: Presses universitaires de France, 2021, pp. 109-122. ترجمه من الفرنسية عمر الشافعي

إن فكرة التوزيع الاجتماعي للثروات، وكذلك الممارسة التاريخية لتلك الفكرة على نطاقاتٍ متنوّعة، تسبقان بكثير ظهور مصطلح «الاشتراكية» (socialisme) في بداية القرن التاسع عشر. وقد عرَفهما الشرق على وجه الخصوص قبل قرون عدة، لا سيما في التعبير الديني الذي كان الشكل السائد عالميًّا للطوباويات الاجتماعية حتى القرن الثامن عشر. هكذا، شكّل يسوع الجَليلي ومزْدَك الفارسي وقرامطة شبه الجزيرة العربية لحظات هامة من التاريخ العالمي للاشتراكيات منذ فجر الإنسانية. والحال أن المسيحية، التي وُلدت في الشرق، لعبت دورًا حاسمًا في تاريخ الاشتراكية الأوروبية، سواء على هيئة مشاعات دينية سابقة لقرن التنوير، على غرار مشاعة توماس مونتسر في ألمانيا، أو بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تكوين مختلف اشتراكيات القرن التاسع عشر.

بيد أنّ الصورة الرئيسية التي تجلَّى فيها الشرق في العقائد الاشتراكية الأوروبية خلال القرن التاسع عشر هي صورة ممثّليه المتخيَّلين داخل الغرب، ألا وهم اليهود الذين ألحقتهم صورتُهم النمطية بعالم المال الذي يمقته الاشتراكيون بطبيعة الحال. فمن فورييه إلى بلانكي ثم باكونين، نعرف إلى أيّ مدى شاطَر اشتراكيّو القرن التاسع عشر – لا سيّما الفرنسيون منهم – الأفكارَ النمطية المناهضة لليهود، الموروثة من تراثٍ مسيحي يعود إلى العصور الوسطى. والحال أنّ من هؤلاء اليهود، الذين كثيرًا ما سمّوا بالعبرانيين أو الإسرائيليين على نحو أحالهم إلى الشرق الذي يُفترض أنهم منه جاءوا – هؤلاء اليهود الذين كتب عنهم برودون عام ١٨٤٧ في دفاتره كلامًا بذيئًا يدعو إلى «إعادة هذا العِرق إلى آسيا، أو إبادته»– جاء مفهومُ معاداة السامية، الذي بدأ ينتشر في نهاية القرن التاسع عشر مستلهمًا خزعبلات إرنست رينان، ليرسّخ إدماجهم في النطاق الشرقي للّغات الساميّة الذي نبعت منه الديانات الإبراهيمية الرئيسية الثلاث.

التراث المخزي بشأن «المسألة اليهودية» لأغلب العقائد الاشتراكية في القرن التاسع عشر إنما هو الدليل، لو كانت ثمّة حاجة إلى دليل، على أن معارضة «البلوتوقراطية» (حكم الأثرياء) لا تستتبع بأي حال من الأحوال قطيعةً تلقائيةً مع مجمل النسق المعرفي السائد. ويصحّ هذا تحديدًا بشأن الأفكار النمطية إزاء الاختلافات التي لا تتّصل بتقسيم الثروة، مثل الأفكار المتعلقة بالعرق والجندر – أو الاستشراق، من حيث هو تعبير عن التمركز الإثني (ethnocentrisme) الغربي، وفقًا للمعنى المعاصر لمصطلح «الاستشراق» الذي روّج له إدوارد سعيد والمعتمَد في بقية هذا المقال. والواقع أن كراهية اليهود شكّلت بوجه عام غيضًا من فيض احتقار الشرق، «آخَر» الغرب بامتياز.

السان سيمونيّون والشرق

على أننا نجد مع ذلك مقاربةً أكثر سخاءً إزاء الشرق المسلم لدى هنري دو سان سيمون، الذي كان له، من بين «الاشتراكيين الطوباويين»، الأثر المستقبلي الأهمّ، ففي مواجهة الاستشراقي النموذجي الذي مثّله ڤولني، رأى سان سيمون عام ١٨٠٨ أن العرب شكّلوا «طليعة الإنسانية» على الصعيدين السياسي والعلمي بين القرنين السابع والثاني عشر. وبينما سقط الشرق المسلم في الانحطاط منذ ذلك الحين وحلّت محلّه أوروبا في دور الطليعة، ظلّ سان سيمون مقتنعًا بأن المجتمعات غير الأوروبية يمكنها التقدم على الطريق الذي سلكته أوروبا، شريطة أن تتولى الأخيرةُ إرشادها في انتقالها من «المرحلة اللاهوتية» إلى «المرحلة الوضعية». ويكرّر سان سيمون في كتابه «عقيدة الصناعيين» (١٨٢٤) الفكرة القائلة إن «شعوب الأرض جميعًا، تحت حماية فرنسا وإنكلترا متّحدتين، ستنهض تباعًا وبالسرعة التي ستسمح بها حالة حضارتها، إلى النظام الصناعي».

أما التلميذ الرئيسي لسان سيمون، وهو پروسبير أنفانتان الملقّب «الأب»، فقد وقع في غرام الشرق آملاً أن يجد فيه «الأم» (أمّ من «العِرق اليهودي» في تصوّره) مساهمًا بذلك في إضفاء طابع شهواني على علاقة الغرب/ الشرق، وهو أمر بالغ الشيوع في القرن التاسع عشر. وكانت مصر الأرضَ المفضّلة لمخطط السان سيمونيين الكبير؛ فبعدما حاولوا سُدًى كسب تأييد واليها العثماني محمد علي لقضيّتهم، راحوا يضغطون باتجاه السيطرة الفرانكو-إنكليزية المباشرة عليها. وساورهم في هذا المجال هوسٌ بحفر قناة في برزخ السويس، وهو المشروع الذي نال فرديناند دي لِسبس امتيازه الحصري مورثًا إياهم بالغ الأسى. وقد دفع إخفاق مغامرتهم المصرية بالسان سيمونيين إلى الالتفات نحو الجزائر، ناصَر أنفانتان بقوة استعمارها من قِبَل فرنسا، لكنه مع ذلك أعرب عن نفوره من المجازر التي ارتكبتها فيها القوّات الفرنسية، فانطلاقًا من إخلاصه لاعتقاد سان سيمون بإمكانية تغيير العالم عن طريق الإقناع، حلَم أنفانتان في عام ١٨٤٠ بإقناع مجموع الشرق الإسلامي الخاضع للهيمنة العثمانية بفضائل العقل «الوضعي» الفرنسي. هذا وأيًّا كانت غرابة أطوار فلسفة التاريخ لدى السان سيمونيين، فقد شكّلت نموذجًا للجناح اليساري للفكر الاستعماري، المؤمن، بمنطق أبوي وبنيّة حسنة، بـ«الرسالة التمدينية» لأوروبا تجاه شعوب الجنوب العالمي «الهمجية».

الاستعمار من هيغل إلى ماركس وإنغلز

الواقع أنّ الاستشراق– تلك القراءة الجوهرانية للشرق التي تزعم أن مفتاح فهمه يكمن في ثقافات تتميّز بالديمومة، بل بعدم القابلية للتغيير– ليس في نهاية المطاف، إذا ما تسامى إلى مستوى التأمّل الفلسفي، سوى أحد نماذج التفسير المثالي للتاريخ. هكذا نجد تعبيرًا مكتملاً عن الاستشراق لدى ذروة فلسفة التاريخ المثالية متجسدةً في هيغل، الذي يشكِّل عملُه المعنون «محاضرات في فلسفة التاريخ» (١٨٢١١٨٣١) جمعًا من القوالب النمطية الثقافوية، سواءً تعلّقت بالشرق أو بالغرب. ويترتب على ذلك أنّ الشرط الأول لتجاوز الاستشراق، مثله مثل كافة أنماط الجوهرانية، هو القطيعة المعرفية مع قراءة التاريخ عبر منظور الثقافة. وعلى الرغم من أصوله اليهودية، كان ماركس الشاب نفسه، قبل أن يُتمّ قطيعته الفكرية مع الهيغلية اليسارية، قد غازل الكليشيهات الجوهرانية المعادية لليهود الواردة لدى برونو باور، في نقده لهذا الأخير.

ومنذ اكتشافه مع إنغلز للفاعلية العلمية للتفسير المادي للتاريخ، الذي قاما بتعميقه عند تحريرهما «الأيديولوجيا الألمانية» عام ١٨٤٦، صار الصديقان ينسبان إلى العوامل المادية، وفي المقام الأول العوامل الاقتصادية، اختلافات التطور بين البلدان. غير أنهما ظلّا أسيرَي النسق المعرفي الأوروبيّ- التمركز السائد في عصرهما، حينما نسبا إلى المشروع الاستعماري الأوروبي دورًا تاريخيًّا تقدميًّا. لم يكن الأمر في ذهنهما «رسالة تمدينية» بمعنى تهذيب الهمجيين، ولكن بمعنى التوسّع العالمي لنمط الإنتاج الرأسمالي. ومن هذه الزاوية، يمثّل «البيان الشيوعي» (١٨٤٨) تسبيحة بحمد العجائب الحضارية التي يُفترض أنها تحققت على يد البورجوازية، التي «تدفع [...] إلى الحضارة حتى أشد الأمم هجميّةً[...] وترغمها على إدخال ما تسمّيه «الحضارة» إلى وسطها» – تلك البورجوازية التي، مثلما أخضعت «الريف للمدينة»، كانت تُخضع أيضًا «البلدان الهمجية وشبه الهمجية للبلدان المتحضرة، [و]الشعوب الفلاحية للأمم البورجوازية، والشرق للغرب».

لم تعد الحضارة والهمجية هنا خصائص ثقافية؛ فما يميِّز الغرب عن الشرق في فهم ماركس وإنغلز ليس هو القدرة الثقافية الأعلى، بل اختلاف في الموقع على السلّم التاريخي للتطور البورجوازي. فمثلما ذهب سان سيمون إلى أنّ أوروبا لم تفعل سوى خلافة العرب حينما وضعت نفسها في «طليعة الإنسانية» من حيث العقل العلمي، رأى ماركس وإنغلز أنها تبوّأت ذروة التطور الاقتصادي من خلال كونها فضاءً ازدهر داخله نمط الإنتاج الرأسمالي الحديث. وقد أناط ذلك بالبرجوازية الأوروبية مهمّة نشر الحضارة الصناعية في بقية العالم.

هذا وعلى غرار إخضاع الأرياف للمدن في أوروبا ذاتها، لم يكن ليتسنّى إخضاع الأمم الهمجية للأمم المتحضرة والشرق للغرب بلا وحشية، فبوصفهما ماديّيْن جيّديْن، عرف ماركس وإنغلز أن العنف هو «قابلة» إمكانية التقدم التي ينطوي عليها كل مجتمع، على نحو ما وصفه ماركس لاحقًا في «رأس المال» (١٨٦٧). لذا رأى الرجلان من منظور التاريخ أنّ وحشية التوسع الإمبريالي الأوروبي في الشرق وفي أفريقيا، وكذلك وحشية توسع امتدادات أوروبا على الجانب الآخر من الأطلسي، كانت الثمن الذي يتعيّن دفعه من أجل إنجاز رسالة التقدم المنوطة بالتوسّع. والخلاصة، أن الغاية التمدينية تبرّر الوسائل الهمجية التي لجأ إليها التوسع الأوروبي.

الاستعمار والتقدم الاقتصادي

والحاصل أن ماركس وإنغلز عبّرا بطريقة نموذجية عن ذلك المنظور المتطلّع إلى غاية التاريخ في تصوّرهما للشرق في مستهلّ مسارهما الفكري المشترك. ويوفِّر المقال عن الجزائر الذي نشره إنغلز في The Northern Star عام ١٨٤٨ مثالاً مدهشًا على ذلك، فقد قدَّر إنغلز الشاب أنه «على الرغم من أن الطريقة التي حارب بها الجنود [الفرنسيون] الوحشيون، أمثال بيجو، جديرةٌ بأن تقرَّع تقريعًا شديدًا، فإن احتلال الجزائر واقعة مهمة وموائمة لتقدّم الحضارة». ونجد المنظور نفسه لدى ماركس في مقاله الشهير عن الهند عام ١٨٥٣، فبينما عبّر عن الأسى على مصير ضحايا السيطرة الاستعمارية البريطانية من السكان الأصليين، حذّر القرّاء إزاء أي إغراء رومنطيقي بإضفاء طابع مثاليّ على الهند ما قبل دخول الاستعمار إليها، داعيًا إياهم إلى «عدم نسيان أن تلك المجتمعات القروية الشاعرية، ولو كانت في ظاهرها غير مؤذية، كانت على مرّ الزمان تمثّل الأساس المتين للاستبداد الشرقي». وخلُص إلى استنتاج مماثل لما خلُص إليه إنغلز عن الجزائر: «مهما تكن جرائم إنكلترا، فإنها كانت الأداة اللاواعية للتاريخ» في تثوير المجتمع الهندي.

من خلال إكمالهما للقطيعة المعرفية مع المثالية الهيغلية، كان ماركس وإنغلز قد أكملا بالمثل قطيعتهما مع الاستشراق من حيث هو فهم ثقافوي للتاريخ. لكن هذه القطيعة لم تكن لتكفي في حد ذاتها لتخليصهما من القوالب النمطية الاستشراقية السائدة في الحقل المعرفي والإعلامي الأوروبي لزمنهما، تلك القوالب التي نجدها بكثرة في تعليقاتهما على مدار العقود الأولى لتعاونهما، لا سيما بشأن تركيا العثمانية والهند. ولم يكن كافيًا من أجل التخلص من تلك القوالب أن يُنسب أصلُها إلى عوامل مادية، والحال أنّ «الاستبداد الشرقي» كان محكومًا لدى مونتسكيو نفسه بالظروف المناخية والجغرافية. فطالما ظلّ ماركس وإنغلز أسيرَين للنسق المعرفي الأوروبي لحقبتهما، محدودَين بالمصادر الحصرية التي كانت متاحة لهما، ظلّا يتبنّيان جزئيًّا المنظور الاستشراقي، فحتى لو أخذ تمركزهما الأوروبي شكل الاعتراف بالدور التاريخي التقدّمي للرأسمالية، لم يقلّل ذلك من حقيقة قبولهما بأسطورة «الرسالة التمدينية» للسيطرة الأوروبية.

بقي عليهما أن يكملا قطيعتهما المعرفية مع المثالية التاريخية بقطيعة مع النسق المعرفي للسيطرة الأوروبية، فإذ تبنّيا منظور الطبقة العاملة في علاقتها مع رأس المال، بقي عليهما أن يتخلصا من الأفكار النمطية المفعمة بالتمركز الإثني والسائدة في فضائهما الجغرافي، بغية تبنّي وجهة نظر مقهوري الإنسانية غير الأوروبية في علاقتها بأوروبا وامتداداتها. وستشغل أيرلندا في هذا المقام موقعًا مركزيًّا في تطوّر أفكار ماركس وإنغلز، بدءًا بالأخير. إنّ تغيّر نظرة إنغلز إلى الأيرلنديين لافتٌ بحق، فبينما تضمّن كتابه «حال الطبقة العاملة في إنكلترا» (١٨٤٥) صدًى للأفكار النمطية الإثنية التي أفرزتها لدى العمّال الإنكليز حالةُ المهاجرين الأيرلنديين البائسة، استحوذ عليه شغف قوي بالقضية الأيرلندية بعد ذلك ببضع سنوات، وهو شغف بقي لديه حتى نهاية عمره.

وقد لعبت العاملة الأيرلندية ماري بورنز، رفيقة حياة إنغلز الأولى، دورًا رئيسيًّا في توعيته. لقد أفرزت زيارة أيرلندا التي قاما بها عام ١٨٥٦ تغييرًا كاملاً في تفسيره للمسألة الأيرلندية، ففي رسالة إلى ماركس بتاريخ ٢٣ أيار/ مايو ١٨٥٦ يحكي له فيها عن رحلته، وصف إنغلز أيرلندا بأنها أول مستعمرة لإنكلترا، كما وصف الطريقة التي أدّت بها قرون عدّة من حروب الغزو إلى «التدمير الكامل للبلد». وبعد سنوات، في رسالة بتاريخ ١٩ كانون الثاني/ يناير ١٨٧٠ يحيط فيها ماركس علمًا بتطور بحوثه عن التاريخ الأيرلندي، كتب إنغلز مؤكّدًا «كلما درست الموضوع أكثر، اتّضح أمام عينيّ أن أيرلندا، نتيجةً للغزو الإنكليزي، قد حُرمت من تطورها الخاص وأُعيدت قرونًا إلى الوراء».

في معسكر أعداء الاستعمار

وداعًا إذًا لفكرة الاستعمار كعامل للتقدم الاقتصادي! هذا الانقلاب في المنظور سيضع ماركـس وإنغلز على نحو حاسم في معسكر أعداء الاستعمار. منذ عام ١٨٥٧، راجع إنغلز بالكامل حكمه بشأن الجزائر، وذلك في المقال الذي كتبه عنها لـ«الموسوعة الأميركيـة الجديدة» (The New American Cyclopaedia). لم يعد الجزائريون في المقال الجديد ذلك الشعب الذي كان قد وصفه إنغلز بأنه «شعبٌ من اللصوص، وسائلهم الرئيسية للعيش هي غزو بعضهم بعضًا»، وشعبٌ يجلب إليه الاستعمارُ الفرنسي، بالرغم من وحشيته، «الحضارة» والصناعة، مثلما شرح في مقال ١٨٤٨، بل أصبح الفرنسيون، على العكس، هم الذين يدمّرون البلد على طريقة الغزوات الهمجية «فالقبائل العربية والقبائلية [...] قد أخضِعت أو فُتَّ في عضدها عن طريق غزوات رهيبة أحرِقت فيها مساكنها وأملاكها ونُهبت، وأتلفت مزروعاتها، بينما أولئك البائسون من أهلها الذين لزموا أماكنهم لاقوا مصرعهم أو تعرّضوا لشتى أهوال الوحشية أو الفجور».

وبالمثل، ففي المقالات التي كتبها ماركس في ١٨٥٧ - ١٨٥٨ لجريدة New-York Daily Tribune عن «ثورة السباهية»، أول هبة استقلالية هندية كبرى، جعل ماركس من نفسه محاميًا عن المتمردين ضد الإمبراطورية البريطانية، إذ دان وحشيّة قوّاتها واستغلالها للسكان المحليين. واتخذ إنغلز هو الآخر موقف الدفاع عن الصينيين ضد الأوروبيين في تعليقه عام ١٨٥٧ على حرب الأفيون الثانية. وعلى مسافة أميال من أوهام الماضي عن الدور التمديني للاستعمار، نجد في الفصل الوارد في المجلد الأول من «رأس المال»، الذي كرّسه ماركس لـ«منشأ الرأسمالي الصناعي»، وصفًا لدور التوسع الاستعماري في تحقيق «التراكم البدائي» لرأس المال في الدول الاستعمارية على حساب البلدان المستعمَرة ومواردها الطبيعية.

«لقد أشّر اكتشاف الذهب والفضة في أميركا، واستئصال السكان الأصليين واستعبادهم ودفنهم في المناجم، وبدء احتلال الهند الشرقية ونهبها، وتحويل أفريقيا ساحةً للصيد التجاري لأصحاب البشرة السوداء، كل ذلك أشّر على الفجر الوردي لحقبة الإنتاج الرأسمالي. هذه المجريات السعيدة هي القوى الدافعة الرئيسية للتراكم البدائي. [...] لقد أنضج النظام الاستعماري نموّ التجارة والملاحة. وغدَت الشركات الاحتكارية التي منحتها الحكومات احتكارات وامتيازات رافعات جبّارة لتركز الرساميل. وضمنت المستعمرات سوقًا للتصريف بالنسبة إلى المعامل الناشئة بسرعة، أما احتكار السوق هذا فقد ضمن مضاعفة التراكم. إن الكنوز المنتزعة من خارج أوروبا، بالسطو السافر واستعباد السكان المحليين والفتك بهم، سرعان ما تدفقت على البلد الأم وتحولت فيه إلى رأسمال».

وعلى الرغم من وجهة نظرهما الجديدة الناقدة بشدّة للاستعمار، لا يمكن أن نتوقّع أن نجد لدى ماركس وإنغلز نظرية مكتملة عن تحرر الشعوب المستعمَرة، ذلك أن تحوّلهما المعرفي في فهم دور السيطرة الاستعمارية في خلق وإدامة تشكيلة تراتبية للعالم، لم يكن كافيًا بحد ذاته لتخليصهما كلّيًا من الأفكار النمطية الناجمة عن التمركز الإثني والمنتشرة في فضائهما الثقافي. لذا سنظل نجد في كتاباتهما حتى النهاية آثارًا لهذه الأفكار. غير أنها لم تعد سوى بقايا ثقافية، عوضًا عن أن تكون عناصر رئيسية من فهمهما للعالم.

هذا وقد حدّد إنغلز عام ١٨٨٢ الموقف الذي يتعيّن على الحركة العمّالية الأوروبية أن تتّخذه بشأن المسألة الاستعمارية في حالة انتصارها. في رسالة إلى كارل كاوتسكي بتاريخ ١٢ أيلول/ سبتمبر، صاغ رفيق درب ماركس المبادئ الآتية، مشيرًا بوجه الخصوص إلى الجزائر ومصر والهند: «على بروليتاريا الدول الاستعمارية أن تقود البلدان المستعمَرة إلى الاستقلال بأسرع ما يمكن؛ عليها أن ترفض الخوض في أي حرب استعمارية، حتى لو أخذت الثورات القومية في البلدان المستعمَرة منحىً عنيفاً؛ إن استقلال البلدان المستعمَرة هو بالنسبة للبروليتاريا الأوروبية الحل الأمثل؛ ويجب على البروليتاريا الأوروبية إقناع البلدان المستعمرة بالتقدم صوب الاشتراكية عن طريق المثال والجاذبية الاقتصادية وحدهما؛ فلا يجوز للبروليتاريا فرض سياستها الاجتماعية على شعب آخر».

«في رأيي أنّ [...] البلدان التي يسكنها مواطنوها الأصليون، وهي بلدان مغلوب على أمرها لا غير، مثل الهند والجزائر وممتلكات هولندا والبرتغال وإسبانيا، لا بدّ وأن تسودها البروليتاريا مؤقتًا وتقودها بأسرع ما يمكن نحو الاستقلال. ولكن يتعسّر علينا أن نحدد الآن مسار هذه العملية، إذ ربما قامت الهند بثورة وهذا احتمال كبير جدًّا في الحقيقة، ونظرًا لأن البروليتاريا الآخذة في تحقيق تحررها الذاتي لا يجوز مطلقًا أن تشنّ أي نوع من الحروب الاستعمارية، فإنه يلزم السماح لتلك الثورة بشقّ طريقها؛ ولن يتسنّى لها بطبيعة الحال أن تتحقق دون المرور بأشكال شتى من التدمير، بيد أنّ هذا أمرٌ لا مناص منه بالنسبة لكل الثورات. وربما يحدث الشيء نفسه في بلدان أخرى مثل الجزائر ومصر، وسيكون هذا بالتأكيد أفضل شيء لنا. فسيكون لدينا حينئذ ما يكفي لإشغالنا داخل بلادنا. وما أن يُعاد تنظيم أوروبا وأميركا الشمالية، فإن هذا سيؤدي إلى خلق قوة هائلة وسيوفّر مثالاً يُحتذى على نحو سيدفع البلدان شبه المتحضّرة إلى اللحاق بالركب؛ ومن شأن الاحتياجات الاقتصادية وحدها أن تجعل ذلك محتومًا. أما عن معرفة المراحل الاجتماعية والسياسية التي يلزم على هذه البلدان أن تمرّ بها قبل أن تصل بدورها إلى التنظيم الاشتراكي، فأحسب أننا لا نستطيع اليوم أن نقدّم في هذا الصدد سوى فرضيات غير ذات قيمة. ثمة شيء واحد يقينيّ: البروليتاريا المنتصرة لا تستطيع أن تفرض قسرًا بركاتها أيًّا كان نوعها على أيّ أمّة أجنبية دون أن تقوّض دعائم نصرها بفعلتها هذه».


المسألة الاستعمارية في الأممية الثانية

من المعلوم أنّ كاوتسكي نصّب نفسه بعد وفاة إنغلز مدافعًا عن الأرثوذكسية الماركسية داخل الاشتراكية ـ الديموقراطية الألمانية والأممية الثانية، لا سيّما في تصدّيه لمراجعة إدوارد برنشتاين الإصلاحية. أمّا ما هو غير معروف بالقدَر نفسه، فهو أنّ هذا الدفاع عن الأرثوذكسية امتدّ أيضًا ليشمل المسألة الاستعمارية. وقد ظلّ كاوتسكي مخلصًا للخط الذي رسمه إنغلز، إذ نشر رسالة هذا الأخير إليه في ملحق كرّاسه الصادر عام ١٩٠٧ بعنوان «الاشتراكية والسياسة الاستعمارية». وفي هذا الكرّاس، ردّ كاوتسكي على برنشتاين، الذي كان قد دافع في مقال ظهر في العام نفسه عن «الضرورة التاريخية للاستعمار» وعن الفكرة القائلة بأن سياسة استعمارية معتدلة ستكون في صالح بروليتاريا الدول الاستعمارية.

وكان قد جرى التعبير عن هذا الفكر «الاستعماري الاشتراكي» لأول مرة داخل الأممية الثانية قبل ذلك بثلاثة أعوام، في مؤتمر أمستردام (١٩٠٤)، حيث قدّم الاشتراكي- الديموقراطي الهولندي هنري فان كول مشروع قرار يبرِّر الإبقاء على الاستعمار في ظل حكومة عمّالية متذرعًا بصيغة «اشتراكية» للرسالة التمدينية. وقد أثار ذلك نقاشًا محتدمًا داخل الأممية في وقت كان التوسع الاستعماري قد بلغ ذروته على الصعيد العالمي بينما أخذت أحزاب اشتراكية أوروبية متسارعة النموّ، تبوّأت مواقعَ داخل برلماناتها الوطنية، تواجه أكثر فأكثر مسألة «الإمبريالية».

وقد تواصَل الجدال وحُسم في مؤتمر شتوتغارت (١٩٠٧). عاود فان كول طرح موقفه بدعم من أغلبية الوفد الألماني الذي شارك فيه برنشتاين. ومع احتدام النقاش، نطق بعبارات عنصرية فجّة كشفت بجلاء عن نفاق الموقف الأبوي السان سيموني الذي كان يتفاخَر به. وتستحق هذه العبارات، الصادمة بشكل خاص، أن نقتبسها لمقدار ما هي كاشفة– مثلها في ذلك مثل رد فعل جانب من الحضور – عن الذهنية الاستعمارية لجزء كبير من الاشتراكية - الديموقراطية في ذروتها. ولعلّها تساعد في وضع الأمور في نصابها بشأن اصطفاف غالبية أقسام الأممية الثانية وراء حكومات كلّ منها في الحرب العالمية الأولى، التي كانت إلى حدّ كبير حرب إعادة تقسيم استعماري للعالم.

دعا كاوتسكي إلى تقديم عون للتنمية بديلاً من الاستعمار: «لدينا كلّ المصلحة في وصول الشعوب البدائية إلى ثقافة أرقى، لكن ما أنازع فيه هو أنّ هذا يتطلب ممارسة سياسة استعمارية. [...] إذا أردنا أن نتصرّف كجالبين للحضارة للشعوب البدائية، فإن الضرورة الأولى بالنسبة لنا هي كسب ثقتها، ولن نكسب هذه الثقة إلا حينما نعطيها الحرية». وردّ فان كول هازئًا: «إذا أرسلنا ماكينة إلى زنوج أفريقيا الوسطى، هل تدرون ما سيفعلون؟ من المرجّح جدًّا أنهم سينفّذون حول منتوجنا الأوروبي رقصة حربية (قهقهة) ومن المرجّح بالقدر نفسه أنّ آلهتهم التي لا تُعدّ ولا تحصى ستزداد إلهًا (قهقهة جديدة). [...] إذا ما ذهبنا، نحن الأوروبيين، إلى أفريقيا بماكيناتنا الأوروبية، سنكون ضحايا لحملتنا [شرَح فان كول قصده قائلاً: «بل من الجائز أن يقوموا (السكان الأصليون) بسلخ جلودنا أحياءً أو بأكلنا...»]. علينا، على العكس، أن نحمل أسلحتنا بأيدينا لكي ندافع عن أنفسنا عند الاقتضاء، حتى لو كان كاوتسكي يسمّي ذلك بالإمبريالية (صيحات استحسان من بعض المقاعد)».

انتصر اليسار في المؤتمر، لكن بأغلبية ضئيلة برغم كلّ هيبة كاوتسكي. وقد شهد هذا الجدال مواجهة بين أغلبيات يمينية من منظمات البلدان المستعمِرة (باستثناء الروس الذين كانت غالبيتهم يسارية)، من جهة، وأقليات يسارية من البلدان نفسها، تساندها وفودُ البلدان غير المستعمِرة، في الجهة المقابلة. وشملت الوفود الأخيرة الوفدَ البولندي الذي ضمّ روزا لوكسمبورغ، التي سيكون كتابها «تراكم رأس المال»، الصادر عام ١٩١٣، أول عمل نظري ماركسي هام يعطي مكانًا كبيرًا للعالم المستعمَر، وإنْ لم يتضمّن نظرية سياسية بشأن مناهضة الاستعمار. وستدفع الإحاطةُ بطبيعة الانقسامات في مؤتمر شتوتغارت بلينين نحو بلورة نظريته عن «الأرستقراطية العمّالية» التي يرعاها الاستغلال الإمبريالي، وهي النظرية التي فسّر بها التحوّل «الاشتراكي – الشوفيني» الذي طغى على صفوف أغلب الأحزاب الاشتراكية - الديموقراطية في البلدان المحاربة.

في غضون ذلك، أدّت الثورة المجهَضة في روسيا عام ١٩٠٥، وكذلك انتصار اليابان، وهي قوة عظمى آسيوية، في الحرب الروسية اليابانية في ١٩٠٤١٩٠٥، إلى تحفيز اضطرابات ثورية في فارس وتركيا والصين، وهي بلدان ثلاثة كانت على تداخل ثقافي مع الفضاء الاستعماري للإمبراطورية القيصرية. وقد أجّجت الحرب العالمية الأولى التجذّر السياسي في البلدان الثلاثة، وكذلك في الهند وفي بلدان أخرى من آسيا وأفريقيا الشمالية. ومع وصولهم إلى السلطة من خلال ثورة أكتوبر ١٩١٧، سيراهن البلاشفة أكثر فأكثر على الحركات القومية والثورية في الشرق بغية كسر عزلتهم، لا سيّما بعد إخفاق ثورة ١٩١٨١٩١٩ الألمانية وفي مواجهة الحرب التي شنّتها ضدهم قوات الحلفاء بدءًا من عام ١٩١٨.

المسألة الاستعمارية في الأممية الثالثة

أما الأممية الثالثة (الكومنترن) التي تأسست عام ١٩١٩، والتي جمعت اليسار الجذري للاشتراكية - الديموقراطية السابقة على الحرب، فستضع المسائل القومية والاستعمارية على جدول أعمال مؤتمرها الثاني عام ١٩٢٠. وكان فحوى النقاشات في ذلك المؤتمر مختلفًا جدًّا عنه في مؤتمر شتوتغارت: لم تعُد النقاشات منصبّة على الموقف في الدول الاستعمارية إزاء الاستعمار، وهي المسألة التي كان موقف الأممية الشيوعية منها متوافقًا مع الموقع ماركسي الأصيل، بل على الموقف الذي يتعيّن اتخاذه إزاء الحركات القومية في البلدان المستعمَرة وشبه المستعمَرة – سواء من قِبَل شيوعيي الدول الاستعمارية، أو من قِبَل شيوعيي تلك البلدان نفسها، الذين بات تمثيلهم داخل الأممية الجديدة منذ البداية أكبر منه في سابقتها.

بالتوازي مع هذه المسألة، نَبَعت أخرى تتّصل بموقف البلاشفة، الذين وصلوا إلى السلطة، تجاه شعوب الإمبراطورية الاستعمارية الروسية وأممها، فمنذ عام ١٩١٣، على وجه الخصوص، كان لينين قد جعل نفسه مدافعًا بحماسة عن حق الأمم في تقرير مصيرها خلال سجالات متنوعة، أشهرها ذلك الذي وضعه في مواجهة روزا لوكسمبورغ. وقد دعا إلى الاحترام الصارم لهذا الحق من قِبَل السلطة الجديدة في مواجهة موقف يساري متطرف ممثَّل بقوة في صفوف البلاشفة يعكس احتقارًا للشعوب «المتخلّفة» باسم مصلحة الدولة الجديدة، المتماهية مع «مصلحة البروليتاريا».

«ما الذي بوسعنا فعله لصالح شعوب مثل القرغيز والأوزبك والطاجيك والتركمان، تلك الشعوب التي ما تزال واقعة تحت تأثير الملالي؟ [...] هل نستطيع أن نذهب إلى تلك الشعوب قائلين: سنُسقِط مستغلّيكم؟ لا نستطيع ذلك، لأنهم خاضعون بالكامل لنفوذ الملالي. لا بدّ من الانتظار في مثل هذه الحالات حتى يؤدّي التطور بهذه الأمم إلى تمايز البروليتاريا عن العناصر البرجوازية، وهو الأمر المحتوم». هكذا حاجج لينين في مؤتمر الحزب البلشفي عام ١٩١٩، متمنيًا أن يمتنع البلاشفة عن فرض إرادتهم على الشعوب التي قهرتها القيصرية قبل الثورة. بيد أنّ ذلك سيذهب سدًى، ففي ملاحظاته الأخيرة المدوّنة في كانون الأول/ ديسمبر ١٩٢٣ حول مسألة القوميات، اعترف مؤسس البلشفية بأنه أذنب بتراخيه في الكفاح من أجل مبدأ تقرير المصير، بل ذهب إلى حدّ وصف الدولة الروسية الجديدة بأنها جهاز «ورثناه من القيصرية مكتفين بطلائه بشكل طفيف بطلاء سوفييتي».

لم يقتصر الاختلاف بالطبع على الطلاء، إذ حاولت الدولة الجديدة أن توظّف أيضًا حركات السكان الأصليين في الشرق منتصرةً لها، أحيانًا بلا تمييز سياسي، ما دامت تعارض القوى الغربية. وتمثَّلت اللحظة الرئيسية لهذا المسعى في «مؤتمر شعوب الشرق» الذي التأم في باكو عام ١٩٢٠ تحت رئاسة غريغوري زينوفييف، والذي كانت الغالبية العظمى من المشاركين فيه (عددهم ١٨٩١ ومنهم ٥٥ امرأة فقط) منتميةً إلى الفضاء الاستعماري القيصري السابق. أما الشيوعي الهندي م. ن. روي، الذي لعب دورًا هامًّا في نقاشات الأممية الثالثة حول المسألة الاستعمارية، فقد رفض المشاركة في هذا المشروع الذي سماه «سيرك زينوفييف» حسبما روى في مذكراته المنشورة عام ١٩٦٠. وحينما يُقرأ كلامه اليوم، فإنه يذكّرنا بنقد الاستشراق المنقلب إلى «استشراق معكوس». والحال أنّ روي نحا باللائمة على القادة الروس لأنهم طلوا باللون الأحمر القومية ونزعة الوحدة الإسلامية المناهضتَين للاستعمار، ولم يُطبّقوا على شعوب الشرق المنظورَ التحليلي الطبقي الذي طبّقوه على الشعوب الغربية.

نجد هنا مصدرًا معروفًا جيدًا للتوتر بين الدولة البلشفية الجديدة وشيوعيي البلدان المستعمَرة، حيث لم تتطابق المصالح الدبلوماسية الدولانية بالضرورة مع الأممية الثورية. وقد تمثّلت إحدى أوائل علامات التوتر في استمرار موسكو في وصف الزعيم التركي الجديد مصطفى كمال بأنه ثوري على الرغم من الاضطهاد الذي أنزلته حكومته بالحزب الشيوعي الوليد آنذاك في تركيا. ووفّرت المسألة الصينية مناسبةً أخرى للتوتر بين مَيْل موسكو إلى مغازلة القادة القوميين لبلدان الشرق، خارج الاتحاد السوفييتي، والشيوعيين المحليين الواقفين في وجه هؤلاء القادة القوميين أنفسهم. وعلى العكس من ذلك، فحين أكّد الكومنترن في ظلّ ستالين خلال مؤتمره السابع عام ١٩٣٥، انعطافَه إلى اليمين لصالح أوسع جبهة ممكنة في مناهضة الفاشية، دُعيت الأحزاب الشيوعية في البلدان الشرقية الخاضعة للسيطرة البريطانية أو الفرنسية إلى النأي بنفسها عن النضال ضد الاستعمار. وتحت قيادة موريس توريز، تبنّى الحزب الشيوعي الفرنسي بحماسة خاصة سياسةَ الكومنترن الجديدة هذه التي وافقت الميل نحو الموقف «الاستعماري الاشتراكي» الذي كان منتشرًا في صفوفه، لا سيما بشأن الجزائر.

إن السيطرة الغربية على الحركة الشيوعية الدولية، مع ما رافق تلك السيطرة من مَيْل طبيعي إلى إعادة إنتاج منظور «استشراقي»، لم تتلقّ ضربة قوية سوى بوصول الشيوعيين الصينيين إلى السلطة في بكين عام ١٩٤٩. وقد جاء الانشقاق الصيني– السوفييتي تتويجًا لذلك الاختلاف الكبير. ومع ذلك، فمن مسألة التيبيت إلى مسألة سنجان اليوم، أعادت الدولةُ الصينية نفسُها إنتاجَ موقفٍ استعماري، بل موقف ينطوي على «رهاب الإسلام» في الحالة الأخيرة. بيد أنّ أيًّا من ماركس وإنغلز ما كان ليجد فكره ممثلاً في أيّ من الحكومات التي زعمت الانتساب لتراثهما في القرن العشرين، فإنّ الجمع بين الاشتراكية الديموقراطية الجذرية في ممارسة السلطة، مع تطبيق فعلي لسياسة قائمة على أممية حقيقية تنبذ كلّ أشكال التمركز الإثني وترفض إخضاع النضال الثوري للمصالح الدولانية، لهي أمورٌ لا يزال يتعيّن اختراعها.

المراجع

المتوفّرة بالعربية
الأشقر، جلبير، «الماركسية والدين والاستشراق»، ترجمه من الإنكليزية سماح إدريس، دار الآداب، بيروت، ٢٠١٥.
أندرسون، كيفين، «ماركس ومجتمعات الأطراف»، ترجمه من الإنكليزية هشام روحانا، دار نينوى، دمشق، ٢٠٢٠.
سعيد، إدوارد، «الاستشراق»، ترجمه من الإنكليزية محمد عناني، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ٢٠٠٦.

الفرنسية
Carrère d’Encausse, Hélène et Stuart Schram, Le Marxisme et l’Asie 1853-1964, Paris, Armand Colin, 1965.
Charléty, Sébastien, Histoire du Saint-Simonisme, Paris, Gonthier, 1965.
Dreyfus, Michel, L’Antisémitisme à gauche. Histoire d’un paradoxe, de 1830 à nos jours, Paris, La Découverte, 2009.
Gallissot, René, Marx, marxisme et Algérie. Textes de Marx-Engels, présentés par René Gallissot avec la collaboration de Gilbert Badia, Paris, UGE, coll. 10/18, 1976
Haupt, Georges et Madeleine Rebérioux (sld), La Deuxième Internationale et l’Orient, Paris: Cujas, 1967.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمات أحمد الزفزافي و محمد الساسي وسميرة بوحية في المهرجان ا


.. محمد القوليجة عضو المكتب المحلي لحزب النهج الديمقراطي العمال




.. تصريحات عمالية خلال مسيرة الاتحاد الإقليمي للاتحاد المغربي ل


.. موجة سخرية واسعة من عرض حوثي للطلاب المتظاهرين في أميركا وأو




.. فرنسا: تزايد أعداد الطلاب المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطي