الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة النقد ونقد الأزمة ابن الأثير وقضية التناص

ياسر جابر الجمَّال
كاتب وباحث

(Yasser Gaber Elgammal)

2023 / 2 / 23
الادب والفن


عَود على بَدء، وتكملة لما بدأناه من قضايا نقد الأزمة، وأزمة النقد، وخصوصًا في تقديم قراءة جديدة للمنجز النقدي العربي في ظل التباس المصطلحات والمفاهيم، والخلط الواضح والالتفاف على منجز الأمة النقدي، وما قدمَتْه في هذا الصدد، كذلك طمس ذلك كله، واعتباره من ركام الماضي، في حين أن المنجز الغربي المسيطر حاليا على الساحات النقدية العربية والغربية هو اجترار لمقولات عربية خالدة في تراثنا، أو إعادة انتاج لها، أو الانقضاض عليها من خلال عمليات الاستشراق أو غير ذلك.
كما أنَّ مقولة تأثر النقاد العرب القدماء أمثال ابن الأثير بأرسطو، قد تكون ناتجة عن تمرير أقوالٍ يريد أصحابها الاستناد إلى مقولات الغرب في الفكر والمعرفة، فيريد أن يعطي لنفسه شرعية وأمتدادًا زمنيًّا في النقل عن الأخر .
إذا وضحت لَدينا الرؤية في هذه القضية فإن ابن الأثير قدَّم عدة مقولات جديدة في العملية النقدية، تكلمنا في المقالة السابقة عن قضية الوحدة العضوية في العمل الأدبي – نثرًا وشعرًا- وأنه صاحب رؤية إبداعية وجديدة، اتكأ عليها المعاصرون في تقدم أفكار ونظريات نقدية جديدة، واليوم نحن نتناول قضية أخرى في مسار الإبداع النقدي، وهي قضية السرقات الأدبية أو ما يعرف حديثًا بقضية التناص، أوتفاعل النصوص، وغير ذلك من التسميات التي تدل على الانتحال الأدبي.
فإذا نظرنا إلى قضية السرقات الأدبية فإن ابن الاثير يعتبرها من باب المدائح والمحاسن لدى الكاتب، فهي من باب اتحاد الطرق واختلاف المقصد ، ومعناها أن يسير الشاعرانِ في طريق واحدة فتخرج بهم إلى طريقين مختلفتين، ومن ذلك يظهر فضل أحدهما على الآخر, وهذا ما يمكن أن نطلق عليه قضية فاعلية النصوص " التناص حاليًا " . (التناص وفاعلية الخطاب).
هذه هي رؤية ابن الأثير من مئات السنين، وقبل الغرب بقرون، ودعونا نتحدث وَفق الإطار التقليدي لهذه القضية، فننظر للتناص، ونقول :
بداية، لست معنيًا بتقسيمات الأدباء للتناص سواء أكان دينيًّا أم كان تاريخيًّا أو غير ذلك، أكثر من اعتباره ظاهرة فنية تدل على التأثير والتأثر، إذ إنها كاشفة بوضوح عن ذلك المتأثر، ملقية بظلال التجارب السابقة على كينونته، وبخاصة إذا نظرنا إلى التناص على أنه ناتج عن إرادة حقيقة أكثر من كونه احتذاء أو سرقة أدبية، أو غير ذلك من القضايا الأدبية .، فهذه قضايا نتجت بعد ذلك.
ثانيا: التناص في التأسيس اللُّغوي يؤكد ويؤيد ما ذهبنا إليه .
قال ابن منظور للمعنى اللغوي للتناص ويرى أن يعادل الاتصال بين الأشياء، فيقول: يقال: هذه الفلاة تناصي أرض كذا وتناصيها أي تتصل بها"( ‏).
كما أن " (انتص) الشيء ارتفع واستوى واستقام، يقال انتص السنام والعروس ونحوها قعدت على المنصة (تناص) القوم ازدحموا"( ‏).
ولعل كلام "ابن منظور" أقرب إلى المعنى المراد، إذ إنه يؤكد على الاتصال بين الأشياء، والتناص هو اتصال بين الأعمال سواء كانت أدبية أو فكرية أو غير ذلك، إلا أنه عرف في الأدب أكثر من غيره، ويتبين ذلك في المعنى الاصطلاحي للتناص.
ثالثًا: المعنى الاصطلاحي يدعم اختيارنا ونقاشنا حول القضية .
ففيه ترى جوليا كريستيفا : أن النص عبارة عن لوحة فُسيفسائية من الاقتباسات، وكل نص هو تشرُّب وتحويل لنصوص أخرى"( ‏). وهذا الكلام ليس جديدًا على منجزنا الأدبي والنقدي، فقد تكلم عنه ابن الأثير كما ذكرنا سابقًا، وطبقها الشعراء في الأخذ والأحتذاء وغيرها من المصطلحات التي تخدم ذات الفكرة .
وهي بذلك تؤكد على مشروعية التناص، وأن النصوص تأخذ من بعضها البعض، كما أن " ظهور مفهوم التناص في الدراسات النقدية الحديثة بمثابة الرد على المفاهيم البنيوية التي أكدت انغلاق النص على نفسه بحجة اكتفائه بذاته وأنه قائم بنفسه، فجاءت الدراسات التي تنتمي إلى ما بعد البنيوية، ومنها التفكيكية التي عدت النص بنية من الفجوات والشروخ التي مهدت بدورها إلى نقد نظرية التلقي في الأدب والفن، ثم جاء نقاد التناص وعدوا النص كتلة من النصوص المستحضرة من هنا وهناك، إذ إن هذه الدراسات والمناهج انصبت على دحض أسطورة انغلاق النص واستقلاله المزعوم، وفي هذا الإطار ظهر مفهوم التناص على يد الباحثة (جوليا كريستيفا) التي طورت هذا المفهوم عن مفهوم الحوارية أو الصوت المتعدد الذي اقترحه الناقد والمفكر الروسي (ميخائيل باختين) "( ‏). وهؤلاء جميعًا ليس لهم من القضية إلا تطوير المصطلح فقط، وإنما الفضل والتأسيس الأول لها جاء عند ابن الأثير .
رابعًا : هذا، إذا نظرنا إلى التناص باعتباره ظاهرة يؤرَخ لها؛ لكن إذا نظرنا إلى التناص باعتباره ظاهرة محل دراسة وتحليل، فإن ذلك يقودنا إلى قضية النص الغائب.
والنص الغائب مصطلح نقدي جديد، ظهر في ظل الاتجاهات النقدية الجديدة، ويعنى أن العمل الأدبي يُدرك في علاقته بالأعمال الأخرى.
فالأدب ينمو في عالم مليء بكلمات الآخرين. و(النص) تشكيل لنصوص سابقة ومعاصرة أُعيدت صياغتها بشكل جديد، وليست هنالك حدود بين نص وآخر؛ وإنما يأخذ النصُّ من نصوص أخرى ويعطيها، في آن واحد"( ‏).
و"ظاهرة تداخل النصوص هي سمة جوهرية في الثقافة العربية حيث تتشكل العوالم الثقافية في ذاكرة الإنسان العربي ممتزجة ومتداخلة في تشابك عجيب ومذهل"( ‏) .
ومع "تداول مصطلح التناص في مجالس النقد العربي وكتاباته تنامت امتدادات التناص الدلالية ... واستنزفه خلطًا والتباسًا وتشويشًا ولاسيما بعد اقتران مفهومه بمدونات النقد العربي القديم كالسرقة، والمعارضة، والمناقصة، التشاكل، والاشتراك، المحاكاة، الإعارة، والسطو .. وغيرها من المصطلحات المأثورة في التراث النقدي العربي "( ‏).
ومن ذلك فإن فكرة التناص من حيث المضمون وجدت في التراث العربي القديم، أما من حيث المصطلح، فلم تُعرف إلا في العصر الحديث على يد جوليا كريستيفا.
وفي هذا المعنى يؤكد محمد بنيس حيث يقول:" وفي خضم هذا الجدل في مفهوم التناص عند النقاد العرب القدامى، يكون إجراء مقاربة مفاهيمية (نقدية) لإرهاصات مفهوم التناص لدى النقد العربي القديم، أمرًا ذا فعل مهم في فهم التجذير النقدي لمفهوم التناص؛ فلقد وعى النقاد العرب القدامى جانبًا مهمًّا من هذا المفهوم وتحت مسميات عديدة ومختلفة شكلًا، ومتفقة في بعضها مضمونًا، ولعل أقرب تلك المفاهيم إلى موضوع البحث، هو قضية السرقات الأدبية، والتي ربطها النقاد العرب القدامى بمستويين، إما اللفظي أو المعنوي وأحيانًا بكليهما"( ‏).
وفي التأكيد على هذا المعنى يقول: الخطيب القزويني: " أن يضمن الكلام شيئا من القرآن أو الحديث" ( ‏).
يقول أبوهلال العسكري: "إنه ليس لأحد من أصناف القائلين عني، عن تناول المعاني ممن تقدمهم والصب على قوالب من سبقهم، ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها ألفاظا من عندهم ويبرزوها في معارض من تأليفهم، ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول وإنما ينطق الطفل بعد استماعه من البالغين، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "لولا أن الكلام يعاد لنفد" ( ‏).
كما يرى ابن رشيق أنَّ التناص باب متسع جدًا، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه، وفيه أشياء غامضة، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخرى فاضحة لا تخفي عن الجاهل المغفل.
وقد أتى الحاتمي في "حلية المحاضرة" بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت: كالاصطراف، والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإعارة، والمرافدة، والاستلحاق وكلها قريب من قريب"( ‏).
و يقول عبدالقاهر الجرجاني: " وبذلك أن الشاعرَين إذا اتفقا، لم يخل من أن يكون إما في وجه الغرض على الجملة والعموم، أو في وجه الدلالة على الغرض"( ‏).
إن هذه النقولات تعطي شرعية كبيرة إلى القول بأن التراث العربي القديم قد جاءت فيه قضية التناص بصورة واضحة، لا تحتاج أكثر من ذلك للاستدلال لها، وهذا يؤكد ضرورة قراءة الثراث بصورة واضحة تكشف عن نقاط التلاقي بين القديم والحديث، وهذا يؤكد أن "القاعدة التي يرتكز عليها التناص في المفهوم الغربي، لها أنماط تأسيسية في الفكر النقدي العربي القديم، وتؤدي إلى الاقتراب والتقاطع مع هذا المصطلح الجديد في أبواب نقدية عربية قديمة، كما جاء في كتاب" تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع" للخطيب القزويني في فكرة الاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح؛ وعند ابن رشيق في كتاب (العمدة)، من خلال باب السرقات، وابن خلدون في فصله الذي سماه (في صناعة الشعر وتعلمه)، في إطار الحفظ الجيد؛ وأبي هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) في الفصل الأول من الباب السادس في حسن الأخذ، أو وقع الحافر على الحافر، وظهر أيضا عند عبد القاهر الجرجاني في كتابه أسرار البلاغة الذي استدل حديثًا في وجه الاتفاق في الغرض على العموم والاتفاق في وجه الدلالة الغرض، لينتفي وجود سرقة على الإطلاق إلا في حالة تكون فيها نسخًا" ( ‏).

وأخيرًا: إن فكرة التناص في الفكر الغربي نشأت مع جوليا كريستفيا، وميخائيل باختين وتدل على فكرة: أنَّ النصوص ناشئةٌ عن التحول عن نصوص أخرى.
و" النقد الأدبي ككل علم ناشئ عن ملكات خاصة تنمو بالتربية والتمرين، فلو سُئلت عن ناشئ يريد أن يعد نفسه ليكون ناقدًا: أي طريق يسلك؟ أقول: إنه يجب عليه أولا أن يكثر من قراءة الأدب ويتفهم ويحاكي جيده، كالذي روى أن ناشئا عربيًّا سأل أستاذه كيف يشدو في الأدب؟ فنصحه أن يحفظ ديوان الحماسة ثم يجتهد أن يجعل شعره نثرًا بليغًا، فلما فرغ من ذلك طلب منه الإعادة، ثم أمره أن ينساها، والظاهر أن الشيخ نصح بذلك لأن الناشئ إذا نساها نسي مادتها وبقيت أنماطها في ذهنه يستمد منها عند حضور ما يناسبها"( ‏).
وهذا المعنى أكد عليه عبدالملك مرتاض، فقال: "التناص وهو يعبِّر عن الاستمرارية الجينية للنص يكشف أن الإبداع نص واحد أزلي مستمر تعبر الإنجازات المتتالية عن تمظهراته التي تتناسب طرديًا والمواقف التي أملتها فقط، فإذا تغيرت هذه الاقتضاءات الخارجية، تغير شكل النص ليناسبها، ويناسب حدة التوترات التي تسكنها"( ‏).
كما أن النظر إلى النص باعتباره مستقلًّا عن المؤلف يعد بداية جديدة لفهم النص دون وضعه في حيزات القولبة والأفق المحدود، ولذلك "ألم يئن أن يعتقد كل من يعنيه أمر الأدب بمفهومه المعاصر أن النص الأدبي ذو وجود شرعي مستقل عن مؤلفه إلى حد بعيد، على الرغم من أنه ينتمي إليه؟ فالنص الأدبي - بالقياس إلى مبدعه - يُشبه النطفة التي تقذف في الرحم، فينشأ عنها وجود بيولوجي، لكن الوليد على شرعيته البيولوجية والوراثية لا يحمل بالضرورة كل خصائص أبيه النفسية والجسدية والفكرية، إنه يستقل بشخصيته عن الأب، مهما حاول الأب أن ينشئه على بعض ما يجب ويشق في الغالب لنفسه طريقا خاصا به"( ‏).
هذا التأسيس يؤكد أن النص الأدبي يحتاج إلى قراءات مغايِرة تفتح لنا آفاقًا جديدة في التأويل والسيموطيقا؛ مما يثرى عملية التحليل، ويكون عاملًا مهما في فتح الباب واسعًا أمام الإبداع .
وهذا قد وعاه ابن الأثير وأكَّد عليه في كتابه " المثل السائر" عن تناول قضية السرقات الأدبية أو "التناص".
وللحديث بقية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??