الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المكتبة المهجورة

دلور ميقري

2023 / 2 / 23
الادب والفن


في السنوات الأخيرة، وبسبب الظروف القاهرة، الناجمة أساساً عن الحرب والحصار، أخذ الكثير من الناس في سبيل تأمين لقمة العيش، يبيعون أثاث بيوتهم وحتى المفروشات والأشياء الأخرى، الخاصة. لقد وجدوا في وسائل الإتصال الإجتماعي، سبيلاً لعرض ما لديهم. حفاظاً على الكرامة، كان بعضهم يزعم في تلك الإعلانات أنه مضطر للبيع، كونه سينتقل للعيش في مكان آخر.
ذات يوم، مرّ نظري على إعلان لفتَ انتباهي. صاحبُ الإعلان، كان يعرض مكتبته للبيع وبثمنٍ مُغرٍ. في سنّي المتأخرة هذه، لم يكن ينقصني المزيد من الكتب في حقيقة الحال. لكنني أهتممتُ بشكل المكتبة الجميل، وذلك بحَسَب الصور المعروضة في الإعلان. إذ بصفتي أديباً، كنتُ دوماً أحلم بتملك مكتبة تغطي معظم جدران الحجرة الصغيرة، التي أستعملها كمكتب. من ناحية أخرى، أثارَ انتباهي أيضاً أنّ صاحبَ الإعلان سجّل بشكل مفصل عنوان منزله، وبدون أن يجد حاجة لترك رقم هاتفه المحمول أو الأرضيّ. فكّرتُ عندئذٍ، أن الرجل من سوء الحال بحيث استغنى عن الهاتف الأرضيّ، ولعله كان قد باع سلفاً هاتفه المحمول.
أما عنوان المنزل، فإنه جعلني أستعيدُ، بلمحةٍ، ذكرى عُمرها يزيد عن الثلاثة عقود. ذلك، حينما كنتُ يوماً في مكتبٍ عقاريّ، يملكه أحد أقاربي. إذ دعاني كي أرافقه لزيارة بيتٍ معروض للبيع، يقع على طرف مقبرة مولانا النقشبندي في سفح قاسيون. وقد وصلنا للبيت المطلوب سيراً على الأقدام، وأبدينا الإستغرابَ لكونه ينتصب وحيداً وعلى مبعدة من الدور الأخرى. صاحبُ البيت، كان من ريف الساحل، ويبدو أنه أحيل على التقاعد بعد خدمةٍ عسكرية كصف ضابط وحان وقت عودته للقرية لقضاء بقية حياته فيها. وما أذكره بشكل خاص، أن الرجل تبجّح بكونه لم يدفع قرشاً ثمن الكهرباء: " أحصل عليها سرقة من خط الدولة، وأستعمل لهذا الغرض محولاً صغيراً كيلا يحصل حريقٌ ما. سأدع لكم المحول، لو شئتم شراء البيت ". إلا أن البيعَ لم يتم، لسبب لم أعُد أذكره.
وها أنا ذا، بعد عقود عديدة، أعود لتلك المنطقة من السفح بغية شراء مكتبة. إلا أنني وصلتُ للمكان المطلوب في سيارة صغيرة ذات صندوق خلفيّ، ماركة " سوزوكي " اليابانية، المستعملة بكثرة في هذه الأماكن النائية. طلبتُ من السائق رقمَ هاتفه المحمول، لكي أتصل به لو تمكنت من شراء المكتبة. كان من المحال أن يضعني الرجل أمام المنزل المقصود، وذلك بسبب وقوعه في زقاق ضيق وشديد الوعورة. لما ظهرَ المنزل لعينيّ أخيراً، لاحَ كما لو أنه منحوتٌ من صخر الجبل وليسَ مبنياً من الطوب والإسمنت؛ مثلما هوَ في واقع الحال.
المنزل، المكون من دور واحد، كان يطل مباشرةً على المقبرة، ومعزولاً عن بقية بيوت الزقاق. الباب الخشبيّ للمنزل، كان مفتوحاً على مصراعيه وكأنما يتهيأ لمرور أقسام المكتبة منه. بادرتُ للضغط بإصبعي على زر جرس الباب، لكن لم يكن ثمة كهرباء. ولعلني سهوتُ عن القول، بأنني وصلتُ للمكان عصراً، محتسباً ما لو كان صاحب المكتبة في العمل نهاراً. هممتُ بالطرق على الباب، عندما لمحتُ رقعة ملصقة بجدار الفناء الداخلي عليها رسمُ سهم وكتابة بخط كبير، أنيق: " من هنا ". مع ذلك، تنحنحتُ بصوت عال فيما أخطو للداخل. عقبَ اجتيازي للفناء، طالعني أرضُ الديار وكانت تتوسطه بحرة دائرية صغيرة وقد هيمنت عليها بعضُ أشجار الحمضيات. وهيَ ذي رقعة أخرى، بنفس الحجم والخط، ملصقة على باب الحجرة الوسطى وقد كتب عليها: " هنا المكتبة ". وكما لو أن الرقعة تخاطبني، فإنني ناديتُ بصوتٍ عال: " هل من أحدٍ هنا؟ ". بقيتُ لحظاتٍ أنتظر الرد، ولكن عبثاً. ولما كان بابُ الحجرة موارباً، فإنني دفعته بيدي ثم أجتزتُ عتبته. كان المكان قليل النور، وذلك لأن قسماً من المكتبة غطى النافذة الوحيدة. شعورٌ مشئوم، ما لبثَ أن دهمني حينَ وقع نظري على رقعةٍ جديدة، موضوعة على طاولة المكتب. الرقعة، كانت تحث الداخل على قراءة رسالة ما؛ رسالة، من المفترض أنها تركت في حجرة النوم. خاطبتُ نفسي عندئذٍ، وبمزيد من القلق وربما الخوف أيضاً: " هل أنا ضحيةُ عابثٍ أم أنها مكيدة؟ ". على أن نظرة خاطفة على المكتبة، أفرخت قليلاً من روعي: " هذه الكتب، دليلٌ على أن صاحبها قارئ جيد ". خرجتُ من حجرة المكتبة، لأتنفس بعمق عندما غمرني نور السماء. وإذا برائحة مقيتة، تتسلل إلى أنفي: " يا إلهي، إنها رائحة الموت! ". وكما لو أنها دليلٌ جديد، فما عتمَ خطوي أن مضى بأثر الرائحة باتجاه الحجرة اليمنى. كان البابُ أيضاً موارباً، ما سمحَ لي برؤية جانبٍ من جثة الرجل، المسجاة على سرير النوم.
" يا عزيزي!
أتكهّنُ بأنك مثلي، كاتبٌ. ولعلك كذلك، كاتبٌ مغمور. وإنني أرجو ألا يدفعك الجوع، يوماً، إلى خيار الإنتحار، الذي كان لا مناص منه بالنسبة لي. آثرتُ تجربة سم الفئران، مع أن هذه الحيوانات المسكينة لا ريب وسبقَ أن هربت من منزلي لانعدام أسباب العيش فيه. لقد انقطعتُ زمناً عن ممارسة عملي كمعلم لغة عربية، بما أن راتبي لم يعُد يكفي أجرة مواصلات. بقيتُ وحيداً، بعد رحيل أخوتي الواحد بأثر الآخر ومن ثم انتقال أفراد عوائلهم إلى الخارج غبّ تطور الأحداث إلى حربٍ يومية، ممضة ووحشية. هكذا، باختصار، كان وضعي. وربما لا يهمك في شيء.
إنني أعرضُ عليك مكتبتي بما فيها من كتب، وأيضاً ما تجده صالحاً من أثاث المنزل وحاجياته. هذا بمقابل خدمة واحدة، وهيَ أن تنفق من مالك على جنازتي. ولتكن الجنازة بسيطة جداً، وبأقل التكاليف بالطبع.
وأتمنى لك ختاماً، حظاً أفضل من حظي في هذه الحياة.
ملحوظة: مخطوطاتي الأدبية، ستجدها رماداً داخل علبة من الصفيح في المطبخ ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو


.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق




.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس


.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم




.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب