الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشراق

منوّر نصري

2023 / 2 / 23
الادب والفن


هذا الصباح، أفقْتُ من النوم في حالة غبطة غير اعتيادية. صحيح أنني وجدتُ نفسي، كالعادة، بمفردي، فتكدّرتُ قليلا، لكن الشّعورَ الغالبَ هو البهجةُ التي أخْفَتْ تفاصيلَ كنتُ أراها كلّ صباح، فتتراكمُ في نفسي ألوانُ كآبةٍ داكنةٍ تُبْعِدُ عنّي مشاعرَ الفرحِ. البهجةُ التي غمرتْني هذا الصباح، أنتِ المُتسبِّبَةُ فيها. وُجودُكِ معي قبلَ قليلٍ هو الذي منحني هذا الإحساس بنشوةٍ جعلتْني أرى الدّنيا بعيْنًيْن متفائلتيْن رغمَ أنَّ واقعي لمْ يتغيّرْ. أفقتُ الآن من النّوم وأنا لا أزال منتشِيًا بالوقتِ الذي قضَيْتِهِ معي قبْلَ أنْ أستفيقَ. لآ أستطيعُ تقدير الزّمنِ الذي بقيتِهِ معي، ولكن شعُرْتُ وكأنّ السنوات تعودُ، ونعودُ لِحَياتِنَا العاديّة التي ربطتْ أواصرَ الألْفةِ بيْننا وجعلتْ كلَيْنَا يسْتأْنس بوجود الآخرِ بجانبهِ.
قبْلَ قليلٍ، كنتِ بيْنَ يديّ. وكنتُ في دُنيَا أخرى وزمن آخر. كنتُ أنْعمُ بكِ. وكان وجْهُكِ الذي أشتاقه كثيرًا يمْلأُ عيْنيَّ وابتسامتُكِ التي تُنسيني الأشياءِ التي تكدّرني كانت مشرقةً في خاطري. كنتِ تتحرّكينَ أمامي وأنا أنْظُرُ إليكِ ببهجةٍ عارمةٍ. لمْ أكنْ أبدًا أدْرِكُ أنّ ما كنتُ أعيشُهُ وأراهُ سيتلاشى بعد وقتٍ قصيرٍ، عندما أُفيقُ من النّوم. كنتُ أراكِ باقيةً على الدّوامِ. وكانتْ طلْعَتُكِ تُطْرِبُني وتنشُرُ في نفسي فرَحًا يجْعلُني أرى الأشياءَ جميلة من حولي ويمْنحني شعورًا بالثّقة في النّفس وقدْرةً على مواجهة الصعوبات المُحْتملةِ في العملِ وفي الحياةِ. كنتِ تملئين عالَمِي الصّغيرَ وتجعلينَهُ كبيرًا يَمْتَلِئُ به الكوْنُ الفَسيحُ. وكُنتُ أرى رَحابَةَ الكوْنِ في نظراتِ عيْنيْكِ المليئةِ بالمودّةِ. وأراها في كلِّ حركةٍ تتحرّكينها، وفي الحياة النّابعة منكِ والمتدفّقة كمِياهٍ تُنْعِشُنِي فاتلذّذُها كما يفْعَلُ الأطفالُ تحتَ المطرِ.
عندما كنتِ معي منذ حينٍ، كانت الحياة تنسابُ طبيعية ولم أكن أدري أنَّ المشاهدَ التي أراكِ فيها سوف تَظَلُّ تِؤْنِسني في وحدتي، وأعود إليها عندما يَعْلو وجيبُ النّفسِ الملْتاعةِ بفراقِكِ. ليْتَكِ تعلمينَ أنّ ما حدثَ منذُ حينٍ قلَّما يحْدُثُ لي، رغم أنّني أتمنّى أنْ يحْدُثَ دائما لأستطيعَ أنْ أراكِ كلّ ليلة. لكن لا أدري لماذا أظلّ أنتظرُكِ كلَّ ليلةٍ، دون جدوى. أرى وجوها كثيرة في نومي، أعرفُ بعْضَها، ولا أعْرِفُ البعضَ الآخَرَ، وأعيشُ حالاتٍ كثيرة، تنْتابُني فيها نفسُ الأحاسيسِ التي تغْمُرُني في النّهارِ، لكن وجهَكِ المُشِرِقَ لا يظهرُ وسط تلك الوجوهِ، وإطْلالَتُكِ المؤْنِسَةُ غائبةٌ عن تلك المشاهِدِ. لعلَّ ذلك هو سببُ فرْحتي العارمةِ بِلُقْياكِ منذ قليلٍ. أعتقدُ أنَّ البهجةَ التي كانتْ تغْمُرُني هذا الصّباح عندما أفقْتُ من النّوم، كانتْ ناتجةً عنْ لقائي بكِ بعْدَما انتَظرْتُ ذلك طويلاً. كان لقاءً يغْمُرُهُ السّرورُ، ملأْتُ فيهِ عيْنيَّ من ملامح وجهِكِ الحنونِ ومنْ كلِّ تفاصيلِ جسْمِكِ الودودِ. كانت فرْحتي عارمةً عندما ظهَرَ وجْهُكِ يملأُ أفُقِي ويبْتسمُ لي بحنوّ ومحبّةٍ افتقدْتُهُما منذِ اختفائهِ. كنت أدرك أنني لم أركِ من زمان. لمْ تكن الدّنيا تَسَعُني من شدّة السّرورِ عندما مَلَأَتْ إطلالَتُكِ ناظرَيَّ ورأيْتُكِ تَعودينَ إليَّ. وفكَّرْتُ أنّنا سنودّعُ حياتنا القديمة التي أتْعَبَتْني ونستقبِلُ حياة جديدة لا فراقَ بعْدَها ولا أشواقَ. فَرَحي كان يسْبِقُني نحوَكِ، وكنتِ أنتِ مقْصدي وغايتي، ووجْهُكِ كان وِجْهتي وبُغْيَتي. كنتِ الفرْحةَ القادمةَ وكان وجهُكِ الحنونُ ملاذي وكنتِ تنْشُرينَ مناخات المودّةِ وأنتِ تتّجهينَ نحوي فتغْدو الأجواءُ من حولكِ عطرةً.
......................................
هلْ تذكرين ذلك اليومَ الذي تقابلْنا فيه أوّلَ مرّةٍ. أنا مازلتُ أذكرُهُ ولا يمْكنُ أبدًا أن أنساهُ. كانت الدّنيا أجملُ من الآنَ بكثيرٍ. صحيحٌ أنني كنتُ موظّفًا بسيطا لا أملكُ عقاراتٍ ولا أراضِيَ ولا فلاحةً ولا محلاّتٍ تجاريَّةً. لكن الراتبَ الذي أحصلُ عليه يكفي بشيْءٍ من الاقتصادِ لتسديد مصاريف حياةٍ عاديّةٍ لا مكانَ للترفِ فيها، وكذلك لبناءِ مسْكنٍ متوسّطٍ أفْضَلَ على كلّ حالٍ من الشّقق التي تُباعُ الآنَ بمئاتِ الآلاف من الدينارات. كانت المنازل التي يبنيها الموظّفون مثلي فسيحة وذات غرف عديدة، أضْيًقُ واحدة فيها طولُها أربعةُ أمتارٍ وعرضها ثلاثةٌ. وكان معدّلُ المساحةِ الجُمْليّةِ للمنزل ثلاثمائةَ أو أربعمائةَ مترٍ. وكانتْ جُلُّ المنازلِ تحتوي على حديقة يحيطُ بها من الجهاتِ الأربعِ، أو على الأقلِّ من جهتينِ أوْ ثَلاَثٍ، سياجٌ يبْلُغُ ارتفاعُهُ ما بيْنَ مترٍ ونصْفٍ ومتْريْن، بحيْثُ يمْكِنُهُ حَجْبُ الأشْخاصِ الواقفينَ أو الجالسين داخلَ السّياجِ. كان كلُّ شيءٍ من حولي أفضلَ ممّا هو الآن. ربّما يعودُ ذلكَ، بالإضافة إلى القُدْرةِ الشرائيّة التي تدهْورتْ كثيرًا على امتدادِ السنواتِ، إلى عواملَ أخرى نفسيّة واجتماعية وصحية وغيرها. فأنا لم أكنْ مثلَ الآن، كُلُّ شيءٍ في حياتي محسوبٌ، ويكادُ لا يُوجدُ مكانٌ للمفاجآتِ والمغامراتِ والمبادراتِ التي قدْ تُغيِّرُ اتِّجاهَ الحياةِ. كانتْ الدّنيا مفتوحةً نِسْبيًّا أمامي. وكان يُمكِنُنِي، بفعْلِ السّنِّ والإرادةِ القويَّةِ والقدْرةِ على تحمُّلِ صعوباتِ الحياةِ لتحقيقِ الأهدافِ، أنْ أتحكَّمَ في حياتي بقدْرٍ مُعيَّنٍ وأوجّهَهَا حسب ما أعتقدُ أنَّهُ يتماشى مع قدراتي وطموحاتي... على كل حال، كانت الدنيا في عينيَّ أجملَ بكثير ممّا هي الآنَ. ربّما كنتُ أراها شبيهة بالرسوماتِ التي افتُتِنْتُ بها عندما رأيْتُها لأوَّلِ مرّةٍ في بطاقات بريدية جاءتْني من باريس عندما سجّلتُ في دراسة الفنّ التشكيلي بالمراسلة. أحْببْتُ الألْوان كثيرًا، ولمْ أكنْ أتصوّرُ أنّها تقبَلُ أنْ نَمْزِجَهَا كمَا نشاءُ ونستخْرجَ منها ألوانًا فرْعيّةً عديدة يُمْكنُ أنْ تصنعَ الحلْمَ وأنْ تبْنِي دُنْيا بديلَةً. عِشْقي للألوان آنذاكَ أنساني الدّنيا والهمومَ اليوميَّةَ وجعلني لا أفكِّرُ إلاَّ في مشاهدة الأعمال التّشكيلية والتدقيق في تفاصيلها وتنفُّسِ روائحِها الزّكيّةِ وملْءِ عيْنيَّ بالمساحاتِ الملوّنةِ وفتْحِ قلبي إلى الألحانِ العذْبةِ المنبعثةِ منها.
ورأيْتُكِ ذات يومٍ. ما زلْتِ تلميذةً آنذاك. كنتِ خجولةً وهادئةً. وكانتْ عيْناكِ التلميذتان تنظران إليَّ من حين لآخرَ. وكان شَعْركِ الطويل الطويلُ يتدلّى على كتِفكِ الصغيرِ ويطلُبُ خفْيةً أن أنظُرَ إليهِ وأعشقَ طولهُ ولونَهُ ونعومَتَهُ وخصلاته.
سَبَقْتُكِ في المجيءِ إلى الدّنيا ببعْضِ أعوامٍ. وسبقْتُكِ في الحُصولِ على عملٍ. لكن كان عليَّ أن ألْتَفِتَ إلى الخَلْفِ وأنْتَظِرَكِ. كنتُ أراكِ قادمةً نحوي، سعيدةً بقرْبِ الوُصولِ إليَّ. تبْتَسمينَ، وشعْرُكِ الطويلُ يمْتدُّ نحوي، يطيرُ، تلْعبُ به النسماتُ في اتِجاهي. كانت الألوانُ من حوْلِكِ نشْوَى بقدُومِكِ كأنّني مزَجْتُها بنفْسي وجعلْتُها تسْعَدُ بحضورِكِ. وكنتُ لاَ أهْتمُّ إلاَّ بكِ وبالألْوانِ ومساحاتِ الضّوْءِ والظِّلِّ التي ارتسمتْ في جسمكِ البَهِيِّ ووجْهِكِ الوديعِ الحنونِ، وفي المحيطِ الذي تظْهَرينَ فيه.
منذ ذلك اليومِ، تغيّرت الدّنيا لديَّ ولديْكِ وتغيّرْنا كثيرًا. لمْ تَعًد الألوانُ وحدَها تسْتحْوذُ على مشاعري وتفكيري. بلْ أصبحْتُ أراها مجسَّمَةً فيكِ، ولا أفكِّرُ فيها، ولا ترْتسمُ في خيالي ووجداني إلاَّ وأنتِ معَهَا. أصْبحْتُ أكْتبُ كثيرًا إليْكِ. وأنتِ أيْضا صرْتِ تكتُبينَ دوْمًا إليَّ. وفي أغْلبِ الأحْيانِ كانت رسائلنا بالفرنسيّة. ربّما لأنّنا قرأنا رواياتٍ أكْثَرُها بالفرنسية، وربّما لأنّنا كنّا نتصوّرُ أنَّ الفرنسيَّةَ تعبِّرُ أحْسَنَ عن المشاعِرِ أو ربّما، ببساطةٍ، لأنّنا كنّا نُحْسِنُ التّعبيرَ عنْ مشاعرِنا بالفرنسيّة أكثَرَ من العربيّةِ. لكنَّ مشْكِلَتَنَا الأساسيَّةَ كانتْ في إيصالِ تلكَ الرّسائلِ لأنّها، في أغْلبِ الأحْيانِ، لمْ تكنْ تُوضَعُ في البريدِ، بلْ كنتِ تُرْسِلينَها معَ صديقاتٍ لكِ يدْرُسْنَ معَكِ. تفطَّنْتِ أنّ عدّةَ رسائلَ لم تصلْ دون أن يُعْلِمْنَكِ بذلك مباشرةً بعْدَ عَوْدَتهنَّ من مدينتكنَّ الأصليّةِ. عندما تتفطّنين بعد مدَّةٍ إلى أن الرسالةَ الفُلانيّةَ لم تصلْ، كنَّ دائما يتعلَّلْن بأنّني لم أنتظرْهنّ في محطّة الحافلاتِ ولم يريْنني في المدينة.
وأحيانا، أنسق معكِ موعدًا لمكالمةٍ هاتفيّةٍ، وغالبا ما تكون أيام الأحد، لأنّكِ تستطيعين الخروج من المبيتِ، وأكون أنا قدْ نهَشَني الشّوْقُ وعِيلَ صبْري. كان الهاتفُ العموميُّ مَلاَذَنا. وكنتُ عندما أريدُ أنْ أطلُبَكِ، أحْضرُ كثيرًا من القِطَعِ النقْديَّةِ ذاتِ مائةِ ملّيمٍ، أو بعْضَ القطعِ ذاتِ خمسُمائةِ ملّيمِ.
ماذا كنّا نقول في تلك المكالماتِ التي كانتْ تستغرق قُرابةَ عِشْرينَ دقيقةً أو أكْثَرَ؟ لمْ أعُدْ أذْكُرُ تحديدًا عَمَّا كنّا نتحدّثُ. ولكنْ أنا متأكِّدٌ أنَّ جُلَّ حديثِنا كان حوْلَ الشَّوْقِ الذي كانَ يسْتَبِدُّ بنا واللَّهْفَةِ للتّلاقي التي كانتْ تزْدادُ بازْدِيادِ عددِ الأيّامِ التي اسْتغْرَقَها الغيابُ. كانت مُكالماتٍ مسْكونةً بالوجعِ والحرْمانِ وكانتِ الكلماتُ فيها مشْحونةً بالحنينِ وبِرَغْبةٍ مكتُومةٍ في اخْتراقِ المسافاتِ. كانتِ المسافاتُ تعذِبُنا ونودُّ لوْ أنّها تزولُ على الأقلِّ كلَّ أيام الأحدِ لنلْتَقيَ، لاَ عبْرَ الهاتِفِ، وإنّما لقاءً حقيقيًّا نَكُونُ فيهِ حاضِريْنِ جسْمًا وروحًا ومشاعرَ موْجوعَةً. ورغْم المسافاتِ التي تفصِلُ بيْننا، كانت المكالماتُ جسورا تأخذنا إلى حيثُ نستطيعُ أنْ نتبادلَ عباراتِ الشّوْقِ والمشاعرِ المُتَرَقْرِقَةِ الصافيةِ، ونتغنّى بأشواقنا التي تنْمو كالأزهارِ في الحدائقِ أوْ في الحقولِ وتتلوّنُ بألوان المحبّةِ الصّافية. كانت أشواقُنا مثْقلَةً بمطرٍ دافئٍ يرْوي أراضي قلْبيْنا العَطِشَيْنِ ويسيلُ في حقولِ مشاعرِنا التي تتفتَّحُ فيها أفْراحٌ أيْبَسَها برْدُ أيام الغيابِ. كمْ كانت المكالماتُ تُسْعِدُنا في البدايةِ. وبعْدَ أنْ نتفطَّنَ بالحرمان من التلاقي الحقيقيِّ، تتحوَّلُ البهجةُ إلى مرارةٍ. ونظلُّ نتحدّثُ والمرارةُ في حلْقَيْنا. وكمْ كانتْ مرارةً حلوةً لأنني كنتُ أسْمعُ أنفاسَكِ تتردّدُ حارّةً كأنكِ معي. وتقولينَ بأنّكِ تسمعينَ أنْفاسي، وترَيْنَ الشّوقَ من خلالِ الكلماتِ المتوهّجَةِ التي تخْترقُ المسافاتِ لتصلَ إليكِ بحرارتها التي حافظتْ عليْها لتدْخُلَ قلْبَكِ كما هيَ.
أيّتها التلميذةُ العاشقةُ كمْ أحْتاجُ إليْكِ وإلى كلماتِكِ المتوهّجةِ ومشاعِرِكِ الصافيةِ ونظراتِكِ المُحِبّةِ ووجْهِكِ الحنونِ وشعْرِكِ الطويلِ الطويلِ الذي يناديني في خجَلٍ لأقْترِبَ منهُ وأحبّهُ. أيّتُها الفتاةُ التي انْفتَحَ لها قلْبي منذ أنْ رأيْتُها، وتوسّمْتُ فيها المشاعرَ التي كنتُ في حاجةٍ إليْها ووجدْتُها لديْها، واكتشفْتُ عندها اكثَرَ مما كنتُ أبْحثُ عنْهُ بكثيرٍ. كنتِ كنَسْمةِ صيْفٍ، كغمامةٍ بيضاءَ تُسْعِدُ الزهورَ، كالألوان التي تسْكُنني وأراها مُجسّمةً في خيالي وفي لوْحاتِ الرَّسَّامين المبدعين. كنتِ كالنّغمةِ الحُلْوةِ التي تتردّدُ في خاطري وتمنحُني تفاؤُلاً وأملاً. كنتِ الفرْحةَ التي أنتظرُها، والشوقَ الذي لاَ يَبْرَحُني، والوجْهَ الذي تسْتأْنسُ به روحي، والنّظراتِ التي أرتاحُ إليها، والشَّعْرَ الطويلَ الذي أسْعَدُ برؤْيتِهِ، والقلْبَ الذي أسْمَعُهُ يُحدّثني ويفْرحُ بحديثي إليْهِ.
يُخيَّلُ إليَّ أحْيانا أنني أطير عاليا في السماء، وأحوّم حول السّحُب أبحث عنكِ لأنني لم أجدْكِ في الأرض. أعْلَمُ أنّكِ تحبّينَ السّحُبَ وكنتِ تتعشّقينَها معي وأنا أرْسُمُها عندما كنتُ مُولَعًا برسْم السّماء في مدينتنا الجميلةِ التي تأخذ السّحُبُ فيها كلَّ الأشْكالِ والألوانِ. وكنتِ كلَّ يومٍ تزْدادينَ تعلُّقًا بتلك الأراضي وتُفضّلينها على كلِّ أراضي الدّنيا رغْمَ المشاكلِ الاجتماعية الكثيرةِ التي تزايدتْ فيها عبْرَ السّنوات نتيجة النّزوح الكبيرِ من الأريافِ المُجاورةِ والبِطالةِ والفقْرِ ونُدْرةِ الاستثماراتِ في شتّى المجالاتِ، حتّى الفلاحيِّ منها، رغم أنّ الميادينَ الفلاحيّة بكلِّ تفرُّعَاتِها يمْكنُ أنْ تكونَ أنْشطةً مُرْبِحةً في تلكَ الأراضي. يقولُ المُهتمّونَ بالدّراساتِ الاقتصادية أنّ تلكَ الجهة يُمْكنُ حتّى أنْ تتوفَّرَ فيها صناعة جيولوجية تسْتثْمِرُ الخاماتِ الهائلةَ الموجودةَ فيها. ويمكنُ كذلك الاستثمارُ في السّياحةِ وخاصّة في ما يُطلقونَ عليْهِ عبارةَ السياحةِ البديلةِ أو الإيكولوجية أو الصديقة للبيئة، حتى لا تبقى السياحة حكْرًا على المناطقِ الساحليّةِ. لكن كلّ ذلك يتوقّفُ على وجودِ إرادةٍ سياسيّةٍ ترْغبُ حقًّا في النّهوضِ اقتصاديّا بتلْكَ الجهَةِ المنْسيَّةِ. سمِعْتِ كثيرًا عن السّرقاتِ التي تعرّضتْ إليها بعْضُ المنازِلِ، حتّى وأصْحابُها بداخلِها. وسمعْتِ أيْضًا، مرارًا، عن السَّطَواتِ والاعْتداءاتِ التي تحْدُثُ أحْيانًا في الشارعِ وفي وضّحِ النّهارِ، ويتعرّضُ لها غالبًا أناسٌ أبرياءُ وأحْيانًا نساءٌ يريدُ المُعْتَدُونَ أنْ ينْتَزِعُوا منهم بالقوَّةِ شيْئًا له قيمةٌ ماليّةٌ قدْ تكونُ بسيطةً. سمِعْتِ كذلكَ أنَّ الخروجَ ليلاً، وخاصّةً على القدميْنِ، لمْ يعُدْ أبدًا ممكنًا، خوْفًا من التعرّضِ لاعْتداءٍ قدْ يذْهبُ بحياةِ الشّخْصِ. لذلك لم يَعُدْ التّفكيرُ في الذّهابِ إلى المحطّةِ ليْلاً، أو بعْدَ منتصفِ الليْلِ، أوْ عنْدَ الفجْرِ مُمْكنًا كما كان يحْدُثُ قبلَ سنواتٍ، عنْدما كانت المدينةُ هادئةً وكانَ النّاس فيها تغْلُبُ عليهم الطّيبَةُ ومازال الفقْرُ لمْ يسْتفْحلْ فيهم ومازالتْ الأسْعارُ لمْ تشْتعلْ مثلَ الآنَ ومازالتِ الآفاقُ أمام الشّبابِ مفْتوحةً. تعْرفينَ كذلك أنّ الشوارعَ والأنهُجَ وكلَّ الممرّاتِ مُتْرَبَةٌ وكثيرًا ما تهُبُّ فيها الرّيحُ التي تخْتلطُ بالتُّرابِ والغُبارِ. عندما أكونُ محظوظًا، تمْضي الريح في سبيلها ولا تُصيبُنِي في وجهي. وعندما يكون حظّي سيّئا، تصفعُني الريح أكثَرَ منْ مرّةٍ، فأظلُّ أسُبُّها وأسُبُّ نفْسي والمدينةَ والطَّقْسَ والفصْلَ والطبيعةَ. تُشاهدينَ دائمًا الأوساخَ المنتشرَةَ في كلِّ أنْحاءِ المدينةِ وتنقبضُ نفْسُكِ عندما نمُرُّ في الشارعِ الموازي للساقية والمؤَدّي إلى المدرسة الإعْدادية. تريْنَ الأوساخَ المتراكمةَ بجانبيْه، وتتسرّبُ روائحُها الكريهةُ لنا عبْرَ بلّورِ نوافذِ السيارة فتتقزَّزِينَ. تعْرفينَ كلَّ هذا وغيْرَهُ، لكنَّ حبّكِ لهذه الأراضي كان أقوى من كلِّ ما رأيْتِ وسمِعْتِ ومن كلِّ الأوْضاعِ. كنتُ أرَاكِ منتشيَةً ونحْن نُعِدُّ أمْتِعَتَنَا لنعودَ من تلك المدينةِ التي كنّا نشتغِلُ فيها إلى مدينتِنا الأصليّةِ التي عشِقْتِها منذُ البدايةِ لوجودِ أمِّكِ التي تُحبّينها كثيرًا بها.
أيْنَ أنتِ الآنَ ولِمنْ تركْتِ هذه المدينةَ التي أحْبَبْتِهَا بصمْتٍ ولمنْ تركْتِ هؤُلاءِ الناسَ الهائمينَ على الأرْضِ والأيامُ تأكلُهمْ. أنا الآن أنظرُ إليكِ، كما كنتِ، مُلْتفتًا إلى الماضي، لأراكِ، لأمْلأَ عيْنَيَّ بكِ، وقلْبي بِك. كنتِ بهجتي. وإلى الآنَ أنتِ بهْجتي. عنْدما أراكِ بذاكرتي، ينتابُني ذلك الفرحُ الطّفوليُّ، وتأخُذُ الدّنيا تلْكَ الألوانَ التي كوَّنْتُها بنفْسي عنْدما كنتُ مجْنُونًا بالألوانِ. كوَّنْتُها باستعمال بعضِ أنابيبِ الألوانِ المائيّةِ لأنني كنتُ غالبًا مَا أرْسُمُ بالألوانِ المائيَّةِ. وحتّى عندما ترشّحْتُ للدراسة بالمدرسة الفرنسية للفنون الزخرفية بباريس، ثمّ بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بالجزائر وأخيرا بمدرسة الفنون الجميلة بتونس، كنتُ دائما أرسِلُ مجموعة من الصُّوَرِ الفوتوغرافيّةِ لِرُسُومَاتِي التي أعْددْتُها بالألوانِ المائيَّةِ في مُعْظَمِها، ومَعَهَا سيرَةٌ ذاتيّةٌ أتحدّثُ فيها كثيرًا عنْ شغفي بالرّسْمِ وعنْ أنْشِطتي الأوّليّةِ في مجالِ الفنِّ، وعنْ رغْبتي الكبيرَةَ في مواصلةِ دراسة الفنِّ التَّشْكيليِّ في مدرسةٍ عُلْيا مرْموقَةٍ. وقدْ قُبِلْتُ في كلِّ تلك المدارسِ التي كانتْ تنتقي طلَبتَها بالاعتمادِ على معاييرَ صارمةٍ. لكنّني في النهاية ، فضّلْتُ البقاءَ في عملي وعدمَ الدراسةِ في إحْدى تلكَ المدارسِ المرموقةِ. واكْتفيْتُ بدراسةِ الفنِّ التشكيليِّ بالمُراسلةِ. كلُّ ذلكَ كانَ منْ أجلِ عيْنيْكِ ومن أجلِ حُبِّنَا الذي كان هُوَ الذي ألْهَمَني الفنَّ وتعلَّمْتُ فيه مَزْجَ الألوانِ.
......................................
هل تذكرين رحلتنا إلى العاصمة لأدرس أنا هناك في نطاق فتح الآفاق العلمية وللارتقاء مهنيا في نفس الوقت. اتصلتُ آنذاك بالمسؤولين فعيّنوكِ بمدرسة غير بعيدة عن مكان دراستي الجامعية. اكتريتُ شقّةً قريبةً من مدرستِكِ لتيسير التنقل عليكِ. لم تكوني أبدا بحاجة إلى وسيلة نقل لأن المدرسة كانت قريبة جدا من المسكن. وكانت المحلات التجارية المختلفة تحيط بكِ، فكانت تنقلاتكِ لقضاء شؤونكِ سهلة جدّا. وكان اطمئناني عليكِ كبيرٌ عندما أخرج في الصباح للدراسة ولا أعود إلا في المساء، رغم أن المسافة التي تفصل مؤسسة الدراسة الجامعية عن مقرّ سكنايَ غير بعيدة، وقد تعودتُ أن أقطعها على قدميَّ، مساء عند الرجوع. ولكن لضرورة المراجعة، كنتُ أفضّل أن أبقى في منتصف النهار بالمعهد العالي. أتناول غدائي هناك بالمطعم الجامعيّ، ثم أتوقف بعض الوقت عند المشربة مع زملاء مُقَرّبِينَ منّي أو مع أحد الأساتذة وخاصة أستاذي الذي أحبه كثيرا وأطّرني في جلّ بحوثي الجامعية. وبعدها أذهب إلى المكتبة للمراجعة.
أمّا أنتِ، فكنتِ تصنعين النجاحات بقدرتك على تدريس اللغة الفرنسية، وحذقكِ لتلك اللغةِ، وكفاءتُك على التعامُلِ الإيجابيِّ مع التلاميذِ، والإنصاتِ لهم، وتفهّم مشاغلهم، والقبول الحسَنِ لأوليائِهم، والأمومةِ الدافقة من كلِّ كيانكِ. كانتْ نجاحاتُكِ في الفصْلِ تُسعدُكِ فتعودينَ إلى المنزلِ جذْلَى. وكنتُ أسعَدُ بذلك كثيرًا. كنتِ كنسمة صيفٍ، لا يأتيني منكِ سوى البهجة وراحة البال. عالمُكِ كان مليئا بالأفراح. انشغالُكِ بالتلاميذ أخذَ كل اهتماماتِكِ. نسيتِ أنْ تفكّري في عديد الأشياء التي لو طلبْتِها مني ما كنتُ ألومُكِ. لكنّكِ كنتِ فوقَ كلِّ تلكَ الأمورِ. وكنتُ أراكِ شامخةً، سيّدة عظيمةً بنجاحاتِكِ في دنيا الطفولة والمدرسة. أذكرُ أنّكِ هنِئْتِ بذلك الوَضْعِ. كنتُ في منتهى الغبطة وأنا أراكِ تتفتّحينَ كزهرةٍ من حقول بلدتي صادفَهَا ربيعٌ جميلٌ. عطر تلك الزهرةِ مازال يملؤُني شوقا إليكِ أيّتها الرّاحلة دونَ استشارة، رغم أنّكِ تعوّدْتِ أنْ تستشيريني في شؤونِكِ الشخْصيَة. أنا متأكّد أنّ أولئكَ الأطفال الذين درَّسْتِهم ما زالوا يذكرونكِ بالخيْرِ الذي فعَلْتِ معهم وأنّ العديد منهم يشتاقونَ مثلي إلى رُؤْيتِكِ. كيف لا يحنّون بعدَ كلّ هذه السنوات إلى مشاهدة "أنيستهم" التي أهدتْ لهم أيامًا كثيرة من عمرها وأحبّتْهم وراعتهم وتحمّلتْ صعوباتهم؟ كنتُ عندما أعود إلى البيتِ وأجدُكِ باسمةً، تنشرح نفسي. وأسعدُ أكثرَ، عندما تحدثينني عن علاقاتكِ الطيّبة في عملِكِ لأنني عندئذٍ أزدادُ اطمئنانا عليكِ وأنكِ تُسعدينني وَكَفَى دون أن تكلفيني أيَّ تعبٍ.
أين أنتِ الآن يا من كانتْ تعطِّرُ أيامي وتهتمّ بي في شتّى حالاتي وتسعدني بوجودها قريبةً منّي في كلِّ ظروفي ويا من كنتِ بلدتي وأهلي وأصدقائي والمرآة التي أنظُرُ بها إلى الدنيا؟ هل تكسرتْ تلك المرآة وبقيتُ أعْزَلَ بدونها، أرى الأشياء غائمةً يلفُّها ضبابٌ كثيفٌ يكادُ يحجُبُها عنّي؟
تبدّلتِ الأشياءُ يا منْ كنتُ أسخّرُ نفسي لحياتي الخارجيّةِ وأنا مطمئنٌّ بكِ وعليكِ، ولا أجدُ منكِ سوى الرّضا والابتسامة التي افتقدْتُها منذُ أنْ اختفيْتِ وتركتِنِي أتخبّطُ في وحدتي وأتخيّلُ وجهَكِ الوَظِيءِ في كلّ مكانٍ، وأتصوّرُكِ تنظرينَ إليّ منْ خلْفِ الحُجُبِ بعيْنَيْنِ عَطُوفتَيْنِ وتتمنَّيْنَ أن أقدِرَعلى تسْييرِ حياتي بمفْردي وانتِ أعْلَمُ الناس أنّكِ، بمعزّة، لم تتركيني أمارس في المنزل سوى الرّسْمِ والقراءةِ والكتابةِ.
تبدّلتِ الأشياءُ ولوْ عدْتِ الآنَ لمَا تحمَّلْتِ التّغيّراتِ الكثيرةِ التي حصلتْ بعْدَكِ. أخشى عليْكِ، لوْ رجعْتِ، أن لا تجدي في منزلنا الأشخاص الذين أحببْتِهم وكانوا يمثلون أهمّ عوامل التوازن العاطفيِّ لديكِ. أعرفُ مدى تعلّقِك بهم، وهم أيضا يقاسمونَكِ نفس المحبّة ويذكُرونكِ بأسًى كبيرٍ ويتألمون لكوْنِكِ رحلْتِ باكرًا، من حيث العمر، وقبل أن يُكوّنوا بدوْرِهِم عائلات وينجبوا أطفالاً يعرفونكِ اسمًا ولا يستطيعون أنْ يدركوا المسرّاتِ التي كانتْ ستأتيهمْ لوْ كنتِ معهمْ. أبناؤُكِ تفرّقوا وبقيتُ أنا أنظِرُ بأسًى ولا أقدرُ على فعْلِ شيْءٍ. أنا الوحيدُ الذي لمْ يتغيَّرْ كثيرًا على ما عرفْتِهِ قبْلَ أن تغادري دون رجعةِ. صحيح أنني تقلّدْتُ بعْدَكِ مناصبَ إدارية وارتقيتُ في عملي، ولكنني في حياتي الشخصيّة، ما زلتُ أنظرُ لوجهكِ الدّافئِ، وما زلتِ وجهتي التي أتوجّه إليها، وما زال الأنس الذي كنت تغمرينني به يلهيني عن الدنيا ويجعلني أسبح في موْجة من الضباب الخفيف تنسيني احتياجاتي المادية وأهيم في عالمك الفِرْدَوْسِيِّ فأغُضُّ طرْفي كثيرًا ولا أشغلُ نفسي إلاّ بصورتِكِ المستقرّة في خيالي.
نسيتُ أنْ أعلمكِ بأنَّ منزلَنا القديمَ الذي تعرفينَهُ وعشتِ فيه سنينَ طويلةً، تغيّرَ هو أيضا. لقدْ بعْتُهُ وشريْتُ منزلاً آخَرَ قريبا من منزل ابنتي التي لم يبقَ لي سواها في بلْدتي، بعد أن سافر ابني بعد زواجه ليستقرَّ ويعملَ في باريس، وبعد أن سافر الثاني لدراسة الطّبّ في روسيا. لم أعُدْ أقيمُ كثيرا في مدينتنا التي كنّا فيها، لكنني في أغلب الأحيان أقيم بالعاصمة. هذا الوضع لا تعرفينه طبعا، لأنه بدأ بَعْدَكِ. بعتُ منزلنا الثاني، الصغير نسبيّا، في تلك المدينة الساحلية، وشريْتُ شقّةً بالعاصمة بعتُها بعد سنوات قليلة لأنني تبيّنْتُ أنّها لا تعجبني. ثمّ شريتُ شقّةً أخرى بالعاصمة دائمًا ولكن في حيٍّ آخرَ. ومنذ أشهر، عندما بِعْتُ منزلنا الذي أقمْتِ فيه سنواتٍ طويلة في بلدتِنا الأصليّةِ، عثرْتُ بعْدَ مدّة قصيرةٍ لا تتجاوز الشهرَ، على منزلٍ قريبٍ من منزل ابنتي، وكان سعْرُه مرتفعًا بالنسبة إلى سعْر منزلنا. اقترحتُ على صاحبه أن أشريَهُ مقابل شقّتي الجديدة بالعاصمةِ وأزيده الفارقَ من ثمن منزلنا الذي ما زال آنذاك بالبنْكِ. أعلمني الرجل أنّه بطبيعته كان ينوي النّقلةَ إلى العاصمة، فتمّ الاتفاق بيننا وشريْتُ المنزل. خصّصتُ مبلغا لإصلاح المنزل وإدخالِ تحسيناتٍ عليهِ. دام ذلك سِتَّ أشهرٍ تقريبا. وبعدها أغلقْتُ المنزلَ، وعدْتُ إلى العاصمةِ حيث أسكنُ في شقّة ابنتي. لم أعُدْ أتحمّلُ البقاءَ طويلاً في نفْسِ المكانِ منذُ أنْ غادرْتِني وخرجَ الأولادُ من المنزلِ وخرجتُ إلى التقاعُدِ. بقيتُ سنواتٍ أشتغِل في التكوين بالعاصمة، ثمّ انقطعْتُ دون سببٍ واضحٍ. وها أنا الآن، ما زلْتُ أحلُمُ بوجهِكِ الصافي البريءِ، الذي كان يلْهمني فرَحًا لم أكُنْ أدركُ قيمتَهُ الحقيقيةَ عندما كنتِ معي. ها أنا الآن ما زلتُ ألْتفتُ باتجاهِكِ وأبْحثُ عنكِ في سحبِ الضبابِ التي تمنعُني من الرؤيةِ جيّدًا وأدقّقُ النظرَ لعلّني أراكِ فأجري نحوكِ لأمسكَكِ من يديْكِ وأقودُكِ إلى المنزلِ لأحتفلَ بمجيئكِ وأنسى شجني.
لوْ عُدْتِ الآن، لن تعرفي الطريق إلى منزل ابنتك في مدينتنا التي تعرفين. لقدْ تركتها في منزل مُكْترَى قريب من منزلنا. والآن، هي في منزل بَنَتْهُ بعْدَكِ في الجهة الأخرى من المدينة، بعد المدخل بقليل. مكان جديد فيه منازلُ مِعْمارُها عصريّ نسبيّا ومختلف بعض الشيء عن معمار المنازل التقليدية التي نجدها كثيرًا في المدينة. ابنتك الوحيدة، تذكرُكِ دائما بحرقةٍ، وتعتقدُ أنها غيرُ محظوظةٍ لأنها لم تتمتّعْ بوجود أمّها بجانبها مثل غيرها، ولمْ يتمتَّعْ ابنُها وابنتُها بعنايةِ جدّتهما الحنونة. كثيرا ما تبكي بسبب ذلك، ولكن سرعان ما تعود لمشاغلها اليومية وخاصّة لمتابعة دراسة ابنها الذي تريد له مستقبلا دراسيا مكللاً بالنجاح، وتعتبر النقاش في رحيل أمها دون جدوى.
لماذا لا تعودين وأنتِ ما زلتِ حاضرةً في أذهاننا وفي وجداننا وحتى في حديثنا أحيانا؟ عودي فأنا ما زلتُ لمْ أتغيّرْ. وأنا أتكفَّل بتدْريبِكِ على الحياة كما هي الآن. عودي إن كنتِ قادرةً على ذلك، وسأفرحُ كثيرا عندما أراكِ بجانبي تملئين حياتي التي بدأتْ تفرغُ أو لعلّها فرغتْ من سنواتٍ. عودي لأراكِ وأتنفّسَكِ وأمْلأَ عيْنيَّ من طلْعَتِكِ التي ألْهمتْني الطمأنينة ومنحتني عشقا كبيرًا للألوان وعلّمتني حُبَّ تلك المدينة وأهلَها وحاراتِها وأشجارَها وتضاريسَها ولونَ تربتِها وروائحَها وكلَّ تفاصيلِها. عودي فأنا بحاجة إليكِ بعْد أنْ تشتّتَ الأولادُ، وبقيتُ هنا وهناكَ، لا أستقرُّ في مكانٍ، أتنقل بين العاصمة ومدينتنا الأصليّة حيث توجد ابنتي التي أذهبُ هناكَ من أجلها، ومنزلي الجديد الذي لا أدري لماذا شريْتُهُ وحسَّنْتُهُ. لم يعدْ للأماكن معنى بعدَ أن ذهبْتِ. فمنذُ ذلك الوقتِ، أوْ بعدَ ذلك بقليل، عندما ذهب الأولادُ، كلٌّ في اتّجاهٍ، وبقيتُ وحدي، أحسسْتُ بالغربة تأْكلني، وأدْركْتُ أنّكِ تركْتِ فجوةً عميقةً في حياتي لا يمكنُ مَلْؤُها. أتساءلُ أحيانا: لماذا غادرَ الأولادُ المنزلَ بعدَكِ بقليل؟ ألسْتُ مُحِقّا في بيْعِ المنزلِ الذي أصبحتُ أستوْحشُ فيه وأصبحَ باردًا زيادةً عن اللزومِ لأنّهُ غالبا ما يكونُ مغْلقًا لا أحدَ فيه؟ حتى منزلي الجديدُ أشعرُ أنّه باردًا ولم أجد الجرأة إلى حدّ الآن لسكناه، رغم أنّه قريب من منزل ابنتي. ما زلت أتعلل بعدم وجودِ أثاثٍ بداخله. لكن السبب الحقيقيَّ أنّ نفسي غيْرُ مستقرّةٍ، مسافرةٌ دوما تبحثُ عنكِ.
سافرْتُ مرّة إلى فرنسا بعد رحيلِكِ وبقيتُ هناك خمسةً وأربعينَ يوما. أعدّ لي ابني الذي يشتغل مهندسا هناك كلَّ شيءٍ. زوجتُه تُظهِرُ لي حُبًّا واحترامًا كبيريْن وتُعدّ لي مأكولات تعجبني وتطلب مرافقتي بالسيارة عندما تريد شراء أشياء للمنزل ونشرب قهوة في فضاءات جميلة ونظل في نفس الوقت نراقب ابنيْهِما وهما في فضاء اللَّعِبِ. ابنتُهُ ترتّب قصصَها الصغيرةَ مثلَها في غرفتها ومغرومة بالرسم وابْنُهُ أصغر من أخته وما زالتْ هواياته غير واضحة، لكنه يميل إلى الانبساط، ويدخل القلب بسهولة. وقد شاهدْتُ بنفسي سيدة اسبانية في وسط العمر وجميلة تضاحكه وتلامسه ثم تقول له بتودّد ظاهرٍ كلمات إطراء. وتتحدث مع أمّهِ لكن بالإسبانية عن تميّزه وطلاقته، فلم نفهمْ إلا بصعوبة بعض الكلمات. ونفس الشيء حدث له بحضوري مع سيدة سوداء البشرة لكنها شابّةٌ وجميلةٌ. حدَثَ ذلك عندما كنا في القطار الذي يتجه من الضاحية التي يسكن بها ابني صوب باريس. أمّا ابْنُنا فَوَدودٌ. وقدْ اهتمَّ بي وأكْرَمَني وأخذني إلى المتاحفِ التي أحبّها وتجوّل بي في الأماكن التي يعرفُ أنّها ستروقني. وبالإضافة إلى المبلغ الكبير الذي أرسله في البداية وثمن التذكرة بالطائرة ذهابا وإيابا، شرى لي كل التذاكر اللازمة هناك، ولم يتركني أدفع صنتيما واحدا. كيف لا يكون كذلك وهو ابنُكِ الذي تعلّم منكِ المودّةَ دونَ حسابٍ، والرحمةَ دونَ حدودٍ. أنتِ مثلُه الأعلى وهو ما زال يذكُرُ عدّة مواقفَ أظهرْتِ له فيها حُبًّا كبيرا اختزنه ليكونَ زادَهُ في كاملِ حياتِهِ. وها أنا أحْظى منه بعطفٍ أشمُّ رائحتَكِ فيه، فأنتِ مرْجِعَهُ في مواقفهِ. وكمْ أنتِ حاضرةٌ في كل ما يفعلُ. طيبتُكِ مع الأشخاص الذين تحبين، وصرامتكِ عندما يقتضي الأمرُ، أراهما عند ابننا. كم تمنيتُ أن تكوني معي هناك لتزدادَ فرْحةُ ابنك. أنا متأكِّدٌ أنّكِ لو كنتِ معي، لكانَ البهجة بمجيئكِ مختلفَةً تمامًا. أعرفُ أنّه يحبّكِ أكثرَ من كلّ العبادِ، وأنا لا أغارُ منكِ. أوّلاً لأنّهُ، كما تعرفينني، ليست الغيرةُ من طباعي، وثانيا لا يمكن أن أغار منكِ أنتِ بالذاتِ لأنني تعلمتُ منكِ الإيثارَ. لذلك لو كنتِ معي وأكرمَكِ ابنُكِ أكثرَ مني فلنْ تبْدُرَ مني سوى عبارات السعادة بما نحن فيه لأن تبجيلَكِ اعترافٌ ضمنيٌّ بفضائلِكِ الكثيرةِ عليهِ والتي لا أعرفُ الكثيرَ منها. ولو أنّهُ لمْ يبجّلْكِ لغضبتُ في قرارة نفسي، لأنّه لمْ يراعِ تلْكَ الفضائلَ الكثيرةَ عليهِ، والمحبّةَ التي لا حدودَ لها، والعنايةَ المتواصلةَ بهِ، والمتابعةَ اللصيقةَ لهُ. أعرفُ أنّ ابننا كريمٌ لأنّكِ أنتِ أمُّهُ. ولو كنت معي، لوَهَبَكِ كفّيْه بِسَاطًا تمشين عليه ولأخذَكِ إلى كلّ الأماكنِ التي تحبينَ أن تذهبي إليها. هو يعْرفُ كمْ كنتِ مغرمةً بقراءة الروايات الفرنسية، لذلك كان سيأخذُكِ لفضاءاتِ الكتُبِ، ويطلبُ منكِ أنْ تتنقّلي بينَ الرفوفِ لتختاري الكتُبَ التي تريدينَ. ولا يهمُّه إنْ كان سعر هذه الكتبِ باهظًا أو منخَفِضًا. المهمُّ أنْ يُسعِدَكِ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ لأنّهُ يُقدّرُ الواجبَ ويعرفُ أنَّ إسعادكِ أمرٌ ضروريٌّ. وأنَّ في سعادتِكِ سعادتي وبهجةُ كلّ العائلةِ. وإذا أنتِ بِتِّ مكدّرَةً، فباريسُ كلّها لا معنى لها، وكلُّ أضوائها تنطفِئُ، وينتشرُ الصّمْتُ في كلّ الفضاءاتِ، وتتلوّنُ المدينةُ بألوانٍ قاتمةٍ.
......................................
منذُ قليلٍ كنتِ معي. وكانت الفرْحة بِمجيئِكِ لا تَسعُني. كنتِ سيْلاً منَ البَهجة نسيتُ كيفَ أتعاملُ معَها، فأحْسسْتُ أنها أغرقتْني، ولمْ أسْتطعْ السيْطرَةَ عليها، حتّى ظهرتْ في ملامحي صارخَةً، تُعْلِنُ أنني أسْتقبلُ الغاليةَ التي خرجتْ من زمان ولمْ تعدْ إلاّ الآن، لأنّ قلبَها الوفيَّ لم يطاوعْها على البقاءِ هناكَ وترْكِ أحبَّتها مشتاقونَ إليها، يبْحثونَ في بقاياها عمَّا يذكّرهمْ بها، ويشتمّون في أشيائها روائحَ تحمل لهم نفْحَ ماضٍ عزيزٍ عليهمْ.
لمْ يكنْ ما أعيشُهُ حُلْمًا. كنتُ أعيشُهُ كما في الواقعِ تمامًا. وكنتِ حقًّا معي، أتمتّعُ بوجودِكِ. لكنْ كلُّ ما في الأمْرِ، أنني كنتُ أدْركُ أنّكِ كنتِ غائبةً. وقدْ طال غيابُكِ كثيرًا ولمْ أكنْ أتوقّعُ أنْ أراكِ. وظهرْتِ، فأَلهمني ظهورُكِ بهْجةً عارمةً. ورغْمَ أنني لم أكنْ واعيًا آنذاكَ بأنّكِ غادرْتِنا نهائيّا، فكّرْتُ أنّكِ رُبّما ستعودين إلينا وتُنْهينَ هذا الفراقَ الطويلَ الذي تسلَّطَ علينا. عشْتُ معكِ عدّةَ مشاهدَ كما عشْتُها في الحياةِ الواقعيّةِ. سُررْتُ بكِ كثيرًا وأنتِ في العاصمة، هانئةً بحياتكِ، تنْجحينَ في تدريس اللغة الفرنسية بالمدرسة المجاورة للعمارة الصغيرة التي اكترينا فيها شقّتنا في الطابق الثاني ويأتيك العديد من التلاميذ إلى الشقة سعداء بالدروس الإضافية التي تقدّمها لهم "أنيستهم". كان الهناء ظاهرا على وجهك الدّافئ الممتلئ بالمحبة واللطف ونظرتك الهادئة الحنونة التي تحمل عبق تلك البلدة التي أحببْتِها وتشتاقين دائمًا إلى ربوعها وإلى أمِّكِ هناك. تحوّل الإطار الفضائيُّ الذي يجمعنا دون أن أشعُرَ، وإذا بنا في مدينتنا الأصليّة وفي منزلنا الذي تعرفينه جيّدًا. كنتِ كما عهدْتُكِ وديعة، متواضعةً، تُحبينَ بيْتَكِ وأسْرتَكِ وجاراتِكِ والتّلاميذ الذين وهبْتهم ساعاتٍ من يوْمِكِ وتفكّرينَ فيهم دائما، وتستقْبلينَ أحيانًا أمّهاتهم للتّحدّثِ معهم مطوّلاً عن أشياءَ تخصُّ أبناءهنّ. قدْ أكونُ أنا لستُ راضيا عن ذلك لأنه على حساب وقتي معكِ. لكنّكِ تشرحين لي الفائدةَ من ذلك، وتبتسمين في وجهي بمودّةٍ، فأعودُ للحديثِ معكِ كأنَّ شيئا لم يكنْ. كان ابننا الصغير آنذاك بالمدرسة الإعدادية التي لم تكوني تحبّينَ لأنّ الطريق إليها فارغٌ نسبيّا وعلى أحَدِ جانبيْهِ من جهة الأراضي الدّولية، حيث أشجار التفاح والإجاص، توجد أكداس كبيرة من بقايا البناء تحجب الأشجارَ، وتتخيّلينها دائما مخْبَأً ممكنا للمجرمينَ ولاستعمال "الزطلة". وبالإضافة إلى ذلك الطريق الذي كنت تعتبرينه خطرًا يهدد تلاميذ تلك المدرسة، تعرّض ابنُنا عند خروجه من تلك المؤسسةِ إلى شجارات كبيرة تسبّب له أحدُها في كسْرٍ في الذراع ومتاعب كبيرة لكِ. وتسبب الثاني في كسْرٍ لطفلٍ آخرَ نعْرفُ جيّدًا أبويْهِ. لذلك كان خجلُنا كبيرًا خاصّة عندما قابَلَنا أبواهُ بتهوين الأمْرِ.
.........................................
ذلك الولد الذي تمنّيْتِ أن يكون مصدرَ أنْسٍ لكِ عندما يكبر الأوّلان ويذهبان إلى الجامعة، ثمّ إلى الحياة، ولم تعودي قادرة، في وقتٍ ما، على تحمّل المتاعبِ التي يسبّبُها لكِ، هو الآن يدرس الطبّ بروسيا منذ إحدى عشرة سنة. وفي نهاية هذه السنة سوف يعود بصفة نهائية طبيبا مختصّا. اعرف أنّك ذهبتِ وفي قلْبِكِ خوفٌ على مستقبلهِ لأنّه، عندما كنتِ معهُ، كانَتْ نتائجُهُ الدراسيّةُ تنخفِضُ من سنةٍ إلى أخرى، بصفةٍ أقلقتْكِ لأنّكِ لمْ تعرفي ذلك مع أخته وأخيه اللذيْن سبقاهُ. انشغلْتِ كثيرًا وهوَ يعْترفُ بأنّهُ لمْ يهتمَّ ببعض الموادِّ الدّراسية كما كنت تريدين. يعترفُ بأنّ بعض الأساتذة حبّبوه في مادّتهم الدراسية والبعض الآخر نفّروهُ منها، وكان ينبغي أن يفصل بين المادّة ومدرّسها لِينْجحَ بمعدّل مرتفعٍ يسمح له بالحصول في التوجيه الجامعيِّ على الشعْبة التي يريدُ ويجنّبَ أباهُ مصاريفَ الدّراسةِ في الخارجِ.
أحسّ نحو ابننا هذا بعطفٍ خاصّ لأنّه حُرم منكِ في الوقتِ الذي كان في حاجةٍ كبيرةٍ إليكِ. فأنتِ أمّهُ وتُحبّينهُ. وليْسَ مثلَ الأمّ تتحمّل عدمَ استقرارِ أبنائها الدراسيَّ أو السّلوكيَّ أوالمزاجيَّ. أرى هذا الحرمانَ منكِ في عينيْه وفي كلامه وفي كلّ سلوكاته بالبيت عندما يجيءُ في الصّيف أحيانا. أحاول، بما أوتيتُ، أن أوفّرَ له ظروفا مقبولةً لكيْ يستطيعَ البقاءَ معي كاملَ الفتْرةِ. ولكن اطمئني، فهو قدْ كبُرَ، وأصبحَ مهتمّا كثيرا بمستقبله الدراسيّ. ويقدّر تضحيات أبيه من أجل أن ينجح في دراسته وحياته ويحقّق الأهداف التي يصبو لها. فالآن لا يمكن أنْ يعوّلَ إلاّ على نفْسه. فلا أمّهُ موجودةٌ ولا أبوهُ بجانبه ليساعده على حلّ الإشكالاتِ التي قدْ تعْترضهُ. لا تجزعي، فهو في أحسن حالٍ والنجاحُ دوْمًا حليفُهُ. ولتتأكّدي من ذلك، اعلمي أنّهُ، استحسانا لنتائجه، عيّنوهُ مساعدا في التدريس بكلية الطبّ هناك.
ديسمبر 2020 ومارس 2021 وفيفري 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا