الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وَجْدَة

عبد الله خطوري

2023 / 2 / 24
سيرة ذاتية


لفترة مديدة، أصبحتُ تالفا لا أعْرِفُنِي ولا أفقه ما يدور حولي مُذْ رَأَتْ عيناي ملامح المدينة التي كُنْتُني فيها منذ سنين خَلتْ.اختلطتِ الأزمنة في مداركي.ما عدتُ أميزُ فضاءاتٍ كنتُني في ثناياها أتلولبُ أنثني أخبُّ بنزق طفولة متحفزة لا تعرف الوهن أبدا. وبدأتُ أمْلأُ أوقاتي المبتَسَرَة المقتَطَعَة من نَدَّاهة الحاضر الذي لا ترحم تكتكاتُه الجبّارة تودي بنا إلى مهاوي نهاية تُقبلُ بسرعة البروق والجنون وصَلف المَنون، بدأتُ أتسكعُ فيما خلتُه أمكنة أفقهُها تفقهني..وجدة مدينة الذين مكثوا آستقروا والذين قدموا والذين رحلوا عبروا مروا سَلَّمُوا أو لم يُسَلموا..في حي كولوش كان المبتدأ والمنتهى.منه أنطلق إليه أعودُ أقطع سكة الحديد أعبرُ أحياء "بوديرْ،كُودَّان،الطُّوبَا..." أمرُّ على الديار ديار ليلى أقبلُ ذا الجدارَ وذا الجدارَ وما حب الديار شغلن قلبي ولكن حب من سكن الديارَا..(*)أمر حذاء إعداديات الجاحظ والبكري وأسماء وباستور وسينما كوليزي والمالكي وفوكس ثم شوارع الحداثة وأزقة العتاقة أمرق مسرعا كما كانت عادتي ذات خريف ذات شتاء ذات ربيع ذات مصيف من عُمْر قَضَى آنتهتْ أقداره النافقة..كنتُ دائم التجوال والدوران دون غاية دون هدف.. من المدينة البالية العتيقة إلى الشوارع الجديدة إلى الدروب الضيقة الملتبسة وهكذا..أدخل من باب الخميس أو باب الغربي وأخرج من باب سيدي عبد الوهاب ألِجُ الجوطية القديمة حيث أفيشات بوستيرات عملاقة لأفلام السند والهند معروضة ملصقات على حيطان سميكة يبحلق في ألوانها آلمبحلقون.. أتابع عروض المَدَّاحين والحلايقية وأهل الفرجة، أزاحم المُتسولين والعجزة يرفلون في أطمار وجلابيب فضفاضة مُرَقعة، ألاحظ نساء بلا معالم بلا تضاريس واضحة متلحفات بدثار إيزار الحايك الأبيض الذي لا يُظهر رداؤه العلوي إلا مقلةً وحيدة تباشر العلائق مع الآخرين مع الأشياء مع الحركة بدَعة مشرعة على أحلام لا نهاية لآمتداداتها الرحيبة...قُرب موقف الحافلات الحمراء القانية، كان طلبة الجامعة يتسابقون على شراء أكلة "كَـرَانْ"الأصفر المصنوع من طحين الحمص المخلوط بالبيض. كان يحزُّ في نفس الطفل الذي كُنْتُهُ أنْ يكون جيبه فارغا في مثل تلك اللحظات الحساسة، فالنقلة من كَران الساخن اللذيذ إلى المشروب الحلو البارد المثلج نقلة حادة نفاذة مثيرة لأمعاء وريق وأشداق كل جائع.وداخل البوابة كانت روائح دخان مصارين"البودان"تتعالى بعجرفة وخُيلاء المتمنعين المتكبرين.."بزاف عليكْـ"..كانت تقول رائحة الشواء والقلي والبخار والفوار ضاحكة ساخرة من أفواه مفتوحة مشدوهة تتجرع ريقها تبتلعه تسرطه تهضمه في أحلام يقظة غارقة في لا قرار غارِقَة في عوالم قزحية أكثر إشراقا من ألوان الورد والأقحوان وأغاني الشرق البعيد على شاشات سينما النصر وفوكس والمعراج كوليزي لوباري المَلكي.سارقا زمنا ليس لي، كنت أستغل وقتها عشيات خميس مفرغة من حصص آلثانوية، أفر إلى قاعات الخَيَالة، أناور آلزحام، أتوغل، أتشابك أتغلغل في آلردهات في آلظلام أتعثر في خطاي في رؤاي وأنا غاطس إلى قنتي في الغرفة المعتمة أشاهد صورا متحركة تتتابع أمام مقلتي أحلم بتقطيبة ليفان كليف سيجارة إيستيوود عنف برونسون حُب آميتاب باشان آلصوفي صرخة بروسلي رعونة شاشي كابور في آلعالم آلمسحور ووسامة عبير كلمات كآلشعر آلشفيف ترفل هائمة في نعيم لن يكون في يوم من الأيام لي أبصر طيف مرغوبتي تتقمصني في خيال كالمحال أترنح في حواشي قزح على عجلة نار من بخار هواء أطير ومحبوبتي المتوهمة هيماميلاني التي أحبها وتحبني يحضنني ساعداها تلتصق ببدني ورائي تشد من عضدي آلمفتول أغمض محجري أتيه أشدو أصدح..محبوبة محبوبة أو ميري محبوبة..كابي كابي ميري ديلمي خيالها تاهي..جائرا أصيح..هاااا لا أبالي بآلأيام بالليالي..لكن، سرعان ما يستيقظ الحالم في مهامهي الشاردة على صدمة واقع لا يرتفع..منظر البائسين المشردين السّعاة ونصف العُراة الجوالين ومَنْ لا مأوى لهم النازحين من فضاءات حواشي خيم "العْشَايَشْ"ودور الصفيح ومطارح نفايات الواد الحار بُوخْرَارَبْ التي طالما نهلتُ منها الكثير والكثير من العذاب سارحا وثُلة من صغار دور قرميد ثكنة الكرطي بلمهيدي قطيعا من ماعز أرعن لا يثبت في مكان أبدا.نلملمه في تجمعات جهة مروج روابي خضراء حذاء"سَدْرة بوعمود"تحرسها آمرأة بألف رجل حادة المزاج كنا نطلق عليها"الوزاينة"(**)متأبطة في كتفها القوي سلاحا قنص تهدد به الطالع والهابط، دائمة الصراخ والعويل دائمة الزعيق.كنا نتحاشى ما أمكننا معاينتها مهتاجة أمامنا والكلاب تتبعها متجنبين ما لا تحمد عقباه..كان البائسون في الزحام يزحفون في أكوام القذارة يبحثون في بقايا البقايا وسقط المواقد وفتات الأشداق اللاهثة عن فضلة لقمة لسد الرمق..أطفال صغار.نساء بأطمار مرقعة.شيوخ ومُعَوَّقُون وعَجَزَة ترتعش أطرافُهم من عناء الإرهاق..آه..لَكَمْ كانتْ وجوهُ أشقياء ذاك آلزمن السبعيني الثمانيني آلصعب العنيد بائسة..!!..أفواه كبيرة مفتوحة فاغرة فارغة تنهش نفايات آلبقايا تلتهم الأزبال بنَهَم وشَرَه كبيريْن..ورغم بشاعة ما كنتُ أرى كل صباح كل مساء، فإني لكثرة آعتيادي عليه، لَمْ تعدْ تصيبني الدهشةُ ولا التقزز ولا القَرَف ولا الغضب..لا إحساس البتة..إنها حياة تُعاشُ وكَفَى..هكذا فَكر الطفل الذي نما بعد ذلك غدا فتى شابا غادر آبتدائية "زيري بن عطية"إلى إعدادية عقبة وثانوية "إيسلي"وجامعة محمد الأول..وحال هؤلاء وغيرهم لم يتغير في ذاكرتي..أمسى جزءا من ديكور المدينة المُمَيز، ودونَه لن تعرف طعما أو نكهة للحركة داخلها..إنَّ حُضورَ آلآفَةِ والبؤس وآلغموض وآلفرح وآلقرح ومفارقات الواقع الذي لا يرتفع في آلمدن القديمة آلأصيلة آلعتيقة للِي فْشِي شْكَلْ شيء لازم وطقس ضروري من طقوسنا اليومية التي بدونها لا يستقيم شيء أبدا..إن الاستثناء والعوج والانحراف والشذوذ والخروج عن الجادَّة هو عين الصواب في مدن تراكَمَ فيها آلزمن آستوى بعضه على بعض ترسبت آلحقب كما تترسب كتل تضاريس أحشاء آلأرضين تتجمد تتجعد تتغضن عبر السنين وآلمواسم وآلقرون.. ودون ذلك، لن نعرف معنى لوجودنا داخل مهامهها آلمتشابكة.. نحن هكذا جئنا سرنا عشنا نعيش نموت وكل شيء بخير وعلى ما يرام كما كان أمسِ وكما هو آلحال اليوم وغدا وفي كل آلأزمنة…عرفتُ فيما بعد أن العادة ربما هي الكامنة وراء صبر المُبَأسين..العادة..نعم..كل شيء يُتعود عليه حتى المآسي وآلمسرات وآلأفراح وآلأقراح والمفارقات آلمتضاربة..تبا..صدقتَ دوستويفسكي..هكذا كنتُ أقول أقنع نفسي بخواطري وأنا طالب أبحث في كتب شتى تعمق معرفتي بكينونتي وكينونة ما يحيط بي..لا حول وآخلاص..هكذا كنتُ كذلك كانت مدينيتي…

☆إشارات:
*وجدة:مدينة مغربية عريقة تقع في شمال شرق البلاد على الحدود المغربية الجزائرية تبعد حوالي ستين كلم عن البحر الأبيض المتوسط شمالا....
**بطبيعة الحال هما بيتان لقيس بن الملوح، فمعذرة يا مجنون آلأعين آلحور.
***نسبة إلى مدينة(وزان)الواقعة وسط المغرب جهة جبال الريف








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد 9 أشهر من الحرب.. ماذا حدث في غزة؟


.. أبو عبيدة: محور وسط القطاع المسمى نتساريم سيكون محورا للرعب




.. 10 شهداء على الأقل في استهداف الاحتلال لمنزل مأهول في منطقة


.. قطاع غزة.. حياة الأطفال مهددة بسبب نقص الدواء والغذاء




.. تفاعلكم | صدمة.. حقائب البراندات العالمية لا تكلف صناعتها أ