الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايتان طلال حسن الهارب

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 2 / 24
الادب والفن


حكايتان

طلال حسن




الهارب













" 1 "
ــــــــــــــــــــــ
بعد حوالي الشهر ، من الهروب والتخفي ، وصل الأمير عبد الرحمن على حصانه متعبا ، إلى هذه المدينة الصغيرة ، التي تقع على حافة الصحراء .
ومضى على حصانه ، يبحث عن خان متواضع يبات فيه ليلته ، قبل أن ينطلق في الصحراء ، ويذوب في آفاقها الرحبة ، فلا يصل إليه أعداؤه ، الذين يبحثون عنه، وقد رصدوا جائزة لمن يدلهم عليه .
وعثر على خان ، في أبعد طرف من المدينة ، وترجل عن حصانه أمام بوابته ، وجاءه صاحب الخان ، يسبقه كرشه الضخم ، ومعه خادم عجوز ، فقال له : أريد غرفة صغيرة .
وقال صاحب الخان : يبدو أنك وحدك .
وقال الأمير : كما ترى ، وسأبقى هنا ليلة واحدة ، وربما أكثر .
والتفت صاحب الخان إلى الخادم العجوز ، وقال له : خذ الحصان إلى الإسطبل ، وقدم له الماء والعلف ، فهو أيضاً متعب وجائع .
ومدّ الخادم العجوز يده ، وأخذ زمام الحصان من الأمير، ومضى به إلى الإسطبل القريب من الخان ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة .
ومشى صاحب الخان أمام الأمير ، واجتاز به البوابة إلى الداخل ، وهو يقول له : تعال أريك الغرفة ، التي ستبيت فيها هذه الليلة .
وقاده إلى غرفة صغيرة ، في آخر الخان ، وأراه الغرفة، وقال له : هذه الغرفة تناسبك .
وتطلع الأمير إلى أطراف الغرفة ، وقال : نعم إنها صغيرة ونظيفة ، أشكرك .
ونظر صاحب الخان إليه ، وقال : لدينا طعام في الخان، سآتيك بما تحب إذا أردت .
وقال الأمير : نعم ، إنني بحاجة إلى الطعام فعلاً ، أرسل لي رغيفاً من الخبز ، مع قليل من اللبن .
واتجه صاحب الخان إلى خارج الغرفة ، وهو يقول : سأرسل لك الطعام قبل المساء .
وقبيل المساء ، جاءه خادم برغيف من الخبز ، وقعباً مليئاً باللين ، فانكب الأمير على الطعام ، والتهمه كله ، فهو لم يأكل شيئاً منذ أكثر من يوم .
وأوى إلى فراشه ، بعد أن أحكم إغلاق باب الغرفة ، وتأكد مما يحمله خفية ، والذي شده كحزام داخلي حول بطنه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .

" 2 "
ـــــــــــــــــ
أفاق الأمير صباح اليوم التالي ، لكنه لم ينهض من فراشه ، إنه مازال يشعر بالتعب ، صحيح أن حاله أفضل من البارحة ، لكن جسمه ما زال بحاجة إلى المزيد من الراحة ، خاصة وأنه مقبل على سفر شاق ، لا يعرف بالضبط نهايته .
ونهض الأمير ، وأنصت إلى ما يدور خارج الغرفة ، وحين اطمأن إلى أنه ليس هناك ما يريب ، فتح الباب بهدوء ، وأطل إلى الخارج ، نعم كلّ شيء على ما يرام، فخرج من الغرفة ، وأغلق بابها ، ومضى إلى السوق ، ليتأكد من أن الأوضاع مطمئنة في المدينة .
ومشى في شارع المدينة الوحيد ، بدكاكينه الفقيرة المتواضعة ، دون أن يتلفت حوله ، لكن عينيه الحذرتين المرتابتين ، كانتا ترصدان ما حوله ، وشعر ببعض الارتياح للناس العاديين ، الذين كانوا يسيرون في الشارع ، أو يتوقفون عند الدكاكين .
وبينه وبين نفسه ، قرر أن يبقى في هذه المدينة ، يوماً أو يومين آخرين ، حتى يرتاح تماماً ، مما عاناه من الهرب والتخفي في هذه الفترة ، ثم يواصل هربه إلى خارج البلاد عبر الصحراء .
وتباطأ الأمير ، واضطربت خطواته ، عندما لمح عينين سوداوين ثابتتين تتطلعان إليه ، عبر الناس المتزاحمة وسط الشارع ، ورمقه بنظرة سريعة ، ثم أشاح عنه ، كان رجلاً ربما تجاوز الأربعين ، غامق البشرة ، مفتول العضل ، أهو عبد ؟ من يدري .
ورغم أنه لم يتذكره ، وربما كان لا يعرفه ، إلا أنه لم يرتح لعينيه السوداوين الثابتتين ، لعل هذا اللعين يعرفه، وتعرف عليه هنا ، و .. وتوقف برهة ، ثم تراجع خطوات ، ثم انسلّ عائداً إلى الخان .
ومرّ بصاحب الخان ، فتوقف عنده لحظة ، وقال له : أرجوك ، مرِ الخادم أن يُعدّ لي حصاني .
فقال صاحب الخان : كما تشاء .
وأسرع إلى غرفته ، ولملم على عجل حاجياته البسيطة منها ، ثم عاد إلى صاحب الخان ، وأعطاه أجرة الغرفة، فقال له صاحب الخان : حصانك جاهز .
وأسرع الأمير إلى خارج الخان ، وهو يقول له : أشكرك .. أشكرك جداً .
وفي الخارج ، قدم الخادم العجوز للأمير حصانه ، وقد أعده له ، فمنحه مبلغاً من المال ، ثم امتطى حصانه ، وانطلق به مبتعداً عن الخان .
وما إن ابتعد الأمير ، وهو على حصانه ، عن المدينة الصغيرة ، وعن العينين السوداوين الثابتتين والبشرة الغامقة ، حتى تنفس الصعداء ، وتطلع إلى الأمام بشيء من الارتياح ، حيث الصحراء تمتد بعيداً ، لا تحدها إلا السماء ، البعيدة الصافية الزرقاء .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
أبطأ الأمير قليلاً ، وهو على صهوة حصانه ، حين غابت المدينة في الأفق ، ولم يعد حوله وأمامه غير الصحراء المترامية ، وها هو ، بعد هذه المعاناة ، قاب قوسين أو أدنى من النجاة .
آه ما أقسى حياة الهرب ، ومواجهة الصعاب ، وخاصة لأمير مثله ، عاش حياته كلها في القصور الآمنة ، لم يصدق أنه يمكن أن ينجو ، هو الذي لم يعانِ في حياته ، من مثل هذه الصعاب والمشقات ، التي واجهها خلال أيام هربه ، والتي تربو على الشهر .
وحين سقطت المدينة في يد الأعداء ، وقتلت زوجته وولداه ، استطاع هو وحده ، وبشق الأنفس ، أن يفلت من القتلة ، ويهرب من القصر ، ولم يستطع أن يأخذ معه غير بعض الذهب ، وجوهرة نادرة ، كان قد اشتراها لزوجته بمائة ألف دينار .
ولاحت له من بعيد ، نخلة باسقة منعزلة ، لا يعرف كيف نمت في هذا المكان من الصحراء ، وما إن وصل إليها ، حتى برز له رجل أربعيني ، غامق البشرة ، ومدّ يده ، وأمسك بقوة زمام حصانه .
وحدق الأمير في الرجل ، وقلبه يخفق بشدة ، آه إنه نفس الرجل ، الذي حدق فيه في السوق ، بعينية السوداوين الثابتتين ، فقال له بصوت مضطرب : أيها الرجل ، اترك زمام حصاني .
وابتسم الرجل ، وقال : هذا الحصان يحمل كنزاً .
ونظر الأمير إليه ، وقال متلجلجاً : أنا .. أنا لا أعرفك .
واتسعت ابتسامة الرجل ، وقال : أنا أعرفك .
ولاذ الأمير بالصمت ، وهو يكاد ينهار ، فقال الرجل : أنت الأمير عبد الرحمن .
وردّ الأمير متلجلجاً : كلا ، لست الأمير عبد الرحمن ، أنت واهم ، إنني رجل عابر .
وشدّ الرجل زمام الحصان بقوة ، وقال : بل أنت هو الأمير ، وقد رصدت عشرة آلاف دينار ، لمن يقبض عليك ، ويسلمك لمن تهرب منهم .
وجمد الأمير فوق صهوة حصانه ، ولاذ بصمت مطبق، فتابع الرجل قائلاً : تعرف ، أيها الأمير ، إنني عبد ، وبمثل هذا المبلغ ، أشتري حريتي ، وأعيش بسعة حياتي كلها .
ومدّ الأمير يده إلى حزامه ، وأخرج الجوهرة ، وأراها للرجل ، وقال له : هذه الجوهرة اشتريتها بمائة ألف دينار ، خذها ، واترك زمام حصاني .
ونظر الرجل إلى الأمير ، الذي كانت عيناه اليائستان متعلقتين به ، تنتظران ما سيقوله ، والسحب المضطربة تتجمع فيهما ، ثمّ قال بصوت هادئ : أيها الأمير ، أنا أعرفك ، أنت رجل كريم ، وأريد أن تعرف ، أن بيننا نحن العبيد من هو كريم أيضاً .
ورفع يده عن زمام الحصان ، وتراجع عنه عدة خطوات ، وقال : أنت هارب ، احتفظ بجوهرتك ، لعلك تحتاج إليها ، اذهب يا سيدي ، ولترافقك السلامة .

25 / 4 / 2020



















سعدى












" 1 "
ــــــــــــــــ
قبل أن أنام ، وعلى عادتها كلّ يوم ، راحت أمي التي أصابها المرض ، تتحدث عن الماضي ، وهذا اليوم كان حديثها عن موضوعها الأثير ، عن أبي .
وقالت أمي بصوتها الشائخ المتعب ، وربما كانت تحدث نفسها ، أكثر مما كانت تتحدث إليّ : كان أبوك صياداً ماهرً ، لا يجاريه في ذلك أحد من القرية .
وصمتت أمي ، ثمّ التفتت إليّ ، وقالت : عمرو ..
أجبتها مبتسماً : نعم أمي .
فقالت : كان أبوك يعرف ، أنني أحبّ لحم الغزلان ، فكان يخرج إلى الصحراء ، ولا يعود إلي البيت إلا ومعه غزالة لي .
فقلتُ لها : سأخرج غداً إلى الصحراء ، يا أمي ، وآتيك بغزالة ، كما كان يفعل أبي .
واعتدلت أمي في فراشها ، وقالت لي : لا يا بنيّ ، لا يا عزيزي ، لا أريدكَ أن تذهب إلى الصحراء ، إنها خطرة للغاية ، ابقّ إلى جانبي
ومع الأيام ، اشتدّ المرض على أمي ، وعبثاً حاولتُ أن أعالجها ، وكأنما كانت مشتاقة إلى أبي ، وتستعجل اللقاء به ، فانطفأت كما ينطفئ القنديل ، وتركتني في عتمة ، ليس فيها بصيص من الضوء .

" 2 "
ـــــــــــــــ
لم أطق البقاء طويلاً في البيت ، الذي خلا من أمي ، وبقيتُ فيه وحدي ، فامتطيتُ حصاني ذات صباح ، وقد تمنطقتُ بسيفي ، وانطلقتُ لأتوغل في الصحراء ، حيث الفضاء الواسع ، الذي لا تحده حدود .
وصادفني جاري عبد الله ، وأنا أخرج من القرية ، وحاولتُ أن أتحاشاه ، وأمضي في طريقي ، دون أن أوجه له كلمة ، لكنه ناداني قائلاً : عمرو ..
وتوقفت عن السير بحصاني ، وأجبته باقتضاب قائلاً : أهلاً عبد الله .
ونظر إليّ عبد الله متسائلاً ، وقال مبتسما : خيراً يا أخي، أراك على حصانك في هذا الصباح ، وقد تمنطقت بالسيف ، إلى أين أنت ذاهب ؟
فأجبته ، وأنا فوق حصاني : إلى الصحراء ، أريد أن أصطاد غزالة .
وابتسم عبد الله ، وقال مازحاً : هناك غزلان كثيرة ، قرب وادي السعالى ، أنصحك أن لا تقترب منه ، فهو شديد الخطورة .
فلكزت حصاني ، ومضيتُ مبتعداً ، وأنا أردّ عليه قائلاً: جدتي كانت تتحدث عن السعالى في الصحراء ، مثلما تتحدث عنها أنت الآن ، وعندما سأشيخ مثلها ، ربما تحدثتُ مثلما كانت تتحدث .

" 3 "
ـــــــــــــــــ
بعد منتصف النهار ، وقد تقدمت في عمق الصحراء، واقتربتُ من وادي السعالى ، الذي حذرني منه جاري عبد الله ، لمحت غزالة من بعيد .
لم تهرب الغزالة مني ، حين توجهتُ إليها بحصاني ، وإنما ظلت في مكانها ، وبدا لي أنها كانت تتشاغل عني، دون أن يبدو عليها الخوف .
وأعددتُ القوس والنشاب ، وما إن صارت على مرمى مني ، حتى وثبت برشاقة ، وأطلقت سيقانها للريح ، وحثثتُ حصاني للحاق بها ، لكنها سرعان ما غابت عني ، وكأن الرمال انشقت وابتلعتها .
وأبطأتُ قليلاً ، وأنا أتلفتُ حولي ، وأدقق في الصحراء المترامية ، وخفق قلبي بشدة ، حين جاءني صوت فتاة من ورائي يهتف بي : عمرو .
وشددتُ زمام حصاني ، حتى توقف متململاً ، وكأنه يحس بتوتري واستغرابي ، لكني لم ألتفتْ ، وأصغيتُ ملياً ، لعلها الريح ، لكن الصوت نفسه جاءني ثانية : إنني أناديك ، يا عمرو .
والتفتُ نحو مصدر الصوت ، وهالني أن أرى فتاة شابة ، تقف متطلعة إليّ ، من أين انبثقت هذه الفتاة فجأة ؟ أيعقل أنني مررتُ بها ، دون أن أراها ؟
واستدرتُ بحصاني ، وسرتُ به نحوها ، وقبل أن أصل إليها ، حدقتْ فيّ ، وقالت : ستسألني ، وهذا من حقكَ ، من أين أنتِ ؟
وتطلعتُ إليها ، وقلتُ : لقد ناديتني باسمي ، عمرو .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : لأن اسمك عمرو .
وصمتت لحظة ، ثم أشارت إلى حيث تشرق الشمس ، وقالت : إنني من هناك .
ونظرتُ حيث أشارت ، ثم تطلعت إليها ، وقلتُ : لقد حذرني صديق من التوغل في هذه المنطقة .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : وها أنت قد توغلت .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : رأيتك منذ أن دخلت المنطقة ، وأعجبتني هيأتك ، وشجاعتك ، وتعاملك مع حصانك القويّ الجموح .
ولذتُ بالصمت لحظة ، ثم قلتُ : المساء يقترب ، وستغيب الشمس ، لدي طعام جئتُ به من قريتي ، لنأكل معاً ، ثم نتبادل الحديث إذا أردتِ .
وصمت للحظة ، ثم سألتها : ما اسمكِ .
أجابت بصوت هادئ : سعدى .

" 4 "
ــــــــــــــــــ
يبدو أنّ لليل هنا سحره ، ليل كأن شاعراً ، من هذه الصحراء ، نقشه بكلماته ، صمت عميق ، نجوم بعيدة ، قمر معلق في الأفق ، وسعدى إلى جواري .
تبادلنا الحديث طويلاً ، والأحرى أني تحدثتُ كثيراً ، لا أدري لماذا ، حدثتها عن أبي ، بعيني أمي ، وحدثتها عن حبّها العميق له ، وقد ظلّ إلى جانبها ، حتى بعد رحيله ، وظلت تتحدث إليه ، وتناجيه ، إلى أن رحلت هي الأخرى .
صمتُ ، وكانت هي صامتة ، وملتُ عليها ، والقمر ينظر إلينا من بعيد ، وهمست لها : سعدى ..
ابتسمت فرحة ، وكأنها تعرف ما سأقول ، فتابعت الهمس : لنتزوج ، يا سعدى .
قالت سعدى ، وهي مازالت تبتسم : أنا لا أطيق الحياة إلا هنا ، يا عمرو ..
هززتُ رأسي موافقاً ، فتابعت قائلة : سأبقى إلى جانبك، مادمتَ تريدني ..
وقلتُ لها : سأريدكِ دائماً .
ونظرت إلى حيث تشرق الشمس ، وتابعت قائلة : وعليك أن تحميني من البرق ، يا عمرو .
ثم أشارت إلى حيث تشرق الشمس ، وقالت وقد انطفأت ابتسامتها : إذا أبرقت هناك ، ولم تحمني ، ومسني شعاع من ذلك البرق ، أطير من هنا ، ولن تجد لي أثر في أي مكان .
مددتُ يديّ ، وأطبقت على كفها ، وأنا أقول لها : سأحميكِ بحياتي ، يا سعدى .

" 5 "
ــــــــــــــــ
مرت الأيام والأسابيع والشهور ، وأنا أعيش هانئاً مع سعدى ، في خيمة صغيرة ، وسط هذه الصحراء القفر ، وكنتُ أخرج للصيد أحياناً ، وغالباً ما أعود إلى الخيمة، دون أن أصيد أي شيء .
لكني ـ ويا للعجب ـ أجد سعدى ، قد أعدت سفرة شهية من الطعام ، وقد سألتها مرة : سعدى ، من أين هذا الطعام اللذيذ ؟
فتضحك سعدى ، وتجيب مازحة : أنا صيادة ماهرة ، يا عمرو .
وتنظر إليّ بعينيها الجميلتين ، وتتابع قائلة : لقد علمني أبي الصيد ، وأنا طفلة صغيرة .
وألوذ بالصمت ، وفي داخلي تتردد أسئلة عديدة ، لكني كنت أكتمها ، فلم أسألها من هو أبوها ، ومن هي أمها ، ومن أي الأقوام هم ، وحتى لو سألتها ، لأجابتني بمزحة أبعدتني عما سألتها عنه .
وذات يوم ، سألتها ، والقمر يطل علينا ساطعاً : سعدى، أتحنين إلى أهلك ؟
وقطبت سعدى ، وبدل أن تردّ على سؤالي ، قالت : يبدو أنك أنت تحنّ إلى حياتك السابقة .
لذت بالصمت ، وقد رأيت عينيها تغيمان بالحزن والتأثر، وسرعان ما نهضت ، ومضت صامتة متكدرة ، إلى داخل الخيمة .

" 6 "
ــــــــــــــــ
وقفتُ بباب الخيمة ، في اليوم التالي ، وسعدى ترتب الفراش في الداخل ، ونظرتُ إلى السماء ، وقلتُ كأنما أحدث نفسي : في السماء اليوم ، غيوم ثقيلة سوداء ، وبوادر عاصفة تلوح في الأفق .
ولاذت سعدى بالصمت ، إنها مازالت متأثرة ، مما دار بيننا ليلة البارحة ، والقمر يطل علينا ، لعله الحنين إلى أهلها ، أو .. من يدري .
وخرجت سعدى من الخيمة ، دون أن توجه إليّ كلمة واحدة ، وألقتْ نظرة سريعة إلى الغيوم القاتمة في السماء ، وقالت : قد تمطر بعد قليل ، من الأفضل أن لا نبتعد اليوم عن الخيمة .
وعادت سعدى إلى الخيمة ، دون أن تنظر إليّ ، وبدل أن أتبعها إلى الداخل ، مضيتُ أتفقد الحصان ، الذي ربطته إلى وتد خلف الخيمة .
وتوقفت قرب الحصان ، الذي راح يحمحم حين رآني ، ومددتُ يدي ، وأخذت أمسد على رأسه ورقبته ، وهو مستسلم ومرتاح للمساتي له .
وهطل المطر مدراراً ، وتناهت إليّ دمدمة العاصفة من بعيد ، وهممتُ أن أعود إلى الخيمة ، حين خرجت سعدى ، ووقفت تحت شآبيب المطر المنهمر .
وهتفت بها : سعدى ، المطر شديد ، عودي إلى الخيمة ، أخشى أن تبرق في أية لحظة .
وبدل أن تعود سعدى إلى الخيمة ، رفعت يديها إلى السماء ، والمطر ينهمر بشدة ، وفجأة التمع البرق ، وأعشى نوره الشديد عينيّ ، حتى لم أعد أرى شيئاً ، ثم انفجر الرعد ، كأنه بركان .
وما إن هدأ البرق والرعد ، وصار بإمكاني أن أبصر ، حتى أسرعت إلى حيث كانت تقف سعدى ، لكني لم أجدها ، وتلفت حولي كالمجنون ، وصحتُ بأعلى صوتي ، والمطر ينهمر فوقي كالشلال : سعدى ..
لم ترد سعدى عليّ ، ودرت حول الخيمة ، وركضت تحت المطر يميناً ويساراً ، وأنا أصيح بأعلى صوتي كالمجنون : سعدى .. سعدى .. سعدى .
وتوقف المطر ، وتناهى إليّ صوت حصاني ، كأنه يناديني ، فتوجهت إلى الخيمة ، بخطى ثقيلة ، وأنا أكاد أتهاوى على الأرض ، ورأيت حصاني في مكانه ، ينظر إليّ مشفقاً ، وتوقفت مصعوقاً ، إذ لم يكن هناك أي أثر للخيمة ، التي عشت فيها مع سعدى .

" 7 "
ــــــــــــــــ
امتطيتُ حصاني ، وحثثته على السير ، وقد انقشعت معظم الغيوم من السماء ، وأطلت الشمس ، وغمرت بضوئها ودفئها أرجاء الصحراء .
وسرعان ما مضى حصاني خبباً ، متجهاً إلى قريتي ، التي خرجت منها ، وعشتُ بعيداً عنها مع سعدى ، في خيمة على مشارف وادي السعالي .
وعند مشارف القرية ، تناهى إليّ صوت ما زلتُ أذكره، وإن بدا لي أنني لم أسمعه منذ مدة ليست قصيرة ، إنه جاري عبد الله ، يخاطبني ضاحكاً : أهلاً عمرو .
وتوقفت بحصاني ، والتفتُ إليه ، حقاً لقد اشتقتُ إليه ، رغم أنني غالباً ما أستثقله ، وقلتُ له بصوت هادئ : أشكرك ، يا عبد الله ، أرجو أن تكون بخير ، أنت وأولادك ، وأهل القرية جميعاً .
وحدق عبد الله فيّ مندهشاً ، ثم ضحك ، وقال : حسبت أنك ستعود من الصيد بغزال ضخم ، عندما رأيتك تذهب للصيد في الصحراء ، صباح اليوم .
ولذتُ بالصمت ، وقد اتسعت عيناي ، صباح اليوم ! ماذا جرى ؟ ونظرتُ إلى عبد الله ، وأردت أن أتأكد منه حقيقة الأمر ، لكني تذكرت تحذيره لي ، من وادي السعالى والجن ، فلكزت حصاني ، ومضيت إلى البيت، دون أن أردّ على عبد الله بكلمة واحدة .

9 / 5 /








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??