الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزل في الأزقة العُلوية

دلور ميقري

2023 / 2 / 26
الادب والفن


السُحب، احتلت صفحة السماء في ذلك اليوم الشتويّ، الكئيب. وكان في وسع " مستو " يومئذٍ أن يشمّ رائحة المطر، حتى قبل تساقطه. فلم يعُد ثمة جدوى من تجوله في الحديقة، فقررَ مغادرتها حالاً. حديقة تشرين، هذه، كانت مأوى لعدد كبير من العائلات النازحة، وذلك منذ السنة الثالثة للثورة. كانوا يبيتون في الحديقة ليلاً تحت أسقف اعتباطية، ونهاراً يتلقون صدقات المحسنين أو يسعون بأنفسهم للتسول في أماكن أخرى من المدينة.
" آه! هيَ ذي امرأة مناسبة، أخيراً "، فكّرَ بشيءٍ من الأمل. ما عكّرَ بهجته، أنها كانت برفقة صبيّ صغير. بالرغم من أن مستو يتجاوز سنّه السبعين، فإن ملامحه ما زالت محتفظة ببعض الوسامة. لكنه مُدركٌ أنها ليست الوسامة، مَن أوقعت بيده ثلاث نساء منذ بداية موسم النزوح إلى العاصمة: إمتلاكه لمنزل، كان هوَ ورقة الحظ. وكان منزله يقع في الأزقة العليا، المنحوتة في جبل قاسيون من جهة حي الأكراد ( ركن الدين ).
عقبَ وفاة أم أولاده، كان مستو يعتقد أنه سيمضي بقية حياته بلا إمرأة. لقد عاش معها عُمراً، وكانت هيَ التي تشقى داخل وخارج البيت. لم يعمل مرة قط، اللهم إلا أن تكون السرقة عملاً. بيد أنه تخلى عن هذه المثلبة، طالما أنه كافٍ، راتبُ امرأته من عملها في مطبخ مدرسة أبناء الشهداء. أما تعاطيه الحشيش، فإنه لم يَعدّها مثلبة وإنما نعمة. ومع أنّ شعورَ الوفاء غريبٌ عن طبعه، فقد آلمه مؤخراً موتُ آخر أصحابه. أما كيفَ يتدبر أمورَ معيشته، غبَّ رحيل امرأته، فإن أولادهما تكفلا ذلك. ولا بد أنه يشعر بالامتنان لآية " البر بالوالدين "، كون أولاده التزموا بها؛ بحيث أن بعضهم كان يقتطع اللقمة من فم أسرته. جلّ تلك المساعدة، كانت تصله من ابنتيه، المقيمتين في ألمانيا.
" حقاً ما يُقال، بأنّ نساء حمص هن أجملُ نساء سورية! "، قال لتلك المرأة النازحة بعدما حمَلها على القبول بالعيش تحت سقفه. هذه الجملة، نطقها عفواً لانبهاره مِنْ حُسن مَنْ ستمسي امرأته الجديدة. كان مبهوراً، لدرجة أنه سلى أمرَ امتعاضه من الصبي الصغير. هكذا لم ينقضِ النهار، إلا وكانت " بثينة " قد أضحت زوجته بعقد قران عند الشيخ؛ عقد، لم يكلفه شيئاً تقريباً. ولم يكن جمالها، هوَ الشيء الوحيد الثمين: لقد كانت مزينة بالمصاغ الذهبيّ، وكان يأمل بانتزاعه منها لاحقاً بالإكراه أو الحيلة.
مثلما كان المتوقع، فإن وجودَ الصبي الصغير بقيَ غصّة في حلق زوج أمه. هذا الأخير، ما عتمَ أن وجدَ حلاً مناسباً. ألحقه بالعمل في أحد الأفران، الكائنة على الجادة، بمقابل راتب زهيد. الصبي، غير المتجاوز الثالثة عشرة من عمره، كان يَمضي للعمل قبيل أذان الفجر ولا يعود قبل العصر. بعد نحو شهر، قررَ زوجُ أمه أن يعهد إليه بعربة فاكهة لكي يسرح بها بعد عودته من الفرن. نتيجة جهده المتواصل جل ساعات اليوم، أضحى الصبيّ شديد الهزال وكانت ملامحه تنطق بالبؤس والرثاثة والقهر. في إحدى المرات، ذهبت الأم لتسخين طعام العشاء لابنها، ولما عادت رأته مستغرقاً بالنوم. انخرطت عندئذٍ في بكاء مرير، ما أثار أعصاب الرجل ودفعه لضربها. بالرغم من الجلبة والصراخ، بقيَ الولدُ نائماً كالجثة.
شهورٌ سبعة، كانت قد مضت على زواجه بالمرأة الحمصية. لما وجد قدميه، يوماً، تتجهان به إلى حديقة تشرين، أدرك مستو مبلغ ملله من تلك المرأة: " لكنني لن أدعها، إلا وهيَ بدون مصاغها الذهبيّ. إنه باتَ من حقي، بعدَ كل ما صرفته عليها وعلى ابن الحرام! "، خاطبَ نفسه فيما كان يمرر عينيه على النساء النازحات. عثرَ على بغيته بينهن، وكانت هذه المرة إمرأة شابة من ريف دمشق؛ أرملة ولكن بدون أولاد. قال لها، بقحّة طبعه: " سأحملك من هنا بعد أسبوع، لأن لديّ مشكلة صغيرة عليّ التفرغ لحلها ".
في المنزل، أظهر مستو تعاطفاً كبيراً مع ابن امرأته. قال لها، أن الصبي مريضٌ وعليه التزام الفراش لحين شفائه. بعد يومين، فاتحها بأمر وجود مُهرّب يُمكنه إيصالهم إلى ألمانيا مقابل مبلغ من المال: " سأدفع أنا نصفه، وأنت تبيعين مصاغك وتكملين النصف الآخر ". المرأة، المرتابة أصلاً بأخلاق الرجل، طلبت منه أن تجتمع بالمُهرّب. وهذا ما حصل، في اليوم التالي مباشرةً، وجعلها تطمئن نوعاً. ما لم يكن يدور بخلد المرأة المسكينة، أنّ المُهرّب المزعوم لم يكن سوى الابن البكر لمستو. كان هذا معروفاً بعمليات النصب والإحتيال، التي لم يوفر فيها أخوته وأقاربه. إلى ذلك، اتُهم بكونه مُخبراً، أوصل بعض شبان الحي إلى المعتقلات. ثم اضطر للانتقال إلى مستوطنة على أطراف دمشق، يسكنها مواطنون من ريف الساحل، وذلك خوفاً من الإغتيال.
برّ مستو بوعده لإمرأته الجديدة، وهوَ ذا يصطحبها إلى منزله بوساطة سيارة صغيرة من نوع " سوزوكي ". وكما كان متوقعاً، استقبلتهما المرأة القديمة بالصراخ ومن ثم التهديد باللجوء إلى الشرطة ما لو لم يُعَد إليها مصاغها أو ثمنه. وكان جوابُ مستو، أنه أمسكها من شعرها وقذف بها إلى خارج المنزل. وكذلك فعل بابنها؛ وكان هذا من الضعف أن فقدَ الوعي فوراً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر