الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قانون الكحول, بين مخالفته الأحكام الفقهية, وإرتداداته المجتمعية والإقتصادية

هيثم الحلي الحسيني

2023 / 2 / 26
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


كان هذا القانون المثيل للجدل, قد صوت عليه في أروقة المجلس النيابي في العام 2016, بما يحضر البيع والتصنيع والإستيراد, ولم تتجرأ الحكومات المتلاحقة من إقرارنفاذ العمل فيه, لما يحمل بين ثناياه, من جنبات سلبية وتداعيات كبيرة, تمس الأمن الوطني والسلم الأهلي.
وفد نشرت حينها ورقة مقالية بخصوص موضوع البحث والخلاف, والتي لم تكن دعوة لتشجيع تعاطي الخمور بالتأكيد, بل علتها أن هذا التشريع, يعارض أحكام الدستور, كمرجعية قانونية لها العلوية على ما سواها, فضلا عن مخالفته للقواعد الفقهية الإسلامية, التي عبر عنها الدستور, بثوابت الشريعة الإسلامية, ثم تداعياته في الجوانب الإجتماعية والإقتصادية.
وفي المقدمة من ذلك, السلم الأهلي والوئام المجتمعي, وحرية المعتقد لغير المسلمين, التي ضمنها الشرع والدستور, فالقانون موضع النزاع, يمس شريحة كريمة وأصيلة, من مكونات المجتمع العراقي, وقد حرصت قوانين الدولة العراقية منذ نشأتها, أن تعامل هذه المسألة بحساسية وتعقل, وربما كدأب سابقاتها على مر التأريخ الإسلامي.
وحتى في دولة الخلافة الراشدة, إذ روي في صحيح السند عن الخليفة عمر بن الخطاب, عندما سئل عن مسألة الخمر قوله, "ولّوهم بيعها وخذوا من الثمن", ويعني بذلك غير المسلمين, بما تشمل مفردة البيع, الإتجار والتصنيع, ثم تؤخذ الضريبة العشرية عنها الى بيت المال, وهذا ما أدركناه في زماننا, حيث تحصر الإجازة فيها بغير المسلم.
ولا يخفى إن مكافحة التعاطي والإدمان, يمكن أن يشرّع لها القوانين المناسبة وذات الصلة, ويجمع أهل الإختصاص, في الإجتماع وعلم النفس والسلوك الإنساني, إن المعالجات تكمن في برامج التربية والتثقيف والتوعية, والقضاء على آفة البطالة المتفشية بين الشباب, لسد الفراغ الذي يعانونه, وتوفير التعليم الرصين وغير المكلف.
وبالتأكيد دور واجهات المؤسسة الدينية الوعظية, فضلا عن مساهمة أهل الفكر والأداب والفنون, في التوعية والتثقيف, بما يعبر عنها بالقوة الناعمة, وليس المعالجة بوسائل القمع والتجريم, التي تكون إفرازاتها مضادة ومعاكسة, أما إرتكاب الجرائم, سواء بسبب التعاطي أو سواه, فلا خلاف إن القانون يكون لها حدا.
عليه فقد قاربت الورقة تداعيات هذا التشريع, وقد ساهمت حينها بركنه للأسباب المفصلة في متنها, غير أن الأزمة قد تكررت, وقد نشر القانون مؤحرا, وبات تشريعا نافذا, وحينها طالب الكثير من الأفاضل إعادة نشر الورقة, لبيان المخرجات المقلقة لهذا التشريع وتداعياته, فآثرت كتابة ورقة جديدة, تلامس الواقع الراهن, وستكون بعض مادتها ومبانيها, مستلة عن الأولى .
فلغرض مقاربة تداعيات هذا التشريع, من جوانب الإحتكام للدستور, كمرجعية قانونية متقدمة أولا, ثم مناقشته بهدوء, من جنبة مخالفته للقواعد الفقهية الإسلامية, وتحديدا قاعدتي الإلزام والإمضاء, وقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام, كونه يشكل خرقا دستوريا في التشريع, ستناقش الورقة هذه التداعيات, في الجنبة الإجتماعية والإقتصادية, وإستدامة السلم الأهلي, والتي بمجموعها, تؤثر مخرجاتها في الأمن الوطني, خرقا وتهديدا.
فالقانون وخلافا لنصوص الدستور, سيستهدف الشعور بالإنتماء والحرية الشخصية والإعتقادية, لشرائح واسعة في المجتمع العراقي, وتشعرهم بالإحباط والظلم والقمع, كونه يعارض متبنياتهم العقدية والسلوكية, فضلا عن الكثير منهم, يتخذ من الإتجار بهذه السلعة, مهنة ومصدر وحيد للعيش, مما سينمي فيهم الشعور بالتهميش والإحساس بالتبعية والمعاملة غير العادلة.
وبالتالي فهو عنوان للإستبداد السياسي والمجتمعي, وكذا الإستبداد الديني, كما عبرعنه علامة العصر التنويري, الشيخ النائيني خالد الذكر, قبل قرن من الزمن, في بحثه الرصين الموسوم "تنبيه الأمة وتنزيه الملة", إذ دعا فيه الى نظام سياسي دستوري, يتماهى ومتبنيات الدولة المدنية والديمقراطية, في المفهوم المعاصر, لا تكتنفه أشكال الإستبداد, السياسي أو الديني أو المجتمعي.
وفي جنبة أخرى, فإرتدادات هذا القانون, ستستهدف الإقتصاد الوطني بالصميم, كونه سيفتح الأبواب مشرعة أمام التجارة غير المشروعة بهذه السلعة, وهو ما سيفضي بالمال السحت, الى جراب الكثير من المصوتين على القانون, لما يتحصلوا عليه من نفوذ ولجان إقتصادية, ونوافذ تجارية وسلطة فوق القانون, فضلا عن رؤسائهم وزعمائهم, الذين بغالبيتهم تمتلئ حقائبهم الدبلوماسية, العائدة من أوطانهم الثانية أو الأولى, بالأنواع الفاخرة والثمينة من هذه السلعة.
كما إن الكثير من عوائل هؤلاء المشرعين, في بلدان المهجر, يمارسون حياة, لا علاقة لها بمضامين القانون وعنوانه, لا تخضع لتابواهات المحرمات, التي فرضوها على المجتمع العراقي, وهذا يؤشر الجنبة الأخرى من الفساد السلوكي, كونه يخالف مضامين العدل والحقوق والمساواة, أمام التحديدات والموانع والممنوعات.
وفي قراءة للدستور العراقي النافذ, فقد أكد في مواده على "منع أية تشريعات تتناقض مع الحقوق والحريات", طاما أنها لا تتعدى حقوق الآخرين, فحرية الفرد تنتهي عند خط شروعها, في تجاوز حرية الآخر, والحال إذا كان المشرع قد إستحضر هذا المعنى في تبرير التشريع, فالقوانين النافذة معنية بملاحقة ومقاضاة المتسبب بالضرر الواقع على المواطن أو المجتمع أو الدولة, أو الإعتداء على حرمات الغير وحقوقهم, سواء لعلة تعاطيه الخمر, أو لعلة أخرى.
أما الذي لم يعد خافيا وغريبا, أن الكيانات المتحركة تحت عنوان الإسلام السياسي, إن صح إصطلاحه, تعتمد الخلاف والترويع الطائفي, وسيلة لكسب الأصوات, والإستحواذ على مقاعد المجلس النيابي, فتختلق صراعات طائفية ومذهبية, لكل مناسبة ولكل واقعة, خاصة في وسائل الإعلام, بينما هي تتوحد بشقيها, عند التصويت على القوانين, التي تستهدف ركائز الدولة المدنية والحريات الشخصية.
فليس بعيدا الإصطفاف المريب, بين الإسلام السياسي الطائفي السني, والآخر الشيعي, "وعذرا عن المسميات", عند التصويت غير المشرف, الذي هدف لإلغاء قانون الأحوال الشخصية العراقي, الذي يعد منجزا تأريخيا للشارع العراقي, ومتقدما على سواه في تشريعات الدول العربية عموما, والذي جرى صناعته بمرجعيات مختلفة, منتقاة بعناية, من أحكام المذاهب الإسلامية المختلفة, وبعض النصوص القانونية المقابلة, من نماذج الدول المتطورة, فكانت مفرداته سارية بسلامة وقبول عام, على كافة المواطنين دون إستثناء, ولا يستثني الخصوصيات الدينية والمذهبية.
غير أن الحضور المدني المؤثر حينها, قد أفشل المشروع, بينما قد تلاشى هذا الحضور, في ظل سطوة تشكيلات الإسلام السياسي بشقيها, على مسرح الأحداث, وإنحسار تأثير الداعين الى الدولة المدنية, ومبادئ المواطنة, تحت القبة النيابية, وفي مراكز صنع القرار, وتبقى الآمال شاخصة صوب الحراك الشبابي التشريني, لإعلاء صوت العدالة والدولة المدنية والحكم الرشيد.
فعدم إستقامة القانون موضوع البحث, في الوجهة الشرعية والدستورية, تكمن بمخالفته المواد الدستورية, التي أعتمد أصلها, فقد إحتج هذا القانون الى المواد الدستورية, التي تنطق بمنع التشريعات المخالفة لثوابت الشريعة الإسلامية, في الوقت الذي يعارض القانون بذاته, روح ونصوص القواعد الفقهية ذات الصلة.
فالقانون يخالف تحديدا قاعدتي الإلزام والإمضاء الفقهيتين, وقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام, التي تقول فيها مجمعة, سائر المذاهب الإسلامية, وخاصة مدرسة آل البيت الفقهية, ومنهج وفكر الإمام المعلم الصادق, والتي تفخر جميع مذاهب الإسلام, أنها قد تفرعت عنها, إجتهادا ورؤى, إذ يدعو لإحترام عقائد الآخر, ومعاملته وفقها.
فإن الفقه الإسلامي, وفق قاعدتي الإلزام والإمضاء, لا يفرض متبنياته على الغير, سواء المخالف دينيا, أو المختلف مذهبا, فالمدارس أحرار بما تؤمن به وتقول به, أو بما هي تلزم نفسها به, ويجري التعامل معها, وفق متبنياتها, لأنها قد ألزمت أنفسها بها, والعكس صحيح, بما يمضي المشرع متبنياته, فهي ماضية عليه, في محاكاته الآخر المخالف, وبذا يكون للفرد, مسلم أو غيره, أن يقاضي المخالف له, وفق شرعة المخالف وفقهه, سواء في مقاصد الأحكام أو وسائلها, في مقاربة المصالح والمفاسد.
ومن هذه المرجعية الفقهية, لم تمنع الدولة الإسلامية, غير المسلمين, من البيع والإتجار بالخمور, بينما منعت ذلك على المسلم, كما هو القانون العراقي النافذ منذ تأسيس الدولة, فالنفع والضرر في هذه الجزئية, يعود على ذلك المواطن, بما قد ألزم نفسه به, وفق شريعته, ولا يجوز للشريعة الإسلامية, التي كانت عليها الدولة الإسلامية, دستورا ومرجعا, أن تمنعه ذلك, إستنادا الى هاتين القاعدتين الفقهيتين.
فقد ورد قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب, "ولّوهم عليها, أو ولّوا أربابها عليها, وخذوا من ثمنها", وهذا يدل على أن الخليفة لم يمنع غير المسلم, أن يتداولها بالبيع والشراء, كما اقره على أن يتناولها إحتساءً, دون تجريم أو إدانة, بما عبّر عنها بإقامة الحد, ولم يخالفه الأمر من تبعه من الخلفاء الراشدين, ومن تبعهم في الدول الإسلامية, لأن الدولة الإسلامية قد أمّنت لغير المسلم, حريته في المعتقد والمشرب والمأكل, وفق العقد التصالحي الماضي مع غير المسلمين, منذ صدر الإسلام.
فضلا أن الخليفة قد ضمن موردا لا يستهان به لدعم رأس المال, بل أن بعض المذاهب الإسلامية قد أباحت البيع حتى للمسلم لغير المسلم, كما ورد عن مفتي مصر العربية السابق, الشيخ الدكتور علي جمعة, وهو شخصية رصينة يعتد بها, وكذا بيانات مرصد الأزهر.
كما أن القاعدة الفقهية الرئيسة الأخرى تنص أن "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام", التي نطق بحروفها الرسول الأكرم, هي الأخرى تتماهى ومضامين قاعدتي الإلزام والإمضاء, إذ لا يجوز الإضرار بالآخر, مسلم كان أو غيره.
وهنا سيوقع هذا القانون, الضرر في شريحة واسعة من المواطنين, وفي الكثير منهم في أرزاقهم, التي يعيلون أسرهم من ريعها, من خلال وظائفهم التي سيخسرونها, في النشاطات المصنعة أو الموردة أو غيرها, أو من خلال متاجرهم, التي تشغّل الكثير من محدودي الدخل, ضامنة لهم أدنى متطلبات العيش الكريم.
والحال مع عدم إيلاء الدولة, الإهتمام والجهد المطلوب, لمتطلبات معيشة المواطن, وفي ظل الأزمات القائمة, في محنة الصناعة, ومحنة الزراعة, ومحنة السياحة, ومحنة البناء والإعمار, ومحنة القطاع الخاص, وغيرها الكثير, والتي أنتجت ملايين العاطلين عن العمل, فسيضيف القانون مثار البحث, مجاميع أخرى اليهم.
كما أن هذه الصناعة الوطنية العريقة, متقدمة على سواها في النوع والجودة, في الكثير من الأقطار العربية والجارة, وفي حالة طمرها وموتها, فسيعمد التجار الى إستجلابها بشكل غير شرعي, إستيرادا من الخارج, مما سيهرّب العملة الصعبة, التي هي أصلا يجري تهريبها بشكل مقنن, بدلا من إعتماد منتجات هذه الصناعة, كنافذة لجلب العملة الصعبة, من خلال التصدير, إضافة لما تدره الضرائب عن هذه الأنشطة, من موارد داعمة لخزينة الدولة.
فضلا أن للمادة المنتجة في هذه الصناعة الوطنية, إستخدامات واسعة, في مجالات الصناعة أو الصحة أو الزراعة أو غيرها, والتي كانت شركة التقطير العراقية مثلا, تؤمنها بشكل سليم, لعقود من الزمن, مما سيلجئ الدولة العراقية, الى إستيرادها بالعملة الصعبة, وهو عين فقدان الذكاء الإقتصادي.
دهيثم الحلي الحسيني, باحث في الدراسات الإستراتيجية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صاروخ باليستي روسي يستهدف ميناء أوديسا


.. ما فاعلية سلاح الصواريخ والهاون التي تستخدمه القسام في قصف م




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار القصف الإسرائيلي على منزل في حي الشي


.. خفر السواحل الصيني يطارد سفينة فلبينية في منطقة بحرية متنازع




.. كيف استغل ترمب الاحتجاجات الجامعية الأميركية؟