الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عداوة زوجة عمي | 1970

علي أحماد

2023 / 2 / 27
الادب والفن


فـي جلسة عائلية ، ذات أمسية صيف ، حول براد شاي بالنعناع جرت بين الأب والعم دردشة اقترح فيها العم على الأخ الأكبر أن يصحبني معه الى مدينة سلا لأكمل دراستي هناك، وقصده أن يخفف عنه أعباء رعاية وتربية أربعة أبناء وهو عامل بسيط فـي البناء وأجير يومي . وافق الأب دون تردد أو سؤال بعد إقناع الأم التي لم تقبل العرض المغري إلا مكرهة لأسباب أبقتها سرا بين ضلوعها حتى لا تفقد الود وتقطع صلة الرحم بين الإخوة وبينها وعمي ابن خالتها ، وقد كان لها فـي سيرة ابنها البكر موعظة وذكرى سيئة ، ولولا لطف الأقدار وتواجد عمي سعيد جارنا فـي الموعد والمكان المحددين لفقد صالح الى الأبد . التقاه على قنطرة سلا هاربا من البيت تائها دون قصد والتقطه وأعاده الى منزل العم .
انتظرت مستعجلا مرور اجازة عمي العسكرية السنوية وعودته من زيارة للبلد. سأسافر الى مدينة لا أعرف أين تقع على خريطة المغرب. اسم يتردد على لسان عمي وزوجته عائشة وهي امرأة مزاجية الطبع بيضاء البشرة تتدلى من أذنيها أقراط من ذهب ماركة ( الفروج ) ويخرج صوتها من أنفها الكبير والذي لا ينقص شيئا من جمال نساء أيت حديدو ومتعجرفة تكبر المدينية ، فهي تتجنب الحديث بالأمازيغية إلا نادرا . تفضل العزلة وتتحاشى مشاركة الآخرين جلساتهم الفَكِهة، وأضحت رمزا لذلك بين الأهل. يغضبها عمي بحديثه حول النساء ، تعرف قصده فتلتقط ما امتدت اليه اليد من أحذية أو مكنسة فتضربه بها، ينحني ضاحكا ويقول لها (تحاشي الرأس وتخيري الظهر) . تترك الغرفة غضبانة. يضحك الجميع ويعودون الى أحاديثهم الشيقة والمسلية يستمعون اليه يردد ما نسجه من أشعار بالأمازيغية ( تامديازت ) .
أزف الموعد، وعند الوداع ذرفت الأم الدموع، وإن حاولت إخفاء بكائها، فهي لأول مرة تفارق فلذة كبدها وفي مثل هذا السن المبكر فقد ظل مرتبطا بحضن الأسرة الدافئ. هو أيضا تخنقه غصة الفراق ، البعد عن مرتع الطفولة ، الأقران ، بساطة الحياة ويتحاشى النظر الى وجه أمه كي لا يزيدها غما وألما.
تحركت الحافلة من المحطة / الساحة المقابلة للدائرة. ميدلت معبر الحافلات التي تصل الغرب بالجنوب الشرقي. وحدها محطة حافلات ( أبو مروان ) هي التي تؤثث فضاء المدينة... ظل مكورا فـي مقعده يقلب نظره فـي الغابات ، الجبال وأعمدة التلفون تمر أمامه تباعا وفـي سرعة تصيبه بالدوار، وهذا الوحش الحديدي يطوي الإسفلت ويعبر المدن من كثبان الرمل والجبل الى السهل دون كد او ملل . فـي مدخل مدينة سلا وضع وجهه على زجاج النافذة، أثارته حروف مكتوبة عليه بلون أبيض بارز ولكنه لم يفهم معناها. بدأ يستعرض وهو منبهر سلالا ، موائد وكراسي وثريات مصنوعة من القصب بمهارة يدوية دقيقة وباحترافية عالية معلقة أمام دكاكين متراصة على الرصيف . صاح صيحة تعبر عن عجبه بما رأى دون أن يعير انتباها للمسافرين . تصيدت زوجة العم الفرصة سانحة لتبث حقدها وتنفث سمومها على الطفل وكرهها له وعقبت بقولها همسا لعمه متهكمة (أصبحت للمدينة قرون ) وللجملة وقع اشد وطأ ومضاضة نطقا بالأمازيغية . كظم غيظه وعض على شفتيه حزنا وحبس دموعا تقف عند الأحداق. بداية غير مطمئنة، وهذا أول السيل من طوفان كرهها للطفل وحقدها عليه. ظل العم صامتا كمن ابتلع لسانه وتصنع الغفلة.
" تابريكت " محل سكناه كجندي فـي الحرس الملكي. أتاه الله بسطة فـي الطول والجسم وهذه صفات مرغوبة ومطلوبة فـي المنتسبين لهذه الفئة وأغلبهم من الجنوب الشرقي. عمارات شاهقة من عدة شقق خصصت ليقيم فيها الجنود وعائلاتهم. لم تكن الزوجة مرتاحة لوجود الطفل بمنزلها، لهذا تعامله حسب مزاجها، تارة باللين وتارة أخرى بالشدة. يرتاح لحضور عمه ويغتم لغيابه.
لم يكن الطفل رغم ما عاشه من فقر مذقع يستسيغ طبيخ زوجة العم. يمضغ الأكل طويلا بين شدقيه ثم يخرج اللقمة لزجة من فمه فيدسها تحت المائدة أو الأرائك وهو سلوك يؤجج غضبها ويوتر أعصابها. عند عودة العم من عمله تشتكي من سلوكه وتشكو اليه همها.
ذات صباح يوم مشمس أخذه على متن دراجة نارية بيضاء من نوع موبيليت .... سارا عبر شوارع اسفلتية عريضة تعج بالسيارات والحافلات والمشاة من سكان المدينة وضواحيها. فتَنَتْه المدينة ببنيانها السامق وحدائقها الغناء وأرضها الخضراء وانبساطها، ولم يكن يدري منتهى الرحلة وغايتها. أزيز " الموبيليت " يقطع الصمت الذي يضج بينهما. يشد يديه الى ظهر عمه لكي لا يسقط.
انتهيا الى باب مدرسة يحيطها بها سور عال يعلو فيها صراخ الأطفال وهم يركضون فـي ساحة المدرسة زمن الإستراحة . دخلا مكتب المدير. سجل المدير اسم التلميذ ولقبه فـي سجل كبير بعد أن أدى العم واجبات التسجيل ومبلغ آخر رشوة ويحز فـي نفس عمي أن يأخذها الرجل منه وهو من بلدة إيتزر ، ولو أتاه بالبزة العسكرية لعامله بالتي هي أحسن وأكرم وفادته .
غادرا المؤسسة وعلامات الفرح بادية على محياه . قضى ليلته وهو يغرق فـي لجج التفكير فـي الغد. التمدرس فـي المدينة رفقة تلاميذ جلهم عرب ، لا هم يفهمون الأمازيغية ولا هو يتحدث لغتهم . استيقظ باكرا ولبس ما هيأ له من ملابس قشيبة تليق بتلميذ بمدرسة حضرية. تناول كسرة خبز وكأس شاي. الآن فقط وجد متنفسا يغادر اليه البيت/ السجن. ظل غريبا عن هذا الوسط وحافظ على مسافة بينه وزملائه مبتعدا عن المشاكل. المشاكل قد تتربص بك فـي كل حين وفـي كل ركن وتظهر من ثنايا حادث عارض. اصطدم بطفل/ تلميذ وانتفخت عينه، تورم عظم حاجبه وسال الدم فوق أرضية الساحة. حادث مدرسي يمكن أن يحدث فـي أية مدرسة. تعرضا للعقاب من طرف مدير المدرسة بوحشية ليكونا عبرة لبقية الأطفال.
أخذه العم يوم إجازته فـي زيارة لعدوة الرباط . بين سلا والرباط نهر أبي رقراق يعبره الناس لقضاء مصالحهم بالعاصمة الإدارية للمملكة عبر زوارق صغيرة من خشب بألوان قوس قزح وبأسماء تمتح من المخيال الجمعي / الشعبي غالبا ما تكون أنثوية ...تترنح القوارب على امتداد صفحة الماء تخضها نسائم رياح خفيفة . وسيلة نقل جماعية تختصر الزمان ، توفر المال وتكفي الناس عناء التنقل عبر سيارة الأجرة أو الأوتوبيس . بعض القوارب مزود بمحرك والبقية الأخرى تعتمد على قوة السواعد والمجاديف فـي حركات متناسقة. أعجب بصومعة حسان وشالة وأدهشه منظر نساء سافرات بسراويل الجينز أو تنورات قصيرة تتدلى شعورهن على أكتافهن وينتعلن أحذية بالكعب العالي . يتسابق المارة هرولة وكأنهم يخشون وحشا ضاريا يتقفى آثارهم . لقمة العيش المرة . هذا ما علق بذاكرته من أحداث . لا يتذكر الطفل كم من الوقت أمضاه في ضيافة عمه . توترت العلاقة بينه وبين زوجة عمه التي يصفها الجميع بأنها تعيش انفصاما حادا في الشخصية ونزوعا نحو الإنطواء . سيغادر سلا ويعود الى أحضان الأسرة . من حينها ساءت العلاقة بين الأم وزوجة العم . تجربة قاسية وشمت ذاكرة الطفل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??


.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??




.. فيلم -لا غزة تعيش بالأمل- رشيد مشهراوي مع منى الشاذلي


.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط




.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش