الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النظام العالمى واحترام الآخر .. حماية أَم إجهاض ؟

محمد رؤوف حامد

2023 / 2 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


منذ بداية "العولمة" أخذت معدلات العنف تتزايد بأكثر مما كانت عليه فى العقود الأربعة الأسبق.

تتجسد هذه المسألة نوعيا فيما يتنامى فى العالم من ازدواجيات فى المعايير، وحروب أهلية، فضلا عما يجرى منذ عام تقريبا من إشعال مقصود لفتيل الحرب الروسية الأوكرانية وتكريس عديد من الكيانات الغربية لعمليات التأجيج والتصعيد لهذه الحرب. كل ذلك بالإضافة الى التصاعد فى موجات هجرة، وفى تضخم شراسة التباينات فى مستويات المعيشة بين شرائح المجتمع الواحد، وعلى مستوى سكان العالم ككل، الأمر الذى تصحبه ممارسات دكتاتورية فى أنظمة الحكم، فى غالبية بلدان الجنوب.

ضبابية العلاقة الغريبة بين تزايد حجم الأنشطة والحركيات المبذولة من أجل قضايا التعايش واحترام الآخر من جهة، واستفحال التدهورات الجارية فى وقائع لنفس القضايا من جهة أخرى، تستدعى الإجتهاد فى التوصل الى "رؤية كلية" بشأن هذه الإشكالية.

أولا- أهمية الرؤية الكلية:
ترجع أهمية الرؤية الكلية الى كونها تأخذ فى الإعتبار كافة المكونات والعناصر ذات الصلة، من جزئيات وعمليات ومتغيرات، بما فى ذلك من مدخلات ومخرجات. لذا، فقط من خلال "الرؤية الكلية" يمكن التوصل الى التحليل والتركيب بشأن المشكلات الواقعة والحلول الممكنة.

من أجل ذلك يتضمن الطرح الحالى اكتشاف قدر صحة بعض المفاهيم السائدة، ثم يشير الى تضاريس الأبعاد التعقيدية للإشكالية، والتى منها يجرى تناول تنقيبى لحقيقة مسبباتها الرئيسية، على المستويات الدولية والمجتمعية.

ثانيا- عدم صحة بعض المفاهيم السائدة:
من شأن استمرارية التناول الحياتى للمفاهيم بغير الإنتباه لمدى صحتها، استمرارية الإنحراف عن المسارات الإيجابية "المعلنة"، والتى من المفترض أن هذه المفاهيم تدعو إليها.

من أمثلة ذلك إهمال الفهم العلمى لظاهرة التطرف، والذى هو - فى الأصل- ظاهرة طبيعية، وليس شذوذا، أو نشازا، أو مرض [...].

عمليا، التطرف حقيقة واقعة فى جميع الأشياء والكائنات ومنها البشر. إنه يظهر فى صورة تباين شديد يمكن أن يحدث فى جميع أنواع الخصائص، سواء كانت شكلية مثل الطول (العملقة والتقزم)، أو ذهنية (مثل حدة الذكاء وشدة الغباء)، أو سلوكية (كالتسامح الدائم والعنف بدون رحمة).

بمعنى آخر، يعتبر التطرف حالة حادة من حالات التباين فى خاصية ما، الأمر الذى يشكل ظاهرة طبيعية معروفة منذ القِدم، يدركها الأكاديميون من خلال مايُعرف بمنحنى التوزيع الطبيعى. وعليه، تكاد لاتوجد جماعات أو مجتمعات بدون تباين يصل الى حد التطرف. وسواء كان التطرف فى جانب حميد (كالتسامح)، أو فى جانب بغيض (كالعنف)، فالمتطرفون ينتمون -عادة- الى نفس المجتمع الذى نشأوا (أو يعيشون) فيه. وهكذا، يمكن للتطرف أن يتجسد فى مثالية شبه خيالية، أو فى مراضة (كالبلاهة).
من هنا تأتى مسؤلية المجتمع فى الإستفادة من التطرف الحميد (كالطول الفارع)، وفى تطبيع التطرف السلبى، وحتى لايتحول الى خطر وأذى للفرد وللآخر ،مثل التحول الى الإرهاب [...].

أيضا، من أهم الأمثلة للمغلوطات القائمة استمرار المناداة بالتعايش (أو العيش المشترك)، باعتباره حدا أقصى لما نصبو إليه.

فى هذا الخصوص علينا الإنتباه الى أن مجرد التعايش، أو العيش المشترك Coexistence، بمعنى قبول تواجد البشر الى جانب بعضهم دون إيذاء بعضهم بعضا، يظل مجرد سلوك محافظ ، ليس من شأنه الدفع بالمجتمع الى مسار التقدم [...].

المسألة إذن أن تقدم المجتمعات يحتاج تخطى مجرد العيش المشترك الى قيم وفاعليات أكثر إيجابية.

من هنا، يمكن الإنتباه الى أنه فيما هو أرقى من التعايش المشترك يأتى "التعاون" Cooperation ، والذى يجعل الإنجاز أكبر من مجرد المجموع الجبرى لإمكانات المتعاونين مع بعضهم. تتمثل عبقرية التعاون فى الإستفادة "الجماعية" من القدرات الفردية الإسثنائية الكامنة لدى كل عنصر (أو فرد) من الكيانات المتعاونة مع بعضها.

وبالمثل، يمكن للتعاون أن يرتقى الى التشارك Partnership ، والذى يعنى أن العائد يعود على جميع المتشاركين فى العمل (أو فى الحياة) وبالتالى تتاح العائدات للجميع. بعد ذلك، فى قمة المسار الإرتقائى، من العيش المشترك الى التعاون فالتشارك، يأتى الرخاءProsperity ، والذى يكون لجميع أعضاء المجتمع، وليس لجزء منه، أو لشريحة (أو فئة ما) ما بذاتها.

وعليه، إذا اختل الرخاء تتهدم تباعا المسارات والقيم الإجتماعية الخاصة بالتشارك، والتعاون، والتعايش [...].
ثالثا- الأبعاد المنسية فى قضايا التعايش:
فى معظم الأحيان يأتى تصاعد الإهتمامات بقيم التعايش واحترام الآخر عند التفاجؤ بوقوع أحداث عنف مؤسفة، خاصة على مستوى الأفراد (فى الأسرة والحى)، أو على مستوى الجماعات، خاصة فى المنازعات الطائفية (التى تتعلق بالدين أو العرق أو اللون .. الخ). وبينما تتلاشى حدة الإهتمامات بمرور الزمن، حتى التفاجؤ بأحداث عنف جديدة، فإن مايغيب عن الأذهان دائما وجود عوامل غير مباشرة، وفى الأغلب غير مرئية، يكون لها تأثيرات رئيسية دافعة لنشأة وترعرع السياقات المولدة لوقوع أحداث عنف مؤسفة.

السر فى اعتبار هذه العوامل غير مباشرة، و/أو غير مرئية، أنها تصدر عن، أو تُحاك من، مستويات أخرى أعلى من مستوى الأفراد والجماعات. إنها مستويات مجتمعية ودولية.

وبتفصيل أكثر، تأتى التأثيرات الكبرى - عادة - من المستوى العالمى، ومنه تتساقط عوامل سلبية على مستوى المجتمعات، خاصة فى بلدان الجنوب، فتنتشر هذه العوامل وتداعياتها على مستوى الأفراد والجماعات.

إنتقال التأثيرات عبر الدوائر الثلاث، الدولى، والمجتمعى والفردى، يعنى وجود تعقيدات كبرى بشأن إشكاليات التعايش واحترام الآخر. وعليه، تكون نشأة المشكلات بين الأفراد (أوجماعات الأفراد) نتاجا لسياقات وعوامل تأتى أساسا من خارج المستويات الفردية، الأمر الذى نحتاج للإنتباه إليه، والتنقيب عنه، وتقييمه، ومعالجته، وحتى نرتقى من التعايش الى الرخاء [...].

وهكذا, تظل تعقيدية إشكالية التعايش واحترام الآخر قائمة، وقابلة للتضخم والإنتشار، طالما تغيب عنا المعرفة بما تضمه وتخضع له هذه الإشكالية من نظريات ومعلومات وخبرات.

بمعنى آخر، يكون فهم هذه الإشكالية، ومن ثم استكشاف المسارات الخاصة بالحلول، رهنا بإخضاعها للفحص التقييمى التحليلى من خلال المعرفة العلمية.

فى هذا الإتجاه يمكن تصنيف المقاربات المعرفية المتعلقة بإشكالية التعايش واحترام الآخر الى فرعين، مقاربات تختص بالأوضاع المجتمعية، وأخرى تتعلق بالأوضاع الدولية.

رابعا- عن الأبعاد المجتمعية المتعلقة بالتعايش:
عديد من المفاهيم والرؤى والنظريات المجتمعية، فى مجالات السياسة والثقافة، تلمس، أو تُشع، شيئا (أو أشياء) بخصوص إشكاليات التعايش واحترام الآخر، من زوايا أو أبعاد، يمكن أن يكون لفهمها إنعكاسات إيجابية على التناولات التطبيقية / الممارساتية فى التعامل مع هذه الإشكاليات. فى هذا الإطار يمكن الإشارة الى مايلى:
1- نظرية الفعل التواصلى Communicative action :
ترجع هذه النظرية لهابرماس (المولود 1929)، وتلقى إهتماما عالميا متزايدا منذ بداية طرحها [...]. هذا، ويقصد بالفعل التواصلى فاعليات ورؤى الناس، عموم أعضاء المجتمع على كافة المستويات، بشأن كافة أوضاعهم وشؤن حياتهم. من الفعل التواصلى تنشأ التوجهات والإحتياجات والمساعى عما ينبغى أن يكون بشأن كافة الأمور. هذا العالم الناشىء من ( أو المعبر عنه ب) الفعل التواصلى يسمى بالعالم الحياتى Life world .

طبقا لنظرية الفعل التواصلى من المفترض (بل ويجب) أن يكون لهذا العالم الحياتى هيمنة فوقية على العالم المنظومى (أو عالم النظام) System world ، والذى يتمثل أساسا فى أنشطة السياسة والإقتصاد والأمن (وكذلك فى أنشطة العلم والتكنولوجيا).

هنا، وفى سياق نظرية الفعل التواصلى، يمكن للتساؤل المعرفى المتعلق بالتعايش واحترام الآخر أن يكون كالتالى: إلى أى حد يخضع العالم المنظومى(أو عالم النظام) للعالم الحياتى؟

ربما من حيث الواقع يمكن ملاحظة أن مايجرى فى العالم بأسره يكاد يكون - فى أغلبه- عكس ما ينبغى (أو ما يُتوقع)، حيث يهيمن العالم المنظومى، عالم السياسة والإقتصاد والأمن، على العالم الحياتى. ذلك بينما العالم الحياتى هو الأكثر تعبيرا عن المصالح الإنسانية ومستقبلياتها.

إنها مسألة تحتاج الى مراجعات وتقويمات من مختلف منابر الفكر على كافة تنوعاتها (جماهيرية ورسمية) وعلى كافة الأصعدة (المحلية والعالمية). وعليه، بدون المراجعات والتقويمات يستمر استفحال السياقات المضادة للتعايش ولإحترام الآخر.

2- الثقافة المجتمعية:
بلا شك تُعد ثقافة المجتمعات بمثابة أرضية إطارية (أو مرجعية) لأحوال التعايش واحترام الآخر، هنا وهناك، فى كافة أرجاء العالم. النظرية الأكثر شهرة وقبولا بشأن تقييم وتصنيف ثقافة المجتمعات هى تلك التى وضعها جييرت هوفشتدGeert Hofstede وقام بتطويرها على مدى عقود (من الستينات الى أوائل القرن الحالى). لهذه النظرية ستة أبعاد، كالتالى [...]:
- قدر الجماعية فى مقابل الفردية.
- مقياس تجنب اللايقينية.
- وجود دوائر (أو مسافات نفوذ).
- قدر الذكورية، بمعنى التشدد فى التكليفات وربطها بالثواب والعقاب، فى مقابل الأنثوية، والتى تعنى الرعاية.
- وجودية التوجه طويل المدى فى مقابل التوجه قصير المدى.
- غلبة السماح (أو العطاء) أًم غلبة التحجيم (أو المنع).

وهكذا، العوامل الستة لنظرية هوفشتد تمثل مجموعة معايير تتكامل مع بعضها فى توصيف الحالة الثقافية للمجتمع، أى مجتمع. إنها الحالة (أو الوضعية) التى يمكن من خلالها استكشاف التعايش واحترام الآخر، فى ضوء حيوية القيم المجتمعية، إيجابية أو سلبية.
هذه المعايير تكشف - على سبيل المثال - عن مستوى التكاملية فى المجتمع، من خلال وضعية خصائص الجماعية وحالة اليقينية وتوازنية التخطيط، ...الخ. وهى أيضا تكشف عن قدر حضانة المجتمع لممارسات يكون من شأنها إتلاف التعايش والإحترام، مثل "الواسطة" (بدوائر النفوذ)، ومثل الذكورية، بمعنى زيادة الضغوطات الساقطة على الناس من أعلى، وغيبة "الرعاية"، وكذلك مثل سطوة سياسات التحجيم (والمنع)، وليس السماح (والعطاء).
وهكذا، تمثل الخصائص الثقافية السائدة فى مختلف المجتمعات مرآة محلية لإمكانات وحيويات التعايش واحترام الآخر.

3- مكانة "العنف" فى السياسات المجتمعية:
عن علاقة العنف بالإشكاليات المجتمعية، خاصة فى مجالات السياسة والإقتصاد والتنمية، كانت الرسالة الرئيسية فى تقرير التنمية فى العالم (تقرير 2011 عن "الصراع والأمن والتنمية") من أجل: "توفير العدالة وفرص العمل للمواطن كأمر حاسم فى كسر دائرة العنف".
بالتوازى مع هذا الطرح بزغت بحوثا لعديد من الباحثين، كان من أبرزهم دوجلاس نورث Douglass C. North وزملاءه [...] ، والتى قادت الى وضع تصنيفا جديدا للمجتمعات، باعتبارها إما مقيدة أو مفتوحة.
فى الأنظمة المقيدة-limit-ed access orders، والتى توجد على وجه الخصوص فى بلدان الجنوب، يكون للعنف مكانة فى توجيه الأمور.
فى هذه الأنظمة يتلاعب النظام السياسى بالمصالح الإقتصادية، بغرض استدرار "ريوع" (جمع ريع) يكون من شأن استخدامها دفع مراكز القوى، من الجماعات والأفراد، إلى الإدراك بأن من مصلحتهم (المرتبطة بالريوع) الإمتناع عن استخدام العنف.

فى هذا الشأن، طبقا للبحوث الإجتماعية، تصنف الأنظمة المقيدة الى أنواع ثلاث، هشة، وأساسية، وناضجة.

فى الأنظمة المقيدة الهشة تكون القدرة على ممارسة العنف هى المحدد الرئيسى لتوزيع الريع والموارد. وفى الأنظمة المقيدة الأساسية تتماهى امتيازات النخبة، المُكَوِنة للتحالف الإئتلافى مع الحكومة، حيث الحكومة تدعم منظمات هذه النخبة وامتيازاتها، لكنها لاتدعم المنظمات خارج الإئتلاف.

من جانب آخر، فى الأنظمة المقيدة الناضجة تدعم الحكومة جميع المنظمات، ومن بينها تلك التى توجد خارج الإئتلاف مع الحكومة.

أما بخصوص الأنظمة المفتوحة Open access orders ، فالمعيار الرئيسى الذى يفصل بينها والأنظمة المقيدة يكمن فى أن الأنظمة المفتوحة تتميز بسيطرة النظام السياسى على المنظمات التى تحتكر الإستخدام الشرعى للعنف، والتى تتمثل تحديدا فى الجيش والشرطة. فى هكذا أنظمة تكون السيادة، نظريا وعمليا، للنظام السياسى، والذى تتحكم فيه أدوات الديمقراطية، ويكون الولوج الى الأنشطة مفتوح أمام الجميع، حيث تدار الأمور بمعياريات عامة، منظمة ومعلنة، وليست مشخصنة.

وعن عتبة الإنتقال من الأنظمة المقيدة الى النظام المفتوح فتتكون من ثلاثة شروط. يتمثل الشرط الأول فى سيادة القانون بالنسبة للنخب، حيث لايمكن لأى كيان، أفرادا أو مؤسسات، أن يخرج عن سيادة القانون. وأما الشرط الثانى فيكون قيام الحكومة بتقديم الدعم للمنظمات العامة والخاصة، دون تفضيل بينهما. وعن الشرط الثالث فيكمن فى السيطرة السياسية على قوى العنف الشرعى، أى الجيش والشرطة، واللذان يعتبرا أداة خاضعة للنظام السياسى (المقيد بالتنافس السياسى/الديمقراطى)، وليس العكس.

وهكذا، من منظور تصنيف المجتمعات الى أنظمة مقيدة وأخرى مفتوحة تكون معظم بلدان الجنوب أنظمة مقيدة. ذلك بمعنى أن العادة فى هذه البلدان أن ليس لأنظمتها السياسية هيمنة كاملة على القوى الشرعية لممارسة العنف، والتى هى الجيش والشرطة. هذا الوضع يجعل من التدخلات (أو الممارسات) الخاصة بالعنف آلية لإستقرار الحياة "المقيدة"، والتى لايوجد فيها تنافس سياسى حقيقى.

وعليه، من الطبيعى أن يكون لنوعية الأنظمة المقيدة تأثيراتها، المباشرة وغير المباشرة، على مسألة التعايش واحترام الآخر، حيث تكون الحظوة لقوى العنف فى عمومها فى النظام المقيد الهش، أو لقوى العنف الشرعى (الممثلة فى الجيش والشرطة) فى الأنظمة المقيدة الأساسية والناضجة. من جانب آخر يكون تميز الأنظمة الناضجة فى وجود دعم حكومى لكيانات من خارج الإئتلاف الذى تتماهى فيه النخبة مع الحكومة.

4- حركية المعرفة:
بصرف النظر عن تقدمية الأفراد أوالمجتمعات فلكلاهما قدر من المعرفة، بخصوص الشأن العام وأوضاعه ومجريات أموره ..الخ، يمكن تسميته "منسوب المعرفة". ومع تزايد قدر هذا المنسوب يبزغ عزم Momentum . هذا العزم يتحول (مع الوقت ومع تواصلية ارتفاع المنسوب) الى طاقة. وباعتبارها (أى المعرفة) طاقة تكون لها حركية Dynamics . وهكذا تنشأ حركية المعرفة، ويكون لهذه الحركية دورها ومساهماتها فى تحسين الأوضاع المجتمعية، ومن بينها مايتعلق بإشكاليات التعايش واحترام الآخر [...].

هذا، ويجدر الإنتباه الى أنه، بالإضافة الى أهمية "حركية المعرفة" فى حد ذاتها، فإن لهذه الحركية علاقة مباشرة، من حيث نموها وانعكاساتها، بالفعل التواصلى كآلية جوهرية فى العالم الحياتى Life world .

خامسا- عن الأوضاع الدولية المتعلقة بالتعايش:
بطبيعتها، الأوضاع الدولية، ومنذ فترة ليست بالقصيرة نسبيا (أكثر من قرنين)، تخلق منصات مضادة لقيم وسلوكيات التعايش واحترام الآخر. إنها منصات عديدة التنوع، ودائمة التجدد.

الخطورة الأعظم (والمزمنة) تكمن فى أن هذه المنصات (الدولية) تُسقط "فيروسات" مضادات التعايش واحترام الآخر على عموم المجتمعات فى جميع بلدان العالم، تقريبا.

وكأمثلة لهكذا أوضاع دولية يمكن الإشارة الى مايلى:
1- الصهيونية:
بالإضافة الى استيلاء الصهيونية على الأراضى الفلسطينية، الأمر الذى بدأت مسيرته الدولية بوعد بولفور (1917)، نجدها مدانة بممارسات مضادة للتعايش واحترام الآخر الذى تتكلم الصهيونية باسمه، وتحديدا ممارسات مضادة لليهود أنفسهم (وليس فقط الفلسطينيين وعموم العرب). يتضح ذلك فى ممارسات رئيسية [...] من أهمها:
- تنظيم فاعليات إرهابية ضد اليهود المضادين للفكرة الصهيونية، أو غير الراغبين فى الإنتقال الى الأراضى الفلسطينية.
- بذل جهود سياسية جبارة فى أوروبا للإستيلاء على الأطفال اليهود اليتامى، الذين كانت قد تبنتهم عائلات أوروبية، وذلك بغية نقلهم الى الأراضى المحتلة.
- إبتكار برامج وفاعليات تعليمية لإجبار الأطفال على ممارسة التعصب والإرهاب ضد الآخر (العربى عموما والفلسطينى على وجه الخصوص).

2- قيام الرئيس الأمريكى نيكسون، فى 5 أغسطس 1971 ، بمفاجئة النظام النقدى العالمى المستقر بإيقاف قابية تحويل الدولار الى ذهب، وذلك دون أى تشاور مع شركاء النظام الدولى، وبصرف النظر عن مصالح الآخرين[...].

3- المؤامراتية (كفكر وتوجهات وتطبيقات):
كثيرون، فى كافة مناطق العالم، يُبدون عدم الإعتقاد بوجود حقيقى للمؤامراتية كفكر وكممارسة، غير أننا نظن أن المؤامراتية تكاد تكون هى الممارسة الأكثر شيوعا فى خلق وتحفيز مضادات التعايش، وفى إضعاف الآخر، وانتهاك كرامته، وأحيانا القضاء عليه.

فيما يلى تجرى الإشارة الى أمثلة معروفة، بخصوص المؤامراتية، على مستويات دولية وإقليمية ومحلية، وهى فقط مجرد أمثلة حيث تكاد المؤامراتية أن تكون "لازمة" فى العديد من الممارسات السياسية.
- إتفاقية سايكس بيكو (1916) كانت بمثابة الإتفاق السرى بين فرنسا وبريطانيا (وبمصادقة روسيا القيصرية)، ومن خلالها توافقت البلدان على اقتسامهم للنفوذ فى البلدان العربية، فى مناطق الهلال الخصيب والعراق والخليج العربى.
- نظرية برنارد لويس (1916-2018 ) لتفتيت الدول العربية على أسس عرقية وطائفية ومذهبية، وتعرف هذه النظرية عند البعض ب"سايكس بيكو-2"، وفى إطارها يرى لويس إمكانية تحقيق حلم بمسمى "إسرائيل الكبرى".
هذا، ويلقى مخطط لويس دعما من وزارة الدفاع الأمريكية، وفى إطاره يجرى التوجه لتقسيم 18 دولة عربية الى دويلات صغيرة تعيش الى جانب إسرائيل الكبرى.
فى هذا المخطط يشار الى تقسيم كل من مصر وسوريا الى 4 دويلات، والعراق الى 3 دويلات، .. وهلم جرا.
- التدخلات الخارجية فى أوضاع بلدان الجنوب، والتى يأتى من أهمها التدخل الأمريكى فى أفغانستان (2001- 2021)، والذى أدى الى إنهيارات سياسية مجتمعية، والى إنتعاش صراعات إرهابية يعانى من جراءها الشعب الأفغانى أشد المعاناة.
أيضا، من أهم هذه التدخلات، الحرب الأمريكية على العراق (واحتلاله)، مع اختلاق إدعاءات مزيفة (عن امتلاك أسلحة دمار شامل) ثبت فيما بعد عدم صحتها. وبهذا التدخل تحولت العراق الى كيانات منكوبة ومتصارعة.
- تجاهل النظام الدولى لمآسى إبادات جماعية بلغت مئات الإلوف فى بعض الأقاليم والدول[...]، مثل رواندا (1994) و سريبرينتسا/البلقان (1995).
- إنحرافات فى سلوكيات جهات مسؤلة:
* مطاردات أمنية دولية كبرى لرجلين ينتميا الى كل من استراليا والولايات المتحدة (لاسانج Julian Assange – مؤسس ويكيلكس – 2006، و سنودن Edwadrd Snowden – عميل المخابرات الأمريكية المركزية 2013)، وذلك لضلوع كل منهما فى نشاط دولى كاشف للفساد على مستوى الساحة الدولية، وبين الإدارة الأمريكية والآخرين [...].
* هدم مباشر للقيم مما يؤدى الى كوارث مجتمعية:
هنا تجدر الإشارة – كنموذج للامساواه – الى انتحار شاب جامعى مصرى (خريج كلية الإقتصاد والعلوم السياسية) فور إطلاعه على نتيجة مسابقة للتعيين (2003)، حيث وجد أنه برغم الإشارة أمام إسمه (عبد الحميد شتا) الى حصوله على المركز الأول على جميع المتسابقين لوظيفة ملحق تجارى، إلا أنه ممنوع من التعيين بسبب ماذُكر أمام إسمه من أنه "غير لائق اجتماعيا"، باعتباره من أسره فقيرة وأن والده يعمل بالفلاحة (أى مزارع بسيط).
- تدخلات بعض المؤسسات المالية الدولية، وخاصة صندوق النقد الدولى، بوصفات تؤدى الى إرهاق الدول من خلال تحميلها بديون مالية، وإحداث تغييرات هيكلية، يكون من شأنها جعل حياة شعوبها أكثر معانة وصعوبة. هنا يمكن الإشارة الى حرص مهاتير محمد، ر ئيس وزراء ماليزيا على رفض تدخل صندوق النقد الدولى فى السياسات المالية لماليزيا بحجة دعم مواجهتها للأزمة المالية الكبيرة التى تعرضت لها منطقة جنوب شرق آسيا عام 1997. ومما يذكر فى هذا الصدد أن ماليزيا نجحت فى مواجهة الأزمة والخروج منها فى أقصر وقت (عامين) مقارنة بغيرها من جيرانها، حيث كانت الأولى فى تخطيها للأزمة.

- تحريف نظريات علمية بتحويلها الى مفاهيم نظرية "هادمة" لبلدان الجنوب، بل ومعوقة لمسارات الشعوب والبشر فى عموم مناطق الكرة الأرضية. فى هذا الخصوص نشير الى تحريفين رئيسيين، قد أثرا بالفعل سلبا - ولازالا يؤثرا- على أوضاع بلدان الجنوب [...]:
● نظرية الهدم البنّاء، أو الهدم الإبداعى Creative destruction :
فى الأصل، بزغت هذه النظرية بواسطة أستاذ الإقتصاد جوزيف شومبيتر، عام 1942. موضوع هذه النظرية يختص بالتغيير التكنولوجى، ولاتتعلق أبدا بمبادىء سياسية. طبقا لنظرية شومبيتر يؤدى التحول الى تكنولوجيات جديدة الى الإستغناء عن التكنولوجيات الأقدم، وبالتالى تغيير فى الأسواق، مع هدم (بمعنى إلغاء) التكنولوجيات التى تقادمت. أما "ركوب" هذه النظرية للإيهام بها كنظرية سياسية إبداعية جديدة فإنه إتجاه سياسى من الإدارة الأمريكية، لم يُشر الى أصل النظرية، وإنما يستخدمها مباشرة فى بلدان الجنوب بإدعاء التحول الى الديمقراطية، بينما المقصد فى الواقع هو تحطيم هذه البلدان. وهنا يمكن القول بأن ماجرى فى العراق منذ 2003 (التدخل العسكرى الأمريكى وماصاحبه من نهب وتفتيت) هو خير شاهد على ذلك.
● قانون 20/80 ، والذى وضعه فلفريدو باريتون Velfrido Pareto عام 1897:
إنه قانون ذا صبغة إحصائية، ويعرف بقانون "باريتو". يقضى هذا القانون بأن أعضاء ال 20% الأعلى فى أى توزيع Distribution لأى شىء (مثلا: جودة الأفلام السنيمائية – أجور لاعبى كرة القدم – شهرة الصحفيين – كفاءة الباحثين العلميين ... الخ) يحصلون على (أو يمثلون) 80% من العائدات، مثل عائد القوة، أو عائد الدخل، أو عائد التأثير ...الخ.

على غرار هذه الفكرة، بالإرتكاز عليها، وبدون أى إشارة مرجعية لها، تفاجأ العالم، فى ظل بدايات العولمة، بإطلاق مفهوم أنه يكفى لأنشطة الإقتصاد العالمى أن يقوم به فقط 20 % ممن يقومون به، على أن يعيش ال 80% الآخرين من حسنات تتساقط عليهم من الدخول التى يتمتع بها ال20%.

بعد إطلاق هذا التوجه سرعان ما شاهد العالم ملامح لبزوغ توجهات جديدة مماثلة، مناقضة لمصالح جموع البشر. من هذه الملامح تسارعات فى عمليات تسريح العمالة، مع زيادة حادة فى مرتبات الإدارة العليا، وكذلك عمليات تقليص لأنشطة الرفاه الإجتماعية.

مايبعث على الحزن، فى هذا السياق، أن بعض قيادات مجتمعات بلدان الجنوب قد اتبعت هذا التوجه فى مجالات حرجة تختص بتحسين الثروات البشرية الوطنية، مثل مجال التعليم. لقد تصاعدت رؤى تدعو الى قصر التعليم الراقى على 20% فقط ممن هم فى مراحل التعليم. وهكذا يمكن اعتبار ماجرى ويجرى بسوء استخدام نظريتى "شومبيتر" و"باريتو" كمجرد نماذج للإنحراف وممارسة العنف ضد الآخر.
إستنتاج:

مماسبق، يجدر الإنتباه الى أن حسن التعامل مع إشكاليات التعايش واحترام الآخر، خاصة فى بلدان الجنوب، يتطلب جهودا إبداعية فى تجنب نزول إسقاطات سلبية من الكيانات الوجودية الأوسع،على المستويات الدولية والمجتمعية. من جانب آخر، تبرز أهمية الإستيعاب والتفاعل الإيجابيين بشأن تطورات المعارف العلمية العالمية عن العنف، وخلفياته، وسياقاته. ذلك بالإضافة الى الإعتناء بالثقافات المحلية المتعلقة بحسن الجوار وحسن العلاقات مع الآخرين.
وبالطبع، مع الإهتمام بالمعارف العالمية وبالثقافات المحلية، لاغنى عن الإهتمام المحلى بإجراء البحوث العلمية، الميدانية، والنظرية، بشأن "التعايش المشترك واحترام الآخر".

وفى الختام يمكن القول بأن الوضعية الراهنة للنظام العالمى، وتداعياته المجتمعية، تساهم بقدر كبير فى إجهاض التعايش، وليس حمايته. إنه أمر لايستقيم بغير رؤى وتنقيبات وتقويمات تقوم على أساس المعارف والبحوث العلمية، على المستويات العالمية والمحلية، وفى أطر جماعية متشابكة.

(ملحوظة: هذا الطرح مأخوذ جزئياً من محاضرة للمؤلف بعنوان "نحو رؤية كلية لإشكاليات التعايش واحترام الآخر" ضمن أعمال المؤتمر الدولى :التعايش والتسامح واحترام الآخر، مكتبة الإسكندرية، 23 نوفمبر 2022).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التعبئة الطلابية التضامنية مع الفلسطينيين تمتد إلى مزيد من ا


.. غزة لأول مرة بدون امتحانات ثانوية عامة بسبب استمرار الحرب ال




.. هرباً من واقع الحرب.. أطفال يتدربون على الدبكة الفلسطينية في


.. مراسل الجزيرة: إطلاق نار من المنزل المهدوم باتجاه جيش الاحتل




.. مديرة الاتصالات السابقة بالبيت الأبيض تبكي في محاكمة ترمب أث