الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الورقة الخضراء

دلور ميقري

2023 / 3 / 2
الادب والفن


طفلة لم تبلغ العاشرة من عمرها، اعتاد المارة على رؤيتها وهيَ تفترش الجادة الأنيقة، المحاذية لشارع محمد الخامس من جهة مسجد الكتبية. كانت تبيع المناديل الورقية، التي ما زال الناس يعرفونها باسم ماركة " كلينكس "، فيما هيَ تقرأ كتاب المدرسة أو تحل مسألة في مادة الحساب. طفلة جميلة الملامح، لكنها ضئيلة القامة ونحيلة؛ ربما لأنها لا تتغذى بشكل جيد. ناهيك عما تعانيه من مشقة الرزق، إن كان في آناء البرد أو القيظ.
مع ذلك، كانت " رقيّة " تعدّ نفسها سعيدة بشكل من الأشكال. فإنها تحظى بالثناء في المدرسة والمنزل على حدّ سواء. لقد نشأت على تحمل المسئولية بهذا العُمر الغض، وذلك عقبَ طرد والدتها من الخدمة بإحدى الرياضات بسبب معاناتها من مرض عضال. منذئذٍ نزلت الطفلة إلى العمل في الشارع، جنباً لجنب مع إكمالها للدراسة نهاراً.
أمرٌ واحد، كان ينغّصُ على رقيّة الشعورَ بالسلام والأمان في أثناء العمل. متسولة شابة، كانت لا تفتأ تراقبها عن بُعد بعين منتبهة وجشعة. أحياناً، كانت هذه تقترب من الطفلة مع ابتسامة مسمومة على شفتيها المكتنزتين: " لقد حظوتِ بغلّة وفيرة حتى الآن، أيتها النملة! ". أو تقومُ حانقةً برفس الكتاب، الذي تقرأ فيه الصغيرة: " إنك تخدعين الزبائن به، فيشفقون عليك ويشترون مناديلك اللعينة ".
ذات ليلة ربيعية، وكان أذان العشاء قد انطلق قبل نحو ساعة من مسجد الكتبية المجاور، مرت سائحة أجنبية من الجادة وما لبثت أن توقفت مدهوشة ومشفقة. لقد لحظت إصرار الطفلة، بائعة المناديل، على مراجعة دروسها في هذه الساعة المتأخرة. اقتربت منها، لتنحني عليها وتحدثها بضع كلمات بالفرنسية. ثم دست السيدة يدها في حقيبتها، وناولت الطفلة ورقة مالية من فئة الخمسين درهماً. غبَّ مغادرة المرأة الكريمة، بقيت رقيّة لحظات وهيَ تقلّب الورقة الخضراء في يدها وقد غمرتها البهجة. فكّرت خصوصاً، بمقدار سعادة الأم عندما تعاين غلّة اليوم.
" آه منك، أيتها النملة الخبيثة! "، تناهى في العتمة صوتٌ كفحيح الأفعى. كانت الجارة المتسولة، والتي ما أسرع أن انتزعت الورقة الخضراء من يد الطفلة: " هذه أعتبرها تعويضاً لي عن أولئك الزبائن، الذين لطالما عمدتِ أنت لسرقتهم مني بألاعيبك ". قفزت الطفلة من مكانها، تحاول استعادة ورقتها المالية، لكن الأخرى دفعتها بعنف وغادرت المكان مسرعةً. رقيّة، لحقت بها معولة باكية، مستنجدة بالمارة عبثاً. أسقط في يدها أخيراً، عندما ابتلعت العتمة تلك المرأة الشريرة. بدَورها، أخذت الطفلة طريقَ البيت دون العودة لأخذ رزم المناديل الورقية. الطريق إلى المنزل، الكائن في حي المسيرة القديم، كان يستغرق حوالي الساعة مشياً على الأقدام، وقد قطعته رقيّة وهيَ تسير مترنحة من شدة النحيب والحزن.
كانت تلك المرة الأخيرة، التي شوهدت فيها الطفلة بائعة المناديل الورقية على الجادة، المحاذية لشارع محمد الخامس. ويقال، أنها رحلت عن الدنيا تأثراً بحمى شديدة. وكانت لا تفتأ تهذي بالكلام عن الورقة الخضراء، لحين أن أسلمت الروح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق