الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضدّ التّضليل، ضدّ تزوير الذّاكرة.

عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)

2023 / 3 / 3
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


الذاكرة التاريخية دور مركزي في بناء وعي الشعوب وتشكّل ضميرها الجمعي، وفي تصالحها مع ذاتها، وفي ثقتها في المستقبل وسيطرتها على مقدّراتها. فالشعب الذي ينسى أمسه لا يقدر على فهم واقعه. وبالتالي يعجز عن التحكم فيه، بما يعني أن آخرين سيتحكمون في هذا الواقع بدلاً منه.

لقد أدركت منظومة الإرهاب والفساد خطورة هذا الأمر. وهي تعمل اليوم بحِرفية عالية على إعادة تشكيل الذاكرة بما يمكنها من إحكام سيطرتها على وعي الناس، من خلال تركيب تاريخ مُزيّف وبثّه بخبث في شكل توجيه معنويّ مستمرّ، حتى لكأنّ البلاد يوم 24 جويلية 2021 ، كانت جنّة والناس في نعيم.
في نفس الوقت، يحاول راشد الغنوشي بعد نجاحه في اختراق بعض المنظمات الوطنية وبعض الأحزاب، وبواسطة الضغوط الدولية عن طريق السفارات وأجهزة الاستخبارات، وباستخدام الإعلام، إعادة تشكيل وعي الناس، على أساس محو ما قبل 25 جويلية، حتى يصبحوا عاجزين عن قراءة مجمل اللوحة السياسية المعقدة.

أودُّ أن أعود بكم قليلا إلى مشهد ما بعد انتخابات 2019، لأُذكّركم أن المنقلب الأصلي هو راشد الغنوشي الذي استولى على صلاحيات الرئيس. وباسم الدبلوماسية البرلمانية، صار يزور دولا ويعقد اتفاقات دون علم زملائه في البرلمان، ودون علم الدولة. فلو عدتم إلى التسجيلات ستجدون للغنوشي تصريحات يهدد فيها بإسقاط الرئيس، منها: "إن موضوع الحكم ورئيس الوزراء يعود إلى حزب النهضة، وإن تونس تعيش اليوم صعوبة المزج بين النظام الرئاسي والبرلماني، والدرس الذي ستصل إليه هو الذهاب إلى نظام برلماني بالكامل".
كان راشد الغنوشي يدلي بتصريحات استفزازية لإهانة رئيس الجمهورية وإرباكه بطرح سيناريو الاتجاه نحو النظام البرلماني الكامل، لمزيد قضم صلاحياته وإنهاء دوره. وهو من دفع بالحرب على الرئيس للعلن، في محاولة منه لتقزيمه والتقليل من شأنه سياسيًا، وذلك بتسويق نفسه على أنه هو الحاكم الفعلي للدولة. وقد بلغت به الصّفاقة إلى الإتيان بأردوغان، وحرّضه، في مشهد مُذلٍّ، على مخاطبة الرئيس بلهجة متعالية مهينة في قصر قرطاج. وكلكم يذكر كيف تم اختطاف المشيشي وبهذلته بِتصويره في سهرة ماجنة بباريس، بغاية ابتزازه والتحكم فيه. وهو ما جعله ينقلب على الذي عيّنه، ويتمسك بحق انفراده بإجراء التعديل على الحكومة. وكيف أعتبر آداء اليمين مجرد بروتوكول غير ضروري، وانخرط في بدعة تزكية الوزراء الجدد أمام البرلمان. وهذا كله ليس فقط مخالف للمنطق ولدستور البلاد، بل مُخالف لميزان القوى ولمزاج التوانسة، حيث انتخب الرئيس سعيّد بثلاثة ملايين صوت، بينما حظي البرلمان برمته بمجموع أصوات أقل من الذين صوتوا لرئيس الجمهورية. أما رئيس الحكومة فلقد دفعوه للتّطاول على رئيس الجمهورية الذي عيّنه، والذي يستمد منه شرعيته.

يعني لو نضع الامور في نصابها بكل موضوعية ونخرج من حالة بتر الذاكرة التي تعرضنا لها، ونحذف من حولنا مؤثرات الضجيج اليومية، ونستعيد ما عندنا من نزاهة لقراءة ما حدث في حينه، لقلنا إن الغنوشي هو الذيى شرع في تنفيذ الانقلاب على الرئيس علنا وعلى الملأ، على أن فكرة إرساء النظام البرلماني الكامل، هي رغبة إخوانية دفينة لأنه نظام لا مركز للقرار فيه، وهو النظام الوحيد المؤهل لضرب عدوّ الخوانجية الأول وتفكيكه من الداخل ألا وهو الدولة الوطنية.

في الأثناء كانت الأزمة تستفحل والغضب يتصاعد، حتى كشفت استطلاعات الرأي أن 94% من الشعب التونسي يرفضون استمرار مجلس النواب لأنه يضم فاسدين. وجاءت المؤشرات وقتذاك لتعطي الدليل القاطع على خطر الانهيار وتفكك الدولة وعلى ما بلغته البلاد من أوضاع مأساوية على جميع الأصعدة، لم يكن بالإمكان استمرارها بأية حال من الأحوال، إذ:تراجع الاستثمار، وتراجع النّمو وتوقفت عجلة الانتاج بشكل غير مسبوق، وهذا أدّى إلى:
ارتفاع نسب البطالة وتضاعفها.
توسّع رقعة الفقر إلى درجة الجوع البيّن..
تراجع الترقيم السيادي.
تراكم المديونية.
انهيار المنظومة الصّحّية.
تدهور المدرسة والنقل والخدمات في جميع الادارات بلا استثناء.
إهمال الثقافة بشكل ممنهج ومتعمّد.
خوصصة مؤسسة الأمن واختراقها عن طريق وُصول عناصر متطرفة وإرهابية إلى مركز القرار.
السيطرة على جزء مهمّ من القضاء وتوظيفه توظيفا حزبيا لحماية المجرمين، وإبطال تعقّب الفاسدين.
السيطرة على الإعلام واستخدامه في تخريب الحياة السياسية.
استشراء الرشوة والمحسوبية والفساد.
سيطرة التهريب على أكثر من ثلث الاقتصاد الوطني.
التلاعب بالمال العامّ.
تحول البرلمان الى سوق نخاسة يتنافس فيه المهربون والهاربون من العدالة على النفوذ داخل الدولة.
إضافة إلى مشاهد العنف والفوضى والفضائح.
هكذا كان المشهد العام يوم 24 جويلية، فيما كان التوانسة يموتون بالكوفيد يوميا بسبب قلة الدواء وغباب المواد الطبية والرعاية الاستشفائية.

إزاء هذه الحالة الكارثية، نهض الشعب التونسي لمواجهة تردّي الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة في جمنة وأولاد جاب الله وفي تالة والقصرين وسليانة وباجة وجندوبة وصفاقس وقابس. وفي تونس الكبرى انفجرت الأحياء الشعبية بالليل وبالنهار. ولأول مرة في تاريخ البشرية، يندفع الأحداث ليلا لإيصال رسائل الخصاصة للحكام. وظل الشعب، رغم جائحة الكورونا، يطالب بتغيير عميق على نحو تُحفظ فيه كرامة الناس. حل شهر جويلية المشتعل كعادته، واستمرت سوء معالجة الحكومة لأزمة تفشي "كورونا"، وعدم توفير اللقاحات للمواطنين، وعدم وصول المساعدات الطبية إلى الفقراء الذين كانوا يتساقطون يوميا بالمئات تحت حوافر الوباء، فيما راجت صور رئيس الحكومة السابق يسبح ويتنقّه في أفخم نزل الساحل. وهكذا بدأ غضب الناس وقهرهم يتصاعد ويتفاقم حتى بلغ ذروته يوم 25 جويلية، يوم الرّموز والدلالات التاريخية..

نجح الرّئيس في اختطاف الاحتجاجات الشعبية العارمة، مُستندا إلى رصيد الثقة الذي يتمتع به منذ انتخابه، ليحوّل تلك الاحتجاجات إلى قرار تاريخي أنهى به مرحلة، وافتتح مرحلة جديدة. تلك القرارات التي اتخذها الرئيس كانت متفقة مع مطالب المواطنين الذين تجمعوا في محيط مقر البرلمان يومها، للدعوة إلى تنحي الحكومة، وحل البرلمان، وحلّ حركة النهضة على أساس أنها الحزب الأول الذي أضرّ بالبلاد وبالشعب.

أصل بكم الآن إلى لُبّ الموضوع . وأدعوكم إلى العودة إلى بيانات كلّ الأحزاب السياسية وكل المنظمات الوطنية التي صدرت بدءًا من يوم 26 جويلية 2021. وستقفون على المواقف المؤيّدة لرئيس الجمهورية، بما في ذلك حركة النهضة نفسها، التي اعتبرت (في إطار سياسة المناورة والتّزحلق المعهودة) أنّ الإجراءات الاستثنائية فرصة للإصلاح!
ولو راجعتم أخبار السياسة في تلك الأيام، لتذكرتم كيف تواترت زيارت ممثلي الأحزاب تِباعا لقصر قرطاج عارضين أنفسهم للمساعدة والإسناد. وستتفاجؤون حين ترون نفس تلك القوى تتكتّل اليوم للإطاحة برئيس الدولة وإعادة حركة النهضة إلى الحكم.

السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم:
هل نسي هؤلاء ماذا حدث؟
هل نسوا الجوع؟
هل نسوا خراب الإدارة؟
هل نسوا الإرهاب السّاكن في قصر العدالة؟
هل نسوا تقرير محكمة المحاسبات؟
هل نسوا حقيقة الجهاز السري وارتباطه برئيس البرلمان؟
ألم يعودا معنيين بهذه القصايا؟

لا أعتقد أنهم نسوا مأساة حكم الخوانجية. ولكن معظم هؤلاء حين تأكّد لهم بأنهم لن يجدوا مع قيس سعيّد حِصّة من السلطة والثروة تهواها قلوبهم، انقلبوا عليه تحت عنوان "الدفاع عن الديمقراطية".

هنا، لا بدّ من الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية تتعلّق بالخطأ الفادح الذي ارتكبه رئيس الجمهورية، وبسببه أدخل مسار 25 جويلية في مأزق سياسيّ حقيقي، حين وضع الجميع في سلّة واحدة وعزل نفسه. فليست كل الأحزاب وكل القوى الوطنية فاسدة ومجرمة ومتحيّلة كما حلا له أن يرى. وإنما كان يجب استبعاد الأطراف التي حكمت البلاد وأوصلتها إلى الهاوية، وإقصاء المتورطين في الفساد، وتشكيل جبهة وطنية ديمقراطية مع بقية القوى التي ظلت خارج السلطة والحكم وخارج دائرة الفساد والإفساد.

ما يعنينا هنا، هو الكشف عن السّبب الحقيقي الذي دفع بتلك القوى التي هلّلت لحل البرلمان وحل الحكومة. ولكنها عارضت بشدّة حلّ المجلس الأعلى للقضاء! بل انتقلت فورا، ما أن صدر القرار بِحلِّه، إلى صف حركة النهضة. وهنا بيت القصيد ومربط الفرس.

حين أقدم رئيس الجمهورية على حلّ المجلس الأعلى للقضاء تمّ الفرز. وانكشف كلّ المتورطين في الفساد. حيث بدا لهم أن ذلك المجلس المُرتشي الذي كان يحميهم قد سقط، وأن باب جهنّم قد فّتِح. سيما وأن هذا الرّجل الذي سكن قصر قرطاج، ليس فقط غير مستعدّ للمساومة، بل هو مصمّمٌ على ملاحقة كل الفاسدين.
يعني بلغة أبسط. تفاعل هؤلاء مع الزلزال ولسان حالهم يقول: "أن تسقط الحكومة، لا بأس. بل ربما ذلك سيشكّل فرصة للتموقع في الحكم على نحو مُريح ودون ضغط حزب النهضة. وأن يُحلّ البرلمان وتُقصى حركة النهضة من الانتخابات المقبله بناء على تقرير محاكمة المحاسبات، هذا جيّد أيضا. وأما أن تطال العدالة كل الفاسدين، فهذه مُصيبة". ووقتها شكلت المافيا جبهة الخلاص، ووضعت في واجهتها من رأته صالحًا للاستخدام. وحولها تشكلت جبهات أخرى ومبادرات وتكتّلات، ظاهريا تجمعها "مناهضة الاستبداد والدفاع عن الحريات"، وفي الأعماق يربط بينها تورّطها في الفساد، بدرجات متفاوتة، كُلّ حسب قُدراته، ولكلّ ما طالت يداه. وبطبيعة الحال سار على ضفاف هذه التكتّلات قطاع واسع من الشباب والنساء والمناضلين الديمقراطيين والحقوقيين الذين يخشون فعلا، ومن حقهم خشية عودة الاستبداد، دون وعي بما يجري في الأعماق.

لكل هذا، ووسط هذا الغُبار المُثار من كل حدب وصوب، اختلط الحابل بالنّابل. فلم يعد هنالك تمييز بين بثينة الخليفي وأسامة غلام وأسامة الصغير الذين اعتقلوا دفاعا عن الحرية، وبين من تعمّد التّصعيد حتى يُغطّي على فساده ويدخل السّجن بِبِطاقة مناضل. ولم يعد هنالك تمييز بين الوقوف المشروع ضد سياسة الانفراد بالرأي، والوقوف غير المشروع ضد ملاحقة الفاسدين. ولم تعد هنالك مسافة بين الإبقاء على قضاء المافيا الذي يُعطل مجرى العدالة، وبين النضال من أجل حماية الحريات. وما عاد هنالك تمييز عقلي بين كفاح حركة النهضة من أجل الإفلات من العقاب والعودة للحكم ودفن جميع الجرائم إلى الأبد. وبين النضال من أجل المطالب الاجتماعية. فإذا كان مطلب حركة النهضة بإسقاط رئيس الجمهورية متوقعا ومفهوما، لأنها مستهدفة ومحاصرة بجرائمها، وهي المستفيدة من إسقاطه، لأن إسقاطه لا يعني أيّ شيء آخر سوى عودتها للحكم. فإن الشعب التونسي الذي انتفض ضد حكم المجرمين، ليس له من تفسير لإصرار الاتحاد العام التونسي للشغل (مثلا) على إسقاط الرئيس وهو الذي كان لوقت قريب يُطالب بحلّ البرلمان وإسقاط منظومة 24 جويلية.

الملاحظة الأخيرة، قد تجادل بعض القوى ب"مهزلة الانتخابات"، وهي مُحِقّة في ذلك لأنه لا وجود لديمقراطية بلا أحزاب. ولا شرعية لانتخابات بلا منافسة نزيهة واسعة. لكن هذا يصُحُّ في زمن السلم والديمقراطية والاستقرار. أما في زمن الحرب على الفساد والإرهاب معًا، فالمفترض الكل يسعى لاستعادة الدولة من يد الجهاز السرّي المُسلّح. الدولة التي من خلالها تعود الانتخابات والمجالس المحلية والبرلمانية، ويصبح بإمكان ممثلي هذه القوى الديمقراطية وقادة المنظمات الوطنية التنقّل دون حماية أمنية، ودون أن يكونوا مُهدّدين من الدواعش الذين كانت لهم كتلة في البرلمان.

باختصار ليس ثمة فرق بين فساد وآخر، وإن اختلفت طبيعته وأهدافه ودرجاته ودوافعه، فهو واحد، وبالتالي فالموقف منه ومن مكافحته ينبغي أن يكون واضحاً لا لبس فيه، بقدر النجاح في تمييز الأمور، ووضع كلّ معركة في سياقها حتى لا نخلط بين المجرم والضحية، وبين المناضل والفاسد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وقفة احتجاجية لأنصار الحزب الاشتراكي الإسباني تضامنا مع رئيس


.. مشاهد لمتظاهرين يحتجون بالأعلام والكوفية الفلسطينية في شوارع




.. الشرطة تعتقل متظاهرين في جامعة -أورايا كامبس- بولاية كولوراد


.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي




.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |