الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدراسات الثقافية العربية المقارنة بين فلسفتين

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2023 / 3 / 4
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


فلسفة العلم يجب أن تنبع من السياق الواقعي والظرف التاريخي الخاص بكل جماعة إنسانية، فلا توجد فلسفات بشرية مجردة صالحة لكل الجماعات وكل الأوقات سوى التوجهات الكبرى في الطبيعة البشرية وتنوعها الفطري في قدرتها على الصمود ومواجهة التحديات من عدمه، والتنازع بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية.
وإذا اعتبرنا أن التاريخ البشري ليس مسطرة أو خطا مستقيما يسير في نوع من الثبات والرتابة، لوجدنا أن حال الجماعات البشرية ينتقل بين قوة وضعف، نهضة وتراجع، فسيادة النموذج الحضاري في الجماعات البشرية هو أمر يخضع للتداول ولا يستقر أبدا عند جماعة بشرية ويصبح إرثا تحتكره وتظن أنها وصلت بها لذروة الوجود البشري وفلسفاته (المسألة الأوربية والنظرية المطلقة المثالية أو المادية أنموذجا).
وبين حالة القوة وحالة الضعف تظهر فلسفات أو تصورات بشرية تقترح على الجماعة الإنسانية طرقا كلية وأفكارا رئيسية للحياة، وفي حالات الضعف يظهر استقطاب رئيس داخل الجماعة البشرية وفلسفاتها، استقطاب بين الواقعيين الماديين الذين يتذرعون بطبيعة الوجود الحالي المتراجع، وبين المثاليين والحالمين والأبطال الذين يدافعون عن المتخيل والغائب والذاكرة التي تحمل حالة القوة والصعود الحضاري.
بل وربما إذا أجرينا تجربة اجتماعية وأخذنا مجموعة من الأطفال الصغار، ووضعناهم على جزيرة وتركناهم ليكبروا في مجتمع بلا ذاكرة ولا استقطاب، لكان التنوع البشري حاضرا في النفس البشرية رغم ذلك..، ليميل بعض أفراد المجتمع الجديد نحو المثال والحلم والخيال وصالح الجماعة والجزيرة كلها، ومال بعض أفراد المجتمع الجديد إلى ما هو واقعي ويومي ومادي ومرتبط بالوجود الحقيقي والمصالح الفردية والشخصية القريبة واللصيقة بالفرد دون تلك الجزيرة.
من ثم على كل فلسفة جديدة أن تعلن انتصارها لوجة نظر ودفاعها عنها في سياق الجماعة الإنسانية التي تنتمي لها، هنا أجد أنه لزاما عليَّ أن أوضح اختيار مدرسة "الدراسات الثقافية العربية المقارنة" والنسق الثقافي الذي تنتمي إليه وتدافع عنه..
إن مدرسة الدراسات الثقافية العربية المقارنة تأتي في لحظة تراجع حضاري عربي، وتمدد للمقاربات الحضارية الأخرى المحيطة به إقليميا (المشروع الصهيوني- المشروع الإيراني- المشروع التركي- مشروع "المركزية السوداء" العنصرية)، ودوليا (انعاكسات مشروع "الأوراسية الجديدة" الروسي- استقطابات مشروع "الحزام والطريق" الصيني- هيمنة المسألة الأوربية ومشروع "الليبرالية الديمقراطية" بعد هزيمة الشيوعية).. من ثم فهي لا تصطف في جانب الواقعيين والماديين والوجوديين –دون أن تعاديهم لأن ذلك طبيعة وتنوع بشري تاريخي- وتروج للازدهار الحضاري الخاص بالآخر العالمي أو الإقليمي، إنما هي تصطف في جانب الحالمين والمثاليين وتنظر في أسباب تراجع الذات العربية وتبحث عن طرق استعادتها لنهضتها وخروجها من تراجعها مرة أخرى.
وفي الوقت نفسه فإن هذه المدرسة العلمية والفلسفية الجديدة بالوعي الكافي كي لا تقع في الجدل العبثي بين الطبائع البشرية في الحالة العربية، بين دعاة فريق "الاستلاب للآخر" الحضاري ودعاة فريق "التمترس حول الذات" الدعائي! هي مدرسة علمية تسعى لتقديم البدائل المستقبلية واستشراف السيناريوهات الممكنة للعبور للمستقبل، وهو وعي بالتنوع البشري وطبائعه ليس إلا، واختيار يقوم على الحركة في منطقة البناء وليس الجدل الوجودي المجرد بين طبائع يحكمها الواقع في نهاية الأمر، فلو انتصرت الذات العربية لمال لها فريق الواقع والمادة والوجود المعاش بطبيعة الحال، ولو استمر تراجع الذات العربية ما تخلى عنها فريق الاستعادة والحلم والمتخيل والمثال رغم كل شيء..
لذا فإن مدرسة الدراسات الثقافية العربية المقارنة اختارت أن تعمل في منطقة طرح المقاربات وبناء التصورات، بعيدا عن الجدل الوجودي المجرد بطابعه النفسي الصرف بين فريق الاستلاب للآخر الحضاري وفريق التمترس الدعائي حول الذات العربية.
ووضعت مدرسة الدراسات الثقافية العربية المقارنة لنفسها فلسفتين عملت عليهما بالفعل في مؤتمرين علميين عربيين موسعين (بين مصر وتونس واليمن)، شارك في الأول أكثر من 20 باحثا وفي الثاني أكثر من 30 باحثا، الفلسفة الأولى هي فلسفة "المشترك الثقافي" والفلسفة الثانية هي فلسفة "إدارة التنوع وتفكيك التناقضات".
والفلسفتان تأتيان من طبيعة الظرف الخاص بالذات العربية، وكبديل واقعي ونمط حياتي جديد بدلا من فلسفات الانتصار للهوامش وتفجير التناقضات، التي وقع فيها دعاة فريق الاستلاب الحضاري للآخر المتفوق والباحثين العرب الذين عملوا على الدراسات الثقافية الغربية –بحسن نية أو بدون- التي نشأت في بريطانيا، بفلسفاتها التي عبرت عن السياق الأوربي وهزيمة اليسار وبحثه عن مجالات فرعية للتعبير عن وجوده الرمزي، مثل الانتصار للمهاجرين والأقليات اللغوية الوافدة والسياسات النسوية والـ"عبر جنسية" (الشذوذ)...
حيث رأت مدرسة "الدراسات الثقافية العربية المقارنة" أن "دراسة الحالة" العربية خرجت بمشاهدات قاسية، لرواج فلسفة الدراسات الثقافية الغربية وفلسفاتها عن تفجير التناقضات والانتصار للهوامش، من ثم خرجت ببديل علمي وفلسفي وهو فلسفة "المشترك الثقافي" وفلسفة "إدارة التنوع وتفكيك التناقضات"، بحثا عن اللُحمة والسعي في طريق الاستعادة الحضارية للذات العربية وتجاوز التناقضات التي وقعت فيها، مع إرث القرن العشرين رد الفعل للمسألة الأوربية وهيمنتها الحضارية والثقافية، ومنحها "تقييما اتفاقيا" عالميا عاليا.
والحقيقة أن مدرسة الدراسات الثقافية العربية المقارنة يجب أن تستمر وتجتهد في سعي جاد للوصول إلى نسق علمي وفلسفي متكامل، يقدم حزمة متكاملة ومتعاضدة من القيم للذات العربية، ويربط بين السياسات الثقافية والعلمية والأكاديمية والنظريات الأدبية.. لأن حالة النهضة هي حالة متكاملة ومتجانسة، ربما تبدأ ببذرة صغيرة لكنها يجب عليها أن تنمو وتكبر وتضطلع بدورها في بناء المستقبل وتحمل مسئوليتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه الموافقة


.. وزير خارجية فرنسا يسعى لمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في




.. بارزاني يبحث في بغداد تأجيل الانتخابات في إقليم كردستان العر


.. سكاي نيوز ترصد آراء عدد من نازحي رفح حول تطلعاتهم للتهدئة




.. اتساع رقعة التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة للمطالبة ب