الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعطف (قصة قصيرة)

محمد عبد حسن

2023 / 3 / 4
الادب والفن


لم يبقَ الكثير ليصل. الضوء الأبيض الذي تطلقه المصابيح الأمامية، والتي أشعلها قبل حلول الظلام، لا يلبث أن يضيع.. يتشتت بفعل الضباب المصرّ على الهبوط كثيفًا مغيّبا كل شيء حوله: الأشجار المنتصبة على جانب الطريق بخطوط مستقيمة تجعلها تختفي، وهو يتابعها بطرف عينه في اللحظات التي يطمئن فيها إلى خلوه، الواحدة خلف الأخرى ليبدو صفّها الطويل الممتد إلى حيث لا يدري وكأنه شجرة واحدة.. كل ذلك يراه على اليمين. على يساره.. غيّب الضباب، الراكض باتجاهه، قبورًا مبعثرة بفوضى تذكّره بعبثية الموت وجنونه حين بدأ يغرز أنيابه في جسد المدينة محوّلًا إياها إلى جثّة كل شيء فيها يترقبه. تلك البعيدة منها.. لم يعد يراها.. ابتلعها الضباب المستحيل لونه إلى الرماد مع حلول الظلام، بينما تتشبث القريبة بعينيه وبما تبقى من ضوء محاولة الإفلات من قبضة الظلام الزاحف إليها كما الموت؛ وهو ينثر شظاياه في كل مكان حيث لا ينفع الاختباء أو الجلوس خلف جدران سميكة ومراقبة الحياة، وهي تعدو، من خلف نافذة تطلّ على شارع أو زقاق.
يرفع زجاج النافذة القريبة منه أعلى قليلًا تاركًا فتحة بسعة إصبعين متلاصقين ثم يحكم وضع معطفه الثقيل على كتفيه. تتناوب يداه في مسك المقود الكبير المرتجف، ككل شيء حوله، ربما بسبب البرد أو الخوف من أن يحل الظلام قبل أن يصل، عندها ستضيع معالم الطريق تمامًا ولا يعود أمامه غير الزحف ببطء قريبًا من الخط الأبيض الطويل المرسوم على حافة الطريق.. هذا إذا لم يضطر إلى التوقف وقضاء الليل هنا.. وحيدًا. تحسس، بيده التي حررها من المقود قبل قليل، فراشه الملفوف خلفه ثم نقلها لمسح قطرات الماء المتكاثفة على الزجاجة أمامه بقطعة قماش لم يبحث عنها طويلًا، إذ كانت محشورة تحت فخذه. إلا إنه، هذه المرة، تركها أمامه فوق علبة العدادات المتراقصة على إيقاع دويّ عربته المتدحرجة، بتثاقل، على بقايا ما تلتقطه عيناه من الطريق الإسفلتي المنحصر فقط بين مقدمة السيارة والمساحة الضيّقة التي تنيرها مصابيحه قبل أن يمتصّها الضباب.
(قلت له ذلك.. ولكن الرجل، بكرشه المندلق فوق فخذيه والذي كان يضطرّ إلى رفعه بين فترة وأخرى ليعدّل من وضع حزامه قبل أن يعيد يده الثقيلة، مرة أخرى، لترتاح على مسند الكرسي قبل أن تبدأ النقر، بواسطة خاتم ذهب يضيق به إصبعه، برتابة تجعل لحظات الانتظار أكثر طولًا ممّا هي عليه وأنا أتابع العاملَين وهما يفرّغان ببطء حمولة الشاحنة:
- لو أحضرت اثنين آخرين.. كنّا انتهينا الآن.
ولكنه لم يسمع. وحين أصبح حوض الحمل فارغًا كانت الشمس قد اقتربت كثيرًا من الأفق. الشطائر، التي أحضرها لي، ما زالت راقدة داخل الكيس على الطاولة. حملتها معي وانطلقت).
لمّا تذكّر كل ذلك كان المساء قد حلّ.. وتذكّر أيضًا أنه لم يلتهم شيئًا منذ الصباح.. وعندها شعر بالجوع. مدَّ يده إلى الكيس المطروح فوق المقعد الفارغ المجاور له، استخرج شطيرة وبدأ بقضمها ببطء يتناسب مع حركة عربته على الطريق الذي غيّب كل من الظلام والضباب معالمه. العجلات القليلة التي كانت تقابله بعيونها المضيئة وهي تقترب منه.. انقطعت. وحدها الضجة، التي تصدرها عربته، تبقيه يقظًا يتابع بعينين، يجاهد كثيرًا كي يبقيهما مفتوحتين، ما ينكشف له من الطريق حتى أنه لا يدري إن كان هناك فعلًا من يلوّح له.. أم أنه قد رأى ذلك في اللحظات التي انطبق فيها جفناه رغمًا عنه. توقّف. قنينة الماء، التي التقطها من بين قدميه ليغسل وجهه.. وربما ليشرب قليلا، سقطت من يده لمّا سمع طرقًا على الباب الجانبي البعيد عنه والذي لا يمكن فتحه إلا من الداخل.
* * *
فتح له الباب كهل له ذات العينين. يراه بوضوح على ضوء الصباح الساطع بعد أن بعثرت الشمس ما تبقى من ضباب البارحة الكثيف، بقاياه ما زالت تتجمع ببطء لتسقط من نهايات أوراق الأشجار التي بدت مغسولة بعناية في حين شربت الأرض الكثير منه حتى كأنها قد ارتوت أو كادت. ولمّا عدّل الكهل من وضع معطفه الثقيل فوق كتفيه تذكّر لماذا هو واقف هنا:
- أتيتُ لأخذ معطفي.
- أيّ معطف! على أية حال.. أدخل.
في الغرفة، التي لا تبعد بابها عن باب الدار الرئيسة أكثر من ثلاث خطوات، تركه وحده. وهناك رآها.. على الجدار المقابل له.. كما رآها في آخر مرة خرجت فيها ولم تعد. (لمْ أطلب منها أن لا تخرج.. ولكنّي تمنيّت أن لا تفعل، إذ لا أحد يضمن ما قد يحصل. أصبحنا، قبل أن نخرج، نودّع أشياءنا الحميمة.. نلقي نظرة، ربما تكون الأخيرة، على كل شيء. أنا، هذا الصباح، طفتُ البيت كله غرفة غرفة، وقفتُ طويلًا أمام الصورة المعلّقة على الجدار، وعندما خرجتُ.. نظرتُ، وأنا جالس في عربتي المركونة تحت الشجرة الكبيرة مقابل الدار، إلى البوابة التي أوصدتها للتو.. وإلى النوافذ المفتوحة حيث تحجب الستائر كل شيء داخل الدار التي بقيتْ خالية). لحظات قليلة فصلتْ بين رؤيته لها وسماعه صوت دويٍّ أخرجه راكضًا ومعطفه بيده.. لم يضعه على كتفيه بعد. وهناك وجدها بين أجساد كثيرة متناثرة. وكان معطفه قصيرًا ألقاه على الجسد المتكوّر أمامه تاركًا الوجه مكشوفًا ليراها كما لم يرها طول ليلة أمس حين بقيت ملتصقة بالباب بنفس الثوب الذي تلبسه الآن مبتسمة إليه.. مفارقة كل خوفها وحذرها الذي قرأه عليها البارحة وهي تحدثه:
- غفوتُ.. ربما غفوت. جئت لزيارة قبر لي هنا، ولما فتحت عينيّ كان المساء قد حلّ.
- وهل جئت وحدك؟!
لم تجبه. ولمّا التفتَ إليها واجهته فوضى الشعر المنسدل على كتفيها، والذي يبدو ضاحكًا ككل شيء في الوجه المقابل له على الجدار، وهي تنظر إلى الخارج عبر الزجاجة المضببة محاولة وقف ارتجاف جسدها بضمّ ذراعيها إلى صدرها. وعندها ناولها معطفه:
- ضعي هذا عليك.
وعندما التفتت إليه لتناوله من يده الممدودة. لم يستطع، ربما بسبب الخوف أو الظلام.. أو أن الوجه الذي قابله كان غائبا بعيدا في مكان ما.. وقد تكون تركته ملتصقا على الزجاج المضبب قبل أن تلتفتَ إليه، رؤيتها بوضوح كما يراها الآن.. وكما رآها بعد أن ألقى معطفه الثقيل عليها وأزاح، بيد مرتجفة، خصلات الشعر عن وجهها فبدت أمامه نائمة تحلم. ثم عادت لتنظر إلى الأمام وهي تجيب على أسئلته باقتضاب دون أن يرف لها جفن:
- أين ستصلين؟
- بيتنا.. عند مدخل المدينة. الشجرة الكبيرة.. أرأيتها؟
- نعم. أنا أيضا ذاهب إلى هناك.
- بيتي لا يبعد كثيرا عنها.
- أتشعرين بالجوع؟ ربما بقيتْ شطيرتان داخل الكيس.
لم تجبه. ما تبقى من الطريق قضاه بصمت. إحدى عينيه مرسلة إلى الخارج عبر الزجاج وهو يمسحه بين فترة وأخرى فيما عينه الأخرى تنزلق على الجسد المسمّر قرب الباب البعيد عنه مراقبا اهتزازه مع حركة السيارة فوق مطبّات الطريق الكثيرة.. متجاوزًا حافة الثوب عند منتصف ساقيها ليرى، بصعوبة، قدميها العاريتين تنامان فوق بعضهما.
* * *
حين دخل.. كنت ما أزال واقفًا أمامها، أنظر في عينيها، أو إني لم أستطع التحرك بعيدًا عن نظراتها وهي تتابعني.. وهذا ما لم تفعله ليلة أمس. ظننتُ أنه غاب في الداخل ليحضر لي معطفي.. وها هو واقف أمامي كما رأيته على الباب قبل قليل.. غير أن معطفه لم يكن على كتفيه:
- أنتَ من أوصلها إلى هنا؟ على أية حال.. كنت أنتظرها. في مثل هذه الليالي تأتي. تنتظر الضباب والمطر.. وتتسلل كي لا يراها أحد. تدخل غرفتها. تبعثر أشياءها كما اعتادت أن تفعل. تترك الخزانة مفتوحة. وفرشاة الشعر، التي أبحث عنها طويلا قبل أن أجدها مرمية في مكان ما، ما زالت محتفظة ببقايا شعرها وقد مشطته قبل أن تخرج. أحيانًا كنت أنظر إليها متمنيًا أن تبقى.. وأحيانًا لا أراها كما حصل أمس، فقد عدتُ من طريق طويل قدت فيه عربتي بصعوبة، عيناي مجهدتان من متابعة طريق تعاون على طمسها الظلام والضباب. قلتُ: لأسير ببطء.. سأصل متأخرًا، ولكنّه أفضل من أن أقضي الليل هنا ملتحفًا معطفي، لا أدري إن كنت سأغفو أم لا، ولمّا يجيء الصباح أنهض بجسد متكسّر لأكمل طريقي. واصلتُ السير متتبعا الخط الأبيض المرسوم على حافة الطريق. ومع إني وصلت في وقت متأخر.. إلا إنني بقيت أنتظرها هناك: على المقعد المقابل للباب. غفوت.. فلم أرها. ولكني أعرف أنها كانت هنا حين أدخل غرفتها في الصباح وأجدها بفوضاها المحببة إليها. ولمّا أبدأ بترتيبها من جديد يأتي منْ يطرق عليّ الباب سائلا عن معطفه.. كما فعلت أنت.
(لم أجبه.. لأني لا أعرف، حقًا، بماذا أجيبه. ولما استدار ليخرج تبعته إلى سيارة كبيرة مركونة تحت شجرة لا تبعد كثيرًا عن الدار. على العجلات.. آثار طين لم يجف بعد. صعد هو.. واستدرت لأصعد من الباب الآخر على الجهة الثانية، حاولت فتحه فلم ينفتح، ولما طرقته فتحه هو من الداخل. أدار المحرك.. وحتى يسخن.. التقطتْ يده قطعة قماش مرمية فوق علبة العدادات المرتجفة في مكانها وبدأ يمسح ما تبقى من رطوبة عالقة على زجاج السيارة أمامه قبل أن ينطلق).
* * *
توشك الشمس أن تتوسط السماء. يوقف سيارته على جانب الطريق. يخطو، بين القبور الموزعة بفوضى، باتجاه قبر يعرفه. يجد معطفه هناك.. ملقى على قبر وكأنه يغطيه. يقف قليلا قبل أن ينحني ليلتقطه، يضعه على كتفيه.. ثم يعود إلى العربة وقد بدأ صوت محرّكها يصله بوضوح أكثر كلما اقترب منها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا