الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دراسة تحليليّة في رواية -إلى أن يُزهر الصّبّار- للناقد هاشم المشوح

ريتا عودة

2023 / 3 / 4
الادب والفن


العشق وسِفْرُ التكوين
قراءة تحليلية في رواية (إلى أنْ يزهرَ الصبار) للشاعرة والروائية الفلسطينية( ريتا عودة)

بعدما قرأت رواية (إلى أنْ يزهرَ الصبار) شعرت - وبلا شك - أنني قد قرأت أكثر من رواية ، وأكثر من ديوان شعرٍ وربما أوسع من ملحمة على الرغم من قصر الرواية التي لا تتجاوز صفحاتها مئةً وستًا وسبعين صفحةً ، لكنه الإيجاز البلاغي الرائع بغير إسهاب ولا حشدٍ مجتلبٍ ، فالكاتبة قد طرقت موضوع العشق الأبدي الخالد من خلال إسقاطه على قصة ابتداء الخلق والحب كتوأمين وُلِدا معًا ومن طينة واحدة ، فآدم - عليه السلام - أول مخلوق بشري وقد خلق الله من صلبه حواء ليعيشا حالةَ حبٍّ فطريٍّ في كنف الله ؛ ليستثمر الشيطان حالة الحب هذه فيغريهما بمعصية أمر الله فيهبطا بهذه المعصية إلى أرض الشقاء(فلسطين) مطرودَينِ معاقبَينِ .
وعل هذا الأساس تبني الكاتبة الحدث البنائي لروايتها الذي تتمحور حوله كل التفاصيل والأحداث حيث تنقل لنا الأديبة الروائية التفاصيل الصغيرة للمعاناة اليومية للفلسطيني المعذب على أرضه ، هو حدث بسيط على ما يبدو للقارئ من الوهلة الأولى ، إلا أن الكاتبة وظَّفت هذا الحدث كجذع شجرة عملاقٍ مُطَعَّمٍ بأنواع كثيرة من الثمار المتدلية على أغصانه الباسقة المتشابكة ، وهكذا نلاحظ أن الرواية تدور حول محاور عدة :
المحور العاطفي : العشق والحب الإنساني الذي لا ينتمي إلى دين بعينه .
المحور الوطني: القضية الفلسطينية.
المحور الديني: الخلق والتكوين ، والطاعة والمعصية .
فآدم بطل الرواية كان يبحث عن حبيبته ليكمل تكوينه الإنساني" آهٍ حبيبتي، وأنا أبحث عني وجدتكِ ..... فتبخر الحب بعدما وقعتُ ضحية وسوسة الشيطانة ابنة عمي ..... من قصره طردنا أبي .... افترقنا" .
من هنا تبدأ رحلة البحث لكليهما عن كليهما ، وما بين الفراق واللقاء سنوات عجاف طوال زمن من القهر والظلم كانت كفيلة بإخماد نار الحب للمرأة لتتوقد نار حب الأرض التي دنسها المستعمر اليهودي الصهيوني ؛ كيف لا والكاتبة هي ابنة حيفا الصامدة ؟ حيث ينخرط آدم في صفوف المقاومة فيعتقل في اعتصامٍ شعبي في ذكرى يوم الأرض والذي دعا إليه مع رفاقه ؛ لتقرأ زوجته حبيبته والتي كان يلقبها بـ(حواء) خبر اعتقاله وموعد محاكمته لتلتقيه في محكمة(بيتح تكفا) الإسرائيلية، وترى ما يعانيه من صموده أمام محاولات الجنود الصهاينة لإذلاله وكسر إرادته. ويزداد صلابةً وعنفوانًا عندما توقدت جذوة الحب من جديد حال رؤية حبيبته بعد فراق دام طويلًا فأي أكسير مُفَجِّرٍ للطاقة يحمله هذا الحب ؟؟!
من خلال هذه الأحداث تستطرد الكاتبة كثيرًا لتطرح المزيد من القضايا التاريخية والسياسية والفكرية ، مستشهدةً باقتباسات من الكتب السماوية المقدسة وبأقوال كثيرة لأدباء ومفكرين وفلاسفة عالميين مما يشير إلى الثقافة الواسعة التي تستند إليها الكاتبة في إبداعها ولا غروَ في ذلك فهي الشاعرة والقاصة والمترجمة والحاصلة على العديد من الجوائز في مجال الترجمة والإبداع .
الشخصيات في الرواية تتراوح بين الرئيسية والثانوية ولا تُعرِّفُ الكاتبة بالشخصيات إنما تترك الحرية لشخصياتها للتعريف بأنفسهم بأسلوب قصصي أراه جديدًا وربما غير مسبوق حينما تجعل أبطالها يروون الحكاية ويسردون أحداثها بأنفسهم عبر منولوج داخلي ممتع وتحت عناوين " الحكاية كما يرويها آدم – الحكاية كما ترويها حياة – الحكاية كما ترويها حواء" وهنا تشارك الكاتبة أبطال روايتها في رسم الأحداث فتسبر أغوار كل شخصية من خلال الإفصاح واعتراف كل شخصية بما يجول في دواخلها بصراع داخلي وجداني شائق ، فشخصيات الرواية كلهم يعيشون بنفس المعاناة ونفس الآلام، والجرح الذي ينزف الحب منه واحد في زمن الاحتلال والممارسات العنصرية الصهيونية واغتيال كل ما هو جميل في فلسطين وفي نفس المكان الذي رسمت تفاصيله الكاتبة بدقة المصور البارع فتجعل القارئ بذلك يعيش في قلب المكان فتنتقل بنا من القصر إلى الجامعة إلى شوارع حيفا إلى المحكمة العسكرية الإسرائيلية وإلى بهو (دير راهبات مريم المجدلية) .
كاتبة الرواية باعتبارها شاعرة بمستوى حسي عالٍ فقد سيطرت على أسلوبها شاعريتها حتى أُفعِمَت سردية الرواية بألفاظ شاعرية عذبة كلُّ لفظةٍ تستقل بموسيقاها وإيقاعها الخاص فتشكلت في الرواية أشطرٌ شعرية منمقةً . وتبدو في الرواية فكرة الحب المقدس جليةً ، الحب هذا السحر الأبدي الجميل الذي يروِّض حتى الوحوش وهنا تلامس بشاعريتها ملحمة جلجامش وكيف استطاعت المرأة الغانية أن تغري أنكيدو الرجل البري المتوحش الذي عجزت عن ترويضه كل قوة إلا قوة المرأة التي استجرته بسحر حبها وجمال مفاتنها ، فالمرأة في الرواية وفية مخلصة وشجرة يستظل بظلها الرجل المتعب وربما أوصلت الكاتبة المرأة إلى مرتبة ما يشبه الألهنة فهي تصنع المعجزات لمن يوفي بحبها وتعكس الرواية صورة المرأة المبدعة بعطائها :" قلت للحب : كن؛ فكان الربيع والأراجيح والعطور" " في غيابك الكل كان إلى زوال" وكثيرًا ما يطغى الحلم على شخصيات الرواية :" ليتك إلى تربة الحلم كحبة قمح تعودين"" من حلمي انسللتِ " فتجسد الكاتبة الحب وتأنسنه فيقرر التحكم في أحلام المحبين :" وينسج حبي حلمه " كل هذا النسيج الجميل في صياغة الأحداث قد حيك بأسلوب بلاغي متميز بعيد عن السطحية والحوادث العرضية التافهة التي تطفو فوق السطح يتناول العواطف والصراعات والمشاكل التي تنتمي إلى الماهية الإنسانية .
ومن هنا أستطيع القول : رغم أن فكرة الرواية مستقاة تمامًا من الفكرة الإلهية الخالدة وهي عصيان آدم وحواء لأمر ربهما نزولًا عند وسوسة إبليس لهما وإغرائهما ، إلا أن رواية (إلى أنْ يزهرَ الصبار) اتخذت منها منطلقًا لطرح( فكرةِ قدسية الحب والعشق والمرأة) بأسلوب شاعري بسيط بعيد عن التعقيد والغرابة وتشابك الأحداث والمتن الحكائي الممل ... تجربة روائية رائعة امتزجت فيها عدة فنون أدبية شعرًا ونثرًا بالإضافة إلى أنها موسوعة أوردت فيها الكاتبة الكثير من آراء وأقوال وأسماء أدباء وشعراء وفنانين وقادة وسياسيين ومصلحين وفلاسفة .

هاشم المشوح// ناقد سوري
4.3.2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس