الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حاملة الرسالة ــ قصة قصيرة

محمود يعقوب

2023 / 3 / 5
الادب والفن


حاملة الرسالة
قصة قصيرة ـــ محمود يعقوب

في لجّة باحة المحكمة ، تعقّبت خطى صديقي ، وهو يشقّ طريقه إلى غرفة كاتب العدل ، وبينما كنا نتزاحم بالمناكب مع الجموع الغفيرة ، في أحد الأروقة ، التفت صوبي ، وهو يشير على حين غرة إلى أحد الأشخاص قائلاً : ـ انظرْ ، هو ذا ( أكرم ) كاتب العدل ، ذاك الذي يهمّ في الدخول إلى مكتبه .
وحالما وقع نظري عليه ، صحت من سويداء قلبي منبهراً : ـ يا إلهي ، هذا أجمل مرتشٍ على وجه الأرض ! . في ذلك الحين كنت أساعد صديقي هذا لأجل أن ينجز الخطوات المطلوبة لعمل كفالة نقدية ، بمبلغ كبير ، ولم يتبقَ سوى تصديق كاتب العدل لها
إثر دخوله إلى المكتب ، قبعنا ننتظر دورنا بين جمع من الناس . كان بعض ممن يدلفون إلى مكتبه ، يغادرونه بوقت وجيز ، بينما يطول مكوث البعض الآخر كثيراً . وعقب مضي ساعة من الوقت سمحوا لنا بالدخول ، وأوصد الباب دوننا . في داخل المكتب ، تنسمت لفوري عبق عطر ليموني ناضج ؛ من تلك العطور المليئة بالثقة والكبرياء . وقد جثم الهدوء في هذا الركن جثوماً راسخاً ، فلم نعد نسمع أية نأمة من ذلك الصخب العارم ، الذي كنا نعوم في بحره ، ونحن نعبر أروقة المحكمة .
ـ صباح الخير أستاذ .. نطق صديقي هذه العبارة بصوت مسكين ، وهو يدفع بأوراقه على سطح المكتب . لم يردّ كاتب العدل ! . رفعت نظري سريعاً ، وحدّقت في وجهه ، وأدركت أنه من النوع الذي لا يردّ الجواب أبداً . كان صمته جميلاً ، آية ًفي الأناقة . بدت نظراته باردة ، تشرد من موضع لآخر ؛ تارة ينظر إلى حزمة الأضابير التي تمكث جانباً على سطح المكتب ، وتارة يرمي بصره إلى الساعة الجدارية ، وتارة أخرى يتأمل أظافر يده ؛ حتّى تناول أوراق صاحبي بعد ذلك ، وأخذ يقلّبها بهدوء ورويّة . ثم شرع يضع إمضاءه عليها ويختمها تباعاً . وعندما أتمّ ذلك ، رماها أمامه على مكتبه ، وأشاح ببصره جانباً .. ـ شكراً أستاذ .. أمسك صديقي بأوراقه ، وهو ينبر هذه العبارة بطراوة بهيجة ، ولكن على الرغم من ذلك ، لاح صوته مسكيناً . لم يردّ كاتب العدل أيضاً .
أخذت ألوم صديقي ، حين صرنا خارج المحكمة ، قائلاً له : ـ لمَ قلت له شكراً .. مثله لا يستحق كلمة شكر . ـ لا تكن أحمقَ ، الكفالة هذه تتضمن مبلغاً كبيراً من المال ، وقد صدّقها الرجل رسميّاً في غاية اليسر والسهولة ؛ كاد الخوف يقتلني وأنا أضع الأوراق بين يديه ، لأنني أعلم أن مبلغاً كبيراً من المال ، مثل هذا ، لا يصادق عليه إلّا برشوة فادحة . وقطعنا الدرب إلى منزلينا ، ونحن نتذاكر الأقاويل ، ونستحضر الحكايات الكثيرة ، بكل صدقها وكذبها ، والتي تداولها الناس عن جشعه في ارتشاء الآخرين ، وقد أمعنوا فيها أيّما إمعان . وكان أغرب ما حدّثني به صديقي تلك الحكاية الطريفة التي رُويت عنه ، حيث أخبرني بقوله : ـ هل تصدّق أم لا ؟ .. إنهم يروون عنه أن ملك الموت زاره ليلاً ، يروم الانقضاض عليه ، وكان هو يغطّ في نومه ، ولكنه ينام بنصف عين ، كعادة الثعالب . سرعان ما هبّ من نومه فزعاً ، وجلس في سريره ، يفرك عينيه ، ويحدّق بملك الموت ، وقد غرق في الرعب والفزع ، وراح يسأل : ـ ما الذي تريده منّي ؟ .. ـ حان أمرك ، وأريدك أن تسلّمني روحك الآن . شرّع كاتب العدل عينيه على وسعهما جزعاً، ونظر إلى ملك الموت نظرة عميقة ، متفحّصة ، كمن لا يصدّق ما يجري حوله ، وقال له ، وهو يفرك إبهامه بإصبع السبابة ، بتلك الإشارة النقدية الواضحة التي نتداولها كثيراً ، وردّ عليه بشيء من الجرأة ، قائلاً : ـ سلّم أنت أولاً ، وأنا أسلّم لك . ثمّ اعتدل في جلسته ، واستطرد قائلاً : ـ ولكن ليس الآن ، لم يزل الوقت أمامنا طويلاً . ارتدّ ملك الموت إلى الخلف خطوة ، من هول الصدمة ؛ تلك كانت أول مرّة يتعرّض فيها إلى الارتشاء من البشر .
◘◘◘

في مساء ، من مساءات شهر تشرين الثاني الباردة ، زرت أحد أحياء المدينة ، لعيادة شاب من أقاربي . وهناك توقّفت عند مدخل أحد الأزقة ، وقد شدّني ما يفعله جمع من الصبيان ؛ الذين بدأوا يُشِبون النيران في كوم كبير من النفايات . سرعان ما تصاعدت ألسنة النيران عالياً ، وغمر الجو من حولنا غمامة كثيفة من الدخان المتعفن . ما استوقفني ، أكثر من غيره ، أن تلك النيران كانت خطراً محدّقاً بسلامة هؤلاء الصغار ، الذين راحوا يحيطون بها من غير اكتراث .، وهم يتصايحون ويهزجون .
بدأ المارة يتوقفون في عرض الطريق ، برهة من الوقت ، وهم يراقبون اندلاع النار المخيف ، وأطلّ العديد من الجيران ، وهم يحاولون ردع أبناءهم من اللعب بالنار . في خضم زوبعة النار ، لمحت نافذة تُشرّع في الطابق العلوي لأحد البيوت التي كنت أقف في مواجهتها ؛ وخطف عبرها طيف فتاة تجرّ الستارة إلى أحد جانبيّ النافذة . ثم ما لبث أن أطلّ وجه فتاة أدهشها تصاعد اللهب ، وجفلت في الحال ، وهي ترى الدخان قد غطّى السماء من حولها . وقفت خلف النافذة تراقب بقلق بادٍ ، من غير أن تدير النظر إلى أي شيء آخر . لمحتها في الحال ، ونظرت إليها نظرة سريعة ؛ لم تكن فتاة وحسب ، كانت كتلة من ذهب الإبريز الخالص ، توهّج على ضوء النار . أوجعتني النظرة ، ودمعت عيناي من الحرقة . وهتفت في سرّي متسائلاً " كيف استطاع المنزل أن يخبئ مثل هذا الجمال الفاضح ؟ " . ارتعش قلبي لرؤيتها ، واهتزّ كياني برمته ، لم أرَ مثل هذا الجمال طوال حياتي ؛ رحت أحدّق فيها مأخوذاً بسحرها ، لم يكن جمالها من هذا العالم . ومن غير أن أعي تقدّمت خطوات أخرى لأتيح لنفسي أن أروي غليلي من النظر إليها ، وفي غفلة من أمري صرخت بالفتيان مشجّعاً : ـ هيا .. أضرموا النيران يا فتيان ! . ولا بدّ أنها سمعت صراخي الأحمق ، فالتفت نحوي وقد ارتسمت ابتسامة مضيئة على وجهها ، فما كان لي إلّا الابتسام في وجهها كطفل . حين التقت عيوننا ، هوينا معاً في العشق .
ظلّت رموشي ترفرف باضطراب . شبّت النيران ، وتصاعد الدخان عالياً ، بينما وقفت أحترق بنيراني ، وكان الدخان الذي التف حول نافذتها بعضاً من دخاني . وحرّكت شجرتا العشق ذوائبهما مع نسمات المساء . وتجمّدت لحظتنا تلك على حافة الحريق . من غير أن أعلم تحرّكت أنامل كفي اليمين ، وأشرت لها إشارة التحية ، جفلت الفتاة في فزع وخجل ، وتراجعت عن النافذة خطوة ، ولكنها قبل أن تغيب عن بصري رفعت يدها في سرعة خاطفة تردّ التحية بمثلها . ـ هل هذا هو العشق ؟ . لم أغادر مكاني . كان وجيب قلبي يعلو بين ضلوعي وقد تملّكتني الحيرة . كنت أشهق الهواء وأطلقه بحرارة . لم تزل النافذة مفتوحة ، ولكن طيف الفتاة توارى . وبعد دقائق ، تمالكت روعي ، وتراجعت وئيداً. لم أمضِ إلى بيت قريبي ، ولكنني رحت أطير من مكان وأحطّ في مكان . مضيت وماء العشق يتصبّب من تحت أبطيّ . سَرَت في أوصالي رعشة لذّة مفاجئة ، بينما شبّ في قلبي ألف إكليل من نار . وفي الأيام التالية صرت أتسلّل إليها بحرص وخفاء . وأمسينا نلتقي في بيت قريبي من وقت لآخر .
في لقائنا الثالث ، على ما أذكر ، رجوتها أن تحدّثني عن عائلتها . فأجابتني في الحال ، وهي تبتسم بفخر : ـ والدي الأستاذ أكرم ، كاتب عدل المحكمة ، هل سبق لك رؤيته ؟ . كانت إجابتها دموية ، أحسسّت بالنصل مغروزاً في جنبي . في ذات الوقت صرخت جميع أعضائي صرخة واحدة " يا لسوء الحظ ! " . رمتني الفتاة بخيبة الأمل ، واضطربت سريعاً ، ورحت أتلعثم في حديثي . ـ ما بي أراك وهنت ، وتبدّلت معانيك ؟ .. ـ لا شيء ، كلا ، لا شيء ، فقط أنني اليوم متعب . ـ إذن لتذهب وترتاح ، عدْ إلينا غداً .. ـ سأكون هنا في الغد .
تقلّبت في فراشي طوال تلك الليلة ، حائراً متفكّراً ، هل أمضي في هوى الفتاة التي سلبت لبي ، أم أتريث لأدرك حقيقة ما يجري من حولي ؟ .. كنت متوتّراً ، وراودتني الشكوك بأنني انزلقت إلى بئر الحب المظلم ، السحيق . بغتة ظهرت صورة والدها في أفقنا وزعزعت كل شيء . ولكنني في النهاية ، وعند نقطة التردّد والارتباك هذه ، توقّفت . وغبت عن زيارتها لأيام متتالية . كانت سبعة أيام لا غير ، سبعة أيام على قصرها ، راحت أثناءها صورة الأستاذ أكرم تتضبّب رويداً رويدا ، وتغشاها قطرات ماء متلاحقة ، حتّى لم تعد تلك الصورة تخيفني . وطوال هذه الأيام السبعة ، كان حب الفتاة يملأ جوارحي ، وأحسست بأنني عاجز عن التراجع عن حبها . وأثناء ذلك بتّ لا أرى في صورة والدها ذلك الإنسان ، المتوحش ، الذي يمتص ينقض على الآخرين بجشعه وتهالكه على المال ؛ فقد أخذت تلك السوءة تضمحل في ذهني . وقادتني أفكاري إلى تذكّر ما ذهب إليه بعض الفلاسفة القدماء ، الذين ادعوا أن قوة الحب تسدل الستار سريعاً على كل السوءات ، وتبعد العيون عن مرأى الجانب المظلم الذي يواجه من يحب .
لم يمهلني اشتياقي إلى الفتاة أية فرصة ، فسعيت أقنع والدتي بالذهاب إلى أسرة الفتاة لتطلب يدها على جناح السرعة . جرى كل شيء بسلاسة ، كأن الأمر قد رُتّبَ ترتيباً مسبقاً ؛ غير أن والدة الفتاة اشترطت مهراً باهظاً ، كان من الصعوبة بمكان أن أتدبره . فكّرت بشأنه بضعة أيام ، حتّى هبّ صديقي ليعلن عن رغبته في مدّ يد العون لي .
عشت ، مع الفتاة أياماً تنبض بالبهجة ، وتفيض بالأحلام ، كنت أهبّ للقائها على الدوام ؛ حتّى لفتت انتباهي ذات يوم ، وهي تقول : ـ يريد والدي مقابلتك ، مساء الجمعة القادمة .
عندما حان موعدي مع الأستاذ أكرم ، سعيت بحرص إلى مقابلته ، ورحت إليه جذلاً . في ذلك المساء بدت الريح مضطربة ، كانت تهبّ على دفعات ، ناثرة الغبار على كل شيء . وحين أقبلت على باب منزلهم ، وجدته مكفهرّاً بلونه الأرجواني الغامق ؛ لم يترك لي سوى فسحة شحيحة للمرور عبرها ، كان حديده بارداً ، ولم يقل لي مرحباً . جئت في الوقت المحدّد تماماً . كان الرجل يجلس في غاية الهدوء بانتظاري . ـ السلام عليكم .. لم يردّ كاتب العدل . كان يتصفّح بضعة أوراق ، وما فتئ يرقّشها ببعض الكلمات من حبره الأخضر . جلست قبالته بوجل ، وقد أخذ هدوئي يهرب مني حالاً ، وأمسيت مشوّش الأفكار . جلبوا لي قدحاً من الشاي . ولكنني كنت منصرفاً إلى التحديق بالرجل . التصقت نظراتي بأصابع كفيه ؛ كانت طويلة ، وبيضاء ، وأنثوية تكاد تسيل من بين كفيه ، ولكنها أمسكت الأوراق بمنتهى الثقة . تأمّلت الخاتم الذي يستقر في بنصره ، لم يكن مدوّراً تماماً ، كانت حوافه مضلّعة ، يشبه صامولة حنفية برونزية ، وتهيأ لي أنني لو أدرته قليلاً لانبثق الماء منسكباً من بنصره . وما لبث أن رفع عينيه عن الأوراق ، ويأمرني قائلاً : ـ اشربْ شايك .. رفعت القدح بخجل ، ونهلت منه رشفة واحدة ، ثم أعدته إلى مكانه . ورحت أتأمل جبينه . كان هذا الجبين ضيقاً ، وممتعضاً ، ويغيم سريعاً . ـ هل اتفقتم على المهر بشكل نهائي ؟ . ـ نعم يا أستاذ .. ـ جيد .. كان يتحدّث ، وهو يمرّر القلم فوق الورق بأسلوب مثالي ساحر . ـ بقيت بعض الأمور المهمة ، أريد منك أن تسمعها .. ـ أنا أسمعك يا أستاذ .. وضع القلم في غمده ، ثم رتّب أوراقه بين يديه ، ونظر مباشرة نحوي ، هذه المرّة فقط ، وقال اسمعْ : ـ أنت مقبل على الزواج من ابنتي ، ولكن هناك أمور ومتطلبات كثيرة ، عليك الالتفات إليها وإنجازها قبيل الزواج . وراح يعدّد ، ويذكر لي أموراً فادحة وعظيمة الكلفة ، بل إن ما طلبه مني يفوق مهر الزواج بثلاث مرّات على الأقل ؛ ولم يتورّع عن طلب المال أيضاً . أراد الرجل أن يسلخني في الخفاء ، بل إنه كان يرتشيني في واقع الأمر . كنت أستمع إليه برعب شديد ، وقد تهشّمت كل مشاعري وأحاسيسي في لحظات خاطفة . حاولت أن أهرب من بين يديه ، نهضت مسرعاً ، متذرّعاً ببعض الأشغال ، وأخبرته قائلاً : ـ سأعرض الأمر على أمي وأبي ، وأعود غداً لأخبرك . ـ كلا ... ونضح الامتعاض فوق جبينه ، ـ تعال في مساء الجمعة القادمة . حتّى مواعيده كانت جامدة أيضاً .
عندما صرت خارج المنزل ، شعرت بالتحرّر من كل قيد . كانت الرياح عاصفة ، وسحب الغبار تعمي الأبصار ، فأخذت أسعى إلى منزلي بخطى واسعة . عدّت حزيناً ، لا أقوى على قول حرف واحد . وجلست في غرفتي وحيداً ، وفي أعماقي تجيش الأفكار وتتصارع الكلمات . أصابني الرجل بالقرف ، واجتث جذور الحب من فؤادي ، وجعلني أكره كل شيء . لم أذق طعم النوم في تلك الليلة ، تنازعتني شتّى الهواجس ، وأحسست أنني في ورطة حقيقية ، وقبيل طلوع الصباح ، جمعت أحلامي ، وأطبقت قبضة يدي حولها ، وعصرتها بكل ما أوتيت من قوة ، وألقيت بها أسفل السرير ، قبل أن أخلد إلى النوم قليلاً . كنت ، بحق ، نادماً على حُمّى طيشي ونزقي .
في صباح اليوم الثاني ، رويت لأمي كل ما حصل معي ، فتجهمت ، وهلّت دموعها . رجوتها أن تذهب إلى أم الفتاة وتخبرها بعدم رغبتي في الزواج من ابنتها . لكن أمي رفضت رفضاً قاطعاً وخاطبتني في لوم وتقريع قائلة : ـ لم يمض على الخطوبة سوى بضعة أيام ، وتريدني أذهب لفسخها ، ألا تخجل من هذا الفعل ، ما الذي سوف يقولونه عنا ؟ . ـ حسناً .. حسناً يا أماه لا تغضبي ! . ومضيت عند المساء إلى أبي ، وأخبرته كل شيء ، وتوسّلت به أن يمضي إلى أسرة الفتاة لينهي الأمر معهم ، فثارت ثورته ، وراح يصرخ في وجهي قائلاً : ـ أيها الأحمق ، سرعان ما تقع في شرّ أعمالك وترجو الآخرين أن يشاركونك حماقتك ، اذهبْ وتدارك الأمر بنفسك . ـ حسناً .. حسناً يا أبي لا تغضب ! . لم يتبقَ لي غير أن أقصد صديقي ، وأقنعه بالذهاب معي لمقبلة الأستاذ أكرم ، وإنهاء أمر الخطوبة معه . لكن صديقي بالغ في انفعاله وهو ينهرني بقوله : ـ ما هذا الغباء .. تريدنا أن نقول هذه الأشياء أمام ثعلب ماكر ؟ .. سوف لن يتورّع عن زجنا في السجن .. ـ حسناً .. حسناً يا صديقي لا تغضب ! .
بات لزاماً عليّ أن أضطلع بهذه المهمة بمفردي . وطوال ما تبقى لي من وقت يسبق مساء الجمعة ، استغرقت في البحث عن فكرة معقولة ، أنجو فيها من براثن هذا الرجل . كنت حرّاً ، ولا أريد أن أرهن نفسي عنده . أخذت أجلس وحيداً ، وقد نحيت العشق جانباً ، وأنا أثوب إلى رشدي ، وصار الاشمئزاز الذي ينبع في داخلي اشمئزازاً مطلقاً . كانت الأفكار تأتي وتذهب ، وأنا جاثم في قعر ورطتي . وسرعان ما حلّ موعد لقائنا ، من دون أن أمسك بتلاليب أية فكرة معقولة يمكنها أن تنجيني . كان مساء الجمعة بارداً ، ارتديت سترتي ، وهممت إلى ملاقاة الرجل ؛ وساعتها كنت قوياً ، لم أضعف ، حزمت أمري أن لا أشقى بشواظ هذا الحب الذي وُلِدَ محروقاً بنيران الصدفة .
وجدته جالساً في غرفة الاستقبال ، ينتظرني ، وقد غمر نفسه بروب شتائي جذّاب ، وقد دسّ يديه في جيوبه . من دون مقدمات ، وقفت حياله وجهاً لوجه ، وأخذت أعتذر له مسترسلاً بشتّى العبارات ، غير أنه قاطعني مستفهماً : ـ عن أي شيء جئت تعتذر ؟ .. ـ أعتذر عن الزواج .. في الواقع أنني لست كفئاً لابنتكم ، وقد أقحمت نفسي في موضع صعب المرتقى . في حقيقة الأمر أن إمكاناتي ضعيفة ، ولا يمكنها أن تحقّق ما تصبو إليه يا أستاذ . وقد عاينت أمري طوال هذه الأيام التي غبت فيها فلم أعثر على ما يشجعني على المضي في هذا الزواج .. حاول الرجل مقاطعتي ، ولكنني رفعت راحة يدي ، في إشارة لطلب أن ينصت لي ، وقد فاضت جرأتي على نحو غريب ، فقلت له : ـ أنا أعتذر غاية الاعتذار لما سبّبته لكم من حرج وإزعاج ، كما شغلتكم بعض الوقت ، ولأجل أن أكفّر عمّا بدر مني أرجو تقبّل هذه الهدية المتواضعة .. وغمدت يدي المرتعشة في أعماق سترتي ، وأخرجت رزمة كبيرة من الأوراق النقدية ، ووضعتها بين يديه في انفعال واضح ، وبكثير من الزهو . نظر الرجل في وجهي ، نظرة جامدة وباردة ، وقد أطبق شفتيه ، ولكن جبينه الضيّق أشرق ضاحكاً على نحوٍ عجيب . ثم قلّب الرزمة وتفحّصها بعناية ، قبل أن يدسّها في أحد جيوب الروب ، وهزّ رأسه هزّة أستاذ قدير، وقال بنبرة لا مبالية : ـ حسناً .. يمكنك أن تذهب الآن .
◘◘◘
إن ذكرى الأيام الماضية أوصدت الباب في وجه عواطفي أكثر وأكثر .. لم يعد بوسعي أن أمدّ بصري إلى وجه حسناء جميلة ، كما فعلت آنفاً ، مهما اشتعلت النيران من حولي . وحلفت بقيس الحب وليلاه أن لا أقربه ثانية . واليوم ، ولأجل أن أضعكم في الصورة الصحيحة ، لا يسعني سوى القول أن الرشوة التي وضعتها بين يدي الأستاذ أكرم ، في نهاية مغامرتي ، كانت أعظم مرحاً وجمالاً من رشوة ملك الموت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف