الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين جبران خليل جبران وسعيد الأتب: هل ثمة تقمص في الفن التشكيلي ؟

غازي الإمام

2023 / 3 / 5
الادب والفن


وصف العالم سيغموند فرويد في أواخر القرن التاسع عشر " التقمص " بأنه عملية تلجأ النفس فيها إلى أن تدمج داخل ذاتها دوافع واتجاهات وسمات خاصة بشخص أخر. ويعرف التقمص أيضا بأنه عملية سيكولوجية يقوم الفرد من خلالها بتقليد والسير على خطى الشخص الذي تقمصه بالكثير من الجوانب والخاصيات والسمات التي تميز بها الشخص الأخر ، ويتحول بشكل كلي أو جزئي بواسطة ذلك النموذج الذي يقدمه الشخص الآخر ، ويتم ذلك عن طريق سلسلة من التقمصات التي تقوم عليها أو تبين من خلالها ” أما فكرة التناسخ التي قادها الفيلسوف الألماني شوبنهاور فهي ترتكز على انتقال روح انسان الى انسان آخر ، لكن فكرة التقمص حاضرة في الديانات مثل الهندوسية والبوذية.
هنا في هذه المقالة نستعرض ما أكتسبه الفنان سعيد الأتب وبدون إرادته، الجوانب والسمات والخاصيات التي تميز بها المبدع والرسام جبران خليل جبران. وأركز هنا على جانبين مهمين وهما سيرة حياته، معاناته، هجرته، ودور المرأة في إبداعه وفي تفجر عبقريته الكامنة في أعماق نفسه. وأخص بالذكر اللوحات الفنية التي أبدع بها جبران خليل جبران.
ولد الشاعر والرسام جبران خليل جبران في السادس من كانون الثاني عام 1883 م، في قرية ” بشرى ” في لبنان " وكان شاعراً وكاتباً فيلسوفاً، رساماً وفناناً تشكيلياً ونحاتاً.
كان جبران في الحادية عشرة من عمره، ميالاً إلى الرسم على الجدران، بعد ذلك أخذ وهو طفل إلى أطلال بعلبك، أكثر أطلال العالم روعة، فأخذ يرسمها في كراسة كان يحملها. هذه المرحلة كانت إيذاناً بمولد موهبة لفتت إليه أنظار مدرسيه ووالده الذي كان ينظر إلى هواية ابنه بأنها ” هواية حمقاء، تعيق ابنه عن النمو بقوة واضحة، فحاول بكل صرامة كبح ( جبران ) وتعنيفه بكل وسيلة، مما دفع بجبران إلى مزيد من العزلة والوحدة مع رسومه وصوره ومع شخصياته الساخرة “.
ومنذ نعومة أظافره، أتجه الفنان التشكيلي سعيد الأتب اللبناني الأصل، الذي ولد في بيروت وترعرع فيها، بحيث شهد أسوء فترة يمر بها لبنان من إقتتال بين أبناء الشعب الواحد، ومن ثم نزوح وتهجير الفلسطينين من الأردن بعد مذابح أيلول الأسود، وكذلك الأجتياح الأسرائيلي لجنوب لبنان وبيروت.
لقد أصبحت موهبة الرسم بالنسبة لسعيد الأتب، أداة تعبير عن أحاسيسه ومعاناته التي صورتها عدسات عينيه قبل ريشته، لتنعكس مزيجاً من الألوان المخضبة باللونين الأحمر والأسود..
وتشابه هجرة جبران خليل جبران، الى الولايات المتحدة الأمريكية، وإقامته الأولى في بوسطن، ومن ثم أستقراره في مدينة نيويورك مع أسرته. وأخص بالذكر أخوه بطرس الذي قدم لجبران وباقي أفراد أسرته، يد العون ليقف على قدميه ويصبح مشهورا، مع قصة هجرة سعيد الأتب وعائلته الى نيويورك، مع ما قدمه أخيه له من مساعدة قيمة لعبت دورها في أستقراره، وفي توفر الفرصة لنبوغه وإبداعه بالرسم.
وكمحاولة أولية لقراءة الرسم التشكيلي عند ( جبران ) لا بد من التوقف عند بعض المراحل المهمة في حياته، التي تعود إلى عام 1894 م، فقد بدأ بتعلم الأصول الأكاديمية للرسم، ويعترف ( جبران ) ” بأنه يتعلم الرسم بالمثابرة، وأن الفكرة التي انبثقت عن قناعة بأن المهارة تنمو بالمثابرة، هي التي جعلت الأفق أمامه يتسع بالمرونة ".
أما بالنسبة للرسام سعيد الأتب، فقد كانت المثابرة بتعلم الرسم، يدفعها ضنك العيش وظروف الحياة القاسية، من تشرد وحروب. فالعيش تحت أصوات الرصاص والقصف بالمدافع والطائرات، ومن ثم اللجوء الى الملاجئ والمخيمات، لم يكن بالأمر السهل لشاب في مقتبل العمر، له أحلام وردية جميلة، أسوة بأقرانه في العالم المتحضر.
ومن خلال ما رسمه جبران والأتب فأن كلاهما يؤمن أيضاً أن هدف الفن هو تمثيل الروح الداخلية للأشياء لذلك تأثرا بـالرسام العالمي ( مايكل أنجلو )، ورسما الأجساد العارية التي لم يكن المقصود بها إمتاع العين، بل لما تعبر به عن محتوى ديني وخلقي عظيم، معبرا عن نعومة وليونة الأجسام والوجوه.
ولو تمعنا قليلا في رسومات كل من سعيد الأتبن وجبران خليل جبران، لوجدنا قاسماً مشتركاً بينهما، بحيث ان لوحاتهما تمثل ملحمة بشرية من الآلام والعذاب.
لقد تناول سعيد الأتب في أغلب رسوماته ولوحاته وجوه الإنسان، ورصد يومياته ومعاناته، ألمه وكآبته، حبه وفرحه، وذلك في مجموعة من الأعمال التعبيرية ذات النزعة الحزينة، فأظهر فيها جرأة وبراعة فنية، في توظيف العنصر التشكيلي لصالح التعبير الإنساني، فحطم الشكل التقليدي، وأعاد بناءه بعاطفة عفوية وبإحساس طفولي، كذلك فعل قبله جبران خليل جبران .
ويتجلى إبداع كل من ” جبران والأتب ” في اللوحات التي اتخذاها وسيلة للتعبير عن أفكارهما وأحلامهما. مثال ذلك يتجلى في لوحات جبران، ما نشاهده منشوراً على صفحات ” المواكب " من صور تمثل العدل والخيال والدين والحرية، وكذلك في كتاب ” النبي " اليد المبدعة والألم". وكذلك نرى تلك الصور في رسومات سعيد الأتب، الذي عرضها في معرضه الأول في مدينة باترسون في ولاية نيوجرسي، والذي لم يحضره سوى ثلاثة من أبناء الجالية العربية..
كما أن لوحات ( جبران وسعيد الأتب ) التي رسمت بالأبيض والأسود، تعتبر الأكثر تفجراً لأنها نابعة من فنانين يتأجج الإبداع داخلهم كجوف بركان، مهما كان الهدوء البادي على مظهرهم الوديع، فهي لوحات انفعال صادق، ومعبر عن الآلام والمعاناة والحزن داخل كلٍ منهما.
وفي المرحلة الأخيرة من حياته الفنية كان ” جبران " يميل إلى الاتجاه الرمزي. كان لا يقف عند الواقعي أو المعقول، وإنما كان يتطلع إلى ما ورائهما. فجبران الفنان، لا يرى الشمس كرة من نار، وإنما يراها جوقة تهتف بأناشيد المحبة، وتهزج تمجيدا لله..
ويتشابه جبران خليل جبران بنظرته الرمزية، مع الفنان سعيد الأتب، الذي ينظر للحياة كذلك بأنها خشبة مسرح يؤدي فيها البشر أدواراً مختلفة، ليسدل بالنهاية الستارة عليهما.. وليترك كلاً منهما شعوراً مشبعاً بالأسى أو الفرح .
ومن السمات المميزة لهذا الفنان "جبران " أن موضوعاته التي تدور حول معجباته وصديقاته والشخصيات المعروفة، والأجساد العارية، والرسوم التخطيطية التي تضمنها كتابه ( النبي ) ومخطوطه ( آلهة الأرض ) ووجود العظماء الذين أعجب بهم، أو في الأعمال التي تناول فيها ( الدين، العدل، الحرية )، أو الرسوم التخطيطية للمشاهد الريفية والبحرية قد رسمت وبحثت بعناية، وفيها الخط يتخذ قيمة وأهمية تعبيرية في أناقة فذة نادرة.
كذلك هو الحال بالنسبة للفنان سعيد الأتب، فقد كان للمرأة حضوراً قوياً وفعالاً، وخاصة المرأة العربية والشرق أوسطية، فقد عبّر سعيد عن معاناتها وحرمانها من الحرية والتحرر، في الكثير من اللوحات التي رسمها، وتزال موجودة في مرسمه في باترسون، ينتظر الفرصة المناسبة لعرضها، رغم قلة الموارد، وغياب الدعم والتشجيع من الجالية العربية في أمريكا.
وقد لعبت أم جبران المتقدة الذهن، ورغم كونها غير مثقفة دورا هاماً في حياة أبنها المبدع، فقد كانت نقيض زوجها، محبة ومستعدة للتضحية بالذات، متحملة لمسؤولياتها، وطموحة في رسم مستقبل أولادها.
كان جبران دائماً يعبّر عن مشاعره تجاه والدته، بأعمق كلمات المودة والإعجاب، فقد كانت أماً متسامحة، مشجعة لأطفالها، فهي التي أشعلت خيال جبران بالأساطير والقصص الشعبية في لبنان، بالإضافة إلى قصص أخرى من الإنجيل..
يعتبر الحب عند جبران، شراكة وتناغم روحي وكينونة. وقد أطلق بعض الباحثين على مفهوم الحب عند جبران اسمًا خاصًا ألا وهو الحب الجبراني، اذ عتبروا أن له سمات مغايرة لكل ما هو عصري متصل بالحب.
كذلك والدة سعيد الأتب، التي يصفها بنبع الحنان، ومصدر الإلهام والأبداع، على الرغم مما عانته من ألم وحزن، لا تحتمله أي أم في العالم، بفقدان فلذة أكبادها الأثنين، إبان الأجتياح الإسرائيلي لجنوب اللبنان، ونزوحها القسري الى المخيمات، كي تلملم جراح الأسرة، وتعتني بمن بقي منها على قيد الحياة، ومنهم الفنان سعيد الأتب الصغير، وقدمت لهم الرعاية والإهتمام، بوسائل الإعاشة التي تقتصر على أبسط ما يمكن أن تحصل عليه، والمقدم من وكالات الغوث في لبنان. وذلك إضافة الى معاناة أسرة سعيد من ويلات الحرب الأهلية التي سبقت الاجتياح، ولغاية هجرتهم الى الولايات المتحدة الأمريكية.
كان للمرأة دور كبير في حياة جبران، بل، في تكوين شخصيته الفكرية والفنية، وقد تجلى ذلك واضحاً في جميع مؤلّفاته. إذ تعددت العلاقات الغرامية التي أقامها جبران خليل جبران أبرزها كان مع جوزفين بيبودي، وحلا الظاهر، وسلطانة ثابت، وماري هاسكل، وإميلي ميشال، وشارلوت تايلر، وماري قهوجي، وماري خوري، وجيتريد باري، وبربارة يونج، وماريتا لوسن، وهيلانة غسطين، ومي زيادة
كذلك، لعبت المرأة دوراً كبيراً في حياة ومسيرة الفنان سعيد الأتب. وهنا يجب أن أنوه بالذكر أن الفنان سعيد الأتب تزوج أكثر من مرة وأنجب العديد من الأطفال ولكن القدر لم يتركه بحاله اذ خطفت يد المنون أبنه الصغير وأبنته الشابة بطريقة مأساوية ومروعة، أثرت تأثير كبيراً على شخصيته المرهفة بالأحاسيس، لتنتقل، وبقوة مؤثرة على كل رسوماته وألوانه، معبّرة عن أحاسيسه الدفينة في أعماقه.. لينضم بذلك لجبران خليل جبران، ويشترك معه بالقول أن " الحياة ينبوع الألم".
لمفهوم الحب عند سعيد الأتب اسمًا خاصًا، ألا وهو "الحب الأتبي" أذ يعتبر نفسه ملمّاً بقواعد ومتطلبات الحب، والذي ترغب فيه أغلب النساء اللواتي أعجبن بشخص سعيد، قبل فنه. إنه يرى المرأة كزهرة الأوركيدا، يجب أن تمنح الرعاية والسقاية والأضاءة، والدفئ الكافِ، لكي تبقى موردة ومتألقة وجميلة.. وعكس ذلك سيجعلها تذبل بسرعة وتموت.
عبر كل من جبران وسعيد الأتب كثيراً عن انقسامهم العاطفي، داخل أنفسهم، بين أمريكا ولبنان، فقال جبران " إن روح قريتي بشرّى لم تفارقني أبداً. ولقد قالوا إن لوحاتي تنضح بالألم. الألم هو الحقيقة الأعظم من المتعة. وهو المعلم، والحياة في النهاية ينبوع من الألم".
بالنسبة لسعيد الأتب فقد عبر عن ذلك بالقول: أعيش ونصفي هنا في أمريكا، بينما نصفي الآخر هناك، في بيروت الحبيبة.. في لبنان الأرز .. وكم أتمنى أن أوارى الثرى في تراب لبنان الحبيب بعد وفاتي".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس