الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
صفحة بغيضة من صفحات الاحتلال البريطاني لمصر
أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)
2023 / 3 / 5
مواضيع وابحاث سياسية
د.أبو الغار يُزيح النقاب عن تفاصيل جريمة اختطاف نصف مليون مصري
يأتي كتاب "الفيلق المصري..جريمة اختطاف نصف مليون مصري" الصادر عن دار الشروق هذا العام (2023) للدكتور محمد أبو الغار الأستاذ بكلية طب القصر العيني- جامعة القاهرة، يأتي لبنة في بنيات مشروعه البحثي الذي استهلَّه بكتابه الرائد "إهدار استقلال الجامعات، وتابعه بدراساته التي تعدَّدت لتشمل مناحي الفكر والتاريخ والثقافة والفن على نحو ما نُطالعه في أسفاره الفريدة: رحلتنا مع الفن..سنوات حرجة من تاريخ مصر من خلع مبارك إلى ما بعد عزل مرسي.. يهود مصر من الازدهار إلى الشتات..على هامش الرحلة..ثورة 25 يناير ورحلة إسقاط النظام..الوباء الذي قتل180 ألف مصري..يهود مصر في القرن العشرين: كيف عاشوا، ولماذا خرجوا؟..أمريكا وثورة 1919..سراب وعد ويلسون وسواها، راميًا إلى الإجابة عن سؤال النهضة، وكيفية تجاوز التأخر، وكيف تشكَّلت صورة الذات المصرية وصيرورتها داخل الزمان رؤيةً وموقفًا، ساعيًا إلى بناء ذاكرة نقدية تعمد إلى تفكيك الرؤى والمفاهيم؛ من أجل أن يكون الاقتراب من الماضي، اقترابًا من الحاضر والمستقبل.
وفي أحدث كتبه "الفيلق المصري"، يواصل د.أبو الغار الحفر في تاريخ مصر؛ بغية استجلاء ماضيه المثقل بالسرديات الاستعمارية التي تنهض على الاستعلاء والتفوق والهيمنة والتسلُّط والمركزية الأوروبية، وفضح ما يشوبه من انحياز وعنصرية واستغلال اقتصادي وعِرقي..ومن ثَمَّ العمل على تقديم الرواية المصرية المُغَيَّبة.. رواية المصريين عن أنفسهم بعد أن ظلوا رَدَحًا من الزمام طويلًا خارج السرد التاريخي في الروايتيْن: الإمبريالية والعربية الرسمية؛ إذ لم يكتب المصريون الذين كانوا أميين سوى مقالة من ثلاث صفحات نُشرت في مجلة روزا اليوسف عام 1667بعد الحرب، متحديًا بذلك نهج كتابة التاريخ الإقصائي الذي يُمجِّد الأرشيف على حساب خطاب المُستضعفين والمُهمَّشين؛ الأمر الذي يُعيننا لا ريب على الاستنهاض والمقاومة والتحرُّر والمساواة.
يندرج كتاب "الفيلق المصري" في إطار الفكر السياسي الاجتماعي النهضوي الذي يُنقِّب في صفحات التاريخ بحثًا عن المسكوت عنه، محدِّدًا طبيعة الاحتلال البريطاني بوصفه جزءًا من حركة رأسمالية استعمارية عالمية تقوم على تقسيم العمل الدولي، واقتسام مناطق النفوذ والثروة، وتعميق اندماج الدول المستعمَرة الاقتصادي- السياسي بالاحتكارات الدولية، وانتهاج سياسات الإخضاع القسري وممارسات العنف الجماعي؛ ومن ثَمَّ، عُنيَ د.أبو الغار بدحض مقولات الاحتلال البريطاني عن الديمقراطية وتمثيله للمدنية والعمران، ونشر الرخاء والازدهار الاقتصادي، وربط بين تأسيس فيلق العمال المصري وما رافقه من قهر وتعذيب وإجبار للفلاحين المصريين، وبين السياسة العدوانية لبريطانيا في سعيها للتوسُّع والسيطرة الخارجييْن.ومن هنا، تأتي حيوية العلاقة بين التحرُّر الوطني والاجتماعي؛ لبناء مجتمع مدني تعددي تسوده العدالة.
أُسِّس فيلق العمال المصري مع نشوب الحرب العالمية الأولى، وإعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914، وإنهاء سلطة العثمانيين عليها، وخلع الخديو عباس حلمي الثاني الذي كان يُناوئ سلطة الاحتلال الإنجليزي ولا يُخفي عواطفه وميوله للعثمانيين، وحلَّ محلَّه حسين كامل الابن الثاني للخديو إسماعيل ومُنح لقب سلطان.وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى سيقت إليها مصر قسرًا، وأجبر المحتلون حسين رشدي باشا رئيس الوزراء وقتذاك على قطع علاقات بلاده بالدول المعادية لبريطانيا، ومُنِع المصريون من التعامل أو المتاجرة أو المراسلة مع رعايا هذه الدول، وتحوَّلت مصر إلى قاعدة هجومية تخرج منها حملات جيوشهم إلى الشرق الأدنى، وجرى تسخير العمال والفلاحين المصريين لخدمة هذه الجيوش، وتمَّ فرض التجنيد الإجباري على قرابة نصف مليون منهم، ليساقوا مربوطين بالحبال في مركبات الحيوانات بالقطار إلى جبهات القتال في سيناء وفلسطين والعراق والشام وجاليبولي وسالونيكا وموريشيوس وفرنسا فيما عُرف بالفيلق المصري بفرعيْه:العمَّال والجمَّالة حيث يقومون هناك بحفر الخنادق ومدِّ خطوط السكك الحديد وإعداد المركبات، ليسقطوا صرعى المرض والموت والعاهات، وجُمعت الأموال قسرًا بحجة إعانة الصليب الأحمر البريطاني، وتكبَّدت الخِزانة المصرية ثلاثة ملايين ونصف المليون جنيه إسترليني دعمًا لبريطانيا العظمى في حربها، وصدر قانون منع الاجتماعات، وأعلنت الأحكام العرفية، وأغلقت الصحف الوطنية، وزُجَّ بالوطنيين في غياهب السجون، وأصبحت السلطة العليا بيد قائد القوات الإنجليزية في مصر.وخلال هذه الحرب، جرى ربط العملة المصرية بالجنيه الإسترليني، وامتنعت البنوك عن الإقراض على القطن، وأغلقت بورصة مينا البصل، وتوالت الحجوزات على الأهالي، وانتُزعت ملكياتهم لتحصيل ضرائب الحكومة، وتدفقت المنتجات الأجنبية بغزارة، وتكاثرت المحال الحديثة في شوارع القاهرة الجديدة، وانتقل مركزها من الغورية والفحَّامين وتحت الرَّبْع والمِغَرْبِلين، إلى شارعيْ محمد علي وعبد العزيز وميدان العتبة، وانتشرت في هذا المناخ أغنيَّة تقول: "بردون يا ونجت..بلادنا خربت..خدتوا الشعير..وجمال وحمير..والقمح كتير..ارحمونا".وذاع ذلك الموَّال الحزين الذي يعكس ما عاناه المصريون من آلام مُبَرِّحة وقهر وجرائم سياسية مروِّعة:"بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي.. يا عزيز عيني وانا بدي أروَّح بلدي".
يمتاز كتاب "الفيلق المصري" بغنًى بحثي كبير يتأتى من وفرة مصادره ومراجعه الأجنبية منها والعربية، مع توثيق المعلومات وتدقيقها حتى تأتي متناغمة مع طبيعة الحدث وماهيَّة تاريخيته، مثل كتب المؤرخ الأمريكي كايل أندرسون وراينهارد شولتز وماريو ريوز وأليس جولدبرج وروبرت تجنور، فضلُا عمَّا كتبه الدكتوران عالية مسلم وخالد فهمي.. وبعض الشذرات الواردة في مذكرات سعد زغلول وعبد الرحمن فهمي وعبد الرحمن الرافعي وسلامة موسى وحوليات أحمد شفيق باشا وعباس خضر ود.عصمت سيف الدولة، ورواية "الفيلق" لأمين عز الدين الصادرة عام 1999، وكتاب صلاح عيسى "رجال ريا وسكينة" وكتاب "القارعة" للدكتور علي بركات، ومذكرات وخطابات ويوميَّات الملازم البريطاني فينابلز وسواه من الضباط البريطانيين الذين كانوا مسئولين عن الفيلق المصري، وقاموا بتوثيق ما عاينوه وخبروه عن كثب في خطابات إلى أهاليهم وأصدقائهم في بريطانيا، وجرى حفظها في الأرشيف البريطاني.
غير أنه من اللافت في هذا السياق كما يُشير المؤلف في مقدمته، هو عدم تعاون دار الوثائق القومية المصرية مع الباحثين.فقد تقدَّم المؤلف بطلبٍ للاطلاع على وثائقها فلم يردوا عليه، ولم يمنحوه موافقتهم السنيَّة، بينما رحَّب المتحف الحربي الإمبريالي في لندن بطلبه، وأتاح له الفرصة كاملة للاطلاع على وثائقه، وسمحوا له بتصوير جزء منها في لندن مقابل عشرة جنيهات إسترلينية، وقام موظفوه بإرسال الجزء المتبقي منها بالإيميل بسرعة بالغة، ومن دون الاطلاع على جواز سفره.أما الاطلاع على الوثائق داخل المتحف فقد كان مجانًا.وهو ما يكشف عن الفرق بين عقليتيْن، ونظاميْن، ومجتمعيْن.
ابتداءً..يعزو المؤلف الفضل في إزاحة الستار عن التفاصيل المرعبة المصاحبة لتأسيس الفيلق المصري، ولفت الانتباه إليها، إلى الاحتفال بالذكرى المئوية لثورة 1919؛ فقد جاء إهدار إنجلترا"لإنسانية العمال المصريين باعتبارهم شعبًا ملوَّنًا ذا مرتبة أدنى في الإنسانية، من أسباب اشتراكهم في ثورة 1919 في محاولةٍ لاستعادة كرامتهم القومية المصرية، وإثباتًا لجنسهم الذي ينتمون إليه بوصفهم أحفاد قدماء المصريين".
وهنا يوضِّح المؤلف استنادًا إلى المؤرِّخ الأمريكي كايل أندرسون أن أكثر من نصف مليون فلاح مصري من اثني عشر مليون نسمة كانوا يُشكِّلون تعداد مصر في هذا الوقت، أخذوا بالقوة الجبرية ليعملوا مع الجيش البريطاني في فلسطين والشام وأوروبا؛ فكانوا يحملون البضائع، وينشئون خطوط السكك الحديد ويمدون مواسير المياه.واعتبر الإنجليز وفقًا لرواية أندرسون فيلق العمال المصري جزءًا من عمالة الملوَّنين (غير البيض) على غرار معاملة البيض للزنوج في أمريكا.وعكست معاملة العمال المصريين نوعًا من العبودية على الرغم من إلغائها رسميًّا في سنة 1877، وشكلًا من أشكال السخرة التي ألغيت عام 1892.
ويرى د.أبو الغار أن تجنيد الفلاحين في الريف وبنسبة أكبر في الصعيد كان سهلًا، على خلاف المدن "حيث كان تجنيد المصريين بالعنف صعبًا؛ لأن احتمالات استخدام العنف من الجانبيْن كبيرة.فضلًا عن أن سلطة الشرطة والعمد وشيوخ الخفر في الريف أكبر من قوة وسلطة الشرطة في المدن ونفوذها على المواطنين".
لهذا يُشدِّد المؤلف النَّبْر على حرص الحكومة البريطانية على طيِّ هذه الصفحة من تاريخها، بإدخالها في دائرة النسيان رغبة في التنصُّل من مسئوليتها المدانة سلفًا، وخوفًا من هجوم بعض الصحف البريطانية الحُرَّة التي تؤمن بحقوق الإنسان عليها، ولكن محاولاتها باءت بالفشل بعد أن تقدَّم النائب جروندي في 22 مايو 1919بطلب إحاطة للمسئول المالي بوزارة الحربية عن تاريخ تكوين الفيلق، والجنسيات التي تكوَّن منها، والمبالغ التي دفعت لهم، وهل هم يعتبرون جنودًا في الجيش البريطاني، وما عملهم، وهل يتلقوْن مرتبًا مماثلًا لما يُدفع في هذه المنطقة، وهل يمكن إلحاقهم بالخدمة العسكرية، وهل هم يتبعون نقابة أو اتحادًا عماليًّا، وهل يساعدون في تشغيل السفن في قناة السويس، وما المراسلات التي تمَّت بين سكرتير وزارة الحربية وبين قيادة الفيلق؟ وكذلك طرحت الليدي بارونيت بينيت من مانور كاسل في 31 يناير2022 سؤالًا على مجلس اللوردات عمَّا فعلته الحكومة البريطانية لاكتشاف موقع دفن أكثر من عشرة آلاف مصري دفعوا حياتهم ثمنًا لخدمة الإمبراطورية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، ومن ضمنهم فيلق العمال المصري؛ فلم تألُ سلطات الاحتلال البريطاني جهدًا في فرض رقابة عسكرية في أثناء الحرب على الصحف لمنع نشر أي شيء يتعلق بوضع العمال المصريين، وما يلاقونه من عَنتٍ وإرهاق، حتى إن "بريطانيا التي كرَّست جناحًا كاملًا عن الحرب العالمية الأولى في المتحف الحربي الإمبريالي لم تُخصِّص سوى جزء يسير عن الحرب في سيناء وفلسطين وسوريا والعراق، وأغفلت تمامًا أي شيء له علاقة بنصف مليون فلاح مصري أسهم في انتصار بريطانيا".
لذا وجد د.أبو الغار بحق أن غياب فيلق العمال المصري عن التاريخ المكتوب يرجع إلى أن المؤرِّخين "اعتبروا نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين معركة مستمرَّة بين القوى الوطنية المصرية الناشئة وبين بريطانيا العظمى.وأن دور مصر انحصر فحسب في إنتاج المواد الخام وبالذات القطن، وركَّز المؤرِّخون على دور بريطانيا الإمبريالي في إدخال مصر واقتصادها تحت مظلة بريطانيا.وتجاهل الجميع دور مصر- الدولة، والمصريين- الشعب في مساعدة بريطانيا على الانتصار في الحرب".
بَيْدَ أن المؤلف يسارع إلى تصويب اعتقاد شاع لدى البعض ممن اهتموا بالتأريخ لثورة 1919، ظانين أن الفلاحين المصريين قاموا بدور عسكري في الحرب.وهو ما تُكذّبه وقائع الحرب وأحداثها؛ ففيلق العمال المصري لم يحمل السلاح، ولم يوجِّه طلقة واحدة في أي مرحلة من مراحل الحرب، بل قدَّم مساعدات جمَّة للإنجليز وحلفائهم في أثنائها، واستُشهدت منهم أعداد كبيرة، كما
أصيبت جموع أخرى غفيرة منهم.
وأشار د.أبو الغار استنادًا إلى كايل أندرسون إلى أن بريطانيا قامت بتقسيم مَنْ خدموها في الحرب تقسيمًا عنصريًّا إلى: الجنس الأسود والجنس الأصفر والجنس (المحمدي) الإسلامي. وأن موقف بريطانيا من المصريين تغيَّر "من اعتبارهم عنصرًا إسلاميًّا أرقى من الملوَّنين في إفريقيا وآسيا إلى جنس ملوَّن مماثل لبقية الإفريقيين.وأن إنشاء هذا الفيلق تمَّ بناءً على الخبرة في استخدام الهنود في مساعدة الجيش على إنشاء التحصينات وحمل المعدات وتجهيز الطرق، وكانت العنصرية هي الحاكمة في اختيار الأنسب لأداء هذه الخدمة".
وأضاف د.أبو الغار وفق ما جاء في كتاب الكاتب الصحفي صلاح عيسى (رجال ريَّا وسكينة)، أن رجال ريَّا وسكينة خدموا في الفيلق المصري في النصف الثاني من عام 1917 بعد أن أنشأ قائد القوات البريطانية في مصر مصلحة لتنظيم مشاركة الصعايدة في الحرب.فقد كانوا (رجال ريَّا وسكينة) يعيشون في الإسكندرية، وبعض سكانها من الصعايدة، ويعانون من البطالة والجوع، فأتاح لهم انضمامهم إلى الفيلق أن يحصلوا على أجر يومي قدره ثمانية قروش، والأكل بالمجان."فكان أحمد رجب زوج سكينة أول مَنْ سافر، وداومَ على السفر، وربما يكون قد استمرَّ طوال الحرب في الفيلق؛ ولهذا كان ظهوره في أحداث ريَّا وسكينة متقطّعًا وطويلًا. خاصَّة بعد أن فشلت محاولته في الاستقرار مع سكينة في قرية نكلا العنب". لهذا كان"غيابه الطويل سببًا في انهيار الحياة الزوجية بعد أن اتخذت رفيقًا لها ثم آخر، وحين عاد كان الأوان قد فات لإصلاح الأمور، وكان التفكُّك الأسري والطلاق والتحلُّل الجنسي بسبب العمل في الفيلق أمرًا معروفًا".وكذلك كان حال رفاقه: محمد عبد العال الذي وُجِدَ لديه عند تفتيش منزله غطاء للرأس اسمه عراقية، قال إنه اشتراه وهو بالفيلق؛ الأمر الذي رجَّح معه د.أبو الغار أنه قد"ذهب إلى العراق مع جزء من الفيلق الذي التحق بالحملة البريطانية - الهندية التي قامت بمهمة انتزاع العراق من الأتراك". وعرابي حسَّان الفتوة الدائم لبيوت البغاء السري المملوكة لآل همام فعملَ في الفيلق على فترات متقطّعة، وشارك في المرحلة الأخيرة من الحرب في جبهة الشام؛"فقد ضبطت لديه ساعة، قال إنه اشتراها من الشام، وملابس من الحرير الشامي قال إنه اشتراها من بيروت، ووُجدت عنده شهادة بالإنجليزية تشهد بأنه عملَ بكفاءة في الفيلق".أمَّا حسب الله الذي كان يعيش من إيراد بيوت البغاء فقد سافر إلى جزيرة مودوروس إثر مشاركته في حرب العراق؛ "فقد ضبطت لديه محفظة من الجلد الشامواه قال إنه اشتراها بخمسين قرشًا من البصرة"، ثم سافر بعد ذلك إلى يافا في فلسطين مع الفيلق، وحين عاد"وجد ريَّا زوجته تُدير البيت للبغاء السري فلم يعترض"، ثم يُضيف د.أبو الغار قائلًا:"وحدث شيء مشابه مع أحمد رجب؛ الرحل الذي عاد ليجد زوجته عشيقة لمحمد عبد العال ولم ينزعج، بالرغم من أنهم جميعًا في الأصل صعايدة"!
وبذلك أسهم إرغام سلطات الاحتلال الإنجليزي للشباب المصري على الانضمام إلى الفيلق، مستخدمة في ذلك كل صور التعذيب والخطف والتنكيل معهم، وتجويعهم بالاستيلاء على محاصيلهم ومواشيهم، وإجبارهم على توقيع طلب التطوع وإلقائهم في أتون الحرب، أسهم في تردي منظومة القيم الأخلاقية التي تصوغ الترابط بين أفراد المجتمع المصري، وتمنحه التماسك. بل مثَّل ضربًا من ضروب البربرية وانحرافًا كارثيًّا عن نهج الحداثة الأوروبية وقيمها الديمقراطية الليبرالية.
وقد علَّقت مجلة "ذا نيشن" على ذلك تعليقًا لافتًا مؤداه"أن تجنيد العمال المصريين فكَّكَ عُرى الأسرة بغياب عائلها ورجالها؛ مما أدَّى إلى زيادة الفقر وانحلال الأخلاق، كما أدَّى سوء معاملة هؤلاء العمال إلى تعرضهم للأمراض وموتهم". ويُضيف صلاح عيسى:"إن أحدًا لم يربط بين الشغل في الفيلق وبين نمط الجرائم التي سادت في مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فكانت جرائم تتسم بالتوحش الذي لم يكن معروفًا من قبل في تاريخ الإجرام المصري".
وفي هذه المرحلة، صدر مرسوم من السلطان الجديد حسين كامل بإعفاء كل مَنْ يقضي عامًا في فيلق العمال أو فيلق راكبي الجمال من أداء الخدمة العسكرية.وأصبح مطلوبًا من كل مدير- أي محافظ – أن يُقدِّم شهريًّا من مديريته عددًا معينًا من الرجال لسدِّ طلبات السلطة.وعُيِّن ستة وعشرون ضابطًا بريطانيًّا بين الإسكندرية وأسوان لمعاونة مأموري المراكز على جمع الأنفار.وكان رجال البوليس والخفراء يهجمون على الفلاحون عندما يأوون إلى دورهم في المساء لجمع العدد المطلوب من كل قرية.
وفي الصباح يُساقون كالأنعام وهم موثقون بالحبال إلى المركز حيث يتسلمهم الضابط البريطاني ليشحنهم بالسكة الحديد إلى مقرِّ التوزيع بالإسماعيلية، ولا يجري أي إحصاء أو تسجيل دقيق، وإنما يكتفي الضابط بإعداد قائمة بأسماء الرجال، وأحيانُا يقسِّمهم إلى مجموعات (50 رجلًا) يرأسهم واحد منهم يتولَّى تنفيذ الأوامر.
وهو ما توقَّفت عنده مجلة "ذا نيشن" قائلة:"لم يكن تجنيدنا لهم على طريقة التجنيد الإجباري المنظَّم، بل كان يجري على يد أعوان يتفرَّقون في القرى ويتصيدون العمال من هنا وهناك، وقد عاد الكرباج الذي طالما افتخر اللورد كرومر بإلغائه".
وكم من المخازي والمفاسد التي واكبت عمليات بريطانيا الحربية هذه، أو كما تسميها بريطانيا زورًا وبهتانًا معارك الحرية؛ فكثير من العمد انتهزوا هذه الفرصة لتصفية حساباتهم مع خصومهم الألداء من أبناء الأسر المناوئة لهم، فأوقعوهم في مصيدة العمل بالفيلق، بينما تستروا على أقاربهم ومعارفهم وأعفوهم من مغبة الالتحاق به، وشاعت الرشاوى للعمد ومأموري المراكز والضباط البريطانيين أنفسهم، وفُرضت الإتاوات، وساءت الأحوال، وباعت النساء حليهن مقابل عدم تجنيد أزواجهن وأبنائهن والإفراج عنهم. غير أن موقف الحكومة المصرية برئاسة حسين رشدي باشا كان موقفًا رثًّا.. زريًّا؛ حيث قام بتجنيد جهاز الدولة البيروقراطي بالكامل بدءًا من الشرطة ومديري المديريات إلى مأموري المراكز والعمد، وأباح لهم استخدام العنف بكل أشكاله وصوره لتجنيد السواد الأعظم من الفلاحين، وبضعة آلاف من شباب المدن، دون إصدار قانون يُنظّم عملهم الذي سادته الهمجية والقوة المفرطة.ثمَّ كانت ثالثة الأثافي حين "تطوَّعت الحكومة المصرية بدفع جزء من مرتبات الفلاحين، ثمَّ إعطاء قرض للحكومة البريطانية لدفع أجور فلاحي الفيلق، وقرب انتهاء الحرب تنازلت الحكومة المصرية عن القرض لصالح بريطانيا، برغم فقرها ونقص الغذاء، وهذه كارثة". بل على الرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة التي دفعت بكثيرين إلى الالتحاق بالفيلق من غير الفلاحين مثل عبد الحميد حسن مُرمِّم القباب الإسلامية بحثًا عن فرصة عمل.وقد هاجم سعد زغلول وسلامة موسى وآخرون هذا الموقف الشائن. وذكر الملازم البريطاني فينابلز أنه كان يعهد إلى القادمين من المدن مثل القاهرة والإسكندرية بأعمال غير مرهقة بدنيًّا في المطبخ والإشراف على المخازن وتنظيم المعسكر إذ إن قدرتهم على الفهم أكبر. ويتضح من خطاباته (فينابلز) إلى صديقه في لندن أنه صنَّف أنفار الفيلق إلى الأغلبية العظمى من الفلاحين، وهم قادمون من الصعيد، ويتسمون بالأمية وعدم القدرة على التفكير والنظام.أما مَنْ نالوا قسطًا من التعليم فكانوا قادرين على القراءة والكتابة، ومُلمين ببعض مبادئ الحساب، وهؤلاء استُخدموا في أعمال كتابية وتنظيمية. لكن البارونس جولدي فضح موقف بريطانيا العنصرية حين أعلن في 10 فبراير 2022 أن اللجنة المختصة بمقابر حلفاء بريطانيا في الحرب العالمية الأولى نشرت تقريرًا عن عدم المساواة في طريقة الدفن بين مختلف الذين قتلوا، وأن الوثائق التي عثرت عليها اللجنة قدَّرت الذين قتلوا من فيلق العمال المصري وفيلق الجِمال المصري بـ 15 ألفًا و 500، وأن عددًا قليلًا منهم دُفنوا في قبور عليها شواهد بأسمائهم، ومعظم الأسماء وأماكن الدفن غير معروفة، وفي حالة العثور على مقابر وأسماء سوف يتمّ وضع شواهد عليها.غير أن الدكتور محمد أبو الغار يقول وفق ما أكدته "لجنة قبور ضحايا الكومنولث" برئاسة السير تيم هتشنز إن النصب التذكاري للفلاحين المصريين وراكبي الجِمال المصريين من فيلق العمال المصري الموجود بالجيزة، ليست عليه أسماء ولا أعداد الذين قُتلوا في الحرب. مُضيفًا أن البعض يعتقد أن القتلى عشرة آلاف، ولكن اللجنة تعتقد أن العدد يتراوح بين 18 و50 ألفًا، وتوصي بأنه يجب الاستمرار في البحث عن أسماء المتوفين.واكتشف د.أبو الغار في رحلته البحثية هذه، أن "مستشفى العيون سُمِّيَ بمعهد العيون التذكاري منذ أكثر من مائة عام؛ لأن داخل أسواره المبنى التذكاري للفلاحين المصريين"، ويتابع قائلًا بأسى: "وبمرور الزمن توارت الحكاية الأصلية، واستمرَّ اسم المستشفى "التذكاري" دون أن يُفكِّر أحد لماذا سُمِّيَ بهذا الاسم".
وبذلك يُقدِّم لنا د.محمد أبو الغار في كتابه"الفيلق المصري..جريمة اختطاف نصف مليون مصري" سجلًا آخر للتاريخ والذاكرة، ومعالجة وبناءً علمييْن مختلفيْن لهما، تكون فيه السردية الوطنية للأحداث ذات مغزى ثقافي وسياسي ونهضوي لا ريب؛ مما يُسهم في "دفع التاريخ بعكس التيار" كما يقول والتر بنيامين. .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ماذا وراء استئناف الخطوط الجوية الجزائرية رحلاتها الجوية من
.. مجلس الامن يدعو في قرار جديد إلى فرض عقوبات ضد من يهدّدون ال
.. إيران تضع الخطط.. هذا موعد الضربة على إسرائيل | #رادار
.. مراسل الجزيرة: 4 شهداء بينهم طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزل
.. محمود يزبك: نتنياهو يريد القضاء على حماس وتفريغ شمال قطاع غز