الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان جبل الوعول طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 3 / 6
الادب والفن


رواية للفتيان








جبل الوعول







طلال حسن

" 1 "

أطلت الشمس من وراء الجبل ، بأشعتها الدافئة البشوشة ، وكأنها تطل للمرة الأولى ، على هذه التلال والجبال والوديان والأنهار والكهوف والغابات .
وتسللت حزمة من الشعاع ، عبر مدخل الكهف ، مداعبة وجه صخر ، الذي كان يغط في نوم عميق . واعتدل متثائباً، وابتعد بوجهه عن الشعاع ، وقال بنبرة متذمرة : لا أدري لماذا تشرق الشمس كلّ يوم .
وضحكت أخته نسمة ، وكانت تعيد ترتيب فرش الكهف، وقالت : ربما لتذكرك أنك تجاوزت الخامسة عشرة ربيعاً ، وأن عليك أن تخرج للصيد مثل رياح .
ونهض صخر ، وهو يقول : افرحي، سيعود بعد قليل ، ومعه مأموث .
وضحكت نسمة ثانية ، وقالت : سأفرح حتى لو عاد ومعه أرنب .
وخرج صخر من الكهف مدمدماً : لن أصطاد إلا ماموث.
وأسرع إليه الكلب جوجو، لكنه توقف على بعد منه ، ونبح متذللاً : عو عو عو .
وتوقف صخر ، ونهره قائلاً : إليك عني ، إنني لم أفطر بعد .
ورفع أبوه رأسه ، وكان جالساً تحت الشجرة ،يشد حربة صوان إلى عمود خشبي ، بشرائط من جلد الغزال ، وقال بشيء من اللوم : أخوك ذهب إلى الصيد .
وتوقف صخر ، وقال : خذني معك ، إذا خرجت لصيد المأموث .
وردّ الأب ، وهو منهمك في عمله : ما زلت صغيراً على صيد المأموث .
وتململ صخر محتجاً ، وهمّ أن يبتعد ، حين أقبلت أمه ، تحمل إناء طافحاً بالحليب ، وقالت : لقد حلبت العنزة الآن .
وواصلت سيرها بإناء الحليب ، متجهة نحو الكهف . ونهض الأب ملوحاً بالرمح أمام صخر ، وقال : أنظر ، ما أروعه ، سيكون لك ، بعد أن أدربك على إطلاقه نحو هدف بعيد .
ومدّ صخر يده إلى الرمح ، وقال : أعطني إياه الآن يا أبي، وسترى كيف أطلقه نحو تلك الشجرة .
ومضى الأب بالرمح ، وركنه قرب مدخل الكهف ، وقال : لا تتعجل ، عليّ أولاً أن أدربك .
والتفت صخر ، وقال : إنني لست رياح لأحتاج إلى تدريب .
وتطلع بعينين مسحورتين إلى جبل الوعول ، الذي يشمخ بقممه الحادة وراء التلال ، وقال : سأذهب يوماً ما ، إلى جبل الوعول ذاك ، وأصطاد وعلاً .
وتوقف الأب محدقاً فيه ، ثم قال : إياك أن تذهب إلى ذلك الجبل ، حتى بعد أن تكبر .
وأطرق صخر رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، ولاذ الأب بالصمت لحظة ، ثم مضى منحدراً صوب النهر ، وهو يقول : سأذهب إلى النهر ، لعلي أصطاد سمكة ، نتغذى بها مع ما قد يصطاده رياح .
ولم يكد الأب يبتعد ، حتى تقدم صخر من الرمح ، المركون قرب مدخل الكهف ، وأطبق عليه بيده .ونادته أمه من داخل الكهف : صخر ، الطعام جاهز ، تعال أفطر.
لكن صخر لم يلتفت إلها ، ورفع الرمح ، وسدده نحو الشجرة ، وبكلّ قوته ، أطلق الرمح ، فمضى يئز كالريح، وانغرز نصله بقوة في ساق الشجرة .
وتقافز جوجو ينبح مبتهجاً : عو عو عو .
والتفت صخر إليه ، وقال: يبدو أن أحداً لا يعترف بي هنا إلا أنت ، اذهب عني وإلا ..
وأرخى جوجو ذنبه ، ومضى مبتعداً ، وهو ينهنه بصوت منكسر . ودخل صخر إلى الكهف ، وتناول فطوره على عجل ، ثم مضى يتجول فوق التلال ، يتبعه جوجو عن كثب ، دون أن يقترب منه ، أو يشعره بوجوده .
وعند منتصف النهار ، عاد صخر من جولته ، ورأته نسمة قادماً ،فهتفت به : جئت في الوقت الناسب ، تعال الطعام جاهز .
ودمدم صخر ، وهو يدخل الكهف : ما الغداء ؟ لحم ماموث ؟
وهزت أمه رأسها ، وابتسم أبوه ، وردّ رياح قائلاً : تعال الآن كل لحم سمك ولحم أرنب ، ومن يدري ، فقد تأكل قريباً لحم مأموث .














" 2 "

جلس الأب ، قبيل المساء ، تحت الشجرة ، يتطلع إلى الأفق البعيد ، ويحلم بصيد الغزلان والوعول والثيران الوحشية .
وأفاق على الكلب جوجو ينبح بأعلى صوته ،فرفع رأسه، وإذا صديقه الملقب " بالذئب " يقبل نحوه بخطوات متواثبة ، كأنه ذئب حقيقي ّ . وهبّ من مكانه ، ونهر الكلب صائحاً : كفى .
ولاذ الكلب بالصمت ، ومضى مبتعداً ، وهو يبصبص بذنبه .ورحب الأب بالذئب قائلاً : أهلاً بصديقي العزيز ..الذئب .
وتوقف الذئب على مقربة منه ، وقال : هيّء رمحك ، والتحق بنا غداً ، قبل شروق الشمس .
وتساءل الأب فرحاً : الماموث !
فابتسم الذئب ، وقال : البارحة دخل الوادي ..
وقبل أن ينتهي من كلامه ، استأنف سيره المتوثب . وحاول الأب أن يستوقفه ، وهو يقول : ابقَ يا عزيزي ، وشاركنا العشاء .
وردّ الذئب ، دون أن يتوقف : أشكرك ، عليّ أن أبلغ الجميع ، قبل حلول الليل .
وابتعد الذئب حتى توارى عن الأنظار ، وأسرع الأب إلى الكهف ، وجاء برمحه ، وجلس تحت الشجرة ، وأخذ يسنّه بحجر صوان صلب .
ورأته زوجته من بعيد ، فهزّت رأسها ، لكنها لم تقل كلمة واحدة . وحلّ الليل ، وقبل أن يأوي الأب إلى فراشه ، قالت له زوجته : رأيتك تسن رمحك ، بعد أن جاءك الذئب .
فردّ الأب قائلاً : سنذهب غدً إلى الوادي الكبير ، ونصطاد المأموث .
واقتربت زوجته منه ، ورجته قائلة : لا تأخذ صخر ورياح معك .
فتمدد الأب في فراشه ، وقل : سآخذ رياح فقط .
ولاذت الزوجة بالصمت ، فتدثر الأب بفراشه ، وقال : لا تقلقي ، سأبقيه بعيداً ، ولن أدعه يشارك في الهجوم على المأموث .
عند الفجر ، أيقظ الأب ابنه رياح ، وهمس له : هات رمحك ، واتبعني .
ونهض رياح ، وأخذ رمحه ، وتبع أباه إلى خارج الكهف. ولحقت بهما الأم ، وتشبثت برياح قائلة : بنيّ ، كن حذراً .
وحاول رياح أن يتملص من بين يديها ، وهو يقول : لا تخافي ، يا أمي ، لم أعد صغيراً .
وتابعت الأم بصوت دامع : رياح ..
وقاطعها الأب بحزم : كفى ، عودي إلى الداخل ، وإلا استيقظ صخر .
وتوقفت الأم مغالبة نشيجها، وتابعتهما بعينين غارقتين بالدموع ، حتى غابا .
وسارا صامتين ، وعند مدخل الوادي، التفت رياح إلى أبيه ، وقال : أبي .
ورد الأب دون أن يتوقف : نعم .
وتابع رياح قائلاً : يبدو أننا لن نكتفي اليوم بصيد الغزلان .
وابتسم الأب ، وقال : هذا يوم ستتذكره ما حييت .
وتطلع رياح إلى أبيه متلهفاً ، فأستطرد الأب : سننظم إلى بقية الرجال ، ونطارد المأموث ، ونصطاده .
وكاد رياح أن يتوقف ، وهو يقول ، مذهولاً : المأموث !
فرد أبو رياح ضاحكاً : نعم يا بني ، المأموث .
ورفع رياح رمحه ، وراح يدور حول نفسه ، مطلقاً صيحات فرحة ، فهتف به أبوه دون أن يتوقف : هيا يا رياح ، إنهم ينتظروننا .

تجمع في الوادي الكبير ، رجال الكهوف ، وعدد من الشباب ، يقودهم الذئب .
وتقدمهم الذئب ، وهو يتفحص الأرض ، ويقول : المأموث كان هنا البارحة ، سنجده إذا وجدنا آثار أقدامه.
وتوقف أحد الرجال ، وصاح : أنظروا ، هذه هي آثار أقدام المأموث .
وأسرع الذئب ، وحدق فيها ، ثم قال : نعم ، هذه آثاره ، اتبعوني ، هيا .
وسار متتبعاً الآثار ، والآخرون يسيرون في إثره،الواحد بعد الآخر ، وفجأة لاح حيوان ضخم ، له نابان عاجيان معقوفان ، فتوقف الذئب ، وقال : ها هو المأموث ، توزعوا حوله بهدوء ، ولاتطلقوا رماحكم عليه ، حتى أوعز لكم بذلك .
وعلى الفور ، راح الرجال يتوزعون حول المأموث ، وأستوقف الأب ابنه رياح ، وقال : بني ، قف بعيداً ، حيث يقف الشباب .
وحاول رياح أن يحتج ، كما احتج بعض الشباب ، لكن أباه قاطعه بحزم : رياح ، مكانك بين الشباب ، اذهب وقف معهم .
وتراجع رياح متذمراً، ووقف بين الشباب ، وقبضته تشد بقوة على رمحه .وتقدم الذئب بحذر من المأموث ، ورفع رمحه ، ثم صاح : تأهبوا .
ورفع الرجال رماحهم ، في انتظار إشارة الهجوم ، وبكل ما يملك من قوة ، أطلق الذئب رمحه ، فانغرز عميقاً في صدر المأموث ، وفجر فيه نبعاً من الدماء .
وصرخ المأموث متوجعاً ، وجن جنونه ، وأنطلق نحو الذئب ، الذي صاح بأعلى صوته ، وهو يتراجع : هيا ، أطلقوا رماحكم نحو المأموث .
وتدافع الرجال ، وأطلقوا رماحهم جميعاً ـ عدا الأب ـ نحو المأموث ، وأصابوه بجراح عميقة .
وتوقف المأموث ، والدماء تنزف منه بغزارة ، وحاول جهده أن يتماسك . وهنا تقدم الأب ، رافعاً رمحه ، وأطلقه بقوة نحوه ، وأصابه في صدره ، وصرخ المأموث بأعلى صوته ، ثم بدأ يتهاوى . عندئذ لم يعد الشباب يتمالكون أنفسهم ، فاندفعوا نحو المأموث ، وراحوا يطلقون عليه رماحكم ، فتهاوى على الأرض مضرجاً بدمائه .








" 3 "

فوجىء صخر ، بعد استيقاظه صباحاً ، بغياب أبيه وأخيه رياح . وكاد ينفجر غيظاً ، عندما علم بأنهما ذهبا إلى الصيد ، دون علمه .
وحاول طول النهار ، أن ينفس عن غيظه ، دون جدوى، فضرب جوجو ، حين مرّ به ،لأنه صاح : عو عو عو .
وضربه ثانية ، حين مر به بعد قليل ، لأنه لم يصح : عوعوعو.
وطارد العنزة ، في طول الباحة وعرضها ، حتى أنهكها، وكادت تتهاوى على الأرض . ولم تنهره أمه رغم حرصها على سلامة العنزة ، فهي تعرف سبب غيظه وغضبه ، بل وتتعاطف معه ، لكنها تخاف عليه ، وأي أم لا تخاف على صغيرها من صيد حيوان مخيف مثل .. المأموث ؟
وقبيل منتصف النهار ، نادته أمه : صخر .
لم يرد عليها ، فنادته ثانية : صخر .
ورد صخر هذه المرة ، ولكن بشيء من الغضب : نعم .
ورفعت أمه إناء ، وقالت : تعال جئني بشيء من الماء ، من النهر .
وبدل أن يأخذ صخر الإناء ، جلس تحت الشجرة ، وقال : هذا عمل نسمة ، وليس عملي ، إنني ولد .
والتفتت الأم إلى نسمة ، وكانت تلهو إلى جانبها ، وقالت : نسمة ، اذهبي أنت ، وجيئيني بالماء .
ونهضت نسمة قائلة : نعم ماما .
وأخذت الإناء ، ومضت إلى النهر ، ودمدمت الأم ، وهي ترمق صخر بنظرة خاطفة : ستغرق نسمة إذا سقطت في النهر .
وتململ صخر متضايقاً ، حين تذكر أن نسمة لا تجيد السباحة ، وتراءت له تسقط في النهر ، وتوشك على الغرق ، وتستغيث بأعلى صوتها : النجدة ، صخر، سأغرق .
وحاولت الأم أن تكتم ابتسامتها ، عندما نظرت إليه خلسة، ورأته ينهض من تحت الشجرة ، وينسل في إثر نسمة .
وظل صخر ، يتابع نسمة من بعيد ، دون أن تنتبه إليه ، حتى انحدرت إلى النهر ، وملأت الإناء ماء ، ثم قفلت عائدة إلى الكهف .
وعند الغروب ، دخلت الأم ونسمة إلى الكهف ، ووقف صخر ، قرب المدخل ، ينتظر ساهماً ، حتى غربت الشمس .
ونادته أمه ، من داخل الكهف ، قائلة : تعال يا صخر ، الجو بدأ يبرد .
ولم يلتفت صخر إليها ، وظل جامداً في مكانه ، واقتربت الأم منه ، وخاطبته بصوت رقيق : صخر .
ورد صخر ، دون أن يلتفت : لقد غربت الشمس ، ولم يعودا .
وبنفس الصوت الرقيق ، قالت الأم : لن يعودا اليوم .
والتفت صخر إليها مذهولاً ، فأضافت قائلة : لقد ذهبا ، مع رجال المنطقة ، إلى الوادي الكبير ، لاصطياد مأموث .
وأطرق صخر رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فربتت الأم على ظهره بيدها الرقيقة ، وقالت : لا عليك يا بني ، سيأخذك أبوك حتماً ، في المرة القادمة .
وغادر صخر مكانه ، داخلاً إلى الكهف ، ورقد في فراشه، ونادته بصوت رقيق : صخر .
لم يردّ عليها ، فنادته ثانية : بنيّ ، تعال وتناول عشاءك .
وأغمض صخر عينيه ، وقال: لست جائعاً ، سأنام .
وقبل أن يغفو ، سمع نسمة تقول : لقد مللت السمك ، لو أن بابا ورياح هنا ، لذهبا إلى جبل الوعول ، واصطادا لنا منه وعلاً .



" 4 "

تسلل صخر من الكهف ، قبل شروق الشمس ، حاملاً الرمح ، الذي سيقدمه أبوه له ، بعد أن يدربه على إطلاقه نحو هدف بعيد .
وعلى مقربة من الشجرة ، لحقت نسمة به ، وهتفت بصوت ملتاع : صخر .
وتوقف صخر محدقاً فيها ، ثم قال في نبرة ثابتة : سآتيك بوعل .
وشهقت نسمة ، وأمسكت بالرمح ، وقالت : لا ، إنني أخاف عليك .
ورد صخر قائلاً : لا تخافي ، إن رياح ليس أمهر مني في الصيد .
وتندت عينا نسمة بالدموع ، وقالت : أنت ما تزال صغيرا يا صخر .
وحدق صخر فيها ، وقال : قلتها البارحة ، لقد تجاوزت الخامسة عشرة ربيعاً .
وسحب الرمح من يدها برفق ، وقال : سأذهب ، سأذهب وأصطاد وعلاً .
ومضى صخر حاملاً رمحه ، فهتفت نسمة به ، بصوت دامع : صخر .
وتوقف صخر لحظة ، دون أن يلتفت ، وسرعان ما استأنف سيره ، لا يلوي على شيء . ووقفت نسمة تتابعه بعينيها الغارقتين بالدموع ، حتى غاب وراء التلال . وعادت إلى الكهف ، دون أن تنتبه إلى الكلب جوجو ، الذي كان يراقبهما من وراء الشجرة ، ينسل بهدوء ، ثم ينطلق في إثر صخر .
وسار صخر بخطوات فتية ثابتة ، عبر التلال والمرتفعات الصخرية ، ولم يعرف ، وهو يحث خطاه ، أن جوجو يتبعه على حذر ، من بعيد . وقبل منتصف النهار ، وصل إلى مشارف جبل الوعول ، وتوقف يتأمل ما حوله .
وعلى أحد السفوح ، رأى وعلاً فتياً ، يرعى بهدوء واطمئنان ، فتسلل نحوه ، ويده تشد بقوة على الرمح . ورفع الوعل رأسه ، وأنصت ملياً ، ثم سار مبتعداً عن السفح .
وأطل جوجو بحذر ، من وراء إحدى الصخور ، مبصبصاً بذنبه ، وعيناه تتابعان باهتمام ما يدور حوله. وتبع صخر الوعل ، محاكياً أباه في التخفي والتربص، وصعد الوعل بخفة مرتفعاً صخرياً ، فتسلق صخر المرتفع في إثره ، وراح يقترب منه ، ورمحه في يده .
وتلفت الوعل حوله ، ثم سار بثبات على حافة ضيقة ، تطل على واد شديد الانحدار . واٍنسل صخر وراءه ، وتوارى خلف صخرة ضخمة ولم ينتبه الوعل ، ولا صخر ، وكذلك جوجو ،إلى شخصين ، أحدهما كبير والآخر فتي ، كانا يكمنان في الطرف الآخر من المنحدر.
وتطلع الرجل إلى صخر ، وقال: بني رعد ، أنظر ، هذا الصياد الفتي ليس منّا .
ونظر رعد مدققاً في صخر ،ثم قال : أنت محق يا أبي .
ثم أضاف غاضباً : هذه منطقة صيدنا .
ولعل الأب أراد تهدئته ، فقال : لابد أن هذا الأحمق يجهل ذلك .
ونهض رعد ، ورمحه في يده ، وقال : ليدفع إذن ثمن جهله .
واعترضه أبوه قائلاً : مهلاً يا بني .
ثم أشار إلى صخر ، وقال : هذا المجنون ، لا يعرف خطورة ما هو مقدم عليه .
وفي تلك اللحظة ، كان صخر قد خرج من وراء الصخرة الضخمة ، وتقدم من الوعل ، رافعاً يده بالرمح.وتراجع الوعل ، فتبعه صخر ، وكاد يطلق الرمح نحوه ، عندما قفز الوعل إلى الحافة المقابلة ، فتهاوى صخر ورمحه إلى الوادي .
وشهق جوجو ، وكاد ينبح مستغيثاً ، لكنه تمالك نفسه ، وانطلق متوجهاً صوب الوادي ، الذي تهاوى صخر إليه.
وأرخى رعد يده عن رمحه ، وقال : هذا أفضل ، لقد عاقبه جبل الوعول نيابة عنا .
ولاذ الأب بالصمت ، فسار رعد ، وقال : هيا يا أبي ، نتأثر الوعل ، لعلنا نصطاده ,
لكن الأب ظل واقفاً في مكانه ، وقال : مهلاً يا بني ّ .
وتوقف رعد ، وقد تملكته الدهشة ، ولم ينطق بكلمة واحدة.وأسرع جوجو إلى صخر ، ورآه منطرحاً على الأرض ، فاقد الوعي ، فدار حوله ، يتشممه منهنهاً ، ثم رفع رأسه ، وسرعان ما انطلق بأقصى سرعته ، عائداً صوب الكهف .













" 5 "

لاحظت الأم ، حالما استيقظت ، أن صخر لم يكن في فراشه . وخرجت دون أن تلتفت إلى نسمة ، وحلبت العنزة ، وأعدت طعام الفطور ، وجاءت به إلى الكهف ، ثم وقفت في المدخل ، وهتفت : صخر .
لم يرد صخر ، وكيف يرد ، وهو أصلاً غير موجود ؟ وتطلعت نسمة إليها ، دون أن تنبس بكلمة ، فهتفت الأم بصوت أعلى : صخر .. صخر .
وبدل صخر ، ردت نسمة قائلة : لن يسمعك صخر يا ماما.
والتفتت الأم ، فقالت نسمة : لقد ذهب إلى الصيد .
وحدقت الأم فيها ، فتابعت بصوت تخنقه الدموع : ذهب إلى جبل الوعول .
ولاذت الأم بالصمت ، ثم مضت إلى الخارج ، وهي تقول : تناولي فطورك ، ورتبي الكهف .
وحاولت نسمة أن تتشاغل بترتيب الكهف ، دون أن يخطر في بالها ، أن تتناول طعام الفطور ، وخرجت بعد حين ، ورأت أمها ، تقف تحت الشجرة ، وعيناها شاخصتان نحو جبل الوعول . فاقتربت منها ، وقالت بصوت مختنق : ماما.
وإذ لم ترد الأم تابعت نسمة قائلة : ليلة البارحة سمعني صخر أقول لك ، لو أن بابا ورياح هنا ، لذهبا إلى جبل الوعول ، واصطادا لنا منه وعلاً .
ولاذت الأم بالصمت ، فتراجعت نسمة ، ثم أسرعت إلى الكهف . وارتمت باكية فوق فراشها ، وسرعان ما استغرقت في النوم .
وفزت بعد حين ، على صوت جوجو ، يأتي نابحاً من بعيد : عو عو عو .
وهبت من فراشها ، ومضت مسرعة إلى الخارج . وما إن رأتها أمها ، حتى صاحت منفعلة : نسمة ، تعالي ، هذا جوجو ، لا بد أن صخر سيأتي في إثره .
وأقبل جوجو لاهثاً ، وراح يدور حول الأم ونسمة ، وهو ينبح : عو عو عو .
وتلفتت نسمة متسائلة : أين صخر ؟
وردت الأم بصوت مرتعش : لعله في مأزق ، وقد جاء جوجو ليقودنا إليه .
وراح ، جوجو ، يركض باتجاه الجبل ، ثم يتوقف ، وينظر إليهما نابحاً ، كأنه يدعوهما إلى اللحاق به ، وحثت الأم خطاها في إثره ، وقالت : لنتبعه ، هيا يا نسمة ، هيا.
ومضى جوجو يركض ، والأم ونسمة تهرولان وراءه ، دون أن تنبس إحداهما بكلمة واحدة . وقادهما عبر التلال والمرتفعات الصخرية ، إلى واد عميق ضيق ، تحيط به الصخور من جميع الجهات . وتوقف عند منحدر بين الصخور ، وراح يدور حائراً ، وينبح بصوت مذبوح : عو عو عو .
وشهقت الأم حين لمحت على الأرض ، مزقة ملوثة بالدم، فرفعتها بيد مرتعشة ، وحدقت فيها ، ثم صاحت بصوت باك : يا ويلتي ، هذه مزقة من ملابس صخر .
وتوقفت نسمة ، تحملق مصدومة بين الصخور ، ثم صاحت منهنهة : ماما ، تعالي .
وأسرعت الأم ، ونظرت حيث تنظر نسمة ، وإذا رمح صخر ، الذي أعده له أبوه ، ملقى بين الصخور .
ومدت نسمة يدها ، وتناولت الرمح ، وحدقت فيه ، ثم قالت : هذا رمحه .
ثم نظرت إلى أمها ، وتساءلت بصوت باك : أين هو ؟ أين صخر ؟
ورفعت الأم رأسها ، وصاحت بصوت ملتاع : صخر .
ولم يجبها ، في ذلك الوادي الضيق العميق ، غير الصدى : صخر .. صخر .. صخر .





" 6 "

بقدر ما كانت الأم ، تعاني من اختفاء صخر ، وعدم عثورها على أثر له ، فأنها كانت تعاني من كيفية مواجهة الأب بالحقيقة ، عند عودته من الصيد .
ولعل الأمل ، أو الهروب ، كان يدفعها إلى الخروج من الكهف ، والجلوس فوق مرتفع ، يطل على الطريق، المؤدي إلى جبل الوعول ، ولا تعود إلى الكهف ، حتى غروب الشمس .
وفي هذا اليوم ، خرجت الأم مبكرة ، من دون أن تتناول طعام الفطور ، الذي أعدته نسمة منذ الفجر ، ولحقت نسمة بها ، خارج الكهف ، وهتفت : ماما .
وردت الأم ، من غير أن تتوقف : تعرفين أين تجديني ، إذا جاء أبوك .
وواصلت نسمة ملاحقتها ، وقالت : أنت حتى لم تتناولي طعام الفطور .
وحثت الأم خطاها قائلة : ولن أتناول طعام الغداء ، هيا عودي .
وتوقفت نسمة ، لكنها ظلت تتابع أمها ، حتى توارت ، وقفلت عائدة إلى الكهف ، فأقبل جوجو راكضاً ، وهمّ أن يتبعها ، فنهرته قائلة : ابق هنا .
ودخلت نسمة إلى الكهف ، وبقي جوجو عند المدخل ، يراقب بحذر كل ما يجري حوله .
وعند منتصف النهار ، جلست نسمة ، تحت الشجرة . وحانت منها نظرة ، وإذا أبوها ورياح يلوحان من بعيد ، فنهضت واقفة ، وراحت تنظر إليهما دون حراك .
وعجب رياح ، لأن نسمة ، على غير عادتها ، لم تسرع إليهما فرحة ، وقد غابا في الصيد ، أكثر من يوم .
وحالما وصلا ، اتجه الأب إلى الكهف ، وهو يقول : اصطدنا مأموث ، وسنجتمع مساء اليوم ونقيم وليمة لكل العوائل .
واقترب رياح من نسمة ، وقال : أراك قلقة حزينة ، ما الأمر ؟
واختنقت نسمة بدموعها ، ولم تجب ، وخرج الأب من الكهف ، ونظر إلى بسمة ، وقال متسائلاً : أين أمك ؟
وبدل أن تجيبه نسمة ، انخرطت في البكاء . فقطب الأب حاجبيه ، وتساءل مرة أخرى : ما الأمر ؟ أخبريني .
وتمتمت نسمة من بين دموعها : صخر .
وشهق رياح : صخر ! ماذا أصابه ؟
وتابعت نسمة قائلة : ذهب إلى جبل الوعول ، منذ البارحة ، ليصطاد وعلاً ، ولم يعد حتى الآن .
وعلى الفور ، شدّ الأب يده على رمحه ، ومضى على الطريق المؤدي إلى جبل الوعول ، وقال : رياح ، اتبعني.
وتبعه رياح ، دون أن ينبس بكلمة ، ولحقت بهما نسمة ، وهي تقول : خذاني معكما ، أنا أعرف الطريق .
ومضى الأب ، مواصلاً طريقه ، وقال : لا بأس ، تعالي.
ووقف جوجو ، يبصبص بذنبه حائراً ، ثم حزم أمره ، وأنطلق مسرعاً في إثرهم .
ومن فوق المرتفع ، رأتهم الأم يمضون نحو جبل الوعول . وتابعتهم بعينين تغرقهما الدموع ، حتى غابوا تماما ً .
وظلت في مكانها يراودها أمل ، أن يحقق زوجها وابنها رياح ، ما لم تستطع تحقيقه ،هي وابنتها بسمة . لكن أملها تلاشى ، عندما رأتهم يعودون مع الغروب ، يجرون خطاهم متعبين ، محبطين ، وجوجو يهرول وراءهم لاهثاً، وقد تهدل ذيله .
وغربت الشمس ، وحل الليل ، والأم في مكانها مطرقة حزينة ، متداعية ، حد الانهيار .
وتناهى إليها من الظلام وقع أقدام ، هذا زوجها ، إنها تعرف وقع أقدامه ، ورفعت رأسها ، دون أن تلتفت ، وأخذت تبكي ، عندما توقف على مقربة منها ، وقال : بحثنا عن صخر ، في كلّ مكان ، لكننا لم نعثر له على أثر .
وعلا بكاء الأم ، فتابع الأب قائلاً : لقد حدثتني نسمة عما جرى ، الخطأ ليس خطأك لكن ..
وصمت لحظة ، ثم مضى بخطى واهنة ، وهو يقول : لنعد إلى الكهف ، هيا ، الجو هنا بارد .

















" 7 "

هووووو، يا للويل ، ما هذا ؟ أهي ريح عاصفة ، أم تنين بحجم جبل الوعول ، يهدر كالرعد ؟
وشيئاً فشيئاً راح الصوت يخفت ، حتى تلاشى تماماً ، وساد الهدوء كل شيء .
وفتح صخر عينيه للحظة ، ولاح في الظلام وجه غائم ، تحيط به هالة من الشعر الكث ، أهي أمه أم أخته أم .. ؟ وتناهى إليه من بعيد صوت بعذوبة صوت أمه : بنيّ .
وحاول صخر أن يفتح عينيه ، دون جدوى ، وقبل أن يغرق في الظلام ثانية ، جاءه الصوت العذب نفسه : اطمئن ، أنت معنا ، في أمان .
ونهضت المرأة ، وتسللت من الكهف ، وانتابها القلق ، حين رأت رعد ، يقف في المدخل ، ورمحه في يده ، فبادرته قائلة : بنيّ ، اذهب وساعد أباك .
وتجاهل رعد ما قالته أمه ، وتساءل بحنق : أفاق ؟
وردت أمه قائلة : سيفيق .
وهز رعد رأسه ، وقال : هذا مستحيل ، كان على أبي أن يتركه لمصيره حيث تهاوى .
واحتجت أمه قائلة : لكنه إنسان .
ومن بين أسنانه ، قال رعد : عدوّ .
ودفعته أمه برفق ، وقالت : اذهب من هنا ، اذهب .
وذهب رعد قاصداً أباه ، ورمحه في يده ، ومرّ بنجمة ، وكانت تحاول إشعال النار ، بضرب حجرة بحجرة أخرى، فقال دون ، يتوقف : لن تشعلي النار مهما حاولت.
ورفعت نجمة عينيها إليه ، وقالت : رأيت في المنام أنك أنقذت امرأة من الغرق .
وتوقف رعد ، وقال : هذا ما فعله جدي ، وندم عليه .
ونهضت نجمة ، وقالت متباهية بنفسها : لو رأيت واحدة مثلي لأنقذتها .
ومضى رعد مبتعداً ، وهو يقول : رأيت البارحة واحدة مثلك في الغابة ، وهربت منها .
ولاذت نجمة بالصمت مفكرة ، هذا اللعين ، لعله يقصد الدبة ، كلا ، ليس في الغابة دبة بل دب .
وفي الكهف ، وخلال ساعات الليل والنهار المتعاقبة ، أفاق صخر مرات ومرات ، تناهت إليه خلالها ، كلمات غائمة ، رجالية ونسائية ، ليس بينها كلمت أمه أو أبيه أو أخيه أو أخته نسمة .
وأفاق مرة ، ربما نهاراً ، ورأى وجهين يطلان عليه . وعلى العكس مما توقع ، لم ير في عيونهما ما يبعث على الخوف والقلق .
ومال الرجل عليه ، وقال : أنت الآن أفضل، يمكنك أن تعتدل ، وتتناول شيئاً من الطعام .
وابتسمت المرأة له ، وقالت : هيا ، اعتدل ، لقد أعددت لك حساء لذيذاً .
وحاول صخر أن يعتدل ، وشعر بألم شديد في ساقه، فشهق متوجعاً : آه .
ومالت المرأة عليه ، وقد غامت ابتسامتها، وقالت : لا عليك يا بني ّ ، ستكون بخير .
ومدّ الرجل يده إلى صخر ، ومسح العرق عن جبينه ، وقال : أنت محظوظ ، لقد نجوت من موت محقق .
وأطرق صخر رأسه ، وتراءت له مطاردته للوعل ، وسقوطه في الوادي الضيق العميق ، فتأوه متمتماً : الوعل.
ونظر الرجل إليه ، وقال : لقد أصبت في ساقك ، كما أصبت بالكثير من الرضوض والكدمات ، في أنحاء مختلفة من جسمك .
وتأوه صخر متألماً ، فقالت الأم : اطمئن ، ستشفى .
ومالت عليه متسائلة : ما اسمك ؟
فأجابها صخر قائلاً : صخر .
ونظر إليه ، ثم قال : أمي في عمرك تقريباً .
وتندت عينا المرأة بالدموع ، فقال الرجل : لابد أن صخر جائع ، اذهبي وجيئيه بالحساء .
وذهبت المرأة مسرعة ، وهي تمسح دموعها . وجاءت بالحساء ، وقدمته لصخر ، وقالت : كل يا بنيّ ، كل وأشف ، ستعود إلى أمك وذويك ، ستعود إليهم حتماً .




















" 8 "

يوماً بعد يوم ، أخذت صحة صخر تتحسن ، فخفت رضوضه ، وزالت الكثير من كدماته ، لكنه ظل ـ بسبب ساقه ـ عاجزاً عن السير .
وجاءته المرأة بالطعام ، ذات مساء ، وجلست إلى جانبه، وقالت : تفضل ، أرجو أن يكون طعامي قد أعجبك .
وأخذ صخر يأكل ، وهو يقول : وكيف لا يعجبني ، أنت طباخة ماهرة ، وطعامك لذيذ جداً .
وابتسمت المرأة ، وقالت : لكن طعام أمك ، بلا شك ، ألذ.
وابتسم صخر ، دون أن يرد ، فتابعت المرأة قائلة : هذا أمر طبيعي يا صخر ، فلا ألذ من طعام الأم .
وانتهى صخر من طعامه ، فأخذت المرأة الإناء ، وقالت : الجدة الحكيمة التي تعالج ساقك ، ستعودك صباح الغد .
وأقبلت الجدة الحكيمة ، صباح اليوم التالي ، وفي يدها صرة صغيرة ، وتقدمتها المرأة ، وقالت : صخر ، الجدة الحكيمة.
واعتدل صخر ، وقال مرحباً : أهلاً ومرحباً .
ووضعت الجدة الحكيمة الصرة جانباً ، وهي تنظر إلى
صخر ، ومالت المرأة عليها ، وقالت : لقد بقي في فراشه، طوال هذه المدة ، كما أوصيت .
وجلست الجدة الحكيمة على مقربة من صخر ، وقالت : ارفع الدثار .
ورفع صخر الدثار ، ونظر إلى الجدة الحكيمة والمرأة بشيء من الخوف . ومدت الجدة الحكيمة يدها ، وحلت الأربطة ، ثم تحسست موضع الكسر .
وحاول صخر ، أن يكتم ألمه ، دون جدوى . ومالت عليه المرأة ، وقالت : تحمل ، أنت رجل .
ثم التفتت إلى الجدة الحكيمة ، وتساءلت : ها ، كيف هو الآن ؟
وأخذت الجدة الحكيمة الصرة ، وأخذت تعد لبيخة بأصابعها الخبيرة ، وهي تقول : الكسر كان كبيراً ، والتئامه يحتاج إلى بعض الوقت .
ومالت المرأة ثانية عل صخر ، وقالت : أرأيت يا بنيّ ، اصبر قليلاً ، وستتحسن بالتأكيد .
ووضعت الجدة اللبيخة ، على موضع الكسر ، وشدت اللفافة فوقها بقوة ، ثم نهضت ، وقالت : إياك أن تسير عليها ، حتى أراها ثانية ، بعد حين .
ومرت أيام وأسابيع ، لا يعرف صخر عددها ، فهو قلما يخرج من الكهف . وطوال هذه المدة ، لم تفارقه أمه وأبوه و أخوه رياح وأخته نسمة .
ورغم معاناته ، كان مرتاحاً إلى المرأة والرجل ، فقد كانا يعاملانه ، وكأنه ولد من أولادهما . كانت المرأة تقدم له ما يحتاجه من طعام وشراب ورعاية . أما الرجل فقد كان يزوره دوماً ، ويتبسط معه في الحديث ، وخاصة بعد عودته مظفراً من الصيد .
وقد حدثته المرأة ، وكذلك الرجل ، أكثر من مرة عن ابنهما رعد . ورغم حبهما له ، كانا لا يرتاحان لنوبات غضبه ، وبعض تصرفاته الخشنة .
وخلال النهار ، كانت تتناهى إليه أحياناً ، أحاديث فتاة ، وكركراتها الفرحة . لكنه لم يعرف من هي تلك الفتاة ، ولم يسأل أحداً عمن تكون . وقد لمحها غير مرة ، تخطف من أمام باب الكهف ، دون أن يراها جيداً .
وذات يوم جاءته المرأة بإناء طافح بالحساء ، وقالت له مبتسمة : تذوق هذا الحساء .
وتابعته بعينين متلهفتين ، وهو يتذوق الحساء ، ثم سألته : ها ، ما رأيك ؟
ونظر صخر إليها ، وقال : جيد ، نعم جيد .
وابتسمت المرأة فرحة ، وقالت : هذا الحساء ليس من إعدادي ، وإنما من إعداد ابنتي نجمة ، نجمة الصباح .
وسكتت لحظة ، ثم قالت مغالبة ضحكتها : لقد طلبت منها، أن تأتيك بالحساء ، لكنها رفضت ، يا للحماقة ، إنها تخجل من مقابلتك ، رغم أنها ما زالت صغيرة


" 9 "

جاءته المرأة ، قبل حلول الظلام ، بعشائه . وقدمته له قائلة : تفضل ، هذا الطعام يعجبك ، لحم غزال .
وأخذ صخر الإناء ، وقال دون أن يمدّ يده إلى لحم الغزال : أشكرك .
وجلست المرأة إلى جانبه ، وقالت بنبرة عتاب : بنيّ .
فنظر صخر إليها ، وقال : سآكل فيما بعد .
وتابعت المرأة قائلة : أعرف أنك متعب ، وأعرف ما يتعبك ، لكن لا خيار ، اصبر يا بنيّ ، اصبر قليلاً .
وأطرق صخر رأسه ، فقالت المرأة : صحتك تتحسن ، وستعود إلى ذويك عاجلاً أو آجلاً .
وصمتت المرأة قليلاً ، ثم قالت : الجدة الحكيمة ستأتي غدا، وربما ستسمح لك بالسير على عكاز .
لم يرفع صخر رأسه ، فنهضت المرأة متأهبة للخروج ، وقالت : كل لحم الغزال هذا ، ونم جيداً ، وسترى العالم غداً بعينين أفضل .
وتوقفت عند مدخل الكهف ، والتفتت إليه ، وقالت : يبدو أن رعد قد انتهى من إعداد الرمح لك .
لقد افتقد رمحه منذ البداية ، وقد سأل عنه ، فأخبره أبو رعد، بأنه لم يجد رمحاً ، حيث وجده أسفل الوادي،ووعده أن يعد له رعد ، رمحاً بدل رمحه ، وسيكون هدية منهم إليه .
وأتت الجدة الحكيمة ، في اليوم التالي ، وفكت الرباط عن ساق صخر ، وتحسست موضع الكسر .وكتم صخر ألمه ، فنظرت الجدة إليه ،وقالت : الكسر بدأ يلتئم .
ثم وضعت لبخة جديدة فوق ساقه ، وشدت عليها الرباط بقوة ، وقالت : جئتك بعكاز ، يمكنك السير عليه منذ الغد، لكن لفترة قصيرة .
وبعد أن تناول صخر فطوره ، صباح اليوم التالي ، جاءته المرأة بالعكاز ، وقالت مبتسمة : هذا هو العكاز ، الذي جاءتك به الجدة الحكيمة يوم أمس .
ورمى صخر الدثار جانباً ، وهم بالنهوض . فأسرعت المرأة إليه قائلة : مهلاً يا بني ، دعني أساعدك .
وانحنت قليلاً ، وقالت : اتكئ عليّ .
واتكأ صخر عليها ، فنهضت برفق ، وهي تقول : انتبه إلى ساقك ، إياك أن تقف عليها .
ووقف صخر ، رافعاً ساقه المكسورة . فقدمت المرأة له العكاز ، وقالت مبتسمة : خذ العكاز ، واستند عليه ، إنه ساقك الجديد ، أرجو أن لا يرافقك مدة طويلة
وأخذ صخر العكاز ، واستند عليه ، ثم نظر إلى المرأة ، وقال : حقاً إنه ساق ، وأي ساق .
وتراجعت المرأة باتجاه مدخل الكهف ، مشيرة بيديها ، كما لو أن صخر طفل صغير ، وقالت : هيا يا بنيّ .. امش بهدوء .. امش .. امش .
وابتسم صخر ، وهو يحاول أن يمشي ، وقال : مهلاً ، مهلاً ، يبدو أنني عدت إلى مرحلة الطفولة الأولى .
وضحكت المرأة قائلة : ليتني أعود إلى هذه المرحلة ، لكن بدون عكاز .
وأشارت له ثانية بيديها ، وقالت : هيا يا بنيّ ، امش .. امش .
ومشى صخر متمايلاً ، كأنه طفل يمشي للمرة الأولى ، وخرجت المرأة من الكهف ، وتوقفت قريباً من المدخل ، وقالت : الجو رائع اليوم ، تعال يا صخر ، وأنظر .
وخرج صخر من الكهف ، ووقف مبهوراً ، ينظر إلى ما حوله ، سهول .. تلال .. جبال .. وشمس تصطع في سماء شديدة الزرقة .
وفجأة انطلق رمح من مسافة قريبة ، وأزّ في الريح ، ثم انغرز بقوة أمام صخر ، فصاحت المرأة في غضب : رعد.
وتقدم رعد من صخر ، وحدق فيه بعينين ملتهبتين ، ثم قال : هذا الرمح لك ، خذه فستحتاج إليه ، حين تغادر ديارنا ، وتعود إلى دياركم .




















" 10 "

وقف صخر ، عند مدخل الكهف ، يحملق في قرص الشمس ، وهو ينحدر شيئاً فشيئاً نحو الأفق .
لقد لبث في هذا المكان ، دون حراك ، منذ أن عاد إلى الكهف ، ويده تشد على الرمح ، الذي قدمه له رعد بطريقته الخاصة .
وتملكه شعور بالأسى ، فقد حاولت المرأة أن تواسيه ، بعد أن عنفت رعد على فعلته ، لكنه التفت كاتماً انفعاله ، وعاد إلى الكهف .
وغاب قرص الشمس وراء التلال ، تاركاً ألقه المتلاشي، فوق ذرى التلال . وتنهد صخر ، وانسحب إلى الداخل ، متوكئاً على عكازه .
وتناهى إليه ، من داخل الكهف ، وقع أقدام ، فتوقف منصتاً . أهي المرأة أم رعد ؟ ومن غيرها ؟ لابد أنها جاءت بالعشاء ، ومن يدري ، لعلها تريد أن تواسيه ثانية، بسبب ما واجهه على يدي رعد .
وجاءه صوت ، طالما سمعه يزقزق أو يكركر ، خارج الكهف : مساء الخير .
وجمد لحظة ، ثم التفت ، وإذا هو أمام فتاة شابة ، أكبر من أخته نسمة بقليل ، فرد قائلاً : مساء النور .
وابتسمت الفتاة ، فتساءل صخر : نجمة !
واتسعت ابتسامتها ، وقالت : نعم ، نجمة ، نجمة الصباح.
ورفعت إناء فيه قطعة لحم مشوية ، وقالت : جئتك بطعام العشاء .
وسكتت لحظة ، ثم قالت : أنا طلبت من أمي ، أن آتيك بطعام العشاء هذه المرة .
ومدت يدها بالإناء ، فأخذه صخر منها ، وقال : أن .. أشكرك.
وابتسمت نجمة ثانية ، وقالت : سبق أن أعددت لك حساء، جاءتك به أمي .
وابتسم صخر ، وقال : آه ذكرني بحساء أعدته لي مرة أختي نسمة .
وهمهمت نجمة مغالبة ابتسامتها : همممم، لابد أن أختك بسمة مثلي ، أعدت الحساء للمرة الأولى .
وهز صخر رأسه ، فقالت نجمة : تذوق شواء الغزال هذا، لعله ينسيك طعم الحساء .
ولاحت على قسمات صخر ابتسامة حزينة ، فاقتربت نجمة منه وقالت : صخر .
ونظر صخر إليها ، فتابعت قائلة : لقد أخبرتني أمي ، بما فعله أخي رعد .
وأرخى صخر نظره عنها ، وقال : لعله على حق ، سأذهب حالما أشفى .
وقالت نجمة ، وقد بدا التأثر عليها : أنت لا تعرف رعد، إنه طيب القلب رغم انفعاليته .
ونظر صخر إليها ، وقال : مهما يكن ، فمن الواضح أنه لا يحبني .
وابتسمت نجمة ، وقالت : وسوف لا يحبك أكثر ، إذا علم بأني زرتك .
ورد صخر قائلا ً : بصراحة إنني لا أريد أن لا يحبني أكثر.
وعبست نجمة متظاهرة بالتأثر ، وقالت : أنت ترى إذن أن عليّ أن لا أزورك .
ونظر صخر إليها صامتاً ، فاقتربت منه ، وأخذت قطعة من الشواء ، ووضعتها في فمه ، وقالت : تذوقها .
ومضغ صخر قطعة الشواء متلذذاً ، فتساءلت نجمة : ها، ما رأيك ؟
فرد صخر قائلاً : ألذ شواء تذوقته في حياتي .
وابتسمت نجمة فرحة ، وقالت : هذا يجعلني أغامر ، بأن أجعل أخي رعد ، لا يحبك أكثر ، وإن كنت أتمنى أن يحبك.
وتراجعت باتجاه مدخل الكهف ، وهي تقول : عليّ الآن أن أذهب ، عمت مساء .
وتوقف صخر عن مضغ قطعة الشواء ، وقال: عمت مساء.





















" 11"

غابت نجمة أياماً ، لم تلح فيها مرة واحدة ، حتى عبر مدخل الكهف . وفكر صخر ، أنها ربما تخشى أخاها رعد ، أو أن أمها ، لسبب أو لآخر ، لا تسمح لها بالتردد عليه .
وقد تفهم صخر هذا الأمر ، وأعطى لنجمة الحق في ذلك، وإن تمنى لو يراها ، ويتحدث إليها ، ويسمع زقزقتها وكركرتها الطفولية العذبة . وهمّ غير مرة، أن يسأل عنها أمها ، لكنه تردد ، ربما خجلاً ، وفضل الانتظار .
وبقدر ما كان صخر ، يرتاح لأبي رعد وأم رعد ونجمة، فإن قلبه كان ينقبض ، كلما سمع صوت رعد ، أو عرف بوجوده قريباً من الكهف . وطالما حاول أن لا يواجهه ، أو يصطدم به ، حتى يشفى تماماً ، ويرحل بسلام إلى ذويه .
وفوجىء صخر ، ذات يوم ، بنجمة تدخل عليه الكهف ، عند منتصف النهار ، حاملة إناء من الحساء ، فهب من مكانه، يستقبلها قائلاً :أهلاً نجمة .
وابتسمت نجمة فرحة ، وقد داخلها شعور بأنه كان متلهفاً لزيارتها ، فاقتربت منه ، وقالت : جئتك بحساء .
ونظر صخر إلى الحساء ، فقالت نجمة : لقد أعددته هذه المرة ، حتى أحسن سمعتي ، بعد حسائي الأول .
وأخذ صخر الإناء ، وتذوق الحساء ، فتساءلت نجمة : ها، ما رأيك هذه المرة ؟
فرد صخر قائلاً : ليتك تعطين أختي نسمة ، درساً في إعداد الحساء .
وضحكت نجمة ، وقالت : لا عليك ، سأزورها الليلة في المنام ، وأعطيها الدرس .
وضحك صخر بدوره ، وقال : خذيني معك ، فأنني مشتاق لرويتها .
وارتفع ضحك نجمة ، وهي تقول : نم إذن مبكراً ، لعل حلماً واحداً ، يأخذنا الليلة إليها ، حيثما تكون .
وفجأة كف صخر عن الضحك ، وتسمرت عيناه في مدخل الكهف . وسكتت نجمة بدورها ، وقلبها يخفق بشدة، وقد خمنت السبب، وتمنت بينها وبين نفسها ، أن تكون مخطئة ، لكنها حين التفتت ، تأكد لها أن تخمينها كان في محله ، فقد وجدت نفسها وجهاً لوجه مع أخيها رعد .
وتململت نجمة محرجة ، وقالت : كانت أمي مشغولة ، فجئت بدلها بالحساء لـ ِ .. .
وقاطعها رعد بحزم : أخرجي .
ونظرت نجمة إليه مترددة ، وقالت : أمي تعرف بوجودي هنا .
وبحزم أشد ، قال رعد :قلت لكِ أخرجي .
وأشاحت نجمة بوجهها منزعجة ، ثم مضت مسرعة ، وخرجت من الكهف .
وحدق رعد في صخر ، ثم قال : منذ فترة ، وأنا أبحث عن عذر لأقتلك .
وصمت لحظة ، ثم قال بنبرة تهديد : إذا رأيتك مع نجمة، هنا أو في أي مكان ، فسيكون هذا هو العذر .
لم ينطق صخر بكلمة ، فأشاح رعد عنه بوجهه ، ثم غادر الكهف .












" 12 "

تجنب صخر اللقاء برعد ، كما تجنب الاقتراب من نجمة ، وإن كانت هي أيضاً على ما يبدو ، تجنبت زيارته ، أو اللقاء به .
ولاشك أن أبا رعد ، لم يعرف بما جرى ، بين صخر وابنه رعد . فقد استمر على زيارته اليومية لصخر ، والحديث معه حول ما يدور في المنطقة والمناطق المجاورة .
أما أم رعد ، التي عرفت بما جرى ، فقد التزمت الصمت، وإن كانت محرجة ، فهي لا تريد الدفاع عن رعد ، وتحرص على أن لا يعرف أبو رعد بالأمر .
وذات يوم ، تناهى لصخر ، صوت أم رعد ، تناديه من الخارج : صخر .
ونهض صخر ، متوكئاً على عكازه ، وقال : نعم ، تفضلي.
ودخلت أم رعد ، ونظرت إليه مبتسمة ، وقالت : ألاحظ أن ساقك قد تحسنت كثيراً .
و ابتسم صخر بدوره ، وقال : والفضل يعود لكم ، وخاصة لكِ أنت .
وهزت أم رعد رأسها ، وقالت : عفواً ، هذا واجب ، وأنت بمثابة ولد من أولادي .
وبدا التأثر على صخر ، وقال : أشكرك .
ونظرت أم رعد إليه ، وقالت : بني ، الجدة الحكيمة ستأتي غداً .
فقال صخر : أظنها ستقول ، هذه المرة ، إنني شفيت .
ورغم عدم تأكدها مما يرمي إليه ، فقد قالت أم رعد : هذا ما أرجوه .
وقال صخر بنبرة حزن : وعندئذ أستطيع أن أغادركم ، واذهب إلى دياري .
لم ترتح أم رعد لنبرته ، فسارعت إلى القول : بني ، لا أريدك أن تتصور ، إنني أحب أن تذهب .
وأقترب صخر منها ، وقال : عفواً ، إنني أعرف ما تحبين، لكن الأفضل أن أذهب .
وبنبرة صادقة ، قالت أم رعد : حتى لو قالت الجدة الحكيمة، أنك شفيت تماماً ، فلن أدعك تذهب ، حتى ترتاح.
ونظر صخر إليها ، وقال : إنني مرتاح ، وأريد لكم الراحة.
ولاذت أم رعد بالصمت ، ثم قالت : عليّ أن أذهب الآن، الطعام على النار .
وفي اليوم التالي ، قبيل منتصف النهار ، جاءت الجدة الحكيمة ، ترافقها أم رعد . وحلت الأربطة عن ساق صخر، ثم ضغطت بأصابعها على موضع الكسر ، وتساءلت : تؤلمك ؟
فرد صخر قائلاً : قليلاً .
ورمت الجدة الحكيمة الأربطة جانباً ، وقالت : هذا أمر طبيعي .
ثم نهضت ، وأضافت قائلة : أنت الآن بقوة الوعل وخفته، لكني أنصحك أن تبقي العكاز رفيقاً لك بعض الوقت .
ونظر صخر إلى الجدة الحكيمة ، وقال : أشكرك ، لقد أتعبتك معي لفترة طويلة ، ليتني أستطيع يوماً مكافأتك .
فردت الجدة الحكيمة قائلة : إذا شفيت تماماً ، وسرت كما في الماضي ، فقد كافأتني .
وسكتت لحظة ، ثم قالت : ربما لن تراني ثانية ، لكن إذا احتجت إليّ ، فأنت تعرف أين تجدني .
ومضت إلى الخارج ،فلحقت أم رعد بها ، وهي تقول : تغدي معنا اليوم ، لدينا طعام يعجبك ، لحم غزال .
وردت الجدة قائلة ، دون أن تتوقف : آه ما ألذ لحم الغزال، لكن هنالك طفلة في الغابة ، بحاجة إليّ ، لقد كسرت يدها، وعليّ أن أسرع لمعالجتها .
وتوقفت أم رعد ، وقالت : صحبتك السلامة ، حيثما تكونين .





















" 13 "


راح صخر ، يتخلى عن عكازه ، شيئاً فشيئاً . ويستعيض عنه بالرمح ، الذي أهداه له أبو رعد . فيستند إليه كلما آلمه ساقه أو غلبه التعب ، وهو يتجول ، فوق التلال ، أو بين أشجار الغابة .
وطالما وقف على تل من التلال ، ينظر عبر المرتفعات والوديان ، إلى الدروب الطويلة الوعرة ، التي تقوده إلى أهله ودياره . وقد داخله شعور ، بأن اليوم الذي سيسلك فيه درباً من هذه الدروب ، لم يعد بعيداً . وامتلأت نفسه مرارة، فهذا الدرب الذي سيقوده إلى أهله ، سيبعده عن أبي رعد وأم رعد ونجمة .. آه نجمة .
ويتنهد صخر متحسراً ، كلما تراءت له نجمة ، فقد غابت عنه تماماً ، منذ وارتها غيوم غضب أخيها رعد ، وتهديداته القاسية .
و أخيراً حان موعد الرحيل ، ورأى أن من الضروري ، أن يخطر أم رعد بهذا الموعد .
وذات يوم ، عند الضحى ، انتهز صخر فرصة غياب الآخرين ، وبقاء أم رعد وحدها ، فتوجه إليها ، وكانت منهمكة في إطعام عنزتها .
وأحست أم رعد باقترابه ، فرفعت رأسها إليه ، وقالت : أهلاً صخر .
ونظرت إلى الرمح ، الذي في يده ، وقالت : يبدو أنك ذاهب إلى الغابة .
وهز صخر رأسه ، فقالت : لا داعي لأن تتعب نفسك ، لدينا طعام كثير .
ولاذ صخر بالصمت ، فتطلعت أم رعد إليه ، ثم تساءلت : ما الأمر ؟
ونظر صخر إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فمدت أم رعد يدها ، وأخذت يده ، وقالت : منذ أيام ، وأنا أشعر ، أنك تريد أن تقول لي شيئاً .
وصمتت لحظة ، ثم تساءلت : متى ؟
فأجاب صخر بصعوبة : غداً .
وتركت أم رعد يده متأثرة ، وقالت : هذا حقك ، وستبقى ابني حيثما تذهب .
ودمعت عيناه ، ولم يعد يقوى على مغالبة عواطفه ، فمضى مبتعداً ، وهو يتمتم : أشكرك ، أشكرك يا أمي .
وتجول صخر ، طول النهار ، على غير هدى ، فوق التلال ، وفي الوديان ، وبين أشجار الغابة ، وعاد إلى الكهف ، قبيل غروب الشمس ، دون أن يصطاد شيئاً .
ولم يكد يضع رمحه جانباً ، حتى دخل عليه أبو رعد ، يحمل إناء فيه طعام . فأسرع صخر إليه قائلاً : عفوا ً يا أبا رعد ، أنت تخجلني بكرمك هذا .
ووضع أبو رعد إناء الطعام قرب الفراش ، وجلس قائلاً : تعال أجلس قبالتي .
وجلس صخر قبالته صامتاً ، فقال أبو صخر : هذا عشاؤنا الأخير إذن .
فهز صخر رأسه متأثراً ، دون أن يستطيع التفوه بكلمة ، فقال أبو رعد : لو تعرف يا صخر كم تمنيت لو أنك ابني.
وقال صخر بصوت مختنق : إنني ابنك .
فقال أبو رعد : نعم ، أنت إبني ، حيثما تكون .
ثم ابتسم ، ومدّ يده إلى الطعام ، وقال : هيا نأكل ، فالطعام يفقد الكثير من لذته ، عندما يبرد .










" 14 "


استيقظ صخر مبكراً ، في اليوم التالي ، وتناول فطوره على عجل . وغادر الكهف ، ومعه رمحه ، الذي أهداه له أبو رعد .
ولمحته أم رعد ، عبر مدخل الكهف الثاني ، يسير مسرعاً، والرمح في يده ، وخمنت أنه ماض إلى الغابة . وهمت أن تناديه ، أو تلحق به ، لكن ابنها رعد تململ في فراشه ، فلاذت بالصمت .
وتوغل صخر في الغابة ، وسار متلفتاً بين الأشجار والشجيرات الكثيفة ، لعل عيناه تقعان على غزال أو خشف ، فيطلق رمحه نحوه ، محاولاً اصطياده .
وتوقف منصتاً ، وسط أشجار كثيفة الأغصان ، حين ندت حركة من مكان قريب ، وفكر .. لعلها غزالة .. أو خشف .. أو .. ، والتمعت عيناه ، أهذا ممكن ؟ نجمة ؟ من يدري، تفعلها هذه ال .. فهي .. هي نجمة .
وبيد تأمل الفرح ، أزاح صخر بهدوء أحد الأغصان ، وإذا هو يرى بدل نجمة ، أو الغزالة أو الخشف ، دباً فتياً، يسير صامتاً ، عبر شجيرات كثيفة ، دون أدنى صوت .
ومضى صخر ، يجوس بين أشجار الغابة ، والرمح مشرع في يده ، حتى حقق ما كان يصبو إليه ، نعم ، اصطاد غزالة ، وحملها على كتفه ، ومضى بها فرحاً ، إلى كوخ الجدة الحكيمة .
وفوجئت الجدة ، وهي تعد بعض الأدوية ، داخل كوخها، بصخر يناديها من الخارج : أيتها الجدة .
ورفعت الجدة رأسها ، وردت قائلة : صخر ، تعال ، إنني هنا في الداخل .
ودفع صخر الباب ، ودخل حاملاً الغزالة ، فنهضت الجدة مبتسمة ، وقالت : ما هذا ؟ غزالة !
ورفع صخر الغزالة عن كتفه ، ووضعها أمام الجدة ، وقال : في المرة الأخيرة ، التي عدتني فيها ، عرفت أنك تحبين أكل لحم الغزال .
فزمت الجدة شفتيها ، وقالت مازحة : لكن الجميع يعرفون، أنني لا أتقاضى مكافأة لقاء عملي .
ورد صخر بما يشبه الاعتذار : هذه ليست مكافأة ، وإنما هدية ، وهي أول وآخر هدية أقدمها لك .
وتطلعت الجدة إليه ، ثم تساءلت : ستذهب ؟
وهزّ صخر رأسه ، وقال : اليوم .
وللحظة إلتمع التأثر في عيني الجدة ، لكنها كالعادة تمالكت نقسها ، وقالت : مهما يكن ، فهذا أمر لابد منه ، سيفرح أهلك ، بقدر ما سيحزن الآخرون .
ونظرت إليه ملياً ، ثم قالت : ساقك الآن شفيت تماماً ، لكن حاول أن لا تتعبها كثيراً ، والآن اذهب ، صحبتك السلامة .

















" 15 "

أقبل صخر ، قبل منتصف النهار ، ورمحه في يده . واستقبلته أم رعد باشة ، وقالت : أهلاً صخر .
وتوقف صخر قبالتها ، وقال : جئت أودعك .
وهزت أم رعد رأسها ، وقالت : لن تذهب قبل أن تتناول طعام الغداء .
ولاذ صخر بالصمت حائراً ، فقالت أم رعد : سيعود أبو رعد بالصيد ، وسأعده للغداء على جناح السرعة .
ثم ابتسمت وقالت : وستتناول معه فطراً لذيذاً ، لقد ذهبت نجمة إلى الغابة ، وستأتي بالفطر .
وتراءى الدب لصخر ، فصاح بصورة لا إرادية : ماذا ! ذهبت إلى الغابة ؟
فردت أم رعد حائرة : لا عليك ، لن تتأخر ، إنها تعرف جيداً أماكن نمو الفطر .
وفوجئت أم رعد بصخر ، ينطلق مهرولاً نحو الغابة ، والرمح في يده ، فصاحت بنبرة تحذير : رعد أيضاًً في الغابة ، لقد ذهب وحده ، منذ الصباح ، ليصطاد .
وأبطأ صخر لحظة ، حتى كاد يتوقف ، لكنه سرعان ما


واصل هرولته ، لا يلوي على شيء .
واندفع صخر يركض متلفتاً ، بين أشجار وشجيرات الغابة، وتراءى له الدب ، وخشي أن يصادف نجمة في مكان ما ، ويهاجمها و .. فصاح بأعلى صوته : نجمة .
وتوقفت نجمة ، وسط فسحة بين الأشجار ، ورفعت رأسها مصغية ، وهي تحمل سلة مليئة بالفطر . وتناهى إليها ثانية ، صوت صخر يرتفع من بعيد : نجمة .. نجمة.
وتلفتت نجمة خائفة ، فهي تعرف أن أخاها رعد ، يتجول هو الآخر في الغابة ، ورمحه في يده، فتمتمت قائلة : المجنون ، سيسمعه رعد ، ويقضي عليه هذه المرة .
وعلى الفور ، انطلقت نحو مصدر الصوت ، وهي تقول : فلأسرع وإلا سبقني رعد إليه ، وأقدم على ما لا تحمد عقباه .
وارتفع صوت صخر مرة أخرى ، يصيح : نجمة .. نجمة .. نجمة .
وهنا توقف رعد ، وقد كفّ عن مطاردة غزال ، أوشك أن يصطاده ، وقال غاضباً : هذا صخر ، الويل له ، لقد حذرته .
وإنطاق هو الآخر ، نحو مصدر الصوت ، وهو يقول متوعداً : فلينتظر .
وأسرعت نجمة ، مندفعة عبر مجموعة من الشجيرات الكثيفة ، وإذا هي تشهق مرعوبة ، فقد وجدت نفسها وجهاً لوجه مع الدب ، وتوقفت مستغيثة بأعلى صوتها : صخر.
وكأن استغاثتها استفزت الدب ، فقد أسرع نحوها هائجاً ، مكشراً عن أنيبه ، وجمدت نجمة ، وقد شلها الخوف.وهنا أقبل صخر مسرعاً من بين الأشجار ، ورأى الدب ينقض على نجمة ، ويكاد يفتك بها ، فرفع رمحه ، وبكل ما يملك من قوة ، أطلقه نحو الدب .
وتوقف الدب على بعد خطوات من نجمة ، مطلقاً صرخة رهيبة متوجعة ، وقد اخترق الرمح ظهره ، وترنح يميناً ويساراً ، ثم هوى على الأرض جثة هامدة .
وفي تلك اللحظة ،أقبل رعد من الجهة المقابلة ،ورمحه في يده ، ورأى نجمة ، والدب أمامها ، وقد اخترقه الرمح ، ورفع عينيه إلى صخر ، ووقف حائراً ، لا يدري ماذا يفعل .
وتقدم صخر ، وأطبق يده على الرمح ، وسحبه بقوة من ظهر الدب . وقبل أن يمضي مبتعداً ، قال : إنني راحل ، تحياتي للجميع .




" 16 "

لم يفكر صخر ، في العودة إلى الكهف ، رغم أن أم رعد ، كانت تنتظره على الغداء . وخمن أنها ستتفهم موقفه، وتسامحه ، بعد أن تعرف ما جرى في الغابة .
والتف في سيره ، مبتعداً عن منطقة الكهوف ، ثم مضى قدماً ، ورمحه في يده ، يحث السير على الطريق المؤدي إلى دياره .
وتراءت له مرات أم رعد وأبو رعد ونجمة ، آه من نجمة ، بل وحتى رعد . وكم تمنى لو استطاع البقاء معهم على الغداء، وتوديعهم واحداً واحدا ، ومن يدري ، لعل رعد نفسه ، في لحظة الوداع ، ينسى غضبه وجنونه ، ويودعه بعاطفة أخوية صادقة .
وتناهى إليه ، غير مرة ، وقع أقدام متلصصة ، لكنه كلما التفت ، لم يجد أحداً يتأثره . وهزّ رأسه ، عجباً ، أهذا وهم ؟ وحث خطاه مبتعداً عن المنطقة ، التي عاش فيها أشهراً عديدة .
وتوقف عند نبع ، ينبثق من بين الصخور ، مكوناً بركة صغيرة ، ماؤها صاف كالمرآة ، وركن رمحه قرب صخرة ضخمة مرتفعة ، ونزل بحذر إلى البركة . فشرب حتى ارتوى ، ثم غسل وجهه ويديه وساقيه . وخرج من البركة ، وقد أنعشه ماؤها البارد . وقرر أن يستأنف السير، لعله يصل إلى مكان آمن ، قبل حلول الليل .
وتوقف مذهولاً ، أمام الصخرة الضخمة ، حين اكتشف اختفاء رمحه . وتلفت حوله متوجساً ، متأهباً لكل طارئ.
وانتبه إلى حصاة صغيرة ، تتدحرج من الأعلى ، فرفع رأسه ، وإذا نجمة تجلس فوق الصخرة ، والرمح في يدها ، فهتف مذهولاً : نجمة !
ونزلت نجمة من أعلى الصخرة ، وقالت : على المقاتل أن لا يغفل عن رمحه .
ومدت يدها له بالرمح ، وأضافت قائلة : تفضل ، هذا رمحك.
واخذ صخر الرمح ، وقال : هذا مكان منقطع ، ما كان عليك أن تأتي إلى هنا .
ونظرت نجمة إليه ، وقالت : جئت أذكرك بحقك .
وتمتم صخر : حقي !
وتساءلت نجمة قائلة : ألم تنس شيئاً ؟
وفكر صخر ، ثم قال : لا ، لم أنس .
وقالت نجمة : بل نسيت .
وصمتت لحظة ، ثم قالت معاتبة : لقد نسيتني .
ونظر صخر إليها متأثراً ، وقال : هذا مستحيل ، لم أنسك ، ولن أنساك .
وهزت نجمة رأسها ، وقالت : كان عليك أن تأخذني ، فأنا ملك لك .
ومد صخر يديه نحوها ، وكاد يضمها إليه ، وإذا رعد يبرز فجأة ، ورمحه في يده ، فجمد في مكانه هاتفاً : رعد !
وتوقف رعد قبالته ، وعيناه تتقادحان ، وقال : نعم ، رعد، وقد جئت لأرى بنفسي ما أنت مقدم عليه .
ولاذ صخر بالصمت حائراً ، فتساءل رعد : أخبرني ، هل ستأخذها معك ؟
ونظر صخر إلى نجمة ، فتابع رعد قائلاً : نعم ، أعني أختي ، نجمة .
وتقدم صخر خطوة ، والرمح في يده ، وكأنه يحمي نجمة ، وقال : نعم ، سآخذها .
وكم كانت دهشة صخر عظيمة ، حين أقترب رعد منه، وقال : كن على ثقة ، لو قلت ، لن أخذها ، لقتلتك في الحال .
ونظر صخر مذهولاً إلى نجمة ، فابتسمت وقالت : لقد أنقذتني من الدب ، ومن عادتنا ، أن من ينقذ فتاة ، تصبح ملكاً له .
ومد رعد يديه ، وعانق صخر ، وهو يقول : أنت شجاع، وقد أحببتك ، حين واجهت الدب ، وقتلته .
وعانق نجمة ، وقال : نجمتي العزيزة ، نجمتي .
ودمعت عينا نجمة ، فقال رعد مغالباً انفعاله : والآن اذهبا، اذهبا .
وذهب صخر ونجمة يداً بيد ، ووقف رعد يتابعهما بعينيه المحبتين ، حتى غابا في منعطف الطريق .



14/6/2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس