الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كنت أفر من أبي

محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)

2023 / 3 / 6
الادب والفن


انا لا اعرف لي أبا ولا أما ،فمذ رأيت النور وأنا لا أجد أمامي غيرهذا الشيخ الهرم الذي هبرالزمن من قوته..لم يدع منه غيرصورة لحم ودم لليث أبيض غزا الشيب وجهه وراسه، أشفاره وحواجبه وسْماَ لتاريخ هو نفسه يتكتم كيف مرحله تكتمه عن حقيقتة ومن أنا بالنسبة اليه :.
" وجدتك كسخيلة في قماط رث واحدى النعاج تقطر حليبها في فمك فتكاد تخنقك " ..
هل هي الحقيقة ما يحكي ويعيد ؟..لا أدري !! ..
يزوره الرحل العابرون اذا عطشت الأرض وضحل العشب ، فيفكون خيمتنا إذا رغب و أمر، ثم ينتقلون بنا حيث لا يقيمون لانه يمتنع أن يقيم في مكان يضايقه فيه غيره ،لا يشترط غير ماء قريب ومساحة ارض ترعى فيها شياهنا التي هي أقل من أصابع اليد الواحدة ..كان عند الكل مطاع الكلمة مستجاب الرغبة ..
كانت عيونه كزرقاء اليمامة ،يرى القادم عن بعد أيام ،ولكل غريب آت يسمع حسا وصدى ، فيأمرني بالمكوث متخفية وراء حصير الحلفاء لا اخرج حتى يمر الغاشي الزائرمنفردا كان او في رفقة ..
هكذا ترعرعت أمامه وفي رعايته صبية نحيلة الجسم ،ضعيفة البنية ، لكن بقد مياس ، بشرة سمراء وعيون يختلط فيها الأزرق بالأخضر ، شعر حريري أشقر يعاكس بشرتي يتطاير مع كل هبة نسيم كانه يساير ذاتي وهي تهفهف وتطول بالليل والنهار ..
كنت كثيرا ما أسائل نفسي :
لماذا يحتويني بخوف ويدفدف علي بحرص ؟
كان يجلس عند باب الخيمة حتى اذا استطاب الزائر الحديث معه وقلما يحدث هذا، بسرعة يحسسه بالنفور فيتابع الزائر سيره ..
يصفق ،فأخرج من وراء الحصيرلأعانقه
كنت لا افهم لهم كلاما ، وان كان الشيخ الهرم "بويا كما علمني أن أناديه لا تستعصي عليه كلمة مما ينطقون ولا إشارة مما يرسمون ؛ كان يتفاهم مع الجميع بسرعة كانه منهم وهذا ماجعله محبوبا مطاعا عند كل الرحل امثالنا او الزوار من السياح العابرين والذين كثيرا ما كانوا يتركون لنا علبا بها طعام من شرائح اللحم او الدجاج او السمك ؛كنت وحدي استطيب أكلها أما هو فكان يكتفي بماء وكسرة خبز وتمر.. كانت له رغبة قوية في الصيام وقدرة عجيبة على تحمل الجوع..
بدأت أتحرر من مراقبته شيئا فشيئا حين ارتفعت قامتي طول شجيرة ، كنت أستغفله اذا غفا او تلبسه تعب؛ فأرود خلف الخيمة اذاماغابت الشياه عن عيوني ،لا اسرح بعيدا ،فما كنت أتجاوز عينا يتفجر ماؤها من تحت صخرة سامقة ، تحتها تجتمع الفتيات للسقي أو تنظيف ملابسهن ،وفي الصيف كن يصنعن نصف دائرة وخلفهن تتناوب البنات على الاغتسال بنتا بعد أخرى وقد تلتحق بها رفيقة تضع ليفة في يمناها وتشرع تفرك ظهر صاحبتها قبل ان تمرر رغوة بيضاء من قنينة لدائنية على جسدها ، كنت لا اعرف ما يقلن وباية لغة يتحدثن ..لكن مع تكرار حضوري شرعت اتعلم لغتهن ، أستوعب معناها واستنبط مدلولها من اشارتهن ،من ضحكاتهن وسلوكهن ..
صرت بينهن معروفة ببنت "بوياالشيخ "، اساعدهن وأغتسل معهن كما يغتسلن ،كان لون عيوني لديهن مقارنة ببشرتي مفاجأة تحرك في كل بنت منهن ما تطبق عليه في أعماقها ،
كما كانت سيقاني الطويلة الملفوفة مبعث انبهار وتمنيات حتى أن منهن من كانت تقيس سيقاني بقبضة يدها ،ناهيك عمن تغنت تزجل بكلمات ترددها الأخريات ..كما كنت أستغرب من رسومهن لصورتي بالرمل على الصخور أو نقشها على الأشجار الضخمة .كما تنقش الحناء على الذراعين .كنت لديهن بنتا غريبة عن محيطهن..
كنت أرى نفسي أنمو وكل ما في يتغير، طولي، صدري ، نظرتي لصويحباتي في النهر ، هن نفسهن صرن ينعتنني بتعابير تمدح صمتي الكثير، تناسق قدي وجمال وجهي الذي يشرق مع لمعان الشمس، أما عيوني فكانت السحر الذي بوأني لديهن أنثى فوق الخيال والشعروالجمال ..
حين ضبطني "بويا "أتسلل اليهن غضب كثيرا وان في صمت كانه كان يخاف علي من عين حاسد أو بندقية قناص ، فعوَّل على الرحيل وتغيير الرقعة التي نحن عليها ، بكيت، ولأول مرة أحسست الدمع حارا غزيرا يكوي وجنتي ..
لم أجرؤعلى البوح لصويحباتي بما عول عليه "بويا " ..
كم تماطلت في لملمة حاجاتنا ،وأمام عدم قدرته على الحركة ووهنه كنت أتعلل بانتظار من يساعدني على فك خيمتنا ..
"يلزمني أن أفكر في حل لايؤذيه ولا يضاعف من احساسه بمرضه وعدم قدرته على التحمل" ..
وغاب عن ذهني أنه هو نفسه قد أحس بدنو أجله ويخطط لمكان عليَّ يطمئن فيه أو يجد من يأتمنه علي ..
يموت "بويا الشيخ"،وبموته تعرفت على الموت لأول مرة كمفاجأة مزعجة قاسية مُرة ،هددتني بالضياع والوحدة .. أقبل علي الخيمة رجال ونساء لا اعرفهم وان كانوا جميعا من أقرباء صويحبات العين اللواتي لم أميز غيرهن ممن قمن بالواجب .. كم أكلني الاستياء لاني لا اعرف ما يقال ولا مايجب فعله ، كنت أبحلق في وجوه الحضور استمع الى مشاعرهم بلا ردة فعل ليس في عقلي الا كيف أعيش بعد" بويا الشيخ"؟ومع من ؟
أصرت أم أحدى صويحباتي أن ارافقها في نهاية العزاء الى خيمتهم الواقعة بعد عين الماء بمسير، فمنذ حضورها الجنازة وهي لصيقة بي لا تفارقني ، بصراحة فقد ضايقتني بإلحاح ما تعودته ، وريبة ما أدركت دواخلها ؛ خصوصا بعد أن قالت عنها إحدى البنات :
"لم تكن غير راعية تعيش الفقر والضنى الى أن أغراها متسكع منبود بالهروب معه ؛صادفا جنية تموت فأنقداها فدلتهما على كنز ؛وأصبح الرجل غنيا وصارت لديه الراعية وجه خير وبركة فتزوجا ،و لم تفارق زوجها رغم ضرتين شاركاها فيه بعدها عدا خياناته وما أكثرها مع السائحات اللواتي يختلفن على المنطقة ...
جميع النساء الأخريات وافقنها اقتراحها فهي بينهن كانت مطاعة الكلمة ..
دخلت خيمة جديدة ، مؤلفة من عدة قطع ومصنوعة من شعر المعز والضأن بأفرشة منسوجة بعناية و بعادات وطقوس جديدة ما عشتها مع "بويا الشيخ "
صرت ثالثة ثلاثة من بنات في عمري وثلاث زوجات لرب الخيمة الذي لم أتشرف برؤيته الا بعد شهرين من اقامتي، ثم عجوز"جدة كبيرة" قليلة الحركة تستقل بزاوية قريبة من مخرج ضيق تستغله وحدها لحاجاتها ..
أول مرة يراني فيه صاحب الخيمة كنت أساعد فيها جدة للخروج من منفذها الخاص، أحسست باستغرابه ، بتلون وجهه يتبدل بين الصفرة والزرقة ، أتى يركب فرسا وكأنه قطع فيافي وقفارا على عجل ، وقف أمامي مبهورا مبهوتا ثم سألني في عدوانية وجهد مضني يركب صدره :
ما اسمك ؟
لم استطع أن أرفع اليه بصرا ، فالسؤال أتى عنيفا قويا ، مسحت الأرض بعيوني وقلت :
ـ كان بويا يناديني ايناس ..
استغرب :بوك ومن بوك هذا ؟ ومن أتى بك الى هذه الخيمة ؟
بادر الى جدة يقبل يديها وكأنه لم يرها الا بعد أن اطلت من وراء ثقب صغير في الخيمة ،في لحظة خرجت فيه احدى زوجاته ، حمدت له سلامة العودة وجرته بعيدا عني ..
لا أدري ماقيل لكن شيئا ما قلب سلوك أهل الخيمة رأسا على عقب ، تغير إعجاب البنات بي، وصرن يحترسن الكلام معي خصوصا عند حضور والدهن ؛إحدى الزوجات الثلاث بدأت تخاطبني بلغة جافة وطلبت مني ان استعد للعودة الى خيمة بويا ،أما أخرى وهي الصغيرة فكانت تحدثني بالإشارة واضعة سبابتيها تحت عيونها تحرضني على الانتباه ، وحدها المرأة المسنة التي أجلستني بجانبها وقالت :
ـ لازمي رفقتي ولن تغادري الخيمة الا بارادتي أنت في بيتك ..
اختلط عليَّ الحال وما عدت أفهم شيئا مما يحيط بي ، شك وارتياب هو ماصارته العيون حولي ، أية عيوب ظهرت في سلوكي لم أنتبه اليها ،أو أية أقوال تلفظت بها أحدثت هذا التغير المفاجئ الذي حل بالخيمة بعد عودة صاحبها ؟ ماسر تلونه وقلقه حين واجهني أول مرة ؟
أنا شخصيا لم يسبق لي أن رأيته أوصادفته ؛ربما هو يعرفني ..لكن اين ومتى ؟ كل تاريخي ليس فيه غير خيمة بويا ،وشجيرة أقيس بها طولي، والعين التي لا يصلها رجل ..
ذات ليلة كنت متكومة قريبا من جدة بين صحو ونوم ، تناهت الي خطوات قادمة ؛بعد أن ترجل فارسٌ رَكبْه ،سمعت رب البيت يسأل جدة ان كنتُ نائمة ، حركت راسها بايجاب فقال لها في حديث مهموس :
ـ يلزم أن تدعيها تعود الى خيمتها !!..
ـ ولماذ تصر على ذلك ؟ هل تنوي ذبحها فتفشل كما فشلت مع أمها ، لقد أيقنت أنها بنت النصرانية وبناتك من أكدن ذلك من نطعة على كتفها ..
أغضبه ردها فأجاب بانفعالية زائدة :
ـ أنا لم أفشل ، بالكاد مررت الموسى على عنقها فتناهى الي صوت حسيس خلته خطوات بوغابة أورجال الدرك..فالقيت بها في الترعة ودمها ينزف..
ــ النصرانية أصلا لم تكن تفكر في التبليغ عنك الا بعد أن استحوذت على الأموال التي كانت معها بالقوة، وبالغت في اغتصابها وخنت وعدك اليها بعدم قتلها ، والنتيجة أمامك اليوم بعد خمسة عشرة سنة ..
ـ كافرة لم أكن أثق بما تقول .. لكن مايحيرني كيف تعرفت على الشيخ ؟ ومتى ظهرت البنت ؟ قالت أن الشيخ هو من رباها .كيف ؟وأين ؟
ـ الشيخ لم يكن يستقر قريبا منا ، أماكيف عاشت الأم؟ و أين وضعت ؟ وكيف ظهرت البنت عند الشيخ هو ما لا اعرف ..
ـ ألم تسأليها ؟
ـ سألت ، هي لا تعرف أحدا غير من رباها.. البنات أنفسهن أكدن انهن من علمنها لغتهن وكتابة بعض الحروف حين كانت تأتي الى العين ..
زفر بقوة وقال :
كان يلزم أن أنهي الامر هناك منذ أن تحدث عنها البنات ، لكن كنت واثقا من موت أمها ،خصوصا بعد هذه السنوات التي لم يظهر لها اثر ولا السلطة أعادت تحريك الملف ..
صمت قليلا ثم تابع :
لقد فاجأتني !! .. توأم متطابق من أمها ..
ألح على جدة ان تتركني للعودة الى بيتي الذي تربيت فيه قبل أن يستدير ويشق الخيمة الى الداخل ..
لم يطل بي وقت ،في نفس الليلة تسللت من الخيمة بعد أن أدركت من أنا وماينتظرني، كنت أسير على غيرهدى ،يلفني ليل بهيم ، كنت لا أخشى غير عواء الذئاب وأنا اقطع المسافة الى خيمتي
أستعيد كلمات "بويا "كأنها سوط يحرضني على السير ..
" يوم أموت وفضلت الرحيل اياك أن تنسي التليس ففيه ما يعينك "
كان علي أن افتش ما بداخل التليس فكثيرا ما رأيت بويا يفتق غرزاته أو يرتقها بمئبر ..كتيب صغيرمكتوب بحروف صغيرة دقيقة كان مندسا قلب التبن وكيس من خيش ملئء بأوراق نقدية وضعت الكتاب في جيوبي وحملت الكيس في يدي وخرجت مسرعة ..
أشرقت شمس الصباح على دورية من الدرك تضع علامات تشوير المراقبة ..لم أتكلم ، قدمت لهم الكتيب وفي مركز الدرك أدركت أني كنت افر من أبي ؛الذي ذبح أمي كسائحة مرت بربوعه بعد أن هتك عرضها، وسرق مالها ،ثم رماها في ترعة .. لكنها لم تمت.. وبويا الشيخ من أنقدها وسهر على شفائها وان ظلت فاقدة البصر الى ان وضعتني، ثم بألحاح منها حاول ترحيلها الى أحد الاديرة لكن بادرها الأجل في الطريق ..طال البحث سنوات أو تم طمسه الى ان تم اليأس من إيجاد جثة المرأة وقاتلها الحقيقي ، فطوي الملف ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال