الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة مهندسي الري في مصر في القرن التاسع عشر

حسام محمد عبد المعطي أحمد

2023 / 3 / 6
الادب والفن


د. حسام محمد عبد المعطي
كلية الآداب والعلوم –جامعة قطر
تطرح هذه الورقة إشكالية الثقافة التي تكونت لدي مهندسي الري في مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهل أصبحت في مصر مدرسة حديثة للري لعبت دور في تطوير منشآت الري في مصر خلال المرحلة التالية؟ وكيف استقي هؤلاء المهندسين ثقافتهم؟ وكيف وظفتهم الدولة في خدمة أهدافها، وما هي الأفكار التي طرحوها حول تطوير نظام الري في مصر؟ ولعل الإجابة علي هذه الأسئلة تمكننا من الرد علي الإشكالية المطروحة من قبل بعض الباحثين حول رؤيتهم لتجربة محمد علي بأنها تجربة فردية سعي خلالها الرجل لخلق كيان سياسي خدمة لأهدافه الشخصية محاولين طمس وأختزل مجهودات الرجل في هذه المقولة، وأنه أم يسعى من وراء تطوير أدوات العمل في مصر إلا خدمة لهدفه الأساسي وهو حكم مصر له ولأسرته من بعده؟ فإذا كانت تجربة محمد علي الاقتصادية قد تحطمت باتفاقية بلطة ليمان في العام 1838، وإذا كانت طموحاته السياسية قد أجهضت باتفاقية لندن في العام 1841 فماذا بقي من تجربة محمد علي؟، فلاشك أن أفضل ما بقي من هذه التجربة كان العقول المفكرة الذين تربوا وتعلموا من أجل خلق نهضة هذا الوطن، والذين سوف يمتد أثرهم حتى الوقت الحاضر، ولعل ذلك أيضاً يقودنا إلي الرد علي الإشكالية الثانية حول كتابات المؤرخين الغربيين حول مشروعات الري الكبرى في مصر خلال القرن التاسع عشر حيث ترجعها هذه الكتابات إلي المهندسين الأوربيين سواء في ذلك الفرنسيين أو الإنجليز، وتهدف الورقة أخيراً إلي التساؤل حول هل استطاع المهندسين المصريين القيام بالدور المنوط بهم عقب استبعاد المهندسين الأجانب وبالتالي يمكننا القول بنجاح محمد علي في هدفه؟ وما هي أهم المشروعات التي قاموا بها، أو اقترحوا إقامتها والتي تعكس تطور أفكارهم، وما هي الثقافة التي تكونت لديهم هل هي ثقافة غربية نتيجة لتعلمهم أم هي مزيج من الثقافة الغربية والمصرية؟
فمصر من أعرق الدول التي اهتمت بمشروعات الري، فقد كانت أعظم الدول التي اشتغلت بالزراعة في التاريخ القديم، وظلت الأرض والزراعة هي العماد الأساسي لاقتصاد الدولة القائمة في مصر علي مدار التاريخ ، وكان كبح جماح النهر العظيم عند الفيضان هو الطموح الجامح لأي حكومة تحكم هذا الشعب من أجل اختزان أكبر كمية ممكنه من المياه للزراعة، بخاصة في سنوات الفيضان المنخفض ، حيث كان هذا الانخفاض غالباً ما يؤدي إلي حدوث مجاعات كانت تنتهي بموت الآلاف من أبناء هذا الشعب وهم جياع ، وعلي مدار التاريخ تكونت في مصر العديد من مشروعات الري التي تتوارثها الأجيال التالية ، وغالباً ما كان يتم تحديث هذه المنشآت بين الآن والأخر،وقد استنفذ تنظيم وبناء هذه المنشآت الكثير من جهد ووقت الشعب الذي كان يعمل بصبر وجلد ودون كلل لأنه كان يعلم أن حياته مرتبطة بماء النيل ، وقد سهرت علي تنظيم وإدارة وصيانة هذه المنشآت الحكومات المتوالية، حيث كانت قوتها وضعفها تقاس بمدي تنظيم الري، ومدي الاستفادة بمياه الفيضان.
ومنذ الوهلة الأولي لتوليه مهام الحكم في مصر شعر محمد علي بحاجته إلي الاتجاه نحو الغرب الأوربي الذي ثبت تفوقه من أجل اكتساب مهارات الحضارة الغربية والارتقاء بها، ومن أجل إعداد إدارة تستطيع القيام بمهام هذه المهمة سواء علي المستوي العسكري أو التعليمي أو الزراعي، كان الباشا في حاجة إلي موظفين إداريين حازمين يفهمون رغبته في الإصلاح ، ويقدرون حالة البلاد وحاجتها ويلمون إلماماً تاماً بنواحي التقدم الغربي التي يراد اقتباسها، ولما كان الباشا في حاجة سريعة إلي أدوات عمل في أجهزة إدارته فقد استدعي من الأوربيين ما تحتاج إليه حكومته في القيام علي المنشآت التي يرغب في تنفيذها، وكان ميدان الري أهم الميادين التي استأثرت بفكر الباشا من أجل زيادة إيرادات الحكومة عن طريق زيادة مساحة الأرض المنزرعة،وزيادة كميات المياه التي يمكن خزنها إلي الزراعة الصيفية، وبخاصة زراعة القطن الذي كان الطلب يتزايد عليه يوماً بعد آخر.ومن أجل ذلك فقد استخدمت الحكومة العديد من المهندسين الأوربيين العاملين في ميدان الري ولعل أشهر هؤلاء جميعاً لينان دي بليفان الذي عمل كوزير للأشغال العمومية، وبسكال كوست الذي أشرف علي حفر الترعة المحمودية.
وعلى الرغم من ذلك فقد كان محمد علي يدرك جيداً أن الإكثار من استخدام الأجانب في خدمة الحكومة ليس من الصواب في شيء فكثيراً منهم على كفاءتهم يجهلون أغراض الحكومة، وقد يعرقلون أعمالها عن قصد أو بغير قصد، كما كان الباشا لا يثق في كثير منهم، كما أن النفقات الطائلة التي تنفق في رواتبهم أو في وجود مترجمين لعدد كبير منهم، حيث كانوا في جلهم يجهلون اللغة العربية كان عائقا أمام التوسع في استخدامهم في الإدارة المصرية. وأمام ذلك ولدت فكرة إيفاد مبعوثين إلي أوربا لتعلم ونقل علوم الغرب.
والواقع أن البعثات التي أرسلها محمد علي إلي أوربا، كانت البنية الوطنية الأساسية التي سوف يقام عليها بنيان عمليات التحديث التي سوف يقوم بها الباشا في مصر، فقد قلبت إدارة محمد علي الآية كما يقولون فلم يكن الرحالة والمبشرون هم الذين غيروا في الواقع المصري كما حدث في العديد من المجتمعات، ولكن المبعوثين من شباب مصر الذين أوفدوا إلي قلب أوربا لينهلوا من العلوم والأفكار الحديثة هم الذين ألقي علي كاهلهم بهذه المهم، وكانت البعثات هي الجهاز الرئيسي الذي استخدمته مصر بإيقاع سريع لكي تتجمع علي أرضها ثمار الثورة الصناعية الغربية، فقد فتح محمد علي الطريق إلي البعثات بعد أربعة أعوام فقط من ذلك اليوم الذي قبل فيه أن يتولى السلطة كوالي علي مصر في الثالث عشر من مايو عام 1805، فقد سافرت أولي البعثات العلمية إلي إيطاليا في العام 1809،وقد كانت البعثة الكبرى في العام 1826 هي أكبر وأهم البعثات المصرية إلي فرنسا، فكانت بحق بعثة التنوير والانفتاح علي المجتمع الغربي، وكان عدد أعضاء هذه البعثة ثلاثة وأربعين ثم ألحق بهم إمامها الشيخ رفاعة الطهطاوي، وقد تخصص ثلاثة من طلاب هذه البعثة في الهندسة أو بالأحرى في قوة اندفاع المياه (هيدروليكة)، وكان هؤلاء الثلاثة هم النوة الأساسية لتكون مدرسة الري الحديثة في مصر وهم محمد بيومي أفندي، ومصطفي بهجت أفندي، ومحمد مظهر أفندي. لقد كانت هذه البعثة أكبر البعثات المصرية إلي أوربا وأكثرها أهمية حتى ذلك الحين وربما بعد ذلك أيضاً، لذلك فإن اللحظة الحقيقية لنطلق الدولة نحو تحديث أفكارها وإدارتها علي النمط الغربي كانت لحظة وصول أفراد هذه البعثة إلي مصر فيما بين عامي 1831 و1833 حيث ساهموا منذ وصولهم في تحسين أنواع التعليم وأحدثوا نقلة نوعية في الأداء التعليمي في مصر، فكانوا عوناً للحكومة فيما أنشئت من مداس ومؤسسات تعليمية مختلفة ،وكان الباشا قد حدد للاستفادة من هؤلاء المبعوثين عدة ميادين أهمها هي :ترجمة كل منهم للكتب التي درسها في أوربا من أجل تدريس هذه الكتب في المدارس المصرية، وذلك للوقوف علي أحدث العلوم الغربية التي تدرس في أوربا من أجل خلق جيل جديد من المتعلمين في مصر علي الفكر والثقافة الغربية، فقد كان محمد علي يدرك أنه لا سبيل إلي الارتباط بين المعرفة الجديدة التي يتم نقلها من الغرب الأوربي وبين عقل المجتمع واحتياجاته إلا بوضع هذه المعرفة في برامج التعليم، لذلك فقد ربط الباشا بين التوسع التعليمي وبين التخطيط لتحقيق نهض عسكرية واقتصادية شاملة، وكان يدرك أنه لابد لتحقيقها أن يتم بناءها علي أسس العلم الذي كان من الصعب أن يتم اختراعه لذلك كان لابد من ترجمته ووضعه في صلب شرايين المقررات الدراسية، وكان إلحاق هؤلاء المبعوثين بالمدارس التجهيزية والعليا كمدرسين ومنحهم حرية أوسع لتطوير وأنشأ المزيد من هذه المدارس الهدف الثاني للباشا من أجل تحديث وتطوير التعليم في مصر، لذلك ففور عودة هؤلاء المبعوثين فقد أسند إليهم العمل كمدرسين في هذه المدارس أو حتى كمديرين لها، فمثلاًً صدر قرار في سنة 1837بالأستغناء عن المدرسين الأجانب في مدرسة المهندسخانة، وعين بها من المدرسين المصريين محمد بيومي ومحمد مظهر ومصطفي بهجت، وكان إلحاق هؤلاء المبعوثين بإدارة الدولة وأجهزتها من أجل المساعدة في تطويرها الهدف الثالث للباشا من وراء هذه البعثات، وكان قطاع الري واحداً من أهم هذه الميادين، وكانت المعضلة أمام الإدارة السياسية هي هل يتم الدفع بهذا العدد البسيط من المهندسين لإدارة مشروعات الدولة، أما يتم استبقاءهم في المدارس من أجل إعداد أجيل جديدة والانتظار حتى تتخرج هذه الأجيال؟،ومن أجل تجنب ذلك فقد تم استبقاء محمد بيومي في المهدسخانة بصفة أساسية، وتم الاستعانة بمظهر وبهجت في ديوان الأشغال من أجل إنجاز ما تحتاجه الدولة من مشروعات هندسية، وقد شارك بيومي في تنظيم ديوان المدارس وتكوينه في عام 1836، وهكذا تخصص محمد بيومي في تربية أجيال جديدة من المهندسين، وسوف يصبح ناظراً لمدرسة المهندسخانة فيما بعد، وكانت ترجماته المادة الخام الأساسية لتعليم هؤلاء المهندسين، حيث ترجم تسعة كتب هندسية من أجل توفير أخر منجزات الحضارة الغربية الهندسية وتدريسها لطلابه في المهندسخانة،








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??