الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيروز في الخليج العربي

حسن مدن

2023 / 3 / 7
الادب والفن


"‬لولا الموسيقى لكانت الحياة‮ ‬غلطة‮"‬، هكذا قال نيتشه ذات مرة، أما الشاعر مرسي‮ ‬جميل عزيز فقد قال مخاطباً المثقفين العرب: " فيروز هي‮ ‬عدّة شغلكم‮".‬ يومها عقّب أحد هؤلاء المثقفين مؤيداً‮ ‬ما ذهب إليه عزيز: "‬إن في‮ ‬قلب كل من قرأ جملتين،‮ ‬مساحة ضوء لفيروز وأغانيها‮". ‬ونظنّ أن في‮ ‬قلب كل مواطن عربي‮ ‬مساحة ضوء لفيروز التي‮ ‬أَحَالتْ‮ ‬أوقاتنا إلى مشاوير من الهناء وساهمت في‮ ‬صوغ أحلامنا عن الحب والوطن والفرح والحزن،‮ وبموسيقى وكلمات الأخوين رحباني، وسواهما من كبار الملحنين في لبنان والعالم العربي، ‬صنع صوت فيروز مجداً‮ ‬غنائيا،‮ ‬انطلق من لبنان وطاف في‮ ‬ديار العرب،‮ ‬لا بل وطاف العالم كله‮،‬ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬وأخذت بأيدينا بعيداً‮ ‬إلى بيوت "ممحيّة" وراء حدود العتمة والثلج والريح،‮ ‬وإلى ليالٍ‮ ‬باردة تدفئها نيران مواقد ناعسة في‮ ‬"ضيعٍ‮" ‬تلقي‮ ‬برأسها على أكتاف جبال شمّاء‮، و‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬مجّدت الحب في‮ ‬لحظات تجليه،‮ ‬بأغانٍ‮ ‬باتت لنا ذاكرة فنية وموسيقية مشتركة‮ ‬غطت الوجدان العربي‮ ‬على امتداد رقعة هذا الوطن الكبير،‮ ‬بغناءٍ‮ ‬هو للوجود سر،‮ ‬وبنايٍ‮ ‬يبقى خالداً‮ ‬بعد أن‮ ‬يفنى الوجود كما في‮ ‬قصيدة جبران الشهيرة التي‮ ‬غنتها‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

‮ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬صحيح أن ‬الزمن الرحباني‮ - ‬الفيروزي‮ ‬ولد ونما في زمن آخر كان فيه لبنان في‮ ‬أوج عافيته الثقافية والفنية،‮ ‬قبل أن تندلع الحرب الأهلية بكل عبثيتها وجنونها، لتفتح زمناً أسود توالت فيه على لبنان المحن، التي ما زالت مستمرة حتى اليوم،‮ ‬ولكن فناً كذاك الذي قدّمته فيروز عابر للزمن‮،‮ ‬كأنه أُبدع البارحة‮.‬ ‮‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ومن بين الملحنين الذين أطلقوا ما في حنجرة فيروز من طاقات، ابنها زياد الرحباني،‮ المتماثل والمتباين في‮ ‬آن مع المدرسة الرحبانية،‮ ‬الواصل لها والخارج على صرامة بعض قواعدها،‮ الذي ‬أخذ بأداء بفيروز إلى مناطق جديدة،‮ ‬دافعاً‮ ‬بها بجرأة إلى مغامرات جديدة في‮ ‬الكلمة وفي‮ ‬اللحن‮، وعلى خلاف المعجم الرحباني‮ ‬المعروف بتراكيبه اللغوية المشحونة بالشفافية والعذوبة،‮ ‬فإن الكلمة لدى زياد كاتب الكلمات أيضاً، مأخوذة من الحياة‮: ‬بسيطة وعفوية وحارة،‮ ‬ولكنها تقدم وهجها الخاص الذي‮ ‬يُحوّل المحكي‮ ‬واليومي‮ ‬إلى جملة شعرية وموسيقية تنفذ إلى الأعماق، هو الذي ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬جعل من البسيط معقداً‮ ‬ومركباً‮ ‬في‮ ‬نسيج‮ ‬يؤكد موهبته، و‬أسعفه في‮ ‬ذلك صوت فيروز الذي‮ ‬يبدو كأنه‮ ‬يكتشف فيه طاقات مجهولة‮.‬ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

لكننا أحببنا فيروز في الحالين، فيروز المعتقة وفيروز الجديدة، فيروز الحلم، وفيروز الحياة، فيروز المحاطة بهالة الأسطورة، وفيروز التي كسر عنها زياد قيد الأسطورة، فإذا بها هنا أيضاً تدهشنا، تفرحنا. ونحار إلى أي منهما نحن أقرب، إلى فيروز المعتقة أم فيروز الجديدة، إلى الصبية الحالمة، الخارجة من أشعار الأخوين رحباني، والقادمة من سديم ضباب يلف قمم "صنين" أو جبل الشيخ، الفتاة الضائعة في الطريق إلى "ميس الريم.. فيروز المفردة الرحبانية المشغولة بعناية وأناقة ودقة، أم إلى فيروز القادمة من الحياة، فيروز الكلمة المغموسة باليومي والعادي والمألوف، من الحكي الذي يقال آلاف المرات ولكن موهبة زياد تصنع منه شعراً وموسيقى، فيهما "شعبية" الحياة، على طريقة أغاني سيد درويش مثلاً، لنعرف ولو بعد حين أن انحيازنا، الأساس، هو إلى فيروز، إلى الدهشة التي تأتينا في كل مرة نسمع فيها صوتها وهي تغني.
مغنيّة المدن العربية

ما من مطربة غنت عن وإلى العواصم والمدن العربيّة كما فعلت فيروز، وبعض هذه الأغاني كانت تخصّها للمدن التي تزورها لإحياء حفلاتها فيها، واستمرت على هذا التقليد لعدة عقود، وطبيعي أنه كان لفلسطين موقع القلب في هذا الصنف من الأغاني، فمن منا لا يعرف أغنية "زهرة المدائن"، التي غنتها عن القدس المحتلة بعد احتلالها عام 1967، اضافة إلى أغنيتها "سيف فليشهر"، من كلمات سعيد عقل ،والتي اشتهر منها المقطع القائل: "الآن .. الآن وليس غدًا.. أجراس العودة فلتقرع".

ولسعيد عقل أيضاً غنت "يا شام عاد الصيف" التي كانت تُدشن بها حفلها السنوي في افتتاح معرض دمشق الدولي، وعن دمشق أيضاً غنت: "سائليني حين عطرت السلام/ كيف غار الورد واعتلّ الخزام/ أنا لو رحت أسترضي الشذا/ لانثنى لبنان عطرًا يا شآم".

بالإضافة إلى فلسطين وعاصمتها القدس، وإلى دمشق، غنت فيروز لبلدان ومدن عربيّة مختلفة، فعن بغداد غنت أثناء حفلها في العاصمة العراقية: "بغداد والشعراء والصورُ/ ذَهَبُ الزمان وضوعُهُ العَطرُ/ يا ألف ليلةَ يا مُكَمّلة الأعراس/ يغسل وجهك القمرُ"، وبالإضافة إلى ما أعادت فيروز تقديمه من أغانٍ مصرية شهيرة بتوزيع جديد للأخوين الرحباني، مثل أغنية سيد درويش "الحلوة دي"، وأغنية "شط اسكندرية"، إلا أنها خصّت مصر بأغنية "مصر عادت شمسك الذهب"، وأهدت الأردن الأغنية التي تقول: "عمان في القلب/ أنت الجمر والجاه/ ببالي عودي/ مري مثلما الآه".

وكما غنت فيروز لمُدن المشرق العربي، فعلت الشيء نفسه لمدن المغرب العربي، ومن ذلك أغنيتها عن تونس التي قدمتها في أول حفل لها هناك في ستينيات القرن الماضي، والتي جاء في مطلعها: "إليك من لبنان أغنية صديقة/ يا تونس الشقيقة يا وردة البلدان/ إليك يا سليلة الملاحم/ يا نجمة القصائد القديمة/ إليك يا قرطاجة العظيمة".

وفي عام 1962 أهدت فيروز، من كلمات الأخوين رحباني، المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد أغنية "صديقتي جميلة"، التي كانت في سجون المستعمرين الفرنسيين، وحيّت ثورة الشعب الجزائري وتضحياته من أجل الحرية والاستقلال، وكان لتلك الأغنية صدى كبير في الجزائر ومناضليها في تلك الحقبة التي شهدت المدّ الكفاحي والوطني. وبالمثل حيّت فيروز المغرب، في أغنية جاء في كلماتها: "من وطني تحية الرجولة/ إلى شواطئ المغرب الأبية/ إنهم الميلاد والبطولة/ تكاد أن تكون مغربية".

فيروز في بلدان الخليج

ولأننا سنتناول، تاليًا، تلقي الفن الفيروزي، منذ بداياته الرحبانية، في بلدان الخليج العربي، ومواصلةً لما أتينا عليه أعلاه حول مكانة المدن العربيّة في الأغنية الفيروزيّة، سنشير هنا إلى الأغنية الشهيرة لفيروز عن مدينة مكّة المكرّمة، والتي نظر إليها كعلامة من علامات التسامح الديني، وتآخي الأديان، وتعايش أهلها في مجتمعاتنا، قبل أن تعمّ موجة التطرف والتعصب والكراهية بكافة صورها في العالم العربي، خاصة وأن كاتب الكلمات، سعيد عقل، وملحنيها، الأخوين رحباني، ومغنيتها فيروز هم جميعاً مسيحيون، ولم يجدو أي غضاضة في أن يقدّمو أغنية لقبلة المسلمين، فجاءت هذه الكلمات:

غنيت مكّة أهلها الصيدا والعيد يملؤ أضلعي عيدا
فرحوا فلألأ تحت كل سما بيت على بيت الهدى زيدا
وعلى اسم رب العالمين على بنيانهم كالشهب ممدودا
يا قارئ القرآن صلي لهم أهلي هناك وطيب البيدا
من راكعٍ و يداه أنساتاه أليس يبقى الباب موصودا
أنا أينما صلى الأنام رأت عيني السماء تفتحت جودا
لو رملة هتفت بمبدعها شجوًا لكنت لشجوها عودا

وحين النظر إلى الغناء والموسيقى في بلدان الخليج والجزيرة العربية، سنلاحظ أنهما تأثرا، بطبيعة الحال، بالقادم من الأغاني والموسيقى من الحواضر العربيّة وغير العربيّة أيضاً، خاصة من فارس والهند، لكن هناك فنوناً هي ابنة البيئة الخاصة بالمنطقة ونابعة منها، وهذا ما تشير إليه أنماط من الفنون بعينها ارتبطت بالمنطقة، كتلك التي نبعت من قلب الجزيرة العربية، في نجد مثلاً، ولها تجلّيات في شرقي الجزيرة وفي المناطق السّاحليّة، لا نعثر على نظير أو تجلّيات لها في الحجاز والعراق وعُمان واليمن، ومنها رقصتا (السّامري) و(الخماري)، فإيقاعهما ووزنهما مستمدّان منْ روح الشّعر النّبطيّ، وينظر بعض الباحثين إلى رقصة (العرضة) كصورة محليّة للرّقص الجماعيّ الذي يذكّر بالدّبكة في بلاد الشّام، ولكنّه رقص متأثّرًا بالبيئة الصّحراويّة المحيطة التي فرضت إيقاعها البطيء بالنّظر إلى طبيعة الآلات الموسيقيّة المستخدمة، والتي تكاد تنحصر في الطّبول والدّفوف.

ومن الامثلة أيضاً فنّ الصّوت في منطقة الخليج، حيث استنبت الموسيقي الكويتي عبدالله الفرج تقليد مصاحبة العود والمرواس، في مصاحبة غناء الصوت، وأصول المرواس هنديّة ويستخدم كضابط إيقاع موسيقيّ، وقد خرج غناء الصّوت عن نطاق منشئه في الكويت، ليصل إلى المناطق المتاخمة لها، على سواحل الخليج العربيّ، مثل البحرين وقطر والأحساء، بل تجاوز ذلك إلى مناطق أبعد، ليصل إلى بلاد اليمن والحجاز، وحتّى العراق التي وصلها الصّوت عن طريق صالح الكويتيّ وداوّد الكويتيّ اللذين ارتحلا إلى العراق في أواخر عشرينيّات القرن العشرين.

مع تطوّر الأغنية العربيّة في العصر الحديث، وشيوع الراديو والتلفزيون، صار المتلقون في بلدان الخليج والجزيرة العربيّة، يستمعون إلى ما تبثه تلك الوسائط من أغان، ويعجبون ويتأثرون بها، وربما يكون دخول الأغنية الفيروزيّة في مجتمعات الخليج العربي تالياً لدخول وشيوع الطرب المصري بأصوات أم كلثوم ومحمدعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة وسواهم من عمالقة الغناء في القرن العشرين، بمن فيهم الفنانين غير المصريين ممن احتضنتهم القاهرة، كفريد الأطرش واسمهان وسواهما، والمؤكد أنه كان للسينما المصريّة دور كبير في انتشار هذه الأغاني، حيث أن كثيراً من هذه الأفلام تضمنت عدداً من الأغنيات التي ذاع صيتها في تلك المرحلة، وأيضاً لأن هذه الأفلام ساعدت في تقريب اللهجة المصريّة إلى آذان المتلقين في بلدان المنطقة، كما هي الحال في البلدان العربيّة الأخرى، كون معظم الأغنيات المصريّة كانت تغني بالعامية الدارجة في مصر.

بالإضافة إلى الأغاني المصريّة، كان للغناء العراقي ذيوع في بلدان الخليج، بالنظر إلى قرب العراق الجغرافي، وأوجه التشابه الكثيرة في التكوين المجتمعي والثقافي بينه وبعض بلدان المنطقة، بما في ذلك في الكثير من مفردات اللهجة اليومية، خاصة في الكويت والبحرين، ما خلق تشابهاً في ذائقة التلقي أيضاً.

نرجح، وهذا أمر بنيناه على شيء من الذاكرة وأيضاً من بعض شهادات أبناء وبنات الأجيال الأكبر، أنّ تلقيّ أغاني فيروز والرحابنة اتسع وتطوّر مع نمو الوعي الثقافي، وظهور أجيال من خريجي الجامعات العربية ومن المهتمين بالثقافة والفن، ما شكّل لديهم ذائقة أخرى، حيث رأوا في فن فيروز نمطاً له فرادته وخصوصيته، ومدرسة مختلفة، عن مدرستي الطربين المصري والعراقي.

وفي هذا السياق أذكر أنني حضرت محاضرة عن الأغنية العربيّة، في مطالع سبعينيات القرن الماضي نظمتها أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين، وكنت يومها لما أزل تلميذا في المرحلة الثانوية، كان المتحدث فيها صديق شاب يكبرني قليلاً، عقد مقارنة بين غناء السيدتين أم كلثوم وفيروز، لم يخف فيها انحيازه لغناء فيروز، صوتًا ولحنًا وكلمات، حتى أنه بدا متحاملاً على غناء أم كلثوم، حيث رأى في أغانيها "تخديرًا" للجماهير وإلهاءً لها عن الاهتمام بالشأنين الوطني والقومي العام، فبدل أن تنصرف الجماهير إلى قضاياها الكبرى تغرق في مطولات "كوكب الشرق"، فيما رأى أن الأغنية الفيروزية تساهم في تشكيل وعي جديد مختلف لدى المتلقين.

وأذكر أن أحد الحاضرين في تلك الندوة سأل المحاضر كيف يفسر أن أدباء ومثقفين كباراً بوزن عباس العقاد ونجيب محفوظ وسواهما كانوا يطربون لأم كلثوم ويعدّونها ظاهرة فنية استثنائية، هذا فضلاً عن كبار الشعراء الذين غنت كلماتهم وكبار الملحنيّن الذين لحنوها.

ولو أخذنا البحرين كمثال فسنجد أن لتنامي نفوذ وتأثير الاتجاهات والميول القوميّة واليساريّة في المجتمع، بين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وربما يصحّ هذا على الكويت أيضاً، دوراً لا يمكن تجاهله في الترويج لأغاني فيروز والرحابنة، انطلاقاً من قناعة سادت في صفوف منتسبي ومناصري هذه التيارات بأن هذه الأغاني أقرب إلى الوعي الجديد الذي بنشدونه للمجتمع، وأن كلماتها تحتوي على مضمون يجمع بين الرقة والعذوبة من جهة وقوة المعنى والدلالة، من جهة أخرى، بالمقارنة مع الأغنيات العاطفيّة الرائجة، ولا نستبعد أن يكون لأغاني فيروز عن القدس وفلسطين، بالذات، أثرها الكبيرفي تكوّن هذا الانطباع وشيوعه، فضلاً عن مضامين مسرحياتها الغنائيّة وما تنطوي عليه من مغاز ودلالات.

وأصبحت الكثير من المدارس الإبتدائيّة والإعداديّة والثانويّة، للبنين والبنات على حدٍ سواء، في تلك الفترة، تحرص على بث أغاني فيروز في الفسح بين الحصص الدراسية لتقريبها إلى مسامع التلاميذ والتلميذات، ويعود الفضل في ذلك إلى المعلمين والمعلمات الذين يرون في فن فيروز نموذجاً للفن الراقي الذي يجب أن يتعوّد التلاميذ على تذوقه.

وكما كان للإذاعة دورها الكبير في نشر الأغاني المصريّة والعراقيّة، فإنها فعلت الشيء نفسه بالنسبة لأغاني فيروز وسواها من مطربي لبنان وبلاد الشام الكبار، وبعد أن أفتتحت إذاعات في بلدان المنطقة صارت أغاني فيروز تبث عليها بشكل منتظم، بل إن بعض هذه الإذاعات وحتى اليوم، في بلدان مختلفة من المنطقة، تخصص ما لا يقل عن ساعة متواصلة في صباح كل يوم لبث أغاني فيروز، ويتزامن ذلك مع مواعيد توجّه الموظفين والعاملين إلى أماكن عملهم بسياراتهم، فاصبح الاستماع إلى أغاني فيروز بمثابة طقس صباحي للكثيرين من هؤلاء.

وفي تلك الفترة أيضاً كانت اذاعة دبي تبث برنامجاً يومياً، مخصصاً لأغاني فيروز، لا يكتفي ببث أغانيها فقط، وإنما يتولى مقدّما البرنامج اختيار واحدة من أغنياتها كل يوم، ثم يشرعان في التعريف بكلماتها وبالشاعر الذي كتب كلماتها، وبطبيعة الحال فإنه كان للأخوين الرحباني الحصة الكبر في ذلك، وتختم حلقة البرنامج ببث الأغنية المختارة، وساعد هذا البرنامج ليس فقط في تقريب صوت فيروز للمستمعين، في زمن كان فيه للإذاعة تأثير كبير، ولم يكن التلفزيون قد احتل المساحة التي آلت له لاحقاً، وإنما أيضاً في التعريف بكلمات أغانيها وكتّابها، بمن فيهم، بالإضافة للأخوين رحباني، جبران خليل جبران وسعيد عقل وسواهما.

ولما كان لبنان وجهة سياحية محببة للشرائح المقتدرة من مواطني الخليج، يوم كان لبنان في عافيته، خاصة في فصل الصيف، الذي كثيراً ما تقام فيه حفلات ومهرجانات كانت فيروز تشارك فيها، فإن هذا الأمر فتح، هو الآخر، نافذة أخرى لأولئك السواح على وجه لبنان الثقافي والفني، الذي كانت فيروز والرحابنة من أبرز عناوينه.

كانت دولة الكويت سبّاقة في افتتاح محطة تلفزيونية في بلدان المنطقة، التي بالإضافة إلى ما باتت تقدّمه من أخبار وبرامج منوعة، اهتمت ببث الأغاني المختلفة، وكان لاغاني فيروز حصة من هذا البث، فلم يعد المشاهدون يستمعون لصوت فيروز عبر الإذاعة، وإنما صاروا يشاهدونها، عبر الشاشة، وهي تغني، ما ساهم بالتاكيد في تقريبها أكثر فاكثر من المتلقين، وفي الفترة نفسها كان يتم تداول أغنيات فيروز، وحتى مسرحياتها، خاصة بين المأخوذين بفنها، عبر الأسطوانات أولاً، ثم عبر أشرطة الكاسيت، قبل أن نلج زمن الاٌقراص المدمجة.

لم يمض وقت طويل حتى زارت فيروز بعض دول الخليج لإحياء حفلات غنائيّة فيها، وكانت البداية من الكويت أيضاً في ستينيات العقد الماضي، وحدث هذا قبل أن تنال بقية أمارات الخليج استقلالها عن "الحماية" البريطانية، وكانت هذه الزيارة حدثاً فنياً كبيراً، وكما هي عادة الرحابنة في الحفلات التي تقدّمها فيروز في البلدان العربيّة، فإنهما كتبا كلمات أغنية تحيّة للكويت غنتها فيروز في حفلتها هناك، ومن بين كلمات الأغنية:

"العيد يروي ويروي سناها يلثم منها المحيّا/ غني الكويت وغني علاها ويومها الوطنيّا
مدّ شراع وشط يموج عليه تبنى البروج/ يا وردة طاب منها الأريج يا عطرها العربيّا
بين الكويت وأرض بلادي يا طيبه من وداد/ نحن وإياكم في الجهاد نبني المصير الأبيّا
وفي ربى الجهراء لو تنطق الأشياء/ لأنشدت قصيدة طويلة
عن الدماء تهدى إلى تراب يفدى/ عن إنتشاق المجد والرجولة"

لم تكن تلك زيارة فيروز الوحيدة للكويت، ففي مطالع الثمانينات زارتها مرة أخرى، حيث كانت الحرب الأهلية في لبنان بين عامي 1975 – 1976، قد هدأت بعض الشيء، ورغم ما عرف عن فيروز من عدم ميلها للتصريحات الإعلاميّة، لكنها عبّرت يومها في حديث لها مع التلفزيون الكويتي عن شكرها للكويت لوقوفها مع لبنان وشعبه في محنته، ودعمها له، آملة في أن يعود لبنان للاستقرار والأمن، ليستعيد مكانته كوجهة محببة للأشقاء العرب.

في الثمانينات أيضاً، وبالتحديد في العام 1984، غنت فيروز، في زيارة لها لدولة الإمارات كلمات قصيدة نقتطف منها الأبيات التالية:

عادت الرّايات تجتاحُ المدى وجعَلْنا موعِدَ المــــــجد غَدا
يا إماراتٍ على أبوابها يصرُخ البحر وينـــــهدُّ الصدى
يتلَقــــــَّاني خليجٌ رملهُ زمنُ الصَّـــــيد وأيــــــامُ الــــــحِدا
وشـــــِراعٌ ساهمٌ مَدَّتْ له غربة الإبحار في الليل يـــــدا
ولآلي .. واعَدَتْ حبَّاتُها كلَّ حـــسناءَ بأرضٍ مَوعِـــدا
يا إماراتٍ فـــتيَّاتٍ على مَطْلَع الشّـــــمسِ كّعِقْدٍ نُـــــضِّدا

وتتالت حفلات فيروز في الإمارات والبحرين في السنوات التالية، وكما في كل البلدان العربية التي غنت فيها فيروز تكتظ القاعات ومدرجات المسارح التي تغني عليها بالحضور المتنوع، سواء من مواطني بلدان المنطقة أو من الجاليات العربيّة المقيمة فيها، ما يظهر أن تأثير فيروز وحضورها الفني في بلدان الخليج العربي لا يقلّان عمّا هما عليه في بقية البلدان العربيّة، والملاحظ أن الجمهور المهتم بفن فيروز يتذوق أغاني المراحل المختلفة لغنائها، وربما تلقى أغانيها من ألحان ابنها زياد صدى أوسع لدى الأجيال الجديدة، لكن تبقى كبيرة في القلوب مكانة فيروز كقامة فنيّة وكرمز وطني من رموز لبنان، رغم ما هو عليه اليوم من صعوبات ومحن، ويبقى فنها فصلاً مضيئاً في التراث الغنائي والموسيقي العربي عابراً للزمن، تتوارثه الذاكرة الفنيّة والثقافيّة العربيّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة