الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تهافت الديمقراطيات الصناعية

رحيم العراقي

2006 / 10 / 19
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


مؤلف كتاب تهافت الديمقراطيات الصناعية هو برنارد ستيفلر، الفيلسوف والكاتب الذي ساهم في عدة ملتقيات ثقافية دولية، والذي أسس «فجر المعارف والمؤسسات والأنظمة التقنية» في جامعة «كومبيينه» وعين مديراً عاماً لـ «معهد البحث والتناغم الصوتي/ الموسيقي». ويتميز ستيفلر بمعارفه الواسعة حول الصناعات التكنولوجية الرقمية الحديثة، بتأليف عدة كتب بارزة
وبوجه خاص: التقنية والزمن (3 مجلدات)، وصورة صوتية، حول التلفزيون (بمشاركة الفيلسوف الفرنسي، دريدا)، وعصر الصناعة المتضخمة، وكارثة المحسوس، والبؤس الرمزي. يشكل النظام التقني العالمي سيرورة المجتمعات الإنسانية اليوم. إلا ان هذه السيرورة لا تحمل مستقبلاً واعداً للبشرية. والأسوأ من ذلك ان هذا النظام يوظف الديمقراطيات الغربية طبقاً لآلياته واغراضه طارداً بذلك للسياسة من مدينته.
هكذا فقدت السياسة الاعتقاد بإمكانية تحقيق مستقبل آخر وأصبحت محرومة من الخطوة التي كانت تمتلكها في أعين المواطنين، ومن هنا عنوان الكتاب. ان هذا النموذج الذي يرتكز على قاعدتي الإنتاج والاستهلاك أصبح مقوتاً اليوم في الوقت الذي يقود فيه الرأسمالية والديمقراطية الصناعية إلى طريق مسدود منتجاً بذلك التبليد والاستلاب الذي ترعاه وتنظمه وسائل الاتصال الحديثة.ولكي يكون لهذا النموذج من مستقبل فلابد من عمليتين مزدوجتين بآن واحد:
1ـ ايقاف سير وآليات عمله القائمة.
2ـ التوجه نحو نمط آخر من الحياة الاجتماعية.
وفي الحالين وأمام الأزمات التي يعيشها هذا النظام ويمدها الى العالم لابد من انبعاث تفكير آخر مختلف عن التفكير السائد؛ وتجديد إرادة البناء العمراني الحضاري. والتفكير بهذا لا معنى له إلا إذا شكل قوة تستفتح المستقبل الذي يحاول النظام التقني
ـ العلمي العالمي إغلاق أبوابه، وإلا باستعادة حقيقة الوجود الإنساني.
هكذا يتعرض الكاتب في بدايات مؤلفه للانحطاط السياسي للديمقراطية وذلك كأزمة يحملها النموذج الصناعي الرأسمالي اليوم، والتي كان قد عبر عنها الشاعر الفرنسي «بول فاليري» منذ عام 1914 «بأزمة الفكر» والتي كان قد تناولها الفيلسوف الألماني «هوسرل» في «ازمة العلوم الأوروبية» لاستخلاص الدعوة إلى «العودة إلى الذات» كمسؤولية جماعية خاصة وان «الأسوأ يتبدى وكأنه الأفق المحتمل لما هو أفضل».
إن هذه الأزمة قد توضحت أيضاً كما رأينا مؤخراً في فرنسا مع انتخابات الدورة الرئاسية الأولى حيث نال مرشح اليمين المتطرف ذو النزعة الفاشية المرتبة الثانية من أصوات الناخبين، ومع فشل التصديق الاستفتائي على الدستور الأوروبي. والأمر هنا لا يتعلق في الحقيقة بفرنسا بقدر ما أنه جزء من سياق عام للديمقراطيات الصناعية؛ يطرح فشل النموذج الصناعي للإنتاج والاستهلاك بحيث لابد من الانخراط في نقد جذري له اليوم.
والنقد بذلك لا يعني رفع الاستنكار لما هو قائم، وإنما تشكله «كوثبة جديدة للخروج من «النوم العقيدي» الذي تراكم خلال القرن العشرين حول مشروعية وصلاحية النموذج الصناعي الديمقراطي، أي تبيان محدوديته كمرحلة خاصة في السيرورة الغربية وصياغة فكرة جديدة حوله واتخاذ القرارات الضرورية لتحويله خاصة وأنه أصبح اليوم وبتوافر التكنولوجيات الرقمية نموذج رأسمالية ثقافية لا يمكن الفصل فيها بين البنى الفوقية والتحتية كما مثل ماركس الذي لم يعرف هذه التكنولوجيات في عصره.
كما ان هذا التطور سرعان ما عرف الصناعات الرقمية المتقدمة في أميركا بحيث اننا أمام «ثورة صناعية ثالثة»؛ هذه الثورة التي تدعي أحياناً «مجتمع الإعلام» وأحياناً أخرى «مجتمع المعارف» والديمقراطيات الصناعية الأوروبية تبنت النموذج الصناعي الأميركي الجديد وخضعت لمتطلباته ورددت كالببغاء ايديولوجيته التي تبنتها الأجهزة الدعائية والإعلامية والإعلانية على المستوى العالمي،
لقد تحققت هذه الببغائية بالإعلان عن فوات وأفول السلطات العامة وبخلق التهافت السياسي الديمقراطي في أعين المواطنين، ورفع حقوق الإنسان سلاحاً يستخدم حسب مصالح الدول، والقول بالشرعية الدولية التي توجهها سياسة الكيل بمكيالين في العلاقات الدولية بالذات.
في القرن السادس قبل الميلاد، قام «كليتسين» بعد أن وضع «سولون» القوانين التي تشكل حق الشعب، بخلق مقاطعات إدارية لليونان لكي يكسر قوة القبائل والعشائر والطوائف واختراق عصبياتها التقليدية باتجاه علاقات المواطنة الواحدة وبما يعزز الثقافة الديمقراطية في الحياة العامة، ويمكن النظام الديمقراطي من التقرير في جميع شؤون المواطنين المشتركة. بيد أن أشكال التنظيم الاجتماعي الأميركية والتي يُراد فرضها على بلدان أخرى لم تعد ديمقراطية بقدر ما أنها أشكال من السيطرة الاستهلاكية والهيمنة الثقافية والمصالح الاقتصادية التي تفلت من تقرير المواطنين بها.
والنتيجة أننا أمام «البؤس الرمزي» الذي ينجم عن وضعية الفرد المستهلك والذي تنتهجه كبريات الشركات الحديثة التي تسيطر على 70 ـ 80% من المنتج القومي العالمي. فهذه الشركات لا تفرض قواعدها التجارية على الجميع وحسب، وإنما تعمل على خلق «إنسان آلي» مشروط يبحث عن شراء ما هو جديد تحت تأثير سلطة الإعلانات التي أصبحت ثقافة باعتبارها تستعيد بعض أشكال الممارسات والإبداعات الثقافية وتنفث رسائلها لتنمية السلوك الإنساني.
ولكن هذه الثقافة مفروضة من الخارج على الفرد وترفض استقلاليته الذاتية اختياراً أو سلوكاً، ولهذا فإنها تقوم بتكييفه واستلاب رغباته وحاجاته باتجاه التسلُّط عليه. هكذا تم استبدال تكييف وقولبة الفرد والمجتمع التي عرفناها مع الأنظمة الاستبدادية والمؤسسات الدينية القروسطوية التي عملت على إعطاء ركائز ثقافية لها، عبر مذهبة المواطنين الفكرية ومنهجة سلوكياتهم اليومية كي يبقوا تحت تأثيرها وسيطرتها؛ ببؤس رمزي جديد تنتجه الصناعات التكنولوجية الثقافية اليوم والتي تشكل حسب الكاتب سلطة تمويلية (توليتارية) في القرن الجديد.
تدليلاً على هذه القولبة ما قاله «باتريك لولي» رئيس القناة الفرنسية الأولى عام 2004: «علينا أن نكون واقعيين. ففي الأساس تكمن مهمة القناة الفرنسية الأولى بمساعدة كوكاـ كولا لبيع منتجاتها»، ثم يضيف: «يجب أن تكون أدمغة المشاهدين معدّة لكي تستطيع الإعلانات التجارية أن تنفذ إليها. وبرامجنا التلفزيونية تقوم على إعداد هذه الأدمغة، تسلية وترفيهاً، بين فواصل الإعلانات، لكي تستقبل هذه الإعلانات وتتمثلها».
والفرد النفسي ـ الاجتماعي الذي نسميه عادة الإنسان، كمنت حركته التاريخية الجوهرية في استخدام التقنية واكتشاف العالم وتنظيم الحياة الاجتماعية. هذه الحركة هي التي تشكل فرادة الإنسان. بيد أنه كائن هش أيضاً، أي يمكن أن ينحط إلى ما دون حقيقة الإنسان باتجاه ما هو مستوحش وعدواني وقطيعي، ولهذا فالسيرورة الإنسانية ليست خالصة ولا أحادية الجانب. إنها مزدوجة عملياً وصميمياً في جيش الأحزاب
وكذا في حياة الجماعات البشرية وقانونها هو العمل والصراع ضد التردي والتبليد وتسليع البشر؟ الأمر الذي تقوم به الرأسمالية الصناعية اليوم بعد أن شكلت مرحلة من الارتقاء البشري. إنها لا تحذف السياسة وحسب، وإنما تقوم بتفكيك الشخصية الإنسانية وإنهاء ما هو خصوصي فيها وصولاً بذلك إلى التبليد الذهني للأفراد وتنميط رغباتهم وحاجاتهم المادية والرمزية أيضاً.
من هنا يعيش الكاتب أن الغرب المسيحي كان قائما على الاعتقاد بمشروعية واطلاقية الماضي الكنسي كمستقبل للعالم، وإن عصر الأنوار والثورة الديمقراطية الفرنسية قد غيرته إلى اعتقاد سياسي، أي إلى الاعتقاد بالتقدم كسيرورة مفتوحة للمجتمعات الإنسانية.
ولكن هذه الحقيقة التاريخية خبت اليوم لأن التقدم نفسه أصبح يعني تقدما ثقافيا يلحق به ما هو سياسي واجتماعي، ولأنه أفرغ من كل سيرورة زمانية له أي من كل وعي على تاريخية الإنسان والمجتمعات الإنسانية ومن استفتاح لمستقبل جديد؟ ولأنه تم الفصل بين العلم الذي أصبح ثقافة تفرض قوانينها وبين المجتمع. باختصار أصبحت الثقافة العلمية الجديدة نوعاً من ميتافيزيقيا اطلاقية تشرع نفسها بنفسها على غرار المتيافيزيقيا الدينية الكنسية في عصور سابقة.
ما العمل؟ ان اصالة «ستيغلر» لا تكمن في نقده للمجتمعات الديمقراطية الصناعية، وخلقها لمجتمع استهلاكي إعلامي قطيعي لفرض الرأسمالية الأميركية قيمة وحسب، وإنما أيضاً في طرحه علاج ذلك انطلاقا من الثقافة كحركة إبداع تربط الفرد صميمياً بنسخ حقيقته الإنسانية التي اشرنا إليها انها ـ أي الثقافة ـ تغير الشروط المادية والرمزية التي تكفل للإنسان ارتقاءه ورفعته وخلق نماذج جديدة لوجوده في التاريخ وإعطاءها معنى وقيما جديدة،
وبهذا لا بد من إيقاف «القولبة الاستهلاكية»، و«التحذير العقيدي» الذي يمارسه النموذج الصناعي الديمقراطي المتضخم لكي يحرر الأفراد رغباتهم وارادتهم ولكي يستفتحوا مستقبلاً مغايراً. هذا يتعلق بالمواطنين انفسهم خاصة في وضع من عدم الفصل بين البنى التحتية والفوقية في الرأسمالية الثقافية الجديدة كما أشرنا.
وبما أن الإنسان لا يعيش إلا في حياة سياسية منظمة ومتوافق عليها، فإن دور السياسية وبالأحرى المسؤولون السياسيون يجب ألا ينحسر أو يتوقف، ان عليهم إطلاق جميع الفرص للأفراد كي يمارسوا قدراتهم الإبداعية المقررة وتوفير الخدمات اللازمة لهم من أجل ذلك. فهذه الخدمات أصبحت ضرورية كالصحة والسكن والتعليم والضمان الصحي. وإذا كانت السياسة لا تستطيع ذلك فإن تغيير النظام الاجتماعي هو المسألة المطروحة.
بهذا كله يمكن الحديث عن انشراخ السياسة و الديمقراطية والنظام الاجتماعي فالسياسة التي شكلت مشروعا تفردياً للإنسان من اجل تحقيق إرادة العيش المشترك مع أقرانه وفي التوافق على الحياة الاجتماعية وفي خدمة المصالح العامة انكفأت عن دورها. هذا ما يعبر عنه الكاتب بـ «خزي السياسة» والديمقراطية التي شكلت مضمونا للمشروع السياسي بأنها الاستبدادية والظلامية والميتافيزيقية الكنسية، تحولت إلى إطار كلاسيكي في التمثيلية الانتخابية وفي الفصل بين السلطات وفي التداول السلمي للحكم معزولاً عن رغبات المواطنين وحاجاتهم وتطلعاتهم الأمر الذي يفسر تهافتها.
والمفارقة انه بينما يعمل الفكر الغربي الناقد الجذري تبيان محدودية النظام الديمقراطي الصناعي وخصوصيته التاريخية واشكالياته الاجتماعية، فإن أوروبا تقتفي سياسة الأميركي اليوم، الأمر الذي يفسر فشل الاستفتاء على «الدستور الأوروبي» في حين ان عددا من بلدان الجنوب تقوم هي أيضا بمحاكاة هذا النظام رغم التفاوتات التاريخية بينها وبينه لاغية بذلك هي أيضا فرديتها أي خصوصيتها التاريخية والثقافية، ودون أخذ مسافة من هذا النظام بالذات.
فإذا كانت الديمقراطية حاجة لهذه البلدان، فإن هذا لا يلغي في الوقت نفسه ضرورة التفكير على الاشكاليات التي يطرحها النظام الديمقراطي الصناعي اليوم من اجل مواجهتها وإيجاد الحلول اللازمة لها، خاصة وأن العالم أصبح «قرية كبيرة»، بمعنى آخر فإن انبعاث الفكر والسياسة بقدر ما انه ينطلق بكل بلد، فإنه مسؤولية شاملة لتحقيق عمران حضاري آخر للجميع. وذلك هو التحدي المطروح على كل المواطنين بقدر ما هو مطروح على المفكرين والاختصاصيين والسياسيين والإعلاميين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أنا لست إنترنت.. لن أستطيع الإجابة عن كل أسئلتكم-.. #بوتين


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضغطه العسكري على جباليا في شمال القطاع




.. البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان يزور السعودية


.. غانتس: من يعرقل مفاوضات التهدئة هو السنوار| #عاجل




.. مصر تنفي التراجع عن دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام مح