الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إيلافُ (فُتُون3)

منوّر نصري

2023 / 3 / 7
الادب والفن


أنتَ الآنَ معَ إيلافَ، المرأةُ التي رَسمْتَها ألْفَ مرَّةٍ في وِجْدانِكَ بكُلِّ الألوانِ التي ترْتاحُ إليْها. رَسَمْتَها في كلِّ الأوْضاعِ ولكنَّ رسوماتِكَ غيْرُ مفْهومةٍ منْ قِبَلِ الآخرينَ. وأنْتَ أصْلاٌ لاَ تُحبُّ أنْ يفْهَمَها النّاسُ، لأنّكَ تَغارُ عليْها. تُحبُّ أنْ تراها أنْتَ وكَأَنَّها أمامكَ، لأنَّكَ أنتَ وحْدَكَ تفْهَمُها وتسْتطيعُ أنْ تلْمَسَها رُوحُكَ التي تبْتَهِجُ عنْدما تتطلَّعُ إليْها. تخْتلطُ ألْوانُها بألْوانٍ قديمَةٍ تُعشِّشُ في نفْسِكَ، وتدْعوكَ، كُلَّما ظَهَرَتْ في أعْماقِكَ، إلى رحْلةِ حَنينٍ لاَ تعْلَمُ إلى أيْنَ، ولكنْ تعْلَمُ أنّكَ ستجوبُ فيها شِعَابًا تُحبُّها، وترَى فيها ألْوانًا حبيبةً، ووجوهًا أليفَةً ريَّانةً تبْعثُ فيكَ بَهْجَةً قادمةً منْ بعيدٍ. إيلافُ سَكَنْتْكَ كَمَا سكنتْكَ تلْكَ الألوانُ التي تأخُذُكَ إلى شِعابِ الدّهْشةِ والحنينِ كُلَّمَا خلَوْتَ إليْها وتحدّثْتَ معَها كَمُحِبٍّ يُخاطِبُ مباهِجَ حبيبتِهِ الوارفةِ كَصنوْبَرَةٍ كثيفةٍ تَمْلَأُ الدّنْيا منْ حوْلِهِ وتمْنَحُهُ الطّرَبَ والتّفاؤُلَ. وجْهُ إيلافَ، هوَ الوجْهُ الذي تُحبُّ. هُوَ أفْراحُكَ التي تبْحثُ عنْها، وأحْيانًا يُخَيَّلُ إليْكَ أنّكَ لنْ تعْثُرَ عليْها. هوَ حنينُكَ الذي يشْتَعِلُ فيكَ أحْيانًا، وأحْيانًا يهْداُ ويُصْبحُ وديعًا كحمامةٍ بيْضاءَ تطيرُ وتحطُّ. وتمشي قليلاً بالقرْبِ منْكَ، ثمَّ تطيرُ ثانيَةً وثالثةً. وتعودُ في كلِّ مرّةٍ لتُحوِّمَ قليلاً عَلَى عُلُوِّ مِتْرٍ أوْ مِتْرَيْنِ مِنَ الأرْضِ، ثُمَّ تحُطُ. وتظلُّ تنْقُرُ في الأرْضِ وتمْشي مشْيَتَهَا الرّائعَةِ وهي تنْظُرُ إليْكَ، كأَنَّ بيْنَكَ وبيْنَها حكايةٌ لاَ يعْرِفُها سِواكُمَا. إيلاَفُ. تَرَاهَا كالحمامةِ البيْضاءَ التي تنْظُرُ إليْكَ بمَحبّةٍ، وتتحدّثُ إليْكَ. تراها بقلْبِكَ تطيرُ وتحطُّ فوقَ كَتِفِكَ. وتنْقُرُ أحْيانًا بمنقارها الأحْمرِ الجَميلِ نقْرًا خفيفًا يُدغْدِغُكَ ويُسافِرُ بِكَ إلى شِعابٍ تحنَّانِ إليْها. تراها بمَشاعِرِكَ تسْتأْنسُ بِوُجُودِهَا معَكَ وتُحبُّ أنْ تبْقى معَكَ وتنْسى أنّها يَجبُ أنْ تطيرَ بعيدًا لِتَعُودَ مِنْ حيْثُ جاءتْ.
إيلاَفُ. ما أجْملَ أنْ تستطيعَ ذِكْرَ اسْمِها بعْدَ أنْ سَمَحتْ لكَ بذلكَ. يُمْكنُكَ الآنَ أنْ تتحدَّثَ عنْ كلِّ مشاعرِكَ وترْبطَها باسْمِها. اسْمُها الآنَ يَمْنحُكَ قوّةً كنتَ في حاجةٍ إليْها لتقاومَ الكآبَةَ التي تسْتبدُّ بكَ وهيَ بعيدةٌ عنْكَ. انتَ الآن تشْعرُ بنخْوةٍ لمْ تعْرِفْها سابِقًا، لأَنّكَ كنتَ محْرومًا منْ ذِكْرِ اسْمِها. والآنَ وقدْ أصْبحْتَ حُرًّا، تشْعُرُ أنّكَ تُحبُّها منْ جديدٍ لأنّها مَنَحَتْكَ اسْمَها، وأعْطتْكَ الحرّيّةَ في أنْ تذْكُرَهُ كما تشاءُ. الآنَ أصْبحْتَ تشْعُرُ أنّكَ تحِنُّ إلى إيلافَ، وتتطلّعُ لِرُؤْيَةِ إيلافَ، وقلْبُكَ يَرْنُو إلى إيلافَ، ونفْسُكَ مشتاقةٌ إلى إيلافَ، والدّنيا منْ حوْلكَ فارغَةٌ لأنَّ إيلافَ بعيدةٌ، والغيْماتُ البيضاءُ لا تأْتي لأنّها لنْ تجدَ إيلافَ، والفَرَحُ المُسافِرُ لنْ يعُودَ وإيلافُ بعيدةٌ، والعصافيرُ المُنْشِدَةُ هنا وهناكَ صامتَةُ أوْ قابعةٌ في أوْكَارِهَا تنْتَظرُ رجوعَ إيلافَ، والسماءُ غائمةٌ لا بهْجةَ فيها، يُتْعِبُها الشّوقُ إلى إيلافَ، والمطرُ لا يأْتي، ينْتظِرُ عوْدةَ إيلافَ. ستعودُ إيلافُ. ويعودُ نبْضُ الحياةِ. وتَعُودُ العصافيرُ التي أتعَبَها الانْتظارُ. وتعودُ الغيْماتُ البيْضاءُ وتنْتشرُ نسَماتُ البهْجَةِ في حقولِ نفْسِكَ الجذْلىَ بتَبَاشيرِ قدُومِ إيلافَ. ويعودُ المطرُ يبلّلُ شوارعَ المدينةِ العطْشى ويبلّلُ وجْهَكَ وشعْرَكَ اللذيْنِ مضى زمنٌ لمْ يتبلَّلاَ تحْتَ قَطراتِ المَطرِ كَمَا كانَ يحْدُثُ لَكَ كثيرًا عنْدما كنتَ صغيرًا. سوفَ تعودُ إيلافُ وتمتلِئُ الدّنْيا منْ حوْلكَ، وتعُودُ الألْوانُ إلى كُلِّ الأشْياءِ الباهتَةِ الآنَ. عنْدما تعودُ إيلافُ ستأْخُذُها في زيارةٍ إلى الأماكنِ التي أحْبَبْتُمَاهَا لِتَرى معَكَ بعيْنيْها كيفَ تبْتَهجُ بعوْدتها وتعودُ إليْها الألوانُ.
شوْقُكَ إلى إيلافَ يزْدادُ كلَّ يوْمٍ ويبدُو أنّكَ لمْ تعُدْ قادرًا على تحَمُّلِهِ. لمْ تنْعَمْ كثيرًا بالقُرْبِ منها هذه المرّةِ، ثمَّ تخاصمْتُما من جديدٍ. أنتَ مقْتنعٌ أنَّ الأسْبابَ التي تجْعَلُكُمَا تخْتلفانِ لاَ تسْتحقُّ التَّشنُّجَ الذي يحْصُلُ لِكِلَيْكُمَا. لكنْ في النهايَةِ، تعودُ إيلافُ إلى مدينَتِها وعمَلِهَا وشُؤُونِها، وتبْقَى أنتَ وحْدَكَ، تسْتَبدُّ بِكَ الوحْشَةُ، وتنْظُرُ في اتّجاهِ مدينتِها، وتُراجِعُ صدى كلِماتِها، وتتخيَّلُ وجْهَهَا، تارةً ضاحكًا، وتارةً غاضِبًا، وتارةً باكِيًا، وتارةً يَراكَ ولا يلْتَفِتُ إليْكَ، وتارةً يُبْصِرُكَ منْ بعيدٍ فيَهْرعُ نحْوَكَ. لمْ تنْعمْ بالبقاءِ معَها طويلاً منذُ أنْ سمحتْ لكَ بكتابةِ اسْمِها بعْدَ أن اقْتنعتْ أنْ لاَ فائدةَ في إخْفاءِ شيْءٍ يَعْلَمُهُ الجميعُ. أنتَ الآنَ بينَ الفرَحِ بِاِسْمِهَا الذي أصْبحْتَ قادرًا على كتابتهِ، والحُزْنِ لِفِراقِها. تطيرُ بكَ البهجَةُ إلى أعالي جبلِ الشّعانبي الذي تشْتاقُ إليه كثيرًا، ولاَ يهُمُّكَ أنْ يكونَ مسْكُونًا بالإرْهابيّينَ، حسب ما تُشيعُهُ عليْهِ السُّلْطةُ الرّسْميّةُ ووسائلُ إعْلامِها. وتأخُّذُكَ البهْجَةُ أيْضًا إلى شاطئٍ زرْتُماهُ معًا في ليْلةِ صيْفٍ، وجلسْتُما في مقْهى مكْتظٍّ، يقعُ مُباشرةً قُبالَتَهُ، وشرَيْتَ لها الياسمينَ واسْتمتعْتَ بِوَجْهِهَا وابْتِسَامَتِهَا في النّورِ الضّعيفِ الذي تُلْقيهِ فَوانيسُ باهتةٌ لأنَّ ذلكَ، يبدو أنّه يُساهمُ في شاعريّةِ المكانِ، ويُضْفي نوْعُا من الإحْساسِ بالهدوءِ والرّاحةِ النّفْسيّةِ، أوْ لعلَّ هذا التفسيرَ هُوَ ما تعْتَقدُهُ نفْسُكَ الجذْلى بِوُجُودِ إيلافَ معَكَ في ذلكَ الوقْتِ. ولكن في الوقْتِ نفْسِهِ يَعْتَصِرُكَ الحُزْنُ لأنَّكَ منذُ مدّةٍ صرْتُما تتخاصمانِ كثيرًا. ولمْ تعُدْ تَنْعَمُ بالْبقاءِ معَها بعْضَ أيّامٍ دونَ أنْ يَنْشُبَ بيْنَكما مَا يُكَدِّرُ النُّفُوسَ. تتكلَّمانِ كثيرًا في البِدايةِ. وَكِلاَكُمَا يُحاوِلُ إقْناعَ الآخرِ بوجاهةِ كلامِهِ. ثمَّ يشْتدُّ بِكُمَا الغضَبُ. ويتحوَّلُ الإِقْناعُ إلى رغْبَةٍ هائِجَةٍ في فرْضِ الذّاتِ. وبعْدَ التّشنُّجِ المَقِيتِ الذي يُبَعْثِرُ كُلَّ الأفراحِ، ويُلْقي بِهَا خارجَ المنْزِلِ، لا يبْقَى غيْرُ الصَّمْتِ البائسِ الذي تنْعدِمُ فيه الألْوانُ. عنْدئذٍ تتسرّبُ إلى المنزلِ القتامةُ، ويُعشِّشُ فيه صمْتٌ مُخيفٌ، وتتسرّبُ الوحْشَةُ إلى نفْسيْكُما، ويُدْرِكُ كِلاَكُما أنَّ الخيْبَةَ تتربَّصُ بهِ، وتنْقضُّ عليْهِ حالَمَا تجِدُ سبيلاً إلى ذلكَ. وإذا كان يريدُ إبْعادَ شبَحِها عنْ عالمِهِ، فَما عليْهِ إلاَّ أنْ يسُدَّ عليْها الأبْوابَ منذُ البدايَةِ، ولاَّ يتْرُكَ سبيلاً لهَا لتتسرَّبَ إلىَ حياتهِ وتُفْسِدَهَا.
منذ أشْهُرٍ، لمْ يَعُدْ أَيٌّ منكُما يتحمَّلُ أنْ يعْترِضَ الآخَرُ على كلامِهِ. في البدايةِ، يكونُ الشّوْقُ غالِبًا. ويُزيِّنُ كُلَّ ما يقُولُهُ أحَدُكُما للآخَرِ. ويظَلُّ الكلامُ جسْرَ محَبّةٍ نابضةٍ بالشّهْوَةِ التي تمْلَأُ أرْجاءَ المنْزِلِ، وتَفُوحُ رائحتُها لِتجْعَلَ كِلَيْكُما يُسافِرُ في دُنْيا الآخَرِ وينْسى الأيّامَ الطويلةَ التي لمْ يَكنْ لَها لوْنٌ ولاَ طعْمٌ ولاَ رائحَةٌ... تنْسَى أنَّكَ كُنْتَ محرومًا منها ومنْ رائحتِها ومنْ أنْفاسها ومِنْ ابْتسامتِها، ومنْ شعْرِها اللَّيِّنِ، الذي لاَ هُوَ بالطّويلِ ولاَ بالقَصيرِ، الذي يميلُ لونُهُ إلى لَوْنِ القَهْوةِ، والذي يُمْتِعُكَ دائمًا أكْثَرَ من القهْوةِ، رغْمَ أنّكَ تُحبُّها كثِيرًا ولاَ تسْتَطيعُ أنْ تسْتغْنِيَ عليْها أبدًا. شَعْرُها فرْحَةٌ منْ نوْعٍ آخَرَ. فرْحَةُ المُرافَقَةِ الحُلوةِ. فرْحَتُكَ بها وقدْ جاءتْ لأَجْلِكَ منْ مدينتِها البعيدةِ، وتركَتْ كُلَّ شُؤونِها مُعَطَّلَةً، لِتُعبِّرَ لكَ على صبابتِها التي جعَلتْها لاَ تَهْنَأُ وَلاَ تهْدأُ نفْسُها إلاَّ عنْدما تراكَ، وتلْمسُكَ وتُعبِّرَ لَكَ عنْ فَرَحِها بالمجِيءِ إليْكَ. ما أجْمَلَ تلْكَ اللّحظاتِ التي تنْسَيانِ فيها الدّنيا وتسافرانِ إلى شِعابٍ أخْرى. تُرافِقُكُما روائحُ القهْوةِ. وروائحُ شهْوةٍ مَكْتومةٍ منذُ أيّامٍ طويلةٍ أوْ شهورٍ. وأنْفاسٌ متوثِّبَةٌ، تسْبقُكُما إلى الغَوْصِ في ضبابِ أخْضَرَ أوْ أزرَقَ أو منْ ألوانٍ أخْرى سَكْرانةٍ. ضبابُها الأبْيَضُ الورْديُّ يمْتزِجُ بِالضبابِ الأخْضرِ أو الأزرقِ أو الصّوفِيِّ أو الرّماديِّ ليَرْسُمَ لنفْسِكَ أشْكالاً ومساحاتٍ تسْتهويكَ وتزيدُكَ إمْعانًا في ولوجِ عالَمِها البهيجِ. خُضْرةٌ وماءٌ، واللَّونُ الأبْيَضُ الورْديُّ في وجْهِها وجسْمِها يُناديكَ ويُغْريكَ. وتنْشأُ الشّهْوَةُ وتفيضُ، وتطيرانِ بعيدًا. حيْثُ تجِدُ الشّهْوةُ مَرْسَاهَا. وتعيشانِ هناكَ زمَنًا لا تعْرفانِ كمْ دامَ بِمقْياسِ الزّمنِ العاديِّ. لكنْ تعْرِفانِ أنّ الشّهوةَ كانتْ هناكَ جَناحَيْكُما اللّذَيْنِ منَحَاكُما القدْرَةَ على الطّيَرانِ... وتَجيءُ الغيْماتُ البيْضاءُ، ويَنْتشِرُ العِطْرُ في عالَمِكَ الذّائبِ، وتطيرُ حماماتٌ زرْقاءُ وبيْضاءُ، وترىَ إيلافَ تتحوّلُ إلى حمامةٍ بيْضاءَ. تشْعُرُ بالمودَّةِ نحْوَها. وتُحبُّ أنْ تقْتربَ منها. وهي تنْظُرُ إليْكَ كأنّها أحسَّتْ بالقرابةِ تُجاهَكَ. تنْظُرُ إليْكَ بعيْنيْنِ مُحِبّتيْنِ وتزْدادُ اقترابًا منها. تُواصِل النَّظَرَ إليها بعيْنيْنِ أليفَتَيْنِ. وتفْرَحُ عندما تراها لا تهرُبُ منكَ، ولا تطيرُ عنْدما تراكَ تزْدادُ اقْترابَا منها. وتتأكّدُ أنّكَ تريدُ أنْ تذْهبَ إليْها... تقتربُ منها كثيرًا، وهي تنْظرُ إليْكَ بمحبّةٍ ظاهرةٍ، وتُديرُ رأسَها يمينًا وشمالاً كأنها تقُولُ لكَ كلامًا رُبّما تفْهمُهُ أنتَ بقلْبِكَ. وعندما تقتربُ منها، تطيرُ قليلاً، لتحُطَّ على كتفِكَ. وتظلُّ هناك هادئةً. وتمدُّ أنتَ يدَكَ لتُمرّرَ أصابعَكَ على ريشِها النّاعمِ الذي يُؤْنِسُكَ. تطيرُ قليلاً، ثمَّ تعودُ إلى كتفِكَ. وتظلُّ كذلكَ تلْهُو، جذْلى، تطيرُ وتحطُّ على كتِفكَ الأيْمنِ أوِ الأيْسَرِ. وتظلُّ أنتَ مُبْتهجًا بوجودِها معَكَ، تملأُ عليْكَ الدّنيا، وتُنْسيكَ الأيّامَ الفارغَةَ الجوْفاءَ.
أين إيلافُ الآنَ. منذُ مدّةٍ لمْ تَرَهَا ولمْ تسمعْ صوْتًها. مضى شهْرانِ لَمْ تفْرحْ بإطْلالةِ وجهها الحبيبِ. وقلْبُكَ الآنَ مدينةٌ مهجورةٌ يسْكُنُها الحزْنُ وتسْمعُ فيها نَحيبًا صامتًا ينْتشرُ في فضاءَاتِها التي عرِفَتْها وأحَبَّتْها. تَسْألك المدينةُ المهجورةُ التي استقرّتْ بِداخِلِك في عتابٍ قاسٍ وتأْنيبٍ عن سببِ ابْتعادِهَا، وهي الحمامةُ التي تأْلَفُها الرّوحُ ولاَ تهدأُ النّفس دونَ أنْ تراها تطيرُ وتحطُّ على كتفِكَ، فتنشرِحُ نفْسُكَ ويتدفّقُ ماءُ الحياةِ في وجهِكَ وتدُبُّ الحياةُ في المدينةِ بعْدما كنتَ تراها مُقْفِرَةً.
كرهتُ هذا المنزلَ لأنّ إيلافَ ليستْ فيه. أراها في كلِّ وقتٍ وكلِّ مكانٍ. عندما أذهبُ إلى المطبخِ لأعِدَّ قهوةً، أراها تأتي خلفي لتأخذَ الأواني من يدِي وتشرعُ بنفْسها في إعْدادِها. تقول مازحة: "أنت لا تُحسنُ إعْدادَ القهوةِ كما أشتهيها. دَعْني أُعدُّها بنفسي، وسترى كم هي لذيذةٌ. لديَّ عدّةُ شروطٍ قدْ تُخلُّ بأحَدِها، فيذهبُ مجهودُكَ سُدًى. ينبَغي إعدادُها بالماءِ المعْدنيِّ. ولا أضعُ فيها سكّرًا. وحتّى إنْ فعلْتُ، فكِمّيةٌ قليلةٌ من السكّر الأسمر. ولا بدّ أنْ تعْلوها طبقَةٌ من الرّغوةِ التي تجعلُها أكثرَ لذَةً. لا أظنُّ أنّك يمكنُ أنْ تلتزمَ بهذه الشروطِ. ورغم أنني أحبُّ أنْ أشربَ قهوةً أعْدَدْتَها أنتَ، فإنني سأقوم بإحْضارها بنفسي لإراحتكَ والالتزام بالمواصفات التي ذكرْتُ لكَ."
إيلافُ موْجودةٌ دوْمًا معي. أراها في كُلِّ مكانٍ في المنْزلِ، وحتّى خارجَهُ. وُجُودُها في فكري وفي خيالي لا يعْني أنّها غيرُ موجودةٍ. صحيحٌ أنني لا يُمكنُ أنْ أسْتمتعَ بحضورها الفعْلِيِّ، لكنّها دائمًا تحدّثني عنْ كلِ شيْءٍ، وبالتفاصيلِ التي تجعلُني أحيانا أغيّرُ الموضوعَ. صحيحٌ أنَّ ذلك قدْ يتطلّبُ منّي قدْرًا من الجُرْأةِ، لكنْ أحْيانا أشْعُرُ أنّه ضروريٌّ لتغييرِ مسارِ الحديثِ، ولتجْديدِ رغْبتي في الاستماعِ إليها. أقولُ الاستماعَ إليها لأنني أتكلّم أقلَّ منها بكثيرٍ. وهيَ واعيةٌ بأنني مُقِلٌّ في الكلام، لذلك تأخُذُنا بحديثها إلى كلّ ربوعِ الدّنيا ونسافرُ عبرَ حكاياتها إلى بُلدانٍ غريبةٍ وبعيدَةٍ في الزمان وفي المكانِ، ونتحاورُ أحيانا في مفاهيمَ علميةٍ، ونناقشُ بعْضَ المسائلِ الإداريّة التي تهمُّ عملها، وتحكي لي عن التحالفات التي تلاحظُها وعن مواقفها المهنية. وأرى الألمَ في وجْهها عندما تتحدّثُ عن خيباتِها مع صديقاتها التي اكتشفتْ مرارًا أنَّ المصلحةَ هي التي توجّه سلوكهنَّ وأنّهنَّ يُظهرْنَ لها مودَّةً غيرَ صادقةٍ. إيلافُ صادقةٌ، وتُظهرُ لصديقاتِها مودّةً حقيقيةً وتحدّثهنّ بما تعْلَمُ دونَ أيِّ مراوغةٍ ولا تغْييرٍ للحقائقِ كما تفْعلُ معها أحْيانًا صديقاتُها أو زميلاتُها اللاتي يُخْفينَ عليها خبَرًا هامّا إلى أن ينقضي الوقْتُ القانونيُّ، أو يُحرّفْنَهُ إمّا لصرْفِ اهتمامها بذلك الأمرِ أو لتفادي الأَحكامِ السّلْبية عليْهنَّ.
لماذا لم يعدْ لديَّ حمَامٌ أزرقُ وأبْيَضُ يطيرُ ويحُطُّ على كتفي ويرْمُقُني بحُبٍّ فتتلوّنُ الدّنيا وتهبُّ نسائمُ قادمةٌ من تلْكَ الجبالِ والمرتفعاتِ والتضاريسِ التي تُذكّرني بإيلافَ وبعِطْرِ إيلافَ، وقوام إيلافَ، وألوانِ إيلافَ، وقُدومِ إيلافَ، ومشْيَةِ إيلافَ. إيلافُ كانتْ إذا مشتْ تملأُ الكوْنَ اخضرارًا وتحتفل بها كل العصافير المقيمةِ بالمدينة أو التي تمرُّ منها إلى مكانٍ آخرَ، وتعْشقُها الحماماتُ البيضاءُ والزرقاءُ التي كانتْ تحطُّ على كتفي فأشعُرُ بخفّةٍ غريبةٍ، ويتنامى إحساسي بفرحٍ جارفٍ. عندما تظهرُ إيلافُ باسمةً بوجهها الأبيضِ الورديِّ كالفرَحِ القادمِ من هناك، لا أدري، هل أمدُّ لها يديَّ أم أحضُنُها ثمَّ أقودُها إلى حيث الألوانُ المتراقصةُ في خيالي. إيلافُ حلْمٌ رَقَصَ في خيالي وأسْمعَني نغَمًا ساحرًا ما زالَ يسْكُنني ثمَّ سافَرَ لبعيدٍ. وما زال مسافرًا وما زال التطلُّعُ إلى رؤياهُ يُذْكِي أشواقي التي تزدادُ بازديادِ أيامِ الانفِصالِ. إيلافُ زهرةٌ من هناك، من تلكَ الربوعِ وحقولها الباسمة التي تفْتحُ ذراعيْها للشمس والسحب الملوّنةِ التي تتكاثرُ عندَ المساءِ لتُعْلنَ عن انتهاءِ التجوالِ الرّبيعيِّ. إيلافُ مثلَ زهورِ تلك الحقولِ، حسّاسةٌ، سرْعانَ ما تختفي ويتلاشى أريجُها وسحْرُها. وتصمُتُ العصافيرُ من حوْلِها. وينتشرُ حُزْنٌ أخرسُ في الأجواءِ. وتتغيّرُ الألوانُ نحوَ القتامةِ. وتمرُّ طيورٌ سوداءُ. تحوّمُ فوقَ الحقولِ وتنْعَقُ. فيزدادُ الإحساسُ بالحزْنِ في كلّ عناصر الطبيعة المتوفرةِ هناكَ من تراب وعشبٍ وزهور منكمشةٍ، ونباتات شوكية أحيانا، وأشجارٍ صغيرةٍ وكبيرةٍ، ونباتاتِ صبارٍ، وأحجارٍ من شتى المقاييس والألوان والتركيبة.
إيلافُ، لا تحرمي الحقولَ أفراحًا أنتِ قادرةٌ عليها. كانتْ منتشيَةً بوجودِكِ. وأنتِ كنتِ تمنحينها الألوانَ والبهجةَ. كانتِ العصافيرُ تأتي لأنها رأتْكِ هناكَ. كان أريجكِ يملأُ الأجواءَ. وكنتُ، أنا، أنظرُ إليكِ بانبهارٍ، وأقولُ في نفسي: "إيلافُ عندما تفْرحُ، تبْتسمُ الدّنيا، وتبْتهجُ العصافيرُ، وتتفتّحُ أزهارُ الحقولِ وتفوحُ. ولكنْ عندما تنكمشُ، وتتكدّرُ دنياها، تنتحبُ الحقولُ، وتذْبُلُ الأزهارُ، وتتبدّدُ العطورُ، وتسافرُ الطيورُ منكِّسةً رؤوسَها، وتجيءُ طيورٌ أخرى تُنذرُ بِحزنِ الحقولِ. وتنْعقُ نعيقًا أسْوَدَ يُعْلِنُ موْسمَ المواجعِ.
دعيني إيلافُ أمْلأُ عيْنيَّ بكِ كما أمْلَؤُهُمَا بتلك الحقولِ والمرتفعات والجبالِ في بلْدتِنَا التي عشْنا بهوائها سنواتٍ إلى أن استقرّتْ فينا وصرْنا، عندما نبتعدُ عنها، نظلُّ في حنينٍ دائم لها. وعندما نكونُ هناكَ، ننْسى الحنينَ وتشغلُنا الدُّنيا، وننسى الأشواقَ التي حملْناها طويلا بينَ ضلوعنا. دعيني إيلافُ أشمّ فيكِ روائحَ تلك البلدةِ التي تنتشر في حقولها وأراضيها البورِ وتضاريسها الحرْشاءِ أزهارٌ صغيرةٌ فائحةٌ في فصل الربيع، خاصّة عندما تكونُ السنةُ مطيرةً. دعيني أذكرُ صمْتَ الأيامِ الممطرةِ والهطولَ المتواصلَ والضّبابَ الذي ينتشرُ في الأجواءِ والبردَ الذي يتسرّبُ إلى نفْسي ووجهُكِ الذي أراهُ في قطرات المطرِ التي تنزلُ في كلِّ مكانٍ وتنشُرُ موسيقَى حزينةٍ تتلقاها نفْسي المتعبةُ المشتاقَةُ إليكِ وإلى تلكَ الأغاني التي كنتِ تُسمعينَها لي عندما تصفو لكِ الحياةُ.
أين كنتِ يا إيلافُ عندما كنتُ أنا أقضي يوم السبت بعد منتصف النهار واقفا في مدخل المنزل أو تحت رواق مفتوح للطبيعة أستمع إلى هسهسة المطر الذي لم يتوقفْ منذ أكثرَ من يوميْنِ وأنتظرُ سيارة "باشي 404" تطلّ من التّلِّ البعيد الذي يظهرُ باهتًا جدّا تحت المطر، والذي، في العادة، يَظْهَرُ من المكان الذي أقفُ فيهِ بشيْءٍ من الوضوحِ. يبْدو أنّ هطول المطرِ يُحْدثُ في البدايةِ نَغَمًا جميلاً صاعدا وفيهِ شيْءٌ من البهجةِ، ثمّ عندما يطولُ هُطولُ المطرِ، تتلاشى الموسيقى الصّاعدة، وتتحوّلُ إلى ما يُشبِهُ الصّمتَ، أو الموسيقى الهادئة المليئة شجنًا. وقدْ كان يحْلو لي الاستماعَ إلى ذلك الصّمت الذي يُحْدثهُ المطرُ. لذلكَ، كنتُ أشعُرُ في قرارةِ نفْسي بشيْءٍ من الغبطةِ الباطنيّةِ، وأنا أنتظرُ، كاملَ يوم السبتِ بعْدَ منتصفِ النهارِ، السيارةَ التي قدْ تلمعُ في التّلِّ البعيدِ الذي يبدو باهتًا في الأفقِ الغرْبيِّ، لأنّ المطرَ بالنسبة إليّ، سفَرٌ في تضاريسِ الروحِ، وتِيهٌ في عوالمَ بعيدةٍ، وسحْرُ ألوانٍ مائيةٍ تتراءى وراءَ الأفُقِ. لمْ أكنْ أعْرِفُكِ آنذاكَ. لكنّكِ حاضرةٌ في وجداني. كنتُ أريدُ أنْ أعودَ إلى المدينةِ يوم السّبتِ بعْدَ منتصفِ النّهارِ. لعلّني كنتُ أريدُ أنْ آخُذَكِ معي. أو لعلّي كنتُ أريدُ أنْ أعودَ إليكِ. وكنتُ أعْرفُ أنّكِ هناكَ تنتظرينَ أنْ أعودَ. كمْ كنتُ في حاجةٍ إليكِ تحْتَ ذلكَ المطرِ. ربّما تخيّلْتُكِ وانتِ تنْتظرينَ مجيئي في تلكَ الأيام المطيرةِ.
لماذا لم تكوني هناك يا إيلافُ حتّى لا أظلَّ أنتظرُ سيارة "الباشي 404" التي، إذا جاءتْ في يوم مطيرٍ كتلْك الأيّامِ، غالبا ما تكون مَرْصوصة بالناس الذين صعدوا قبلي، في أريافٍ أخرى، ويريدون الذهاب إلى المدينة لقضاء شأنٍ من الشؤون. قدْ تأتي السيارةُ وفيها أناس من الأمام وأناس من الخلْفِ، في الصندوق، ممسكون بقضبانِهِ الجانبية والعُلويةِ. وأحْيانًا توجدُ في وسطِ الصندوقِ خرْفانٌ يقلُّ عددُها أوْ يكثُرُ، حسبَ عواملَ بقيتُ أجهلُها. عندئذٍ، لا بُدَّ أن أحسِمَ أمْري. فإمَّا أنْ أصعَدَ من الخلْفِ، مع الانتباهِ والحذرِ كيْ أمسكَ جيِّدًا بالقُضبانِ ولا أقَعَ بيْنَ الخرْفانَ، أوْ أمْكُثَ هناكَ، وأُحرَمَ من النزول إلى المدينة في نهايةِ الأسبوعِ. لو كنتِ هناكَ، لتدبّرْتُ أمري بطريقةٍ أخرى، ليكونَ نزولُكِ إلى المدينةِ مريحًا. أو لبَقينَا هناكَ إلى أنْ يمُرَّ المطرُ، ويعُودَ الصّحْوُ إلى الدّنْيا. قدْ يتطلَّبُ ذلك صبْرًا منكِ، ولكنْ أعْرفُ أنَّكِ تتحمَّلينَ البقاءَ معي رغْمَ صعوبةِ العيْشِ هناكَ. ولكنْ ماذا عسانا نفعَلُ وظروفُ التنقل رديئة، ونحْنُ لا نملكُ وسيلة تليقُ بِكِ في تلكَ الرّبوعِ التي يصْعُبُ البقاءُ فيها دونَ امتلاكِ سيارةٍ. لوْ كنتِ هناك، لَمَا فكَّرْتُ في النّزولِ إلى المدينةِ أصْلاً في ذلك اليومِ المُمْطِرِ الحزينِ الذي تواصلَ فيه نزولُ المطرِ دونَ توقّفٍ منذُ أكثرَ منْ يوميْنِ وتراءَت الأشجانُ قادمةً من هنا وهناكَ تحلِّقُ في المطرِ بأجنحةٍ لا تتأثَّرُ بالمياهِ ولا تتوقّفُ في مكانٍ، كأنَّها جزْءٌ من المطرِ الذي لا ينتهي. أنتِ التي بإمكانِكِ أنْ تُسكِتِي ذلكَ الوجيبَ المندلعَ في داخلي والذي أنتِ سبَبُهُ. كنتُ أتشوَّفُ إلى رؤْيَتِكِ وأنا ما زلتُ لا أعْرِفُكِ. لكنَّ ملامحَ وجْهَك ساكنةٌ في وجداني. أراكِ الآنَ بقلْبي، وأرى تلكَ الأيّامَ التي أصبحتْ عزيزةً عليَّ كثيرًا، لأنّكِ كنتِ فيها دونَ أنْ تكوني موجُودةً في حياتي، فأرى ابْتسامَتَكِ تحيطُ بي وتؤنسُني وتنفخُ في روحي بهْجةً أحتاجُها لأظلَّ أراكِ في دُنيايَ، وتفاؤُلاً يُضاعفُ قدْرتي على مواجهةِ الصعوباتِ التي تَحُولُ دونَ أنْ تكوني حاضرةً في ذهني على الدّوامِ، وحركيّة تزيدني قوّةً وإصْرارًا على تملّي صورتِكِ الوضيئةِ في فِكْري.
أحيانا يخيَّلُ إليَّ، يا إيلافُ، أنّكِ منْشغلةٌ ببيْتِكِ وشؤونِكِ وعملِكِ، ولا تفكّرينَ فيَّ إلاّ عندما يكون لديْكِ وقْتٌ فارغٌ تريدين مَلْأهُ بالحديث معي عبْرَ الهاتفِ، أو عندما تريدينَ أنْ تتحدّثي معي في بعض الشؤون المهنية أو تحكي لي عن زميلة سُررْتِ بموقفٍ من مواقفها أو اسْتأْتِ منها. ساعتَها تسْودُّ الدّنيا في عيْنيَّ وأشعُرُ بخيبةٍ عارمةٍ تلْتفُّ حولي وتُغْلقُ الدّنيا أمامي وتجعلُني عاجزًا على مواصلة السّيْرِ والتّطلّعِ إليْكِ بعيْنيْن بريئتيْنِ حالمتينِ، وقلبٍ متوثّبٍ نحوكِ، ورغْبِةٍ تسبقني في الوصولِ إليكِ، مهما تناءتْ بكِ السّبُلُ، واعترضتْني عقباتٌ في الطريقِ إليكِ. أقول لنفْسي عندما تتسرّبُ إليها الأفكارُ القاتمةُ عنْكِ: "إيلافُ لا شأنَ لها بهذه الوساوسِ. هي من صُنْعِ خيالي، ويبْدو أنني أدمّرُ نفسي بنفْسي، وأتوهّمُ أشْياءَ لا وجودَ لها. إيلافُ مشغولةٌ الآن، مثلي أنا منذ سنواتٍ. عندما تتحرّرُ من مشاغلها التي تأخذُ الآنَ مُعظمَ اهتمامها، سوفَ تلتفتُ إليَّ تمامًا، وتهتمُّ بي اهتماما كلّيّا، ويُمسكُ كلانا بيَدَيْ الآخرِ، ونستقْبِلُ الدّنيا.
لكنني لسْتُ راضيًا بهذا الحلِّ الذي لو قرأتْهُ لرأتْ فيه الصّوابَ الذي أرادتْ منذُ بعْض السنواتِ أنْ تُقنعني به. لكنني في كلّ مرّةٍ، أتخاصم معها، وأغْضبُ، وأختفي مدّةً، ثمّ أعودُ، لأنني في الحقيقة، غيْرُ قادرٍ على الابتعادِ عنها كلّيّا، ونسيانها نهائيّا. لا أسْتطيعُ أنْ أتخيّلَها تغيبُ عنِ فكْري وعنْ خيالي ووجداني. لستُ قادرًا على تصوّرِها غيْرَ موجودةٍ. حياتي لا تستقيمُ وهي ليْستْ مقيمةً في ذهني. صورتُها تلازمني وبدونها لا أستطيعُ أنْ أعيشَ. وجهها متنفَّسي حتّى عندما لا أشاهدُها فعْليًّا. معْرِفةُ أنها موجودةٌ في الدُّنيا يكفيني عندما تكونُ المُلاقاةُ صعْبةً. وعندما نكونُ في خصامٍ، كما هو الشأنُ الآنَ، تزدادُ صورتُها توغّلاً في نفْسي، ويكبُرُ شوْقي لها، وأشعُرُ أنَّ الظلامَ والبرْدَ تسرّبا إلى حياتي وأنّ المنزلَ بدونها خلاءٌ لا شيْءَ فيهِ وسيظلُّ الدفْءُ يهجرُهُ طالما هي بعيدةٌ. أشعُرُ أنَّ الأيامَ تنتَزَعُ منّا، وأنّ الوقتَ يجْري بسرْعةٍ، وأنَّ السنواتِ تتسلّلُ بينَ أيْدينا، ونحنُ ننظرُ، ولا نفْعلُ شيْئًا. وأودُّ أنْ آخذَكِ وأعْلنَ للدّنيا أنّنا سنبْقى معًا ولنْ نفترقَ مهما كانَ السببُ. لكنَّ رأيكِ مختلفٌ ولديكِ رغْبَةٌ لا أفْهمُها لتظلَّ الأمورُ على حالها، إلى حينِ تزول كلُّ الأسبابِ التي تمْنعُكِ الآن من الانطلاقِ نحوَ الغدِ الذي أريدُهُ لنا. تعِبْتُ يا إيلافَ منْ نهارٍ طويلٍ لا تَكونينَ معي فيهِ، ورجوعٍ إلى منزلٍ باردٍ لستِ بهِ، وساعات طويلة أمام تلفازٍ يتكلّمُ دونَ تعليقٍ كالأبْلهِ، وأكلٍ لا طعْمَ لهُ ولا رائحةَ أعدُّهُ لنفسي، وحاسوبٍ أخْرسَ محرومٍ من رغبتك في الاستيلاءِ عليه لاستعماله لأغراض شخصية، وليلٍ طويلٍ يُشقيني دونَ أنفاسِكِ. تعِبْتُ لأنّكِ مصمِّمةٌ على أفْكارٍ تعْرفينَ أنها تُشقيني، وأنني منذ بعْضِ السنواتِ لمْ أعدْ مقتنعًا بوجاهتِها. أعْطيْتُكِ الحلول التي تصوَّرْتُ أنّها تُرْضيكِ، وطلبتُ أنْ نجعلَ حياتَنا واحدةً، وأنْ نكونَ معًا في مواجهةِ السنواتِ التي تمرُّ وتأْخذُ الكثيرَ من الأحلامِ والصّورِ الجميلة. رَجوْتُكِ أنْ تدْخُلي حياتي بكلِّ ما تحملينَ.
لم نتقابلْ منذ قرابة شهْرَيْن. يُخيَّلُ إليَّ أحْيانا أنّني، أنا أيضا، أسْتطيعُ أن أُغْلِقَ الجسورَ التي ترْبطُ بيْننا، ما دامت علاقتُنا تعيش وتنبض بفضل تلك الجسور المادية التي دخلتْ حياتنا وأصبحنا ننظّمُ بها أوقاتِنا وأعْمالَنا واتّصالاتِنا وتفاعُلاتِنا الفكريةَ والعاطفيّةَ. كرهتُ الاتصال عبرَ الهاتفِ أو الفايسبوك. أريد اتصالا حقيقيا ودائمًا. السنوات تجري وتأخذُنا ونحن ننظر، وننْتظر يوْمًا تنتهي فيه مشاغلنا لننْعَمَ بأنْفُسنا. أتساءلُ: لماذا أقفُ هنا أنتظرُها، وهي تنْتظرُ شيْئًا آخرَ تقولُ أنّهُ لنْ يطولَ مجيئُهُ أكثرَ ممّا طال؟ تقولُ إنّ لديها واجباتٍ عليها أنْ تُؤدّيها. أقول لها بأنّ الواجباتِ موجودة دائمًا، والأفْضلُ تأدِيَتُها ونحن مجتمعان ليخِفَّ العبْءُ عليْها. صرّحْتُ لها بأنني أقْبَلُ كلَّ الحلولِ التي تراها كفيلةً بأنْ تجْمعنا. المهمّ أنْ تضعَ حدًّا لتردُّدِهَا وتأْتي فأنا مُشْتاقٌ إلى أنْ أراها تجيءُ ليرْحَلَ الشّتاءُ من المدينةِ وتعودَ الحمائمُ البيضاءُ والزرقاءُ تطيرُ وتحطُّ في الساحاتِ وعلى كتفي، وأنا أُمسِكُ الرّبيعَ وأتجوّلُ بجانبِها في الفضاءاتِ التي ألِفَتْهَا، ثمّ أنقُلُها في سيّارتنا إلى منزلنا الذي بحلولها يسْري فيه دفْءُ وجودِهَا، ويزدانُ بألوانِ البهجةِ باستقْبالها، ويتحوّل الصّمتُ المتواصلُ فيه إلى حديثٍ وحواراتٍ، ويثورُ التلفازُ فيه على صفةِ الأبْلهِ التي ارتبطتْ بالكلام المتواصل دون اهتمام أحدٍ، وأتنازعُ معها على استعمال الحاسوبِ الذي تقول إنها تستعمله لإنجازِ وثائقَ تابعةٍ لعملِها، وأراها تستعْملُهُ لفتْحِ صفْحتي ثمَّ صفحتِها على فايسبوك.
فكَّرْتُ مرارًا أنْ أتْرُكَكِ تعيشينَ حياتَكِ وأذْهبَ إلى حالِ سبيلي. فكَّرْتُ بجدّيةٍ في ذلكَ وحاولْتُ مَرّاتٍ أنْ أبْتعدَ عنْكِ، وعن وجْهِكِ، وعنْ لَفْتَتِكِ نحْوي، وعنْ أشْياءَ كثيرةٍ تشدُّني إليْكِ ولا أفْهمُها، وعنْ ابْتسامتِكِ عندما تكونينَ راضيةً عني، وعنْ شعْرِكِ النّاعمِ البُنّيِّ المتوسّطِ الطّول الذي تتركينه يرْسم معالم الفرحِ في وجهي عندما أراكِ قادمةً، لكنْ في كلِّ مرّةٍ أجدُني أتراجعُ بنفْسِ الطريقةِ. تمرُّ أيّامٌ بعْدَ كلِّ خصومةٍ، أتماسكُ نفْسي خلالَها، وأقولُ إنني لنْ أكلّمَكِ أبدًا. وحتّى عندما تكلّمينني أنتِ، سوفَ لنْ أجيبَ. لكنْ بِمرورِ الأيامِ، وتعاظُمِ الشَّوْقِ إليكِ، أجدُ قراري بدأَ يضْعُفُ. وأذْكُرُ بهْجتي وأنتِ معي، والألوانَ البهيجةَ في كلِّ مكانٍ، والزّمَنَ الجميلَ الذي يحلُّ محلَّ الزمنِ الرّديءِ، والابتسامة التي تذكّرني بزهور تلك الحقول البعيدة التي تنقّلْنا إليها ذات يومٍ ربيعيّ، وكانت السنة مطيرة، والربيعُ في عنفوانهِ. أنسى أنني متخاصمٌ معكِ وأنني اتخذْتُ قرارًا حاسمًا بعدمِ الرّجوعِ إليكِ، وأجدُني أتكلَّمُ معَكِ كأنَّ شيْئًا لم يكنْ. وأحيانًا، تبادرينني أنتِ بالمكالمةِ، فأنسى كلَّ شيْءٍ، ويتحوّلُ غيْظي الشديدُ إلى فرْحةٍ يبوحُ بها الكلامُ في الهاتفِ ولينٍ في المحتوى وكلماتِ شوْقٍ دافئةٍ تسافرُ في الاتّجاهيْنِ وتمنحُ كِلَيْنَا نشوةً وحبورًا.
هذه المرّةِ، هاجَ شوْقي إلى تلْكَ الأيامِ المطيرةِ التي كنتُ أنتظرُ فيها سيارةَ "باشي 404" في تلك الربوعِ البعيدةِ. وكان المطر لا يتوقفُ. تواصل هطولُهُ ثلاثة أو أربعة أيامٍ. كنتُ آنذاكَ لا أعْرفُكِ. لكنكِ كنتِ حاضرةً في ذهني. صحيحٌ أنني لم أكنْ أفكّرُ فيكِ بصفةٍ صريحةٍ، ولكنني متأكّدٌ أنّكِ كُنْتِ موْجودةً في تفكيري ومشاعري. وكنتِ أنتِ التي تعْزفُ الموسيقى الهادئةَ التي حملتني إلى عوالمَ يسْكُنها الضبابُ وتتيهُ فيها القلوبُ المشتاقَةُ إلى التّرحالِ عبرَ المطرِ الذي لا يتوقّفُ. كنتِ سحْرا قادما من خلْفِ الأمطارِ، وروائحَ بهجةٍ لا أعْرفُها تنتشرُ في الفضاءِ الذي يحْتفلُ بالمطرِ، وغناءً خافِتًا ودونَ موسيقى يُلهمني نشوةً بِلا حدودَ، وألْوانًا متناسقةً وذائبةً في الماءِ الذي تتنفّسُهُ الدّنيا.
تغيّرت الدنيا كثيرًا يا إيلافُ، ولمْ تعد أيّامُ السبْتِ، في الحياةِ التي أعيشُها حاليّا بالعاصمة في أغْلبِ الأوقاتِ، تشبهُ ذلك اليوم. أينَ ذلكَ الفضاءُ الفسيحُ الذي نستطيعُ أنْ نتنفَّسَ فيه جيّدًا ونتنقَّلَ فيه بارْتياحٍ كبيرٍ، ونتجوّلَ فيهِ كما نشاءُ، ونتحدّثَ ونحْنُ متأكّدينَ أنْ لا أحدَ يسْمعُنا؟ أيْنَ تلْكَ الأحلامُ التي كانتْ تسْكُنُني وتجْعَلُني أطيرُ بلا جناحيْنِ لأظلَّ أحلّقُ في السّماوات أبْحثُ عنْ شيْءٍ لا أعْرفُهُ، لكنّهُ موجودٌ، وأنا متأكّدٌ. قدْ تكونينَ أنتِ، إيلافُ، بهجتي قبلَ الأوانِ. كثرتْ السياراتُ وتنوّعتْ وأصبحتْ تملأُ كلَّ الطرقاتِ. كرهتُ السياقةَ لأنني منذُ أنْ أغادرَ الإقامةَ، أبْدأُ في مواجهةِ اكتظاظ جميعِ الأنهُجِ والشوارعِ. وأظلُّ خائفًا أنْ أمسَّ سيارةً أو مترجِّلاً، فتنقلبَ رغْبتي في الخروجِ من المنزلِ لشرْبِ قهوةٍ أو تناوُلِ غداءٍ أو مقابلةِ صديقٍ حدّدْتُ معه موعدًا بالهاتفِ، إلى مأساةٍ وإجْراءاتٍ لا تنْتهي. ويزدادُ خوفي في المفترقاتِ الكبيرةِ والممرات الدائرية التي تجتمعُ فيها عدّة طرُقاتٍ. وكثيرًا ما أغلقُ النوافذَ حتّى لا أسمعَ السّبابَ والكلامَ النابي الذي قدْ يتفوّهُ بهِ سائقٌ لمْ يتمالكْ نفسهُ أمام الضّوءِ الأحمرِ، أوْ أخذوا أولويتَهُ في المرورِ، أوْ تجاوزوهُ من اليمينِ، أو لأيِّ سببٍ آخرَ يجعَلُ بعْضَ السُّواقِ يخرجونَ عنْ طورهمْ.
يوم السبت صار يخيفني وأرغبُ أن لا أخْرُجَ فيهِ، وأنْ أظلَّ أحْلُمُ بذلكَ السبتِ البعيدِ في الزمانِ وفي المكانِ، وأنْ تظلّي أنتِ في فكري، أسْتطيعُ في كلِّ وقتٍ أنْ أفْتَحَ دفاترَ الماضي لأراكِ فيها، حتّى عندما تكونينَ غائبةً في السّجلِّ الذي أفْتحُهُ في ذهني. يُمْكِنُني أنْ أضيفَكِ. بلْ يجبُ أنْ أضيفكِ، لأنّ الذكريات التي لستِ فيها لا تسْتحقُّ أنْ تُخَزَّنَ في ذاكرتي لأعودَ إليها أحْيانًا. أشعرُ أنني أعْرفُكِ منْ زمنٍ بعيدٍ يمْتدُّ إلى ما قبلَ تعارُفنا الحقيقيِّ، وأنّكِ كنتِ حاضرةً في فكري في المناسباتِ التي أذكرُها. كان الزمنُ بساطا جميلا نراهُ يمتدّ أمامنا ويعْزفُ على جيتاره ألحانًا تفْتحُ لنا أبوابَ الدنيا وتأخذنا إلى الفضاءات التي تنتشرُ فيها روائحُ تلْكَ الأزهار، وتطيرُ وتحطُّ في سمائها الحمائمُ البيضاءُ والزرقاءُ.
وجْهُكِ المشرقُ الصّبيحُ المُبْتسمُ أراهُ ينظرُ في اتّجاهي ويُخيَّلُ إليَّ أنَّهُ يناديني بحنوٍّ. أشعُرُ أنَّهُ يُعاملُني كالطفْلِ، ولا يغْضبُ منّي حتّى عندما يشعرُ بالإساءة. هو يعْلَمُ أنني لا أريدُ أنْ أسيءَ له، ولكنَ المواقفَ التي قدْ تختلفُ، هي التي تُبْعِدُ ما بيْننا. كمْ أودُّ أنْ أحْضنَ ذلك الوجهَ الذي رافقني كثيرا وابْتَسمَ إليّ بحنوٍّ ووجدْتُ فيهِ هدوئي وراحة بالي. ذلك الوجهُ، أشعُرُ أنّهُ بعيدٌ، وأشعُرُ أنّهُ يرْبِطني بماضٍ تأتيني روائحُهُ العطرَةُ كلّما هاجَ شوْقي للقياهُ. أقولُ لنفْسي: لماذا أظلُّ محرومًا منهُ وأنا متأكّدٌ أنني ما زلتُ أرْغبُ فيه. وبدونه ستظلُّ حياتي فارغةً، ويظلُّ منزلي باردًا، وطعامي لا طعْمَ لهُ ولا رائحةَ، وتلفازي كالأبلهِ يتكلّمُ ولا أحدَ يهتمُّ بهِ. سأظلُّ وحيدًا لا أحدَ أتكلّمُ معهُ ولا أحدَ يبادلني الحديثَ. سأنْغلقُ على نفْسي، وأُغْلقُ بابي. ستقلُّ أسبابُ خروجي، وحتّى إذا توفَّرتْ، سأجعل الخروجَ نادرًا وسأكتفي ببضاعةٍ قليلةٍ أشريها منْ العطريّة القريبةِ. سأحُدُّ من استعمالَ السيارةِ وستقلُّ فرصُ الجلوسِ في مقاهي العاصمة. هذه حياةٌ خانقةٌ، لا هواءَ فيها، ولا رائحةَ قادمةً من تلك الحقولِ البعيدةِ، ولا ذكْرياتِ يوم سبتٍ ولّى ولكنّها جاءتْ تطوي الشهورَ والسنواتِ لتبْعثَ جذوةَ شوْقٍ أعْياهُ الانتظارُ. هذه الحياةُ لا تليقُ بمنْ إيلافُ في حياتهِ. وحتّى إذا انقطعَ التّواصُلُ لحينٍ، فهيَ تعْلَمُ أنَّ في الدّنيا منْ ينتظرُها ويعيش بصورتِها في ذهنهِ.
....................................
سأعود إليكِ يا إيلافُ لأنّ حياةً أنتِ لستِ فيها لا تسْتحقُّ أن تُعاشَ. جدرانُ منزلي بدونِكِ باردةٌ. والمنزلُ كلُّهُ صامتٌ، كأنّهُ حزينٌ على ذهابِكِ. أريدُ أن أعيدَ الحياةَ إلى منزلي والضّحكةَ التي تخرُجُ دونَ حساباتٍ إلى دُنْيايَ. مللْتُ هذه الحياةَ التي لا أراكِ فيها ولا أسمعُ صوْتَكِ وأنتِ تحدثينني عنْ مسْألةٍ عائليّةٍ أوْ عن العمل أو عن أمورٍ إداريةٍ أو تقترحينَ أمْرًا تريدينَ أنْ نفْعلَهُ معًا أوْ أنْ أُساعدَكِ على فعْلِهِ. أريدُ أنْ أسْمعَ صوتَكِ في كلِّ حالاتِكِ، حتّى عنْدما تعذّبينني بالأسْئلة من أجْلِ شكوكٍ تُراوِدُكِ حوْلَ علاقاتي معَ صديقاتِ الفايسبوك. وأحْيانًا لا تعْتبرينها مجرّدَ شكوكٍ، بلْ تجزمينَ أنَّها حقائقُ وأنّ إحدى صديقاتِكِ أعْلَمتْكِ بالحِكايَةِ دونَ أنْ تكونَ على معْرفَةٍ منَ أمْرِ علاقتِنا. انتهى التردُّدُ وسأَفْتحُ رقْمَيْكِ على هاتِفي الجوّالِ، وأفكّ الحظْرَ في فايسبوك على الحِسابيْنِ اللذيْنِ كنتِ تتصلينَ بي منهما عبْرَ ميسنجر. انْتهى زمنُ القطيعةِ يا إيلافُ وأنا الآن أشعُرُ أنني مدْفُوعٌ نحْوكِ بقوّةٍ لا توصفُ، لنغْنَمَ الأيامَ القادمةَ ولتعودَ الأفْراحُ إلى قلْبيْنا اللذيْنِ أتْعبَتْهما رحلةُ الحياةِ. فكَّرْتُ جيّدا وقلْتُ في نفْسي: يجبُ أنْ أكونَ سعيدًا لأنَّ إيلافَ في حياتي. في الحقيقةِ لا ينْقُصُني شيْءٌ إلاَّ وجودُها معي لأكونَ في غايةِ البهْجةِ. بدونِها أشْعُرُ أنّني لمْ أحقّقْ شيئًا وأنَّ السّنواتِ تسلّلتْ منّي دونَ جدْوى، وأنا أنْظرُ إليها ولا أسْتطيعُ فعْلَ أيِّ شيْءٍ، كأنني مخدَّرٌ أوْ عاجِزٌ. أريدُ أنْ أصيحَ لأعْلمَ الدّنيا أنّني في منتهى قُدُراتي لكنّ فكْري تسْكُنُهُ إيلافُ ولا أريدُ غيْرَها.
......................................
تردّدْتُ كثيرًا قبل أنْ أعيدَ فتْحَ الخطيْن الهاتفيّيْنِ اللّذيْن تستعْملُهما إيلافُ في الاتّصال بي. طلبْتُها على الرقم الذي تحصّلتْ فيهِ على تعْزيزِ تطلبُ به في أيِّ وقتٍ تريدُ ثلاثةَ أشخاصٍ مجانًا ودونَ احْتسابٍ للزمنٍ الذي تسْتغْرقُهُ المكالماتُ. كنتُ كتبْتُ على ذلك الرقْمِ اسمَها وحذفْتُ حرْفَهُ الأوّلَ لأتحصّلَ على شيْءٍ سمعْتُهُ في إحْدى حكاياتها التي كانتْ ترْويها لي أحْيانًا. لمْ أفْهمْ جيدًا ما سمعْتُهُ. لكنني ارْتبَكْتُ وتسرّبتْ إلى نفْسي خشْيَةٌ. بقيتُ فتْرةً أتساءَلُ: هلْ سَمعْتُ جيّدًا ما قيلَ لي عبْرَ الهاتفِ أمْ أنّني لمْ أسمعْ جيّدًا محْتوى الرّسالةِ؟ عليَّ أنْ أفْهمَ. هذا الكلامُ محيِّرٌ. لمعتْ في بالي صورةُ إيلافَ. بدتْ بعيدةً بعيده. ناديْتُها في صمتي: إيلافُ، إنّي أنتظرُكِ منذُ وقتٍ طويلٍ، فأيْنَ كنتِ؟ وأيْنَ أنتِ ذاهبَةٌ؟ لماذا طالَ صمْتُكِ وأنتِ تعْرفينَ أنني أنْتظِرُ مكالماتِكِ؟
تصوّرْتُ أنني هدأتُ قليلاً من الاضطرابِ الذي تملّكني، فأعدْتُ طلبَها على نفْسِ الرّقْمِ والرّعْشةُ ما زالتْ تلازمُني، والشّوقُ إلى سماعِ صوتها يُفقِدُني كلَّ حواسّي إلاّ السّمْعَ، ويجعلُ دقّاتِ قلبي مسموعةً ومتسارعةً، ويُنْسيني كلَّ العالم من حولي. ورغم الارتباك الذي يُنْقِصُ كثيرًا من قُدُراتي الذهنيّةِ والحركيّةِ، أتخيّلُها قادمةً من بعيدٍ، تملأُ الكوْنَ بهجةً، وتملأُ نفْسي حبورًا. أراها فأفْتتنُ بها منْ جديدٍ، كما رأيْتُها أوّلَ مرّةٍ، وبقيتْ صورتُها لا تُفارقُني. أناديها في داخلي، فلا تسمعُني. وتظلُّ نفْسُ الصّورةِ تُشقيني وأنا لا أرى ولا أسمعُ شيئًا خارج نفْسي الغارقةِ التي تريدُ الخلاصَ بسماعِ صوْتٍ أنيسٍ، أليفٍ، يُزيحُ عنها الضبابَ المتراكمَ من حوْلها ويدْخِلُ عليها نشوةً تشْتاقُ إليْها. يجيئُني نفْسُ الرّدّ الذي جاءني في المكالمةِ الأولى. أسْمعُهُ جيّدًا هذه المرّةَ وأفْهمُه. تكبُرُ حيْرتي ويشْتدُّ ارتباكي، وتزدادُ تساؤلاتي.
أطلبُ الرّقمَ الثاني الذي قليلاً ما تطلبُني عليه، لأنّ مكالماتِنا طويلةٌ، وهي لمْ تحْصُلْ فيه على تعْزيزٍ مثل الرقم الأوّلِ. عندي أملٌ أنْ أسْمَعَ صوْتَها وأنْ نتبادلَ كلماتٍ بقيتْ مُعطّلةً منذ مدّة طويلةٍ، ازدادَ إحْساسي بِطولها منذُ أنْ قرّرْتُ أنْ أعودَ إلى إيلافَ. تأكّدْتُ أنّ وجهَ إيلاف هو الذي يلْزمُني لأشعُرَ بالرّاحةِ التي تنْقُصُني. بدونها أشعُرُ أنني أبتعدُ في اتجاهٍ يكْسوهُ الضبابُ، وأنَّ الأشياءَ التي تزيّنُ هذا الكونَ تتوارى من حْولي الواحدَ تلْوَ الآخَرِ، وأنا بدوري أتوارى تدْريجيّا. وجهُ إيلافَ هو الذي سيمْنعُني من التمادي في ذلك الطريقِ الذي يكسوهُ الضبابُ وتوارى في مداهُ الأشياءُ. يجيءُ صوْتٌ لا يختلفُ كثيرًا عن الصوْتيْنِ الأوّلينِ. يتكدّسُ الضبابُ منْ حوْلي، وتتلاشى الأشياءُ تدريجيّا، ويغرقُ الكوْنُ في الضبابِ الكثيفِ.
أفريل – ماي 2021
فيفري – مارس 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا