الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من دروس المحنة التونسية

جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)

2023 / 3 / 8
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


شهدت تونس في الأيام الأخيرة تظاهرات متعاقبة، فبعد المحتجين على الكلام العنصري البذيء الذي تفوّه به الرئيس التونسي قيس سعيّد، محاولاً جعل السود كبش فداء للتعويض عن أفشاله التي لا تُحصى، سار المحتجون على نهجه الاقصائي سياسياً والنيوليبرالي اقتصادياً بدعوة من الاتحاد العام التونسي للشغل، ثم سار المحتجون على نهجه الانقلابي المتوجه نحو إعادة إنتاج حكم زين العابدين بن علي، لكن بصورة ينطبق عليها قول ماركس الشهير في أن التاريخ عندما يعيد نفسه، إنما تكون المرة الثانية مسخرة مقارنةً بالمرة الأولى المأساة.
والحقيقة أن بين متظاهري الأيام الأخيرة من استقبلوا الانقلاب السعيّدي في «25 جويلية» (يوليو/ تموز) 2021 بحفاوة وصفّقوا له، أو أبدوا على الأقل موقفاً إيجابياً إزاءه مثلما هي حال الاتحاد العام، ثم انتظروا سنة أو أكثر قبل أن يستفيقوا من كبوتهم ويفطنوا أن الرجل الذي ساهموا في إلباسه ثوب المخلّص البطل ليس في الحقيقة سوى فزّاعة من قشّ وثوب بالٍ، تقف وراءها قوى مسلّحة من صنف التي تستند إليها كافة الأنظمة الدكتاتورية، مدعومة من أنظمة عربية مماثلة الطراز. وكما تقول الحكمة الشعبية: «أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي أبداً» وهو قولٌ يستطيع كل من وقف ضد الانقلاب السعيّدي منذ اللحظة الأولى أن يقوله للملتحقين المتأخرين بقافلة القوى الاجتماعية والسياسية المناهضة للمشروع الدكتاتوري التونسي الجديد.
هذا ونودّ هنا التوقف عند درسين من بين الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من محنة تونس. الدرس الأول هو أن الانقلاب السعيّدي قضى نهائياً على الخرافات الاستشراقية (وهي لا تخلو من الازدراء تجاه سائر العرب، بالمناسبة) التي فسّرت حالة الديمقراطية التي سادت في تونس منذ خلع بن علي وحتى يوم «25 جويلية» المشؤوم، بأنها نتاج لميزة ثقافية تونسية فريدة يرمز إليها الياسمين. وهو تفسير «ثقافوي» يذكّرنا بمن كان يتغنّى بثقافة التسامح والتعايش اللبنانية قبل أن تدبّ ويلات الحرب الوحشية في ذلك البلد الشهيد.


فإن الحقيقة التي ما انفككنا نؤكد عليها هي أن ضمانة الديمقراطية الأساسية، في تونس كما في أي بلد آخر، هي في انتظام «المجتمع المدني» وقوته، بدءاً بالطبقة العاملة ممثلةً بالنقابات. فإن السبب في أن موجة «الربيع العربي» الثورية قد انطلقت من تونس، وأنها كانت أول بلد استطاعت حركته الشعبية خلع حاكمه المستبدّ، يعود بكل وضوح إلى وجود حركة عمالية قوية مستقلة عن النظام، تمثلت بقواعد الاتحاد العام التي لعبت الدور الأهم في تحقيق التغيير الثوري. وهي الحالة الفريدة حقاً في المنطقة العربية، وليست أي خاصيات ثقافية مزعومة، أي حالة وجود حركة نقابية حقيقية، وليست صورية خاضعة للنظام القائم، وقوية في آن واحد، ذات قاعدة عريضة ونضالية حقاً.
كما أن سرّ سيادة حالة ديمقراطية فعلية طيلة عشر سنوات في تونس لا يتعلق قط برائحة الياسمين أو ما شابهها من العلل الوهمية، إنما يعود إلى هذا الأمر بالذات، أي وجود مجتمع مدني مستقل وقوي. وبالعكس، فإن تمكّن قيس سعيّد من تنفيذ انقلابه إنما تقع مسؤوليته الرئيسية على قيادات المجتمع المدني، وعلى رأسها قيادة الاتحاد العام، التي ساورتها الأوهام حول الرئيس العتيد والتي صدّقت ادّعاءاته الشعبوية، بل وكان لها الدور الأكبر في إضفاء المصداقية عليها. ومن هذا المنظور، فلا شكّ في أن استفاقة قيادة الاتحاد العام تشكّل انعطافاً محموداً حتى ولو جاء متأخراً.
أما الدرس الثاني الذي نودّ التأكيد عليه هنا، فهو أن الديمقراطية الناجحة لا تتحقق بالإطاحة الانقلابية بالديمقراطية الفاشلة. فإن الإيمان بأن رجلاً أيا كان يستطيع من خلال انفراده الدكتاتوري بالسلطة أن يُصلح البلاد ويعيد وضعها على سكة الديمقراطية السليمة والعدالة الاجتماعية، بعد أن غرقت في مستنقع الديمقراطية المريضة والفساد المستشري، إنما هو مماثل للإيمان بأن الأمراض السياسية تُعالَج على طريقة ما ردّ به الشاعر أبو نواس على من نصحه بالفكّ عن الإدمان على الخمر: «داوني بالتي كانت هي الداء». فإن الديمقراطية لا تتحقق بالأساليب الاستبدادية من خلال توكيل الشعب خلاصه لفرد أياً كان، بل من خلال قيام الشعب بابتكار ديمقراطية أكثر عمقاً وفعالية، تسمح له بممارسة رقابة دائمة على الذين يتولون الحكم باسمه.
من هذا المنظور كان ينبغي على كل من استاء من فساد الديمقراطية التي قامت في تونس بعد خلع بن علي أن يناضل من أجل تغيير الدستور التونسي بحيث يؤمّن قدرة الناخبين في كل دائرة على خلع نائبهم أو نوابهم من خلال عريضة شعبية أو سواها من الأساليب الديمقراطية المألوفة، وتغيير الدستور بحيث تُلغى السمة الرئاسية القائمة على انتخاب فرد رئيساً للدولة بالاقتراع العام، وهي الوصفة التي تؤدّي دائماً إلى تعظيم السلطة الرئاسية، أي قمة هرم الدولة، بما يتناقض مع الديمقراطية الحقيقية التي تقوم على تخويل قاعدة الهرم. أخيراً وليس آخراً، كان على الذين استاؤوا من أداء أعضاء «مجلس نواب الشعب» التونسي أن يلجوا بأنفسهم الميدان الانتخابي من أجل دفع النضال في سبيل تعميق الديمقراطية والصهر على الدفاع عن مصالح الشعب العامل في مؤسسات الحكم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم المعارضة والانتقادات.. لأول مرة لندن ترحّل طالب لجوء إلى


.. مفاوضات اللحظات الأخيرة بين إسرائيل وحماس.. الضغوط تتزايد عل




.. استقبال لاجئي قطاع غزة في أميركا.. من هم المستفيدون؟


.. أميركا.. الجامعات تبدأ التفاوض مع المحتجين المؤيدين للفلسطين




.. هيرتسي هاليفي: قواتنا تجهز لهجوم في الجبهة الشمالية