الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أكلتُ الشّمس (قراءات في روايات صقليّة) (2)

أسماء غريب

2023 / 3 / 9
الادب والفن


(III)
روايات صقليّة إلى اللّغة العربيّة
*
تبقى الرّوايةُ الصقليّة النّتاجَ الأدبيّ الّذي حظيَ باهتمام فئة قليلة جدّاً من مثقّفي العرب الّذين سارعوا إلى ترجمة البعض من عناوينها ونماذجها والتي تظلُّ في كلّ الأحوال محدودة بالمقارنة مع ما ترجمه الإيطاليّون أنفسهم من عيون الأدب العربيّ إلى الإيطاليّة وبدون لغة وسيطة. أمّا عن الأسماء التي ترجمتِ الرّوايةَ الصقليّة فهي تعدّ على رؤوس الأصابع ولن أذكرَها كاملةً وإنّما سأتوقّفُ فقط عند من كانتْ لهُ الرّيادةُ في هذا المجال وهم قليلون جدّاً ومنهُم عيسى النّاعوريّ، وعماد البغدادي وحسين محمود .
صحيح أنّ رواية (الفهد) كانت أولى الرّوايات التي اطّلعتُ عليها بكلتا اللغتين الإيطالية والعربيّة، إلّا أنّني بعد ذلك وجدتُ بين يديّ رواية (تركيب التليفون) لأندريا كاميلّيري، وأحببتُ أن تكون الثّانية لأنّها تروي عن أحداث وقعت تقريباً في الفترة التي كان يتحدّث عنها الأمير جوزيبّه تومازي دي لا مبيدوزا في روايته، وقد أدهشني جدّاً كيف أنّ صقليّة التي يحكي عنها كاميلّيري لا تختلف كثيراً عن صقليّة الأمير تومازي. وإن كان كاميلّيري له أسلوبه المتميّز والخاصّ جدّاً في طريقة تعامله مع الأحداث والوقائع. وروايته (تركيب التّليفون) -إذا ما أردنا استخدامَ عُنوان المُتَرْجِمِ، وجدتُها ممتعةً للغاية، يكفي أنّها أعْطَتْنِي سعادةً فكريّةً افتقدتُها في الكثير من الرّوايات منذ سنواتٍ بعيدة، وكيف لا وقد استطاعتْ أحداثُها الشّيّقةُ أن تَشُدَّني إلى آخر صفحةٍ فيها! اقتنيتُها هذا العام (2021) بطبعة أنيقةٍ جديدة من إصدارات دار سلّيريو البَاليرْمِيّة. الغلاف أزرق داكن تزيّنُه لوحةٌ من لوحات الفنّان فينْشينْسو فلوريو. الطّبعة الأولى من الرّواية صدرتْ عن الدّار نفسها عام 1998. أمّا هذه النّسخة الجديدة التي بين يديّ ففيها كمُلحقٍ مقالة نقديّة للأديب الإيطاليّ رافّاييله لا كابْريا، والّتي سبقَ وأن نُشِرتْ على صفحات جريدة (الكورّييره ديلّا سيرا)، عدد 5 أيّار 1998.
قراءتي للرّواية كانتْ مزدوجة، أيْ أنّني قرأتُها باللّغتيْن الإيطاليّة والعربيّة. بِيَدٍ أمْسِكُ النّسخةَ العربيّة وبأخرى النّسخةَ الإيطاليّة. مُتَرْجِمُ الرّواية هو الدكتور والأكاديميّ عماد البغدادي. وجدتُ ترجمتَه رائعةً بكلّ المقاييس، لقد استطاع أن يتجاوزَ بنجاح مُذهل العديد من العقبات التي قد تَعْتَرِضُ أيّ مُتَرْجِمٍ مهما بلغتْ درجَةُ براعتِه وحِرَفِيّتِهِ، إلّا أنّ الأمرَ لا يخلو طبعاً من مُعَوّقاتٍ طرحَها أندريا كاميلّيري في روايته، وهي كفيلة بأنْ تَخْلُقَ بعض الالتباس والارتباكِ لدى القارئ الإيطاليّ نفسه فما بالكَ بالمتلقّي العربيّ! أوّل هذه العقبات أو المزالق الحَرجة والمُحْرِجة تتعلّقُ بعنوان الرّواية نفسها وقد وجدتُ في ترجمتهِ أثراً للّهجة العامّية المصريّة وربّما لأجل هذا جاء بصيغة (تركيب التّيلفون) بدلاً من (منح خطّ هاتفيّ)، العقبة الثّانية لها صلة بألقاب ورُتَبِ بعض موظّفي الدّولة السّاميّين والموجودة مُراسَلاتُهم في متن الرّواية، بحيثُ خَلقَ عندي نوعاً من الشكّ مثلاً لقبُ "مدير الأمن"، الّذي هو في الواقع الصقلّي (والي) أو (حاكم) أو (مُحافظ) المدينة، أيْ (Il prefetto)، وكذلك لقب (المأمور الملكيّ)، الّذي هو في الحقيقة (رئيس مديريّة الأمن العامّ)، أيْ وفقاً للمجتمع الصقليّ (Il questore) إلى غير ذلك من الألقاب الوظيفيّة التي تمّت ترجمتُها بطريقة مرتبكةٍ. ضِف إلى ذلك بعضُ الكلماتِ المُبْهَمَة التي تخلقُ نوعاً من التّشويشِ لدى القارئ، مثلاً حينما تمّتْ ترجمةُ كلمةُ (Smorfia)، والتي يُقصَدُ بها في معناها العامّ تكشيرة الوجه، أو تعبيراتِه عن الألم حيناً، والامتعاض أو التقزّز من شيء ما حينًا آخر. وقدْ فاتَ المُتَرجمَ أن يضعَ نقطة هامشيّة يقول فيها إنّ الرّوائيَّ لا يقصدُ حقيقةً تعبير الامتعاض أو التقزّز، وإنّما كان يرمي من وراء ذلك تأكيدَ أصول مُحافظ المدينة السيّد مارشانّو النابوليتانيّة، لأنّه يستخدمُ في طريقة تعبيره عمّا يُخالجه من أفكار قاموسَ الأرقام الّذي هو نفسه قاموس لا زمورفيا المشهور جدّاً بمدينة نابولي، وذلكَ لأنّ كلّ رقمٍ له كلمة مناسبة تشرحُه وتفسّره، وهذا أمر يؤكّده ما جاء في الصّفحة رقم (49) (النّسخة العربيّة) حينما قال القائدُ بارينيلّو: ((لا يا سيادة المأمور، إنّ حركة الامتعاض نقصد بها... يمكن أن نقول الخدعة، وأنا لكي أفهم هذا أستعين بكتاب صغير قيّم للفارس دي كريستاللينيس، مطبوع في نابولي منذ ما يقرب من عشرين عاما، حركة امتعاض بالضّبط)). وأمر واضح جدّاً أنّ الروائي يقصد بصاحبِ كتاب (لا زمورفيا) الفارس بيادجو دي كريستالّيني. كما يبدو على قدْر عالٍ من الأهمّية الوقوف عند كلمة (خُدعة)، والتي جاءت في النّسخة الإيطاليّة الأصليّة بمُصطلح (Cabala)، والكابالا لمْ يقصِد بها الكاتبُ الخدعةَ بأيّ شكل من الأشكال وإنّما الكابَلا الهرمسيّة، ممّا يعني أنّ عبارة (حركة امتعاض بالضّبط) في المقطع المُترجَم ليست في محلّها تماماً، وهذا يؤكّدهُ ماجاء في مقاطع النّسخة الإيطاليّة بالصّفحتيْن (71-72)، حينما قال مُحافظ المدينة السيّد فيتّوريو مارشانّو في رسالته الموجَّهَة إلى رئيس شرطة مونتيلوزا السيّد أريكو مونتيركي قائلاً له:
((وهي مؤامرة – ويصعب عليّ أن أقول هذا – ستتورّطون أنتم أيضاً فيها إذا صدّقتم وأيّدتم بسلطتكم التقرير الكاذب الّذي أعطِي لكم. 66-6-43!)). وهي الأرقام التي شرحَها بعد ذلك كورّادو بارينيلّلو قائلاً في الصّفحة 76 (النّسخة العربيّة): ((66 = مؤامرة. 6 = سرّيّة. 43 = اشتراكيّة). وإنّي لأتفهّمُ جيّداً مواقفَ الغموض هذه التي قد تعترضُ أيَّ مُتَرْجِمٍ يَجِدُ نفسَه أمام ثقافة لا يُتقنُ ميكانيزماتها الدّاخليّة من حيث الأعراف والتّقاليد وطريقة الكلام والعيش، ما لمْ يكُنْ هُو نفسه متعمّقاً في حيثيّات اللّغة التي ينطلقُ منها أثناء فعل التّرجمة، إذ أنه كثيراً ما يحدُثُ أنّ أبناء الدّولة الواحدة لا يفهمون لغات ولهجات بعضهم بعضًا، فما بالك بمَن وُلِد ونشَأَ بعيداً عنهم وينتمي إلى ثقافات ولغات دول أخرى غير إيطاليا!
هناك نقطة أخرى أثارت انتباهي في التّرجمة العربيّة لرواية كاميلّيري، وأعني بها الطّريقة التي تعامل بها المُترجِم مع الكلام النّابي والفاحش الّذي تنطقُ به العديد من شخصيّات العمل الروائيّ، إذ أنّه لجأ في كثيرٍ من الأحيان إلى تحوير الكلمات واستخدام أخرى أكثر لباقة وقُدرة على إيصال المعنى المقصود بطريقة أكثر هدوءًا وخلوّاً من معاني قد تُثير حساسيّة القارئ أو تخدشُه بشكل جارح، التصرّفُ نفسُه تمّ اللّجوء إليه بالنسبة لبعض المقاطع ذات الطّابع الجنسيّ. وهو الأمرُ الّذي يدفعني إلى طرح التساؤل التالي: ماهي الضّوابطُ التي تسمحُ للمُترجِم بالتصرّف في ترجمتِه حذفاً أو إضافة أو تغييراً من نصّ الانطلاق إلى نصّ الوصول؟ هلِ الأمرُ له علاقة بالأعراف والتقاليد والسّعي إلى عدم خدش الحياء العامّ؟ إذا كان الأمرُ كذلكَ ألا يكون في هذا تغييراً للرّسالة التي يريد الرّوائيّ أندريا إيصالها للعالم؟ أيْ كلّما انتشر الفساد الخُلقيّ والسّياسيّ وتفاقمتِ الأمراضُ النّفسيّة في مجتمع ما لجأ أفرادُه إلى استخدام الكلام النّابي في اللّغة اليوميّة بحيث يمكن أن تسمع الكلمات البذيئة في كلّ مكان بدءًا من البيت والأسرة، والشّارع، وصولاً حتّى إلى أماكن العمل؟!
هناكَ نقطة أخرى في الرّواية قد تطرحُ إشكالاً كبيراً عند ترجمتِها، وهي لجوء كاميلّيري للكتابة باللّهجة العامّية الصقليّة، لا سيما في الأجزاء الحِواريّة المتعلّقة بالشّخصيّات التي تدور في فلك العلاقاتِ الاجتماعيّة الخاصّة ببطل الرواية فيليبّو جينواردي. وهي اللّهجة التي تدفعني إلى طرح سؤال آخر: في هذه الحالة، هل يتعيّنُ على المُتَرجِمِ أن يلجأ هو أيضاً إلى استخدام اللّهجة العامّية العربيّة، وإذا كان الأمرُ كذلك، أيّة لهجة عامّية عليه أن يستخدم، ونحن نعلمُ أنّ الشّعوبَ العربيّة الموجّهَة إليها ترجمةُ هذا العمل تتكلّم بلهجات عامّية لا عدّ ولا حصرَ لها؟! لحلّ هذه المعضلة لجأ المُترجمُ إلى نقل معظم الرّوايّة إلى اللّغة العربيّة الفصحى، لكن يبقى أمراً مُحَيّراً كيف أنّه سقط في فخّ التّرجمة باللّهجَة العاميّة المصريّة حينما كان يجدُ أمامه مقطعًا جنسيّاً يروي عن العلاقة الحميميّة بين فيليبّو جينواردي وزوجته، أو بينه وبين عشيقته! أعلمُ أنّ كاميلّيري هو السّبب، فله أسلوبٌ خاصّ، يخلقُ فيه بعض الكلمات التي لا توجدُ إلّا في قاموسه الأدبيّ، إنّه يجدُ متعةً كبيرة في ذلك، حتّى اللّهجة العامّية الصقليّة يتفنّنُ في جعلها أكثر تشويقاً وإثارةً للضّحك، وعلى القارئ أن يكونَ بروح مَرِحَة ساخرة ناقدة مثل روح كاميلّيري لتتحقّقَ لهُ المُتعة الفكريّة المطلوبة. تخيّلوا أنه اختلقَ من وحي خياله حتّى أسماء الأماكن التي تدور فيها أحداث الرّواية، فعلى سبيل المثال مدينة "فيجاتا" لا توجد على الخريطة الإيطاليّة، ولكنّه أوجدَها هو نفسه وأصبحت مكاناً شهيراً خرج من حيّز الخيال وأخذ له مكاناً في الواقع الجغرافيّ لدرجة أنّ الجهات الإقليميّة المسؤولة في صقلّيّة قامتْ بإضافة اسم "فيجاتا" إلى اسم "المدينة" التي وُلِدَ فيها أندريا كاميلّيري وهي "بورتو إيمبيدوكلي" التّابعة لإقليم "أغريجينتو"، وأعني به الإقليم الّذي ظهر في الرّواية باسم مونتيلوزا، أقول هذا لأنّ كاميلّيري نفسه صرّح في أكثر من حوارٍ له أنّ فيجاتا هي نفسُها "المدينة" التي وُلد فيها، وهي تُجَسّدُ بأحداثها ومِحَنها وآلامها الجزيرةَ الصقليّة بأكملها، بل كلّ المدن الإيطاليّة وإن اختلفتِ السّمات والملامح، ولكن جوهر الآلام والأمراض الاجتماعيّة واحد.
تُرْجِمَتْ روايةُ (تركيب التّليفون)، إلى لغات عدّة، منها الإسبانية والإنجليزية والألمانية والبرتغاليّة وحتّى اليابانيّة! وقد جاءت فكرتُها من وثيقة وزاريّة كان قد وجدَها كاميلّيري في صيف 1955 ضمنَ أوراقه القديمة، وفيه طلبُ منح خطٍّ هاتفيّ للاستخدام الخاصّ مع شرح مطوّل ومُملّ للوثائق والخطوات البيروقراطيّة الواجب اتباعها من أجل الحصول على هذا الخطّ.
وممّا قد يلاحظُه المتلقّي بشأن طريقة تركيب الأحداث ورسم الشّخصيّات عند أندريا هو تعلّقه الكبير بشكل تكراريّ ومستمرّ بنماذج إنسانيّة مرتبطة برجال الدّرك وحكّام المدن ووُلاتها، ورجال الأمن العامّ بمختلف درجاتهم ورُتَبِهِم، وهو التعلّق الّذي يجدُ تفسيره في المقدّمة التي استهلّ بها روايتَه والتي اقتبسها من رواية (الشّيوخ والشّباب) للأديب الصقلّيّ لويدجي بيرانديلّو وقد جاء فيها ما يلي: ((يا لهذا الخراب الّذي حلّ بصقلّيّة بسبب كلّ تلك الأوهام واليقين الأعمى الّذي أشعلَ الثّورة فوق أراضيها! يا لها من جزيرة تعيسة، يتعاملُ معها الآخرون على أنّها أرض غزو واحتلال! يا لأبنائها الأشقياء، يُعامَلون كهمج أو متوحّشين وجبَ الرقيّ بهم إلى مدارج الحضارة! حتّى أهل الأراضي اليابسة الأوربيّة وكذا الإيطاليّة هبطوا لتعليمِهم التحضّر: لقد قدمتْ إليها فرق الجنود الجديدة، ذلك الطّابور الشّائن بقيادة مُرتدٍّ هو الكولونيل المَجَريّ إبرهارت، الّذي أتى أوّل مرّة إلى صقليّة مع غاريبالدي، وبعد ذلك بين جنوده القنّاصين في أسبرومونتي، وذلك الملازمُ الصّغير الآخر السّافوياردي دوبوي، مُؤَجّج الفِتَن؛ هبطتْ كلّ نفايات البيروقراطيّة، وتفجّرتْ النّزاعات والمبارزات الثنائيّة، والمشاهد الدّمويّة المُتوحّشة، مع حضور رجال محافظة ميديشي، والمحاكم العسكريّة، والسّرقات والاغتيالات وعمليات السّطو المسلّح التي تحيكها وتنفّذها الشّرطة الجديدة باسم الحكومة الملكيّة، وعمليات تزوير واختلاس الوثائق والمحاكمات السّياسية الشّائنة... كلّ الحكومة من اليمين البرلماني! وبعد ذلك جاءَ اليسار إلى السّلطة وبدأ هو الآخر في الإجراءات الاستثنائيّة لصقلّية، عمليات سطو واستيلاء، وغشّ وتواطؤ وخدمات فاضحة وتبديد واضح للمال العامّ، ومدراء أمن ومندوبون وقضاة لخدمة النوّاب الوزاريّين، وزبائن لا حياء لهم وعمليات تزوير انتخابيّة، وتبذير ومصروفات جنونيّة، والتصرّفات المهينة لرجال البلاط، وقمع الكادحين المظلومين والعمّال، بمساعدة وحماية القانون، مع ضمان عدم العقاب للظّالمين المستبدّين)). (أشير هنا إلى أنّني قد أدخلتُ بعض التّصويبات على التّرجمة التي قام بها البغداديّ في الأماكن التي رأيتُ أنها تستحقُّ التدخّل والتّصحيح، وقد أشرتُ إليها بالخطّ الأسود العريض).
بهذه الكلمات يحاولُ كاميلّيري -وهو من أقرباء لويدجي بيرانديلّو: فقد كان هذا الأخير ابن خالة جدّته (من جهة الأب) السيّدة كارولينا - أن يؤكّدَ كيف أنّ كثيراً من الأمور لم تتغيّر في صقلّية بعد، وكيف أنّها مازالت لليوم أرض عبور للمارقين والمستبدّين، يستغلّونها أبشع استغلال، وينهبون خيراتها ثمّ يمضون، ثمّ أليس هذا ما قاله أيضًا الأمير جوزيبّه تومازي دي لا مبيدوزا في رواية (الفهد)، لا سيما في المقطع الّذي يصفُ فيه الفوضى الّتي حلّت بمقدم غاريبالدي ومعه الكولونيل إبرهارت، فقد وقع عمل صاعق من أعمال القرصنة في 11 أيّار بنزول رجال مسلّحين على ساحل مارسالة، وقد أوضحت التقارير فيما بعد أن عدد هذه العصابة التي نزلت على الشاطئ ثمانمائة رجل ماكادوا يصلون الأرض حتى راحوا يتجنّبون بكل جهدهم الاصطدام بالقوات الملكيّة، متوجّهين بمن يسقط منهم من الجرحى إلى كاستلفيترانو وهُم يتوعّدون المدنيّين المسالمين، ولا يعفّون عن النهب والتّخريب، هكذا كان يقول الأمير تومازي وقد جعل بطل الرّواية ينزعج من اسم غاريبالدي وينعته بذلك المغامر الّذي كلّه شعر ولحية، وقد دبّر الويلات للجميع (ص 66 من ترجمة عيسى النّاعوري).
*
(في الصورة: لويدجي بيرانديلّو طفلاً مع والدته وأختيْه)
*
(تركيب التّليفون) تروي عن فيليبّو جينواردي، شابّ صقلّي وُلد في فيجاتا 03 أيلول 1856، وهو وإن كان تاجر أخشاب فمهمّته في الحقيقة ليست بيع الخشب بقدر ما هي البحث عن المصائب، ومصائبُه كلّها بدأت حينما بعثَ ثلاث رسائل إلى محافظ المدينة طالباً منه منحه خطّاً هاتفياً للاستخدام الشخصيّ، وعند كتابة الاسم الكامل للمحافظ فيتّوريو ماراشانّو، يُخطئُ خطأ بسيطاً وبدل ماراشانّو يكتب باراشانّو، وهي كلمة تعني في اللّهجة النابوليتانيّة العضو الذّكريّ الكبير الحجم. فيُجنُّ جنون محافظ المدينة، ويتصّل بموظّفي الشّرطة والدّرك الملكيّ، ويكتبُ لهم مراسلات سرّيّة يعبّر فيها عن استيائه من هذا المواطن قليل الأدب الّذي تجرّأ على التنقيص منه ومن كرامته وسبّه بلقب يراد منه التلميح إلى غبائه وطبيعته الاندفاعيّة في تقييم الأمور، فقامت الدّنيا ولم تقعد، وأصبح جينواردي فيليبّو محطَّ بحث وتحقيق وتقارير سريّة كشَفتْ عن هويّة أخرى له وهي كونه من الأعضاء المثيرين للشّغب والمهدّدين للأمن العام للدّولة، فتمّ سجنه ليُطلقَ سراحه في اليوم الآخر بتدخّل من المدير العامّ للأمن الوطنيّ الّذي عُرفَ بنزاهته ورصانة تفكيره لأنّه كان منذ البداية يسعى في الخير ويحاول بشتّى الطّرق أن يؤكّدَ للسيّد المحافظ أنّ الخطأ في الرّسائل الثلاث هو مطبعيّ ليس إلّا وغير مقصود بتاتاً، وأنّ الشّخص المتهَّم الحقيقيّ بالشّغب ليس فيليبّو جينواردي تاجر الخشب، وإنّما فرانشيسكو جينواردي وآخريْن معه. ومشكلة اختلاط الألقاب هذه يتعرّضُ لها الكثير من الصقلّيين بحكم طبيعة العلاقات الاجتماعيّة التي تتسّم بها الحياة اليوميّة في الجزيرة، وهو الأمر الّذي عبّرَ عنه أندريا كاميلّيري بشكل عميق قائلاً في هذا المقطع من (الأشياء المكتوبة اثنان) في خطاب أرسله مفوّض الأمن العامّ في فيجاتا السيّد أنطونيو سبينوزو إلى السيّد مأمور مونتيلوزا (صص 63-65): ((إنّ الغالبية العظمى من الصقلّيّين المسجّلين كما ينبغي لدى مكتب السجل المدنيّ باسم التّعميد واللّقب يسمّون في الحقيقة منذ الميلاد باِسم مختلف. شخصٌ يدعى فيليبو نوارا على سبيل المثال، سيناديه الجميع، بداية من والديه وأقاربه، باسم نيقولا نوارا. وهذا الاسم الاتفاقيّ بدوره سيتغيّر إلى اسم الشّهرة نوارا. وعند هذا الحدّ يبدأ في الظهور شخصان مختلفان، أحدهما فيليبو نوارا، سيكون له وجود فقط على الأوراق القانونيّة، والآخر كولا نوارا، ستكون له على العكس من ذلك حياة واقعيّة تمامًا. وسيكون اللّقب فقط هو المشترك بين الاثنين. ولكن سرعان ما سيزوّد كولا نوارا بما تسمّيه سيادتك لقبًا ونسمّيه نحن إهانة دون أيّة نيّة للإهانة. فإذا كانَ صاحبنا كولا نوارا، على سبيل المثال يعرج قليلاً، فسيسمّى حتما "كولا الأعرج"، أو "كولا تيك تاك"، أو "كولا البحر الأماميّ"، وهكذا بخيال جامح (أتدخّلُ هنا لأصوّب خطأ ترجميّاً آخر ثمّ أعود لأكمل المقطع مباشرة: لا أعتقد أن كاميلّيري يقصد هنا كلمة البحر الأماميّ بقدر ما أنه يريد أن يقول بأن كولا إذا كان يعرج فهو بهذا يشبه حتمًا مقدّمة السّفينة التي تتحرّك يميناً وشمالاً عندما يكون البحر هائجاً). وعند هذا الحدّ فإنّ حاجبًا غير عارف في محكمة مونتيلوزا سيجدُ صعوبة كبيرة في التوفيق بين "كولا الأعرج"، وفيليبّو نوارا الّذي يتعيّن أن يرسل إليه إعلاناً. وأعرف عشرات الأشخاص المحكوم عليهم غيابيّاً ولم يكونوا غائبين، فقد كان التعرّف عليهم صعباً أو حتّى مستحيلاً... والزّميل مفوّض الأمن العامّ أنطونيو كوتريرا الذي يتفاخر بيننا جميعاً بعمق عبقريّته والّذي أتشرّفُ بصداقته، توصّل ذات يوم، وهو يتحدّث معي، إلى تفسير لعادة منتشرة جدّاً في الجزيرة. استخدام اسم مختلف عن اسم السجل المدني، مع إضافة لقب (إهانة) معروف فقط داخل الدّائرة الضيّقة لأسوار البلدة، ويستجيب لاحتياجيْن متعارضيْن. الأوّل هو الاختفاء في حالة الخطر، فعند وجود اسم مزدوج أو ثلاثيّ، فهذا يساعد على تغيير الشّخص، وينشأ لبس يساعد من هو موضع البحث أيّاً كان. والاحتياج الثاني، على العكس من ذلك، هو أن يُعَرّف الشّخص بنفسه، عند الضرورة، بالضّبط لتجنّب تغيير الشّخص.)).
وقبل أن تتحقّق براءة فيليبّو جينواردي بشكل نهائيّ، يحاول هذا الأخير من أجل الحصول على الخطّ الهاتفيّ أن يتّصل بأحد رؤساء المافيا بفيجاتا "دُونْ لولّو"، والّذي طلب منه كمقابل لخدمته عنوانَ صديقه ساسا الّذي لم يسدّد له مبلغاً من المال كان قد خسره في لعب القمار. وهنا تبدأ مشاكل جديدة أكثر خطورة من تلك التي حدثت له مع مُحافظ المدينة ورجال الشّرطة، وذلك لأنه كان كلّما مَدَّ دون لولّو بعنوان جديد لصديقه ساسا لا فيرْليتا، كان هذا الأخير يُغيّر مكان سكنه، الأمرُ الّذي كان يثيرُ غضب رجل المافيا مقرّراً بذلك الانتقامَ الشّديد منه وذلك بأن حكَم عليه هو نفسه بالبحث عن العنوان الجديد والأخير لصديقه ثمّ الذّهاب إليه شخصيّاً وإطلاق الرّصاص على ساقه. والقارئ سيلاحظُ تمامًا كيف أن الأحداث تجري بطريقة تراجيديّة كوميديّة بحيث يجدُ بطل الرّواية نفسه بين المطرقة والسندان، أيْ بين رجال المافيا ورجال الدّولة وهي المُعضلة التّي عبّر عنها حَمُو فيليبّو جينواردي حينما قال: ((بالطّبع عندما أفكّر في صهري المسكين هذا المطحون بين الدّولة والمافيا!)) ويردّ عليه الوكيل قائلاً: ((جينواردي ليس وحده، إذا كان هذا يمكن أن يواسيك. فثلاثة أرباع الصّقليّين مطحونين في الوسط بين الدولة والمافيا)).
جينواردي المطحون بين الدولة والمافيا، يمثّل تلكَ الشّريحة من المواطنين العاطلين عن العمل، والفاشلين في حياتهم، تزوّجَ ابنة أحد أثرى أثرياء فيجاتا، وقد اعتقد أهل القرية بأنّه هكذا قد استقرّ عاطفيّاً، لكن هذا لم يمنع أن تكون له بعض المغامرات غير الشّرعيّة التي استمرّت إلى أن وقع في غرام زوجة حَمِيه الصغيرة السنّ والفاتنة الجمال، وهي العلاقة التي باح بها لصديقه ساسا، وهو السرّ الّذي استخدمه هذا الأخير ضدّه من أجل الانتقام منه لأنّه كان يسلّمُ عنوانَ إقامته في كلّ مرّة إلى رجل المافيا دونْ لولّو، فأرسل رسالة إلى دون نينيه والد زوجة جينواردي، يشرح له فيها كلّ تفاصيل الخيانة ويمدّه بمعلومات حسّاسة تؤكّدُ تورّطَ صهره في علاقته المشبوهة مع زوجتهِ الشابّة، ممّا أضرم نيران الغيرة في صدر هذا الأخير، فذهب مباشرة إلى المتجر ليجد فيه جينواردي وقد كان يتحدّث في الهاتف الّذي حصل عليه أخيراً مع معشوقته، هناك أطلقَ عليه النّار وأرداهُ قتيلاً ثمّ انتحر بالمسدّس نفسه، وقبل أن يدري أحد بالأمر جاء رجال الشّرطة المؤيّدين للمُحافظ المجنون مارشانّو ثمّ فجّروا المتجرَ بكلّ ما فيه، مُحوّلين بذلك القضيّة من جريمة شرف إلى جريمة سياسيّة وذلك حتّى يؤكّدوا للمواطنين بأن فيلييبّو جينواردي كان فعلاً من المشاغبين والثّوار الاشتراكيّين الخطرين على أمن الدّولة، وهكذا تنتهي أحداث الرّواية بترحيل وكيل الّشرطة النّزيه السيّد سبينوزو والقائد بارّينيلّو إلى سردينيا وكلّ من كان يؤيّد براءة جينواردي من التّهم المنسوبة إليه ظُلماً، أمّا رجال الشّرطة الفاسدين والمهووسين والمرضى بجنون العظمة فتمّت ترقيّتهم وتكريمهم جميعاً.
*
(في الصّورة : أندريا كاميلّيري)
*
في روايته هذه لم يكن كاميلّيري يهدف فقط إلى تحديد بُؤر الفساد الّذي كان مستشرياً في المؤسّسات الحكوميّة لصقلّية القرن التّاسع عشر، ولكن حتّى المؤسّسات الدّينيّة ومن يمثّلها من رجال ورهبان وقساوسة كما هو حال القسّ دون بيرّوتّا الّذي لا يتورّع عن سؤال تانينيه زوجة بطل الرّواية فيليبّو جينواردي حتّى عن علاقتها الحميميّة مع زوجها قائلاً لها (صص 139-142):
((- هل يقول لك زوجكِ ألّا تأتي إلى الكنيسة؟
- لا سيادتك، لا يقول لي شيئاً. ولكن ذات مرّة بينما كنت خارجة من المنزل للمجيء إلى الكنيسة، بدأ يضحك عليّ وقال لي: "تعالي هنا وأنا أعطيك الأسرار المقدّسة التي تنفعكِ". وحملني إلى غرفة النّوم. وهكذا صرف الفكرة عنّي.
- كافر زنديق! إن زوجكِ سيذهب ليحترق في نار الجحيم بكلّ ملابسه! لهم حق أن يقولوا في البلدة ما يقولونه عن زوجك بيبو!
- وماذا يقولون عن بيبو في البلدة أيّها الأب بيرّوتّا؟
- يقولون إنّه متحالف مع الاشتراكيّين! مع أسوأ الملحدين!
- سيادة القسّ، لا تصدّق هذه الألسنة الشريرة!
- اتفقنا. ولكن إذا كنت تحكين لي الأشياء التي تحكينها لي الآن...!
- لقد كان يمزح، أيّها الأب بيرّوتّا.
- وهل تؤدّيان واجب الزّواج؟
- لا أدري...لا أعرف...ما معنى هذا؟
- هل تفعلان ما يفعله الزّوج والزوجة؟
- لا تقصير في ذلك.
- وهل تفعلان هذا كثيراً؟
- ثلاث ...أربع مرّات.
- في الأسبوع؟
- هل تمزح؟ في اليوم يا سيادة القسّ.
- إنه هائج، يركبه الشّيطان. مسكينة يا تانينيه!
- مسكينة لماذا؟ إنّ هذا يعجبني.
- ماذا تقولين؟!
- إنّ هذا يعجبني.
- تانينيه، هل تريدين اللّعب بأرواحنا؟ لا يجب أن يعجبك هذا!
- ولكن إذا كان هذا يعجبني ماذا أفعل في ذلك؟
- يجب أن تتصرّفي بحيث لا يعجبُكِ! الشّعور باللّذة ليس من شأن الأنثى الأمينة (المؤمنة الشّريفة / تدخّل تصويبي من النّاقدة)! يجب أن تمارسي مع زوجك فقط بنيّة إنجاب الأبناء. ))
يبدو أنّ هذا الموقف الانتقادي من سلطة الكنيسة فيه شيء من الصّدق والحقيقة، فقد رأيته يتكرّر لدى أكثر من روائيّ صقلّيّ، حتّى الأمير تومازي دي لامبيدوزا أشار إلى ذلك في رواية (الفهد)، وهو يصفُ الكاهن اليسوعي الّذي يعيش في قصر دون فابريتسيو ومدى تدخّله في حياة هذا الأخير لدرجة أنّه كان يطلب منه الاعتراف بكلّ أفعاله حتّى تلك المتعلّقة بعلاقاته العابرة خارج مؤسّسة الزّواج، وهو ما جعله يقول في إحدى تأمّلاته النّاقدة والمحلّلة لحياته العاطفيّة التّعيسة: (( أنا ماأزال رجلاً شديد القوّة، فكيف أقنع بمضاجعة امرأة لا تفتأ ترسمُ إشارة الصّليب قبل كلّ عناق، وفي لحظات النّشوة الكبرى لا تعرف أن تقول غير: يا يسوع ويا مريم! حينما تزوّجنا وكان عمرها ستّ عشر سنة كان ذلك كلّه يسمو بروحي، أمّا الآن لقد أنجبت لي سبعة أبناء...سبعة ومع ذلك لم أستطع حتّى اليوم أن أرى سرّتها، فهل هذا من الحقّ في شيء؟)) (ص 42 من ترجمة عيسى النّاعوري).
تركيب خطّ هاتفيّ في صقلّية في أواخر القرن التاسع عشر ليس بالمهمّة السهلة، يتطلب وثائق وإجراءات وشهادات وأيضاً الكثير من الرّشاوى، وفيليبّو جينواردي يستخدم كافّة الأساليب والحيل والمناورات للوصول إلى هدفه المنشود، فهو يحبّ كلّ ماهو جديد في عالم التكنولوجيا، ولا أدلّ على ذلك من سيّارته آخر موديل التي لا يملكها أحد في الجزيرة كلّها، فهي جميلة جدّاً وباهظة الثّمن بشكل خياليّ لا يصدّقه ولا يطيقه أحد. تتشابكُ الأحداث وتتداخل الحقائق بالشّائعات ويتحوّل طلب الخطّ الهاتفيّ إلى مشكلة أمنيّة، وأخيراً وبعد كلّ الصّعوبات المستحيلة يتكلّمُ فيليبّو مكالمة هاتفيّة واحدة فقط، يخرُّ بعدها مقتولاً برصاصة يُطلقُها حموه الّذي هو في الوقت نفسه زوج عشيقته التي من أجل التّواصل معها يوميّاً كان يريد هذا الخطّ الهاتفيّ.
رواية (تركيب التّليفون) لا تتّبع الأصول التقليديّة في البناء السّرديّ للأحداث، وإنّما تلجأ إلى تقنية تناوب شكليْن جديديْن من الكتابة أطلق عليها كاميلّيري (الأشياء المكتوبة)، و(الأشياء المنطوقة) حسب ترجمة البغداديّ، وهي في الحقيقة الأشياء التي قيلت / أو الأشياء المَقولة لأنّ الكاتب استعمل فعل قال (--dir--e / le cose dette) ولم يستخدم فعل نطق ((Pronunciare / le cose pronunciate)، الأولى المكتوبة هي الرّسائل والأوراق الرّسميّة والسّريّة التي كان يتبادلُها موظّفو الدّولة والأمن والتيليغراف والبريد بشأن المدعو فيليبّو جينواردي، والثّانية المقولة ترتبط بالحوارات التي كانت تجري بين مختلف شخصيّات الرّواية.
بين الأشياء المكتوبة، والأشياء المقولة كلّ شيء يجري بشكل فكاهيّ فيه الكثير من السّخريّة السّوداء التي يرمي من ورائها كاميلّيري القول إنّ لا شيء تغيّر في صقليّة، فهي كما كانت منذ قرنيْن مضيَا مازالت لليوم تعاني من الفساد والمشاكل ذاتها وإن تغيّرت الأشكال والقوالب ولكنّ الجوهر هو نفسه، وهو الأمر الّذي حفّز التليفزيون الجمهوريّ الإيطاليّ "لا راي" على تحويل الرّواية إلى فيلم يضاف إلى سلسلة أفلام المحقّق مونتالبانو التي أشرف على إعدادها كاميلّيري قبل أن يغادر هذا العالم في شهر تموز 2019.
شخصيّاً لم يشدّني الفيلم كثيراً، وجدتُ طريقة الأداء لدى الممثّلين باردة جدّاً، لا حياة فيها، تلك الحياة والحرارة اللّتان تنبعثان من شخصيّات الرّواية، بل حتّى طريقتهم في الكلام، تفاعلهم، حيَلهم، ألاعيبهم، ركضُ بعضهم خلف بعض، تسارع الأحداث المنبعث من ثلاث رسائل فقط، كلّ هذا لم يستطع الفيلم التلفزيونيّ إيصاله بشكل ناجح، وفي كثير من الأحيان كان يبدو الأداء وكأنه مجرّد استظهار لنصّ السّيناريو، ضف إلى هذا الموسيقى التصويريّة كانت فاشلة بامتياز، أزعجتني بشكل لا يطاق، إذْ كانت الأحداث تبدو في واد والموسيقى في واد آخر، ولم يُخرجني من هذا الإحساس بالملل وفشل الفيلم الذّريع سوى بعض الأماكن التي كانت تظهر لمدينة باليرمو ومنها ساحة بريتوريا الأثيرة عندي والتي القطتُّ بها في زمن مضى الكثير من الصّور.
*
(في الصورة: أسماء غريب في ساحة بريتوريا)

(في الصّورة: الممثّل أليسّيو فاسّالّو في دور جينواردي فيليبّو
ومعه الممثّل فابريتسيو بينتيفوليو في دور دون لولّو.)
*


منذ غوته وموباسون وشكسبير، بل منذ هوميروس وفيرجيليو كانت صقليّة تظهر في الكتابات الأدبيّة الشّاهقة بألف تجلٍّ وتجلٍّ، وألف صورة وصورة، إنّها الأرضُ المتنوّعة، المختلفة، العصيّة على التّعريف، أرضُ التّناقضات سواء تعلّق الأمر بمشهدها الطّبيعيّ والبيئيّ، أو بإرثها التّاريخيّ الجامعِ بين ماهو خرائبيّ، وبين ماهو ضاجٌّ بالحياة، وهكذا كان يراها أيضاً الأمير تومازي في روايته (الفهد) وقد تغنّى بهذه التّناقضات، ووصف الجمال الكامن فيها والقُبحَ والموتَ والحياة، لذا تظلّ صقلّية بالنّسبة له بمثابة مرآة تتجلّى فيها العديد من الاستمراريات التّاريخيّة الّتي تناولها بالتّحليل كلّ من فيرغا ودي روبيرتو، ودي برانكاتي، وأيضاً لوشو بيكولو وبارتولو كتافّي، وجوزيبّه بونافيره. إنّها صقليّة التي تحتفل بحزنها وشقائها، وبأزماتها الرّوحيّة والمادّية، إنّها عالم من الحيوات المنفية والآمال الميتة والهزائم والحسرات الدّفينة التي ظهرت في رواية الأمير تومازي كنوع من الحلم المعلّق بين الماضي والحاضر، وهو في هذا أراه يُشبه شيئًا ما ليوناردو شاشا، فهو الآخر كان يحبّ صقليّة حبّاً تشوبه بعض المرارة والمعاناة، والحنق أحياناً والاستياء ممّا فيها من شيخوخة وتحجّر، بل من قدرتها السّريعة - كما صرّح بذلك لأكثر من مرّة – على تحويل ماهو جديد إلى شيء ميت تمامًا، إلّا أنّه على الرّغم من ذلك كان يعلمُ في قرارة نفسه أنّه كان عليه دائماً أن يُعيد النّظر في حساباته وذلك بأن قرّر ألّا يغادرها أبداً، وقراره هذا هو في نهاية الأمر تصريح عميق بمدى حبّه لصقليّة.
ربّما يكون الأمير تومازي قد بالغ في وصف هذه الخرائبيّات ومشاهد الموت والسّكون والملل في روايته (الفهد) ممّا جعل إيليو فيتّوريني يتّخذ منها موقفاً نقديًا قاسيًا حكم به عليها بعدم قبول نشرها لدى موندادوري، وهو الموقف الّذي يقتضي منّا الوقوف عنده بنوع من التروّ والتّأمّل، فالرواية كما وصلت إلى إيليو كانت في الواقع عبارة عن مخطوطة مؤلّفة من أربع قصص لم تكُ صياغتها قد اكتملت بعدُ بشكل نهائيّ. وهي على حالتها تلك عُرضت على هيئة القراءة والنّقد لدى دار موندادوري فقرأها بدايةً كلّ من سيرجو أنطونييلّي، وآنجلو رومانو، فسجّلا بعض الملاحظات المتعلّقة بطريقة تنظيم الأحداث وحبك الوقائع ثمّ انضمّ إليهما بعد ذلك إيليو فيتّوريني فأعاد صياغة حكمهما النّقدي الّذي كان فيه إشارة إلى ما كان ينقص الرّواية سواء من حيثُ عدم التمكّن من بعض المهارات السّرديّة أو عدم حضور نوع من الصّرامة والهمّة العالية في إدارة دفّة الأحداث. وهكذا أصبحت الآراء لثلاث كينونات فكريّة ناقدة ترى أنّ العمل به خلل ما، وإن كانت له قيمته المعنويّة والتاريخية، لذا كان الاقتراح هو أن يعيد الكاتب النّظر في الرّواية ثم يرسلها من جديد إليهم.
بعد هذا الرّفض جاء أيضاً رفض كلّ من روبيرتو كنتيني وفيديريكو فيديريشي وألبيرتو موندادوري، وكان قاطعاً أنهى كلّ فرصةٍ للنّشر لدى الدّار الميلانيّة، وهو الرّفض الّذي كتب نصّه إيليو فيتّوريني قائلاً بأنّه قد قرأ رواية (الفهد) باهتمام شديد، ووجدها قد كُتبت بأسلوب قديم وطريقة تعود إلى القرن الثامن عشر، لكنّ هذا لم يمنعه من الإشادة ببعض مواطن قوّتها وخاصة فيما يتعلّق بصدق الكاتب وبراعته التحليليّة الّتي تبلغ الذّروة في لحظات التّشريح النّفسي لبعض الشّخصيات والأحداث لا سيما في الفصل السّابع الّذي اعتبره إيليو فيتّوريني أكثر الفصول إقناعاً في الرّواية برمّتها. وإضافة إلى هذا وجد إيليو أنّ الرواية غير متوازنة في كلّ فصولها ولعلّ هذا الاختلال راجع إلى المزج بين السّرد الأدبيّ والوقائع التّاريخيّة، ممّا عجّل بظهور نوع من التّنافر بين المحورين تارة وانسجامهما تارات أخرى على طول الرّواية مع هيمنة ما هو تاريخيّ على ماهو سرديّ روائيّ محض، ولكي يؤكّد فيتّوريني رأيه هذا ذهب إلى الاستدلال ببعض الأمثلة قائلاً بأنّ أكثر من نصف الرواية فيها حشو وإطناب لا سيما في المقاطع التي يصف فيها الرّوائيّ كيف يقضي الأمير فابريتسيو سالينا يومه منذ أن يستيقظ ويستظهر تسبيحة الصلاة، ويذهب مع كلبه إلى الحديقة إلى لحظات تناول وجبة العشاء والخروج بعدها بشكل مفاجئ إلى باليرمو من أجل لقاء عشيقته. في حين يأتي وصف بقية الأحداث بشكل استعجالي ومختصر جدّاً، وهذه كلّها كانت أسباب جعلت من إيليو فيتّوريني يصرّح باستحالة الالتزام أو قطع أيّ وعد بنشر الكتاب لأنّ برنامج سلسلة مجلّة (إي جيتّوني / القطع المعدنية) قد أغلق لما لا يقلّ عن أربعة أعوام.
بعد هذا الرّأي اشتعل النّقاش واحتدّت وتضاربت الآراء على أكثر من جريدة ومجلّة، وفي 24 شباط 1959 ظهر من جديد إيليو فيتّوريني وصرّح لجريدة (الجورنو / النّهار) ضمن حوار أجرته معه قائلاً بأنّ رواية (الفهد) هي عمل يحتفي بالماضي بشكل مثير للشّفقة، ممّا أثار حفيظة جورجو باسّاني الّذي كان أوّل من ساهم في نشر الرّواية لدى دار لا فيرترينيلّي، وانزعجت لرأيه هذا أيضًا السيّدة ألسّاندرا زوجة الأمير لامبيدوزا لا سيما حينما وجدت نفسها تردُّ على اتهام السّرقة الأدبيّة الموجّهة للعمل فيما يتعلّق بمشهد الموت الموصوف في الرواية وقد ادّعى أحدهم بأنّ هذا المقطع أخذ من الفيلم المخصّص لحياة الفنّان تولوز لوترك.
لهذا النّقاش الملتهب انضمّ أيضاً ليوناردو شاشا عبر رسالة تمّ نشرها على صفحات جريدة (لورا / السّاعة) في 19 آذار 1959، مسانداً رأي فيتّوريني فقال هو الآخر إنّ (الفهد) عمل لا يتماشى مع روح العصر، ضف إلى هذا أنّه يبدو كمحاولة لتبرئة ذمّة الطّبقة الأرستقراطية من بعض المسؤوليّات التّاريخيّة المشكوك في أمرها. فمن يا ترى يكون إيليو فيتّوريني الّذي تسبّب في كلّ هذا الجدال الثّقافي والأدبيّ بشأن (رواية الفهد)؟
وُلد في سيراكوزا عام 1908، والدته هي لوشيّا سغاندورّا، وسيباستيانو فيتّوريني هو والده وقد كان موظّفاً في السكّة الحديد. نشأ إيليو في بيئة صقليّة فقيرة كما يقول عنه مُترجمُهُ الأديب عيسى النّاعوري في كتابه (دراسات في الأدب الإيطاليّ)، ولم تكن طفولته سعيدة، ولا كانت دراسته منتظمة. واضطرّ في الخامسة عشرة من عمره إلى أن يكافح من أجل العيش، فاشتغل عامل ورشة بناء، فمساعد بنّاء، ثمّ مصحّح تجارب في مطبعة. وقد بدأ الكتابة في التّاسعة عشرة من عمره. وكانت أقاصيصه ومقالاته تقلق الحكم الفاشيستيّ، ممّا أدّى إلى منعه عن النّشر في الجرائد اليوميّة. اشتغل إلى جانب الإبداع السّرديّ بترجمة الأدب العالمي ولا سيما الأمريكيّ منه، واستطاع أن يصبح في مدّة وجيزة واحداً من مجدّدي الرواية الإيطاليّة المعاصرة، بحيث أصدر (القرنفلة الحمراء) و(جبل سمبيون يغازل الفريوس) و(نساء ميسّينا) و(الغاريبالديّة)، إلّا أنّني هنا أحبُّ أن أتوقّف مليّاً عند روايتيْه (الرّجال والرّفض)، ثمّ (أطراف حديث في صقلّية).
قرأتُ (الرّجال والرّفض) باللّغة العربية في النّسخة التي ترجمها د. عيسى النّاعوريّ، لكنّها لم تحقّق لي المتعة الفكريّة ذاتها التي شعرتُ بها أثناء قراءتي
لها باللّغة الإيطاليّة، لم يصلني فيتّوريني كما هُو، وهذا لا يعني أن ترجمة النّاعوريّ كانت قاصرة عن إيصال المعنى أو الصّورة المطلوبة، بل على العكس من ذلك تماماً، فترجمات النّاعوريّ وجدتها دائماً في القمّة سواء من حيث عمقها أو من حيث دقّتها، لكنّ "العيب"، - وأضع الكلمة بين مزدوجتيْن-، كلّ "العيب" في فيتّوريني نفسه، لا تجوز قراءته إلّا باللّغة الإيطاليّة، لأنّه يتجلّى فيها بشكل أكثر عمقاً وشموليّة. كلّ كلمة، كل فراغ، كلّ علامة ترقيميّة، كلّ صمتٍ، كلّ همسٍ، كلّ سكون، وكلّ حركة لها معنى في رواية (الرّجال والرّفض)، معنى إيطاليّ، معنى فيتّورينيّ، معنى صقليّ ولنبدأ بهذا العنوان الّذي خلقت ترجمته عندي أكثر من مشكلة، فالنّاعوريّ، رآه هكذا، وتلك (اللّا / no) الإيطاليّة ترجمها هو بالرّفض، لكنّني أرى غير هذا تماماً، الصّفحات الأخيرة تقول هذا، تقول إنّ فيتّوريني، لم يكن يعني الرّفض الّذي وصل إليه النّاعوري، وإنّما الاختلاف بين إنسان وإنسان، أيْ بين إنسان صالح وآخر فاسد، أيْ بين شخص يتمتّع بقدر من الإنسانيّة وبآخر لا إنسانيّة في قلبه، ومن هذا تكون لا القاطعة في العنوان الإيطاليّ كحدّ فاصل بين الإنسان في صيغة الجمع، وبين من لا ينتمي إلى الإنسانيّة، أيْ (إنسانيون ولا)، وليس (الرّجال والرّفض)، فإيليو شاء لعنوانه أن يكون دالّاً على طريقة رؤيته وتقييمه للتّجربة الإنسانيّة فوق هذا الكوكب، وهو ينظُر إلى الوجود من باب الشّموليّة والكينونيّة، ولم يقصد حَصْرَ تجربة المقاومة في الرّجال، وإنّما جعلها تضمُّ النّساء أيضاً، ولم يعلن أبطال الرّواية عن الرّفض بالمفهوم الّذي ظهر في عنوان النّاعوري، وإنّما أيضاً عن ذاك الجزء الذّئبيّ الآخر الموجود في الكينونة البشريّة، والّذي يجعل من رجال النّظام الفاشيستي كلاباً سوداً، أو لنقل ذئاباً سوداً وهو المعنى الّذي ظهر في تعبير إيليو وهو يقول بكلمات ترجمتُها كما يلي: ((هذه هي النقطة التي نخطئ بشأنها جميعاً. نحن ندّعي أنّ الإنسانَ لا يوجد فيه سوى ماهو معاناة وألم، وأنّ هذا العذاب أمر حتميّ، وموجود بداخلنا. فإذا شعرتَ بالجوع، قلنا إنّه موجود في الإنسان. كذلك الشأن إذا شعرتَ بالبرد. أن تخرج من الجوع، وتترك البرد وراءك وتستنشق الهواء المضمّخ برائحة التّراب، أن يكون هذا الهواء ملكُك، والأرض والأشجار والقمح والمدينة. أن تنتصر على الذّئب وتحدّق في وجه العالم. كلّ هذا نقول عنه إنه موجود في الإنسان. أن يكون الإله بداخلك مبتئساً، أن يكون هناك شبح في الدّاخل ولباس خلف الباب. وأيضاً أن يكون بداخلك الإله فرحاً وسعيداً. أن تكون رجلاً، امرأةً، أن تكون أمّاً، وأبناءً. كلّ هذا نعرفهُ ويمكننا أن نقول إنّه بداخلنا. وكلّ شيء هو ضحك: نقول إنه بداخلنا أيضاً. وكلّ شيء هو غضب، وبعد أن نحني الرّأس ونبكي. نقول إنه العظيم الكبير العملاق بداخلنا. لكنّ الإنسان يمكنه أن يفعل الأشياء دون أن يحمل كلّ هذا بداخله، ودون أيّة معاناة ولا أشياء حتميّة، ولا جوع ولا برد، وفي تلك اللّحظة نقول إنّ هذا ليس هو الإنسان. نحن نرى هذا ونرى الذّئب أيضاً. إنّه يهاجم ويظلم، ونحن نقول: هذا ليس هو الإنسان. إنّه يتصرّف ببرودة الذّئب. ولكن هل هذه البرودة تمنعه من أن يكون هو أيضاً إنساناً؟ نحن لا نفكّر إلّا في من أسيء إليه، أو لحقه الأذى والظّلم. أيها النّاس! أيّها الإنسان!
بمجرّد أن تكون هناك إساءة ما، تجدنا نؤازر بسرعة من لحقت به الإساءة، ونقول إنّه الإنسان. الدّم؟ هاهو الإنسان. الدّموع؟ هاهو الإنسان. ومن يتسبّبُ في الإساءة من تراه يكون؟ لا نفكّرُ أبداً بأنّه هو أيضاً إنسان. ماذا عساه يكون؟ هل هو حقّاً الذّئب؟)).
هذه الكلمات اخترتُها لمن وصف رواية إيليو بالبساطة، أو بأنّها عمل حواريّ لا يصلح سوى لأن يكون عملاً سينمائيّاً لما جاء فيه من أسلوب سيناريستيّ محض، وأقول إنّ هذه الكلمات وكلّ فصول الرّواية بما فيها تلك المكتوبة بالخطّ المائل تكشف عمق فكر الكاتب ورؤيته لثيمة المقاومة بشكل فيه الكثير من التميّز الّذي لم ينتبه إليه الكثير من النّقّاد. فهو كما يتحدّث ويصف بشكل دقيق موقفهُ من الظّلم والطّغيان، فإنّهُ لم يفته أن يضع تحت المجهر سيكولوجيّة الإنسان الطّاغية أو الظّالم المستبدّ، وشاء ألّا يفصل بين من يُقاوم ويرفضُ وبين من يَظلم ويفرِضُ، فكلاهما من الفصيلة البشريّة، لكنّهما ليسا معاً إنساناً، إنّها صورة فيها الكثير من الجمع بين الحمامة والذّئب، فهل يجتمعان حقّاً؟! نعم إنّهما معاً يوجدان في الإنسان، هكذا يقول فيتّوريني بنفَس وفكر فيه بعض من الصّوفيّة والفلسفة والحكمة، ولكأنه يخلص إلى مبدأ التضادّ الّذي يقوم عليه الكون، والقطبيّة الموجبة والسّالبة التي تحكم الوجود وتسيّرهُ. فلا خير بدون شرّ والعكس صحيح. ولعلّ هذا ما يفسّرُ كيف أن إيليو ختم روايته بميلادٍ جديدٍ لمناضل شابٍّ التحق بمجموعة نون 2، ليكمل مسيرة النّضال الّتي لا تتوقّف مادام في الإنسان نبض، لأنّ الصّراع بين المتضادّات في الوجودِ أبديٌّ.
وأنا أقرأ رواية (الرّجال والرّفض)، هالني كيف أنّ العديد من النّقّاد تحدّثوا عن ميلانو ورجالها ونسائها المقاومَيْن، شخصيات عديدة تعرّفتُ عليها وتفاعلتُ معها إبداعيّاً، لكنّني ما رأيتُ في الزّمن السّرديّ زمن إيليو بل زمن الإنسان، ولا رأيتُ في ميلانو تلك المدينة التي اختارها الكاتب كمسرح لأحداث روايته، وإنّما رأيتُ صقلّية والصقلّيين في كلّ مكان، صحيح أنّ الأجساد ميلانيّة، لكن القلوب صقلّيّة، حتّى الشّمس التي أراد لها إيليو أن تُشرق منذ مطلع الرّواية لم أجدها ميلانيّة وإنّما هي شمس صقليّة بكلّ ما في الكلمة من معنى، أقول هذا لأنّي ممّن أكل الشّمس وأعرف مذاقها في كلّ مكان، وتلك التي ظهرت في ميلانو الرواية كانت صقلّيّة، لأنّها نابعة من قلب إيليو الّذي يرى جزيرته في كلّ شيء حتّى وإن كان يلبس وجه ميلانو، وهذا المقطع يؤكّد ما ذهبتُ إليه وأنقله كاملاً وفقاً للتّرجمة التي اعتمدها د. عيسى النّاعوري:
((كان شتاء عام 44 في ميلانو ألطف شتاء عرفته المدينة منذ ربع قرن. فلا ضباب أبداً تقريبا، ولا ثلج؛ والمطر لم يكن أكثر منه في نوفمبر، ولم تظهر غيمة واحدة منذ شهور، والشمس تطلع طول النهار: يطلع النهار فتطلع معه الشمس، ويسقط النهار فتسقط معه الشمس. وكان بائع الكتب المتجول في بوابة البندقية يقول: "إن هذا لألطف شتاء عرفناه منذ ربع قرن؛ فمنذ عام 1908 لم نعرف شتاء لطيفاً كهذا".
فيجيبه صاحب موقف الدراجات: منذ عام 1908؟ إذن ليس ربع قرن فقط بل ستة وثلاثين عاماً".
فيقول الكتبي: "حسناً، إنه لألطف شتاء عرفناه منذ ستة وثلاثين عاماً، من عام 1908.
كانت الشمس تسطع على الخرائب التي خلفها عام 1943. وكانت تسطع على الحدائق، والأشجار العارية، وعلى درفات النوافذ، وكان ذلك الصباح في الشتاء، في شهر يناير. ووقف رجل أمام بسطة الكتب، وكان يحمل دراجة في يده.
فقال له الكتبي: صباح الخير.
- صباح النور.
- يا له من شتاء! إيه!
- أي شتاء؟
- إنه ألطف شتاء؟
- إنه ألطف شتاء عرفناه منذ ربع قرن.
واقترب صاحب موقف الدراجات وقال:
- منذ ربع قرن من عام 1908؟
- فقال الكتبي: من عام 1908، من عام 1908.
- راح الرجل الذي توقف لينظر إلى الكتب ينظر إلى الهواء، وإلى السماء، فرأى الشمس على حافلات الترامواي. ورأى الترامواي رقم (27) يغادر موقفه عند البوابة، وفي وسط الحشد الذي في داخله رأى عند الزجاج كوع امرأة وكتفها.
وعند ذاك انفجر في داخله رنين كبير، فدفع دراجته أمامه راكضاً، واجتاز الخطوط الحديدية، ووصل إلى الساحة. كان الترامواي قد ابتعد وراح يرج بصوته الخط الحديدي الذي بعد الموقف التالي. ولكن الرجل ركب دراجته ومضى يجري خلفه. وظل يجري فترة، ولكنه لم يعد يرى في سواد الزحام داخل الترامواي كوع المرأة وكتفها اللتين كان يجري من أجلهما. وعلى الرغم من علمه أنه لم يكن مخطئاً فقد استمر في داخله الرنين العظيم؛ وسواء أكان ذلك اليوم من أيام سبتمبر أم أكتوبر، أم نوفمبر أم ديسمبر، فقد كان يحس بنور بهي يتناهى إليه ويضاف إلى النور الساطع في تلك الساعة.
وفي ساحة سكالا نزلت المرأة.
وقال لها: لقد كنت أعلم أنك أنت.
فاتكأت على دراجته
فقال لها: لقد كان كما كنت أنت.
فأخذت يده وقبلتها، وتركته يتابع كلامه قائلاً: كنت أجري، وكان كما كنت أنت، وكان الترام يجري، وكان كما كنت أنت. كان ذلك في ساحة سكالا.
ولكنه لم يكن يعرف ما يريد أن يقول، فأخذ يشير لها إلى البيوت والشمس، والمسرح الذي استحال خراباً، وقال لها:
- هل رأيت قط شتاء كهذا؟ إنّه كما كنت أنت.
وسحبها من الزحام ومضى بها إلى رصيف شارع منزوني، ليس من جهة مقهى كوفا، بل من الجهة الأخرى. وقال لها: إنه أبهى شتاء عرفناه منذ العديد من السنين.
ثم أضاف: وهل تعلمين منذ متى؟ أتعلمين منذ متى؟
وأوقفها من جديد ونظر إليها وهو يقول: منذ عام 1908، منذ ولادتك)).
يا إلهي، من يرى منكم ما أراه؟ إنّ بيرتا هي نفسها نون 2، وهما معاً إيليو فيتّوريني، إنّ بيرتا هي روحه التي ضاعت منه في غمرة تجارب الحياة ويحاول استعادتها والتّصالح معها، ونون 2 هي شخصيّته العميقة الرّافضة لكلّ القيود ومظاهر الاستبداد والظّلم، وإلّا فما معنى أن يقول لبيرتا: ((وهل تعلمين منذ متى؟ أتعلمين منذ متى؟ منذ عام 1908، منذ ولادتكِ.)) فعام 1908 هو عام ولادة إيليو حقيقةً، وهذا يؤكّد بما لا مجال فيه للشكّ أو التّردّد أنّ ميلانو هي سيراكوزا، ونون 2 وبيرتا هما معاً، وكلّ الأبطال الآخرين موجودين فيه، وهو من خلالهم يعبّر عن موقفه من الكون. وهو بهذا قد سحر القارئ وأمتعه أيّما إمتاع وهو يقوده عبر بيرتا إلى طفولته، وإلى صقليّة السّاكنة في القلب أبداً.
*
(في الصورة : فلافيو بوتشي ومونيكا غويرِّتوري
في دور نون2 وبيرتا)
*
صقليّةُ الوالد الذي ظهر في شخصيّة الرّجل المسنّ صاحب العينين الشّديدتي الزّرقة والّذي كان يواسي بيرتا أثناء لحظات بكائها قائلاً لها بهذه الكلمات التي أُتَرجِمُ كما يلي:
(( - لا يجب البكاء من أجل أيّ شيء حدث اليوم
- لايجب البكاء؟
- إذا بكينا قَبِلْنا، ولا يجب أن نقبل
- قُتِلَ النّاس ولا يجبُ البكاء؟
- إذا بكيناهُم فقدناهُم، ولا يجب فقدانهم.
- ولا يجبُ البكاء؟
- طبعا لا! ماذا سنجني إذا بكيناهم؟ سيصبح كل شيء بدون فائدة.
- وهل كان هذا هو البكاء؟
- أن يفقد كلّ شيء قمنا به معناه؟
قال الرّجل المسنُّ وبيرتا كانت تصدّقه. ربّما هذا الّذي كان ولكنّها لم تكن تستطع البكاء، وكانت تحني رأسها، ودموعها تتساقط عند أسفل بطنها.
- لا يجبُ. قال الرّجل المسنّ. لا يجب.
- نعم. قالت بيرتا. لا يجب.
- أرأيتِ بأنّه لا يجب؟ توقّفي.
- لكنّني لا أبكي من أجلهم.
- لا تبكين من أجلهم؟
- ليس عليهم.
- لا؟ سأل الرّجل المُسنُّ.
لم تكن بيرتا تبكي الموتى ولا دماءهم. الآن عرفت هذا. كانت الدّموع بسببهم، ولكنها لم تكن شفقة عليهم. ربما شفقة أو حزناً شديداً من أجلها هي. أمّا بالنسبة لهم فكان الأمر مختلفاً تماماً. ماذا كان؟
قالت للرّجل المُسنّ: لا أبكيهم.
كانت قد رفعت رأسها والدّموع جفّت فوق وجهها، ورأت في الرّجل عينيْه الزرقاوين. حدّقت فيهما:
- ماذا يجب أن نفعل؟ سألته.
- أوووه! أجاب الرّجل المُسنُّ. يجب أن نتعلّم.
- نتعلّم ممّاذا؟ قالت بيرتا. ماالّذي يعلّمونه؟
- ذاك الّذي. قال الرّجل المُسنّ. من أجله ماتوا.))
هو نفسهُ الرّجل الّذي سُحرتْ بيرتا بزرقة عينيْه وحكمته العميقة، والد فيتّوريني أو نون 2 الّذي أخذها عنده وهو يحاول العودة إلى سنوات طفولته الأولى معها وهي طفلة أيضاً وأخبرها عنه بأنّه في صقليّة هناك بالقرية بين أشجار الصبّار يطرق الحديد ليركّب حدوات الأحصنة. والأب من يكون إذا لم يكن صقليّة نفسها، وزرقة العينين ما تكون إذا لم تكن زرقة سمائها وبحرها؟ أليس هذا ما يقوله في هذا المقطع الّذي أُتَرْجِمُهُ من الرّواية:
(( - إلى أين ستأخذني؟
- إلى بيتي. في صقليّة.
- سنخرجُ ولن نكون في البهو الصّغير تحت القمر. إنّها صقلّيّة.
- ولكن هنا النّهار
- إنّها الشّمس، والقرية من حجر وقبّار، إنّها دائرية وشتائيّة العطر. هل تعجبك؟
- ليست سيّئة
- هنا أنا في الخارج كلّ الوقت
- تلعب كلّ الوقت؟
- أحيانا ألعب، وأحيانا لا. أبقى هنا كلّ الوقت.
- كل الوقت بعيدا عن البيت؟
- البيت ليس ببعيد. ألا تسمعين هذا الصّوت؟ إنه قادم من البيت.
- أيّ صوت هو؟
- إنه أبي يطرق حديد حدوات الأحصنة.
- ولكنّي لا أرى شيئاً.
- إننا في مكان تتكوّر فيه القرية نحو الأعلى، وينتشر عطرها الشّتائيّ، ونرى التين الشّوكيّ، وسقف البيت وسقوفاً أخرى، ثلاثة أو أربعة، والغبار الأبيض فوق أحد الطّرقات.
- السقف الأول هو البيت.
- ومن يوجد فيه؟
- جدّتي
- جدّتُكَ فقط؟
- أمّي أيضاً.
- وأبوك الّذي يركّب حدوات الأحصنة أين هو؟
- في الجهة الأخرى من الطّريق.
- لنقترب، لننزل عبر أشجار التّين الشّوكيّ، هناك امرأة عجوز في شرفة البيت، جالسة فوق الكرسيّ الهزّاز.
- أهي جدّتُكَ؟
- نعم هي.))
يا لعذوبة الكلمات التي تصف لوحات من الجمال والإبداع، إيليو فيتّوريني وهو يأخذ روحه بيرتا ويعود بها إلى زمن الصّفاء والنقاوة، هناك في الفردوس الصقليّ، حيث كلّ شيء له عبير وعطر، الذّكريات والشّتاء وغبار الأرض وأشجار التّين الشّوكيّ، والنّهار المشمس الّذي لا يمكن لأحد أن يدرك معناه الحقيقيّ ما لم يكن من آكلي الشّموس العرفانيّة التي ظهرت بها جزيرته الأمّ في روايته الأخرى (أطراف حديث في صقليّة) والتي سأتوقّف عندها قليلاً، وأسافر بين فصولها لنتعرّف معاً أكثر على إيليو فيتّوريني وأرضه المُشمسة الممتلئة بالكنوز والأسرار.
هل كان من الضروريّ أن أقرأ (أطراف حديث في صقلية) قبل رواية (الرّجال والرّفض)؟ من لهُ دراية بإصدارات إيليو فيتّوريني سيعرفُ جيّداً أنّ الأولى صدرت قبل الثّانية، وعلى الرّغم من ذلكَ قرأتُ الثّانية أوّلاً، واكتشفتُ فيها إيليو وتعرّفتُ معه ولأوّل مرّة على طريقته في الكتابة، فحدث أن شغفتُ بها وبحواريّاته الباذخة الجمال، ورأيتُ فيها كاتباً من الزّمن الكونيّ المتجدّد باستمرار، وفهمتُ كيف أنّه لم يستسغ الطّريقة التي كتب بها تومازي دي لامبيدوزا رواية (الفهد). ثمّ جاء دور (أطراف حديث في صقلّية)، وأذكر أنّني كنتُ قد عثرتُ أوّلاً على النّسخة العربيّة فقرأتُها ووجدتُ أنّ الدكتور حسين محمود قد ترجمها بشكل بديع وبليغ بحيث جاء الأسلوب في غاية السلاسة ممّا يسّر عملية الاستمتاع بإلإبداع الفيتّوريني دون الشّعور بأيّ نوع من المثبّطات اللّغوية والتّرجميّة التي عادة ما تحبط عزيمة القارئ وتصرفه عن إكمال قراءة العمل الإبداعي بشكل عامّ. ولعلّ هذا ما حفّزني أكثر على التفكير في اقتناء النّسخة الإيطاليّة منها وبالفعل أذكر أنّني ذهبتُ للبحث عنها في مكتبات مدينتي، إلّا أنّني لم أجد لها أثراً، فطلبتُ أن يستقدمونها من مكتبات المدن الإيطاليّة الأخرى، لكن بدون فائدة، فالرواية لم تصدر هذه السّنة بطبعة جديدة، والطّبعات القديمة نفدت كلّها، وهم بانتظار أن تصدر في أيّار 2021 طبعة حديثة تأخّر ظهورها بسبب أزمة الوباء الّتي شلّت حركة المدن في الأرض قاطبة. عدتُ بخفّي حنين وقبل أن أصل إلى البيت، لفت انتباهي ضوء خافت في زقاق معتم، فولجتُهُ ورفعتُ بصري فإذا بي أقرأ عبارة (غرفة الورق)، أدرتُ وجهي ورفعتُ عنقي من جديد وقرأت في ركن الزقاق اسم (جوزيبي داليسي)، وقلتُ في نفسي يبدو أنّ هذه المكتبة الصّغيرة عتيقة جدّاً ومهمّشة جدّا جدّاً، لكن هل يا ترى سأجد فيها ضالّتي؟ لأحاولْ على الأقلّ ولو أنّني أستبعد الأمر كثيراً فكبريات المكتبات الإيطالية لا توجد فيها فما بالك بهذا الرّكن الصّغير الّذي لا يلتفت إليه أحد! دخلتُ ووجدتُ الكتبيّ جالساً وحيداً في ركن قصيّ وقد غطّى نصف وجهه بالكمامة، فنحن في زمن كورونا. هالتني حدّة الصّمتِ في المكان، فتحرّكَ قلبي وأشفقتُ على السيّد من غياب الزّبائن وانعدام حركة البيع والشّراء، وسألتُ الله أن يرزقه الرّزق الكريم ويعوّض صبره والنّاس أجمعين خيراً في زمن هذا الوباء العجيب. ثمّ اقتربتُ منه وسألته في تردّد: هل أجد عندكَ كُتُباً لإيليو فيتّوريني؟ قال أيّها تريدين؟ قُلتُ (أطراف حديث في صقليّة)، ثمّ نهض من مكانه ومدّ يده إلى رفّ على يمينه وسحب كتاباً وقال لي: هاهي. فتحتُ عينيّ على مصراعيْهما، ثمّ أمسكتُ الرّواية مندهشة ممّا حدث للتوّ، وقال لي إنها النّسخة الوحيدة الّتي لديّ. شكرتُ الله في قلبي، ودفعت ثمن الكتاب، ثمّ أطلقتُ ساقيّ للرّيح جذلى بهذا الانتصار الجميل. وحينما وصلتُ إلى البيتِ فتحتُها، وشممتُ عطر الزّمن في ورقها المائل للصّفرة، ووجدتُها من إصدارات بور لتموز عام 2004، وفيها لوحات للفنّان التّشكيلي الباليرميّ الصقليّ ريناتو غوتّوسو. أغلقتُها وقرّرتُ أن تكون قراءتي لها في شهر الرّحمة والغفران، فرمضان كان على الأبواب، وفعلاً ذاك ما كان، فإلى جانب قراءاتي الرّوحيّة الصّوفيّة، أذكر أنّني كنتُ أقرأ أيضاً فصول رواية فيتّوريني، وقد أدهشني أنّني وجدتُ فيها روحانية عالية، لا يدركها إلّا من تزمّل قلبه برداء المعرفة الإلهيّة الحقّة. لا سيما أنّني توصّلتُ إلى أنّ إيليو لم يكن يتحدّث عن صقليّة بمعناها الجغرافيّ والإثنولوجيّ، وإنّما عن قلب الكون، وهو الأمر الّذي تؤكّده ملاحظته الختامية التي قال فيها: ((لتجنّب اللّبس والالتباس أنبه بأنه كما أنّ بطل هذه المحادثة لا يسرد سيرة ذاتية، فإنّ صقليّة التي يأتي في إطارها وترافقه ليست إلّا صقليّة بحكم الظروف، ذلك أنّ وقع اسم صقليّة بدا أقرب إلى سمعي وأفضل من إيران أو فنزويلا.))، وهو بهذه الكلمات يعني أنّ جزيرته تمثّل العالم كلّه، وأنه كان من الممكن أن يكون اسمها إيران أو فنزويلا أو أيّ مكان آخر من الأرض، ولكن ظروفه الخاصّة أملت عليه أن يكون الاسم هو صقليّة. وهذا ينفي تماما ماذهب إليه النقّاد في كون الرواية عبارة عن سيرة ذاتية وإن كان صاحبها ينفي ذلك. وهنا أودّ أن أوضّح أمراً معيّناً: فحينما ينفي كاتب ما صفة السيرة الذّاتية عن عمل إبداعيّ ما من إنتاجه، فهذا يعني أنّ عين النّاقد يجب أن تتجه إلى حقول وحفريّات أخرى، ومن يقرأ (أطراف حديث في صقليّة) سيعرفُ جيّداً أنّ إيليو قد استخدم معطيات حياتيّة خاصّة به من أجل التعبير عن قضية كونية هي معاناة العالم وقهر الإنسان فيه. وهي معاناة وقهر لا يحدّهما مكان ولا زمان، لأنّ الإنسان نفسه هو ابن الأرض والكون الّذي لا يقبل أيّ نوع من التحيّزات الجغرافيّة والدّينية أو السياسيّة، وهو ما يبرّر كيف أنّ رواية (الرجال والرّفض) جاءت مكمّلة لرواية (أطراف حديث في صقليّة)، وهما معاً عبارة عن مشروع فكريّ واحد، يظهر فيه فيتوريني وهو يحفر بحرفه في عمق الوجود الإنساني من خلال تاريخ وجوده الشّخصيّ، وقد انطلق من صقليّة واعتبرها رحم الكون أو مركزه الخيميائيّ الّذي تتخلّق فيه الأشياء وتختمر لتعطي معنى جديدا للوجود. وهذا ما يفسّرُ كيف أنّه استخدم ثيمة القطار للتعبير عن حركيّة الإنسان والزّمن مُسلّطاً بهذا الضّوء على شرائح مختلفة من المجتمع في شتى تمظهراته العمريّة والبيولوجيّة والنّفسيّة، والقطار هو ليس فقط أداة للسّفر في المكان الجيولوجيّ، وإنما آلة للسّفر في الزّمن الرّوحي الّذي يصل الحاضر بطفولة الإنسان، وهو نفسه الدّور الّذي قام به الكاتب في رواية (الرّجال والرّفض)، فهناك أيضا يوجد قطار وإن ليس بشكل واضح، وإنّما عبر تلك الشّخصيّة الشّبحيّة التي تدعو نون 2 للعودة إلى الطّفولة من أجل اللقاء ببيرتا الرّوح هناك. نعم، إنّها نفسها بيرتا التي ظهرت قبل ذلك في رواية (أطراف حديث في صقليّة)، وتأخذ شكل الأمّ الكونية التي تغطّي كتفيها بثوب أحمر، لون العشق والحياة، ولون روح إيليو النّابضة بالمحبّة للجميع، حتّى أنّه يرى أنّ الإنسان هو الكون نفسه، وأنه يجب النّضال من أجل أن يعود إليه بهاؤه الأوّل، لأجل هذا نجد الكاتب قد جعل من مناصرة الضّعفاء والمقهورين في كلّ العالم قضيّته، وقد فهمتُ باكراً كيف أنّني حينما عثرتُ على (رواية أطراف حديث في صقليّة)، لم أجدها إلّا في مكان واحد، كان عبارة عن زقاق مظلم يحمل اسم جوزيبه داليسي، الّذي عرفتُ عنه فيما بعد أنّه كان الرّجل الّذي ثار في صقليّة من أجل الجياع عام 1647 حينما كانت الجزيرة تحت حكم الإسبان. ومرّت قرون عدّة وهاهو فيتّوريني يعانق ثورة الشّعب الإسباني أيّام الحرب الأهليّة، ويترجم أشعار فيديريكو لوركا غارسيا إلى اللغة الإيطالية ليمنح للشّعب الإيطاليّ فرصة الاطّلاع على معاناة أخيه الإنسان خارج إيطاليا. وليس من قبيل الصّدفة أن تظهر في أحاديثه معاناة الإنسان الصّينيّ أيضاً، إنّه البعد الرّابع الّذي يتحرّكُ فيه إيليو وهو نفسه القطار المسافر الّذي يصل إلى عمق الذّاكرة الكونية المتجسّدة بالمقابر هناك حيث التقى بأخيه الجنديّ، وخرج من عنده وهو يبكي ويقول مثل بيرتا في رواية (الرّجال والرّفض): ((أنا لا أبكي في نفسي، أنا لا أبكي في هذا العالم... لا أبكي البتة، ولا أبكي من أجل أحد، من أجل أيّ شيء في صقليّة، من أجل أيّ شيء في العالم... إنّني أتخلّص من حالة السّكر)). إنه السّكر، نعم، حالة روحيّة قادته إلى أن يدخل إلى الحانة الكونيّة ليتخلّص من أحزانه وآلامه وأوجاعه، وليعاين بعين الرّوح أخاه الإنسان بكلّ تمظهراته التي شملت الرجل السّنان الّذي يشبه فزّاعة الطّيور، والرّجل اللومباردي الكبير، والرجل صاحب الفم الأدرد الّذي يشبه فتحة الحصّالة، والرّجل المصاب بالملاريا، وكلّ المرضى الّذين زارهم رفقة أمّه، ثمّ أباه آدم الأوّل، أب الإنسانيّة العجوز وإلى جانبه حوّاء الأولى التي وجدها في المطبخ تغسل قدميه وهو مستغرق في البكاء!
*
(في الصّورة: مكتبة (الغرفة الورقيّة) بمدينة باليرمو)
*
IV
حينما التقيتُ السيّد فيرغا
*
بفيرغا أقصدُ الرّجل الّذي التقيته في صقليّة الشّرقيّة، وحينما أقول عنه السيّد، فأعني بهذا أنّه ملكٌ من ملوك الإبداع في هذه الجزيرة، ربّما حدستم عمّن أتحدّث، إنّه رائد الواقعيّة في الأدب الإيطاليّ! قبل عشرين سنة مضتْ، كنتُ في الطّائرة المحلّقة من روما إلى كتانيا، أذكر أنّني فتحتُ الجيب الخلفيّ للمقعد الّذي كان أمامي فوجدتُ مجلّة سياحيّة بها مقالة قصيرة عن بركان الإتنا ورجال كتانيا من أهل السياسة والأدب والفن والتاريخ، توقّفت كثيراً عند اسمه، جوفانّي فيرغا، بدأت أتخيّل كيفَ خُلقَ هذا الرّجل الّذي بعث الحياة في الأدب الإيطاليّ وضخّه بدم جديد من الحروف والشّخصيات التي لا عدّ لها ولا حصر، سجّلتُ في مذكّرتي عنواناً لإحدى قصصه الشّهيرة (روسّو مالبيلو)، ثمّ أغلقتُ المجلّة، وأغمضتُ عينيّ بسبب شدّة حالة التعب والإرهاق التي كنت أعاني منها، فسفرتي تلك كانت أوديسيّة، فمن الدّارالبيضاء إلى روما، ومنها كان من المفترض أن أذهب مباشرة إلى باليرمو، لكنّ الطّائرة لم تكن جاهزة، وتغيّر وقتُ الرّحلة الثّانية وكذا وجهتها، إذ أصبحت كتانيا ثمّ منها إلى باليرمو ومن هذه الأخيرة إلى ساليمي، لأجد نفسي هكذا في رحلة دامت لأزيد من يوم كامل بنهاره وليله. وصلتُ إلى البيت ونمتُ ليومين كاملين، وحينما استيقظتُ وجدتُ نفسي أفكّر في فيرغا، لدرجة أنّني رأيتُ صورته التي لم يسبق لي أنِ اطّلعتُ عليها من قبل وقد طبعتْها روحي فوق جدار الغرفة، كان ذا هيبة وقوة حضور، ابتسمتُ في قلبي، ثمّ ذهبتُ لتناول الإفطار وقد عقدتُ العزم على البحث عن رواياته بمجرّد أن تنتهي فترة إجازتي الصيفيّة وأعود إلى العاصمة الصقليّة. لكنّ الّذي حدث هو أنّني نسيتُ الأمر برمّته بين شواغل الحياة وتفاصيلها الأخرى، ولم يذكّرني به إلّا الدكتور سبالانكا كارميلو حينما سمعته في إحدى المحاضرات يقرأ نصّ (روسّو مالبيلو). تيقّظت آنذاك كلّ حواسّي، وتذكّرتُ رحلتي المفاجئة تلك إلى كاتانيا، وبمجرّد أن خرجتُ من قاعة الدّرس ذهبتُ مباشرة إلى الكتبيّ واقتنيت كلّ قصص فيرغا، وهناك اكتشفت من يكون هذا الرّجل الّذي طبعتْ روحي صورتَه فوق جدران غرفتي أثناء إجازتي الصيفيّة. إنه صوتُ صقليّة، والنّاطقُ الرسميُّ لأبنائها وللطّبقات الكادحة فيها، للناس المهمّشين المظلومين المقهورين، والولد (روسّو مالبيلو) هو نموذج حيّ وصورة ناطقة منهم، إنّه الولد المختلف صاحب الشّعر الأحمر الّذي يرى فيه الجميع الرّوح التي تجلب النّحس أينما كانت أو حضرت، فقد مات والده أمام عينيه وهو يحفر بيديه الصغيرتين في الأرض لينقذه من الصخرة الكبيرة التي سقطت عليه في المنجم، ومات صديقه رانوكيو وكذلك حماره، الكلّ يكرهه ويسيء معاملته بمن فيهم أمّه كما لو أنّه كان السّبب في كلّ الكوارث التي كانت تقع في المنجم وحياة الأسرة والآخرين من حوله!
كنتُ أعرفُ جيّداً عمّن كان يتحدّثُ السيّد فيرغا ولماذا. لقد كان يندّد بعمل الأطفال القاصرين في المناجم من خلال تصويره لحياة الفقر المدقع والبؤس المرير التي كان يرزخ تحتها الصقليّون. الكلّ كان يئنُّ الصّغير والكبير، الشباب والشّيوخ، النّساء والرّجال، وما كان من حلّ سوى الإعلان عن الرّفض عبر الأدب، عبر القصّة والرّواية التي اقتحمها فيرغا من بابها الواسع وكتب في إطارها عمله الشّهير (عائلة مالافوليا) والّتي ترجمها إلى اللّغة العربية الرّاحل الكريم القلب والرّوح الدكتور عيسى النّاعوري، وكم يؤسفني أن أقول إنّها ظلّت العمل الوحيد الّذي تُرجم إلى العربيّة والتي لا يعرفُ عنها العرب شيئاً ليومنا هذا ولا عن أعمال فيرغا الأخرى.
تُعدّ سنوات القرن العشرين بأوروبا سنوات الوحدة الكبرى والتي استطاعت خلالها إيطاليا كغيرها من الدول الأوروبية وإن في مرحلة متأخرة الوصول إلى تحقيق حلم الوحدة بمختلف مقاطعاتها ومدنها لتصبح بالتالي دولة كبرى ذات نظام ملكي دستوري يطبّقُ فيها التشريع السابودي وعلى مختلف الأجهزة سواء منها الاقتصادية، الإدارية، المالية، العسكرية أوالتعليمية على الرغم من تنوع التقاليد والأعراف واللغات في هذا البلد. ومرت سنوات الفرح بتحقيق هذا الحلم الوحدوي الأولى واستقيظت إيطاليا بعدها على حقيقة مرّة، كونها كانت آنذاك من الدول التي عانت من وحدة تحققت في بلد يرزخُ تحت نير التخلف الاقتصادي والصناعي على الخصوص إذا ما قورنت بجاراتها، انجلترا، فرنسا وألمانيا، إذ أنّ بُعدها في البداية عن الثورة الصناعية كان من أهم الأسباب التي حالت بينها وبين تحقيق التقدم الاقتصادي الذي كان يرجى بلوغه بمقاطعاتها مباشرة بعد الوحدة، دون نسيان عامل آخر لا يقل أهمية عن الأول والمتمثل في تسلّط الطبقة السياسية الحاكمة آنذاك واستلائها على كافة الميادين الحيوية بإيطاليا خاصة وأن اليمين الإيطالي الليبيرالي الكافورياني كان يقاوم كل الأفكار التي كانت تدعم سياسة التفوق والتقدم الصناعي مبررا ذلك بعدم امتلاك إيطاليا للمواد الأولية من جهة وبخوفه من أن يخلق هذا التقدم الصناعي الذي كان يُخَطّطُ لتحقيقه آنذاك طبقة بروليتارية قوية لن تزيد الطين إلّا بلّة ولن تخلق سوى العديد من المشاكل والاهتزازات الاجتماعية كما حدث في العديد من الدول الأوروبية الصديقة الأخرى الشيء الذي دفع باليمين الإيطالي أن يمسك بزمام الأمور ويصبح المعبّر الرسمي للبورجوازية الفلاحية التجارية.
إلا أن دوام الحال من المحال، ضعفت قوة اليمين وبدأت الأوضاع تتغير نسبيا بمرور السنين، ووصل اليسار إلى الحكم سنة 1867 وفي وقت يسير استطاع هذا الأخير أن يجمع بين العديد من الفئات وإن اختلفت مصالحها ومنطلقاتها وأصبح لأرباب المصانع والشركات الضخمة وزن سياسي لايقل أهمية عن ذاك الذي كانت تتمتع به الطبقات التجارية والفلاحية. كل هذه التحولات كانت مؤشرا لبداية عهد جديد لما سُمّي بالسلطة والقوة المتمركزتين والتي دفعت بالعديد إلى التوجه نحوه السباق المسلّح. وفي الوقت الذي كانت فيه إيطاليا منشغلة بسياسة التصنيع هذه بدأ القطاع الزراعي يسجل تراجعا ملحوظا غرقت معه الأسواق فيما كان معروفا بالقمح الأمريكي الذي أدى إلى انهيار أسعار جميع المواد الفلاحية وتضخم الأزمة وسط الفلاحين وتأزم أحوالهم المعيشية الشيء الذي دفع بأرباب رؤوس الأموال من القطاع الزراعي بالتحالف مع أرباب المصانع والمشاريع الضخمة كي يسجلوا بذلك بداية عهد القوة الصناعية الفلاحية التي حددت ما يعرف اليوم بالطبقة الحاكمة الإيطالية المعاصرة.
وإذا كانت سياسة الوحدة قد حققت الازدهار والانتعاش الاقتصادي والسياسي فإن العكس هو الذي حدث على مستوى الفئات المستضعفة من الشعب الذي كان يرزح تحت ثقل الضرائب القاسية ونظام الخدمة العسكرية الإجبارية التي كانت بشكل أوبآخر تحرم الأراضي الزراعية من سواعد شابة كانت في أمس الحاجة إليها خاصة وأن الأمراض المعدية الخطيرة كانت قد أتت في تلك الفترة على العديد من سكان هذه القرى الذين لم ينلهم كغيرهم من أبناء الوسط والجنوب الإيطالي أيّة فائدة تذكر من سياسة الوحدة الإيطالية بل أن العديد منهم لم يكونوا على علم بما ساد في البلاد من تغييرات جديدة ولا إذا ماكانت إيطاليا قد توحدت كلها تحت نظام ملكي دستوري جديد أم لا، بالضبط كما عبّرت عن هذه الحقيقة المُرّة رواية جوفانّي فيرغا (عائلة مالافوليا).
وكما أثر الواقع الجديد بكل متغيراته على كافة المستويات الحياتية فإن فئة المثقفين بكتّابها وشعرائها وفنانيها لم تسلم من هذا التأثير وكانت أبلغ معبّر عن هذه الحقبة من تاريخ إيطاليا الحديث، وتظل "الحركة الواقعية" من أهم التيارات الأدبية التي كان لها الصدى الأكبر في هذا المجال وخاصة مع مُنظّرها الأول وبدون منازع الأديب الصقلي جوفانّي فيرغا، فمن هو يا ترى "جوفاني" وما المقصود بالتيار الواقعي في الأدب الإيطالي؟

(في الصّورة: جوفانّي فيرغا)
انطوائيّ، صعب المراس، قويّ الملاحظة، شديد الشفافية والحساسية وبالرغم من عدم حبه للشهرة ولا أن يكون ممن تسلّط عليهم الأضواء إلا أنه أصبح من أكثر الشخصيات الأدبية شهرة في أوروبا بل في العالم كافة. ولد سنة 1840 بمدينة كاتانيا، أيْ سنة واحدة بعد ظهور آلة التصوير الضوئي، أهم اختراع علمي وتكنولوجي في العالم، والتي سيكون لها أكبر الأثر في حياة الكاتب وفي صياغته لشخوص رواياته. تعد سنوات "فلورانسا" (1865/72) من أهم مراحل حياته كونها سجّلت تعرّفه على الكاتب والناقد الصقليّ لويجي كابوانا الذي أصبح فيما بعد من أكبر وأكثر أصدقائه قربا منه وهي الصداقة التي أثمرت تعاونا ثقافيا منقطع النظير ترك لنا أهم الأعمال الأدبية والنقدية للمدرسة الواقعية آنذاك. تلت سنوات فلورانسا مرحلة ميلانو (1872/1885) وهي لا تقل أهمية عن سابقتها سواء من حيث العمق أو من حيث العطاء الفكري وهي الفترة التي عمّق فيها فيرغا وغيره من أصدقاء "حركة البوهيمية" أوLa scapigliatura الأدبية المشابهة لنظيرتها الفرنسية التي اشتهر بها معظم الشعراء "الملعونون" كتاباته وتجربته الواقعية التي عكست مدى تأثره بالمرحلة التي انتقل فيها الأدب من التيار الثقافي المثالي الرومانسي إلى التشكيكي الوضعي ومنه إلى التيار النهضوي الواقعي الذي أصبحت فيه كتابات فيرغا أكثر تشاؤما وسوداوية تجاه الحياة باعتبار هذه الأخيرة مظهر من مظاهر الصراع الذي تكون فيه الغلبة دائما للأقوى على حساب المستضعفين من الناس بالأرض. من أهم الأعمال التي ميزت هذه الفترة نجد: دورة المهزومين، حكايات قروية، وحياة الحقول.
لم يعبّر فيرغا عن تياره الواقعي عبر الكتابة فقط بل عبر آلة التصوير الضوئي أيضاً وإن كان العديد من الدارسين لا يعرفون هذا الجانب المهمّ من شخصيته ومن إنتاجاته الفنية، ففيرغا كان يعرف أكثر من غيره قيمة هذه الآلة ويستخدمها لالتقاط اللحظات والشخوص الأكثر تعبيرا عن الواقع الإيطالي ولا غرابة في أن تجد بعضا من هذه الشخصيات المصورة مرفأ لها بين أسطر رواياته وقصصه . يخبرنا الأستاذ والباحث الإيطالي جوفانّي غارّا أغوستا بأنه عُثر مؤخرا في بيت القاص فيرغا على أزيد من 488 نيغاتيف فوتوغرافي و327 صفيحة زجاجية و121 فوتوغرام وكلّها لأشخاص لهم صلة عميقة بالكاتب بمن فيهم الأهل والأصدقاء أمثال الكاتب والناقد "لويجي كابوانا" و"فيديريكودي روبيرتو" ولبعض من الناشرين كـ "إيميليودجوزيبّي تريفيز" ولحبيبته "إيليونورا دوزي" التي جمعته وإياها مراسلات تعدّ من أجمل ماكتب في الحب والعشق. أما الصور المتبقية فكانت تمثل بعضا من البيوت والأزقة القديمة والقرى العتيقة كقرية فيدزيني وسكورديا وأخرى خاصة بالفلاحين وأسر المزارعين التي كثيرا ما حدّثنا عنها فيرغا في أعماله وقصصه والتي جعلت منه الأديب الذي زاوج بين الأدب وأساليبه الجديدة وبين العلم وتقنياته ووسائله الحديثة، ولو كان عاش إلى عهدنا لوجدناه وبدون أدنى شكّ قد رمى بنفسه في بحار تقنيات السينما والراديو والتلفزيون والإنترنيت كي يعبّر بالكلمة وبالصورة عمّا تلتقطه عينه وعدسة آلة تصويره من مختلف مظاهر الحيف والتهميش والألم الراتع بين مختلف فئات أبناء أرضه.

[هذه الصورة التي التقطها "جوفانّي فيرغا " بعدسة آلته التصويرية تعد وثيقة ذات قيمة تاريخية عالية : من اليسار إلى اليمين: رجل يحمل بندقية، "مسّارو فيليبّو" وفلاح آخر.

دائما بعدسة فيرغا: صورة لثلاث نساء من قرية "فيدزيني" التقطت في 3 أيار 1892.

(في الصّورة: السيدة ليدّا فيرغا، 1897.)

(في الصّورة: لحظة سفر السيدة "ليدّا فيرغا" وزوجها السيد "ماريو" 1896.)]
*
وأنا أطيل النّظر في هذه الصّور وصور أخرى التقطتها عدسة السيّد فيرغا، أجدني حائرة كيف أنّني تفصلني عن زمنه أزيد من مائة وعشرين سنة ومازلتُ أرى ما رآه في جزيرته، مازال الفقر ينخرُ المهزومين والمسحوقين من النّاس، ومازالت صقلية تئنُّ وتئنُّ في الكثير من قراها وأحيائها ومدنها، ولربّما لأجل هذا أعدُّها منفاي الّذي تعلّمتُ فيه الكثير من الدّروس والحكم، بعد أن كنتُ مقمّطة في القطن والدفء بين أحضان أسرتي الأولى في المغرب الحبيب. ربّما لو كنتُ قد قرأتُ فيرغا وكابوانا وغيرهما من أدباء صقليّة الفطاحل، لكان تغيّر الأمر والنّظرة التي يحملها العديد من العرب عن الحياة في الغرب، لكنّ المترجمين مقصّرون في هذا المجال، ودور النّشر معهم أيضاً، وهب أنّ المترجم أراد أن يمدّ الجسر اللغويّ والحضاريّ دون حتّى أن يتقاضى أيّ فلس عن عمله ومجهوده الجبّار، فثق إنّه سيحار فقط في كيفيّة الحصول على حقوق التّرجمة من دور النّشر الغربيّة والعربيّة، وقد يراسلهم ولا يجد لندائه من مجيب، فالكلّ في حالة نوم عميق، والكلّ لا يعنيه في شيء من تكون صقليّة ولا من هُم أدباؤها، وكأنّهم كبرتقال جزيرتهم فيهم السمّ الزّعاف، لا أحد يُريدُهُ إذا ما أردنا استخدام تعبير إيليو فيتّوريني في روايته (أطراف حديث في صقليّة) وهو يتحدّث على لسان بائع البرتقال الّذي ينعته بالصقليّ الصّغير قائلاً: ((لا يُباعُ، لا أحد يُريده، في الخارج لا يُريدون شيئاً منهُ، كأنّه مسموم برتقالنا، والمالكُ يدفع لنا بهذه الطّريقة، يعطينا برتقالاً ونحن لا نعرف ماذا نفعلُ به، ولا أحد يريده، نحن نذهب لنرى إذا ما كان أحد يريده في ريجي، أو في فيلا سان جوفاني، ولكنّهم لا يريدونه، لا أحد يريده)).
آآآه يا فيتّوريني كم تألّمتُ وأنا أقرأ محادثتكَ في صقليّة، لقد كنتُ أنا أيضاً في ذلك القطار، ورأيتُ الصقليّين الصّغار، وكنتُ أسافر معكَ من زمنكَ إلى زمني، فلا أجد شيئاً قد تغيّر، الوجوه هي الوجوه، مرسوم فوقها الغضب، ومحفورة فوقها اللّعنات، الكلّ في ضيق وضنك عيش، أراهم في الأسواق، وفي الحافلات، وفي مكاتب البريد، وفي محطّات القطار والمطارات وفي كلّ مكان أذهب إليه. أغوص في الألم معهم ويدثّرني الحزن عليهم من أخمص قدميّ إلى قمّة رأسي. من يدري لربّما كتبتُ أنا أيضاً في سنواتٍ قادمة محادثتي في صقليّة، قد تكون مختلفة شيئاً ما لكنّها ستحكي عن أرضٍ هي منفى الإنسان، يُصهر فيها بكلّ النّيران، كأنّها مطهر لا بدّ فيه من الدّمع والألم. هكذا يقول صديقنا فيرغا وهو يروي لنا حكاية عصفورة التين، هل قرأتَها؟ قرأها كابوانا وكان يبدو وكأنّه خجل من الحديث عنها بلسان النّقد، لم أفهم حقيقة موقفه ذاك، كان يسائل نفسه في كتابه (فيرغا ودانونسيو)، إذا كان من اللائق به أن يتوقّف عند هذه الحكاية على الرّغم من بعض المديح المبطّن لها، فقد كان يرى الرّجلَ مازال في بداياتهِ، وكان يُشَرّح أسلوبَه ليتأكّد من مدى تمكّنه من اللّغة الإيطاليّة، تخيّل معي هذا يا إيليو؟ أنا قرأتُها، (حكاية عصفورة التين)، وسحرتني كما لم تسحرني رواية من قبل، ولم أر فيها نقدا للرّهبنة المسيحيّة وحياة الانعزال في الأديرة التي كانت تُفْرَضُ على بعض الفتيات بحكم ظروفهنّ الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بقدر ما رأيتُ فيها دخولاً وانصهاراً في روح صقليّة، جزيرة الألم والقيد والأحزان، لقد كانت ماريّة هي صقليّة نفسها، وقد اختار لها فيرغا لباس الرّاهبة كقناع فنّي يمرّر عبره أفكاره، وبعينيْ ماريّة كنتُ أرى صقليّة التي أعرفُ جيّداً: جمالها الآسر، حقولها وأشجارها، وديانها، وجبالها، بركان الإتنا بها، وفتوّة قلبها وطهارة وبراءة روحها، هذه هي صقليّة لمن لا يعرفها، وليست تلك التي يراها الآخرون عبر شاشات التلفزيون أو يسمعون عنها في نشرات الأخبار وما إليها، هذه هي صقليّة التي يُكَبِّلُ أهل الحلّ والرّبط يديها ورجليها تحت ألف مسمّى وصورة وسبب، هذه هي صقليّة التي قتلوها فقط لأنّها تحمل قلباً ينبض بالحبّ، وعيناً تدمع لآلام الآخرين، إنّها الطّفلة التي تتجلّى لي في كلّ يوم، والتي من أجلها كتبتُ روايتي (السيّدة كُركم)، إنّها ماريّة بكلّ عذوبتها وأنوثتها، ولطفها ورقّتها وهي تكتبُ رسائلها ليس لصديقة وهميّة وإنّما لكلّ قرّائها في العالم بأسره، لأجل هذا أقول ليت الأدبَ الصقليّ يخرج من سجنه ويترجم إلى كلّ لغات العالم وليس إلى العربيّة فقط، فليس من المعقول أبداً أن تظلّ أسماء صقليّة بمن فيها تلك التي فازت بجائزة نوبل للآداب حبيسة الجدران، اقرأوا فيتاليانو برانكاتي، وأنطونيو بورجيزه، وليوناردو شاشا، ولا تنسوا من المعاصرين كتاّباً آخرين كالسيّدة سيمونيتا أنييلّو هورنوبي، وقد علمتُ أنّه قد تُرجمتْ لها رواية إلى اللغة العربيّة هي (قاطفة اللّوز).
هذه هي ماريّة التي كتب من أجلها فيرغا أجمل الروايات والقصص، إنّها عصفورة التّين، عصفورة المعرفة الخالصة، المغرّدة بالعلم اللّدنيّ، آآه لو قرأتم مثلما قرأتُ كلماتها وهي تصف لحظات العشق الّذي لامس قلبها، آآه لو عاينتم مثلما عاينتُ كيف اختفى فيرغا الكاتب والسّارد، ولم تبق سوى روحه الصقليّة بشكل يجعلك لا تشعر بالفرق بين الفتاة النّاطقة والرّجل المؤلّف، لأنّ من كان يخطّ الحرف حقيقة هو الرّوح التي كانت تتحدّث بحرف التجلّي والوجد والوله. وكلّ من يعشقُ يموت ويفنى، كما فنت ماريّة، واختنق صوتها إلى اليوم، وما كتابي هذا إلّا محاولة متواضعة من أجلّ بثّ الرّوح في هذه العصفورة الشّمّاسة وإعادة الحياة لها من أجل أن تنطلق من جديد وتعود للطّيران والتحليق إلى أبعد مدى وبأكثر من لغة، فهل ستتحقّقُ أمنيتي هذه في هذا الشهر الفضيل ونحن في العشر الأواخر منه؟!
*
القُمامة والكنز
*
وأنا أقرأ لهؤلاء الرّوائيّين الصقليّين، كنتُ كمن يركضُ في الغابة بسرعة الضّوء ثمَّ يقف متسمّراً ساكناً فوق أوّل شجرة، كنتُ أحسّني كائناً صغيراً يتلوّن بلون المكان الّذي فيه حتّى يضمن لنفسه البقاء على قيد الحياة إلى أن تمرّ المحنة. محنة أن تشعرَ بأنّك مرصود في هذا الكون من كلّ شيء يحول بينك وبين الاكتمال والخروج من شرنقة الوجود المادّي. كنتُ ومازلتُ أبحث عن العزلة في الغابة، تلك الّتي تغيّبُني عن الجميع، لأجل هذا لم أنجح ولو ليوم واحد في أن تكون لي مثل معظم الكتّاب فيترينة خاصّة أعرضُ فيها روحي بشكل مباشر فوق المنصّات الإنترنيتيّة الجديدة. أحبّ الاختفاء بعد الظّهور السّريع، أيْ الرّكضَ ثم الوقوف دون أنْ أحرّك ساكناً، كأنّني أنتظر أن يطلق أحدهم عليّ رصاصته الأخيرة ليضربني في العمق ويزلزل العرش الّذي أتربّعُ عليه. كلّنا معشر الكتّاب هكذا، أهل الحرف الرّاهب المتبتّل، كلّنا نعرف جيّداً كيف أنّه لا نجاة لنا من كلّ هذه الفوضى والرّصد المُستمرّيْنِ إلّا بالعزلة من أجل أن نشحذ قوانا كلّ يوم أكثر فأكثر. نحن نعلمُ جيّداً أنّه لا يمكن أن ننجح في هذا الأمر ما لم نلجأ إلى القراءة، فهي سفينة نجاتكَ أيها الكاتبُ الرّاهب، ووحدها تجعلكَ تشعر بأنّك حيّ تُرزق، وأن حياتَكَ هذه هي هبة إلاهيّة وليست حقّاً تنتزعه من أيّ أحدٍ. القراءة آمال تتحقّق، وعدم القراءة موت محقّق. لذا وجب علينا أن نتسلّح كلّ يوم، أن نحارب ولو لجولات قصيرة، ولكي تحقّق الانتصار يا راهبَ الحرفِ، تذكّر أنّكَ جنديّ، إذا لم تتدرّب ليوم واحدٍ فقط فستشعرُ بأنّ شيئاً ما ينقصُكَ، وإذا لم تتدرّب لثلاثة أيّام فسيشعرُ رفاقُكَ في الطّريق بذلك، وإذا تجاوز الأمرُ أسبوعاً من عدم التّدريب فسيشعرُ العالم بأسره بذلك. سيظهرُ لكلّ قرّائكَ ارتباكُ كلماتِكَ، وسيُغلقُ الكونُ عليك فخّهُ بإحكام ليصيبكَ بالوهن والضّعف والمرض. إذا لم تقرأ فتأكّد أنه سوف تتكدّس فيك الآفاتُ والعللُ والسّموم وتبدأ بالموت رويدًا رويدًا. لذا لا بدّ لك أن تبقى ثملاً بالقراءة وبالكتابة أيضاً، فالأولى تأتي بالثانية والعكس صحيح. جرعة من الحرف كلّ صباح ستجعلك منتعشاً، وأكثر قدرة على مقاومة الألم، وجرعة في المساء ستجعلكَ أكثر قدرة على الصّمود حتّى فجر اليوم الآخر. ستمضغُ الأزهار، وتسبح في أنهار النّور، وتغوص في البحار البهيّة، وما عليك آنذاك سوى أن تختار نظامكَ المناسب، وتنقر على الصّور كي تسمع ألحانَ قلبكَ. القراءة ستجذب ربّات الإلهام إليكَ، وتُعلّمُكَ كيف تدخل إلى حديقتك السرّيّة، هناك حيث المنجم الأصيل البِكر النقيّ الّذي لم يدنّسه أحد، والّذي يحبل بالكنوز والأسرار. وأنا حينما قرأتُ في جزيرة الشّمس فيتّوريني والأمير تومازي وفيرغا وكاميلّيري وجدتُهم أمامي أرواحًا تفيض بالحياة، وأجسادًا يجري فيها الدّم فيّاضًا جيّاشًا، كنتُ أضحك لضحك فيتّوريني وأبكي لبكائه، أنظر معه وبعينيْه إلى كلّ شخصيّة قابلها في القطار، عشقتُ والدته وهي تحكي عن تجربتها مع زوجها التي ظلّت تحبّه رغم بعده عنها وتلبس حذاءه الكبير في غيابه. مع فيرغا عشقتُ ماريّة وكلّ كلمة كانت تنطق بها أو تكتبها في رسائلها لصديقتها ماريانّا، وعشقتُ الطّريقة التي كان يتدرّج بها الكاتبُ في صياغة هذه الرّسائل وكأنه يعزفُ سيمفونيّة تبدأ صامتة لترتفع أنغامُها شيئاً فشيئاً ثمّ تتفجّر في الختام وتعلنُ لحظة الموت الضاجّ بالمعجزات. وأنا أقرأ كاميلّيري كنت أتساءل كيف كان يعود لهُ الشّغف العتيق فجأة، وكيف كان يُطوّع تلكَ الأيّام القديمة من حياة صقليّة عبر خلقه لكلّ تلك الشّخصيّات؟! كان لكلّ واحد منها صوت ونبرة، وشكل وحركة، ودم وطين وريش. ومع الأمير تومازي دي لامبيدوزا كنتُ أرى كيف تتحرّكُ ربّات الإلهام بداخله وهو يتحدّث عمّا يحبّ ويكره، كنتُ أدخل إلى حديقته وأعلم أنّ كلّ عملية دخول هي عمل شاقّ يهابه الجميع، لأنّ اللّغة تقف في الطّريق، وكذا الأسلوب وطريقة السّرد والحبك والنّسج. لكلّ كاتب حديقته، أو مستودعه الممتلئ بالأسرار التي تدفع القارئ إلى التساؤل كيف يغذّي هذا الكاتبُ نفسه في الحياة وبِمَ، وما هي الكتب التي ساهمت في نموّ أشجار الرّوح وفراديسها، وتدفّق شلّالاتها؟
الحديقة الدّاخلية تحتاج إلى الحرف في كلّ تجلّياته، لأنّه يبقيكَ متأهّباً، ويجعلُ كلّ حاسّة فيك واعية ويقظة على الدّوام، انظر إلى إيليو كيف كان يتحدّث في روايته (أطراف حديث في صقليّة)، عن العسل المكنوز في أمّه، لقد كان يراها ملكة من ملكات النّحل، وماهو هذا العسل يا ترى، إذا لم يكن عسل الإلهام الّذي يَسَّرَ له سبيل خلق هذه الشّخصيّة واختيار كلّ التفاصيل التي تليق بها. وكلّ هذا كان يحتاج منه إلى حاسّة ذوق رهيفة جدّاً، وإلّا كيف كان سيميّز العسل من السمّ، وكذا إلى حاسّة شمّ قويّة ليصف لنا بها رائحة التّراب والنّاس، والبيوت والحقول، وسمك الرّنجة وفاكهة الشّمّام وكلّ ما لا يخطر على بالك من عطر أو عبير بقيَا محفوريْن في ذاكرة الطّفولة البعيدة. لأجل هذا أقول لا بدّ لكلّ كاتب أن يجدَ في قراءاته ما يطوّرُ حسّه بكلّ شيء، ولأجل هذا قلتُ في مقدّمتي أنّني حتّى بمداومتي على قراءاتي المقدّسة التي تغسل روحي بالماء والبَرَد كلّ يومٍ، فإنّه لا بدّ لي من أن أدخل إلى حرف الله من كوّات وأبعاد أخرى لم أجدها فقط في الرّواية وأمّهات كتب الآداب العالميّة، وإنّما أيضًا في كتب اللّاهوت والفلسفة والفنّ وما إليها. لا بدّ من القراءة حتّى لمن لا يفكّرُ مثلنا، أو لا يكتب مثلنا، يجب أن نفتح نوافذ القلب لنسلك طرقًا جديدة لمْ نسلكها من قبل، ويجب أن نضع نصب أعيننا أنّ زمن الإنسان غنيّ جدّاً بالقمامة والكنوز، وأن الفوزَ الحقيقيّ الّذي لا بدّ من بلوغه، هو أن نعرف كيف نميّز بين القمامة والكنز!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في


.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء




.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق