الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان ابني الديسم ميشا طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 3 / 10
الادب والفن


رواية للفتيان






ابني
الديسم ميشا







طلال حسن


شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ الجدة نافارانا

2 ـ اتارتك ـ زوجها

3 ـ ميشا ـ الديسم ـ الدب

4 ـ ترمجان ـ طفلة

5 ـ ماكايت ـ أبو ترمجان

6 ـ أم ترمجان

7 ـ ايلاك ـ رجل

8 ـ افوفانغ ـ صياد شرس




" 1 "
ـــــــــــــــــــ
في ساعة متأخرة من الليل ، تناهى إلى الجدة نافارانا ، دمدمة عاصفة من بعيد ـ أم أنّ هذا ما خيل إليها ؟ ـ لكنها حين استيقظت صباحاً ، وأزاحت الستارة عن النافذة الصغيرة للكوخ ، ونظرت عبرها ، رأت السماء صافية زرقاء كماء البحر في الصيف ، والشمس في مشرقها تسطع ضاحكة دافئة .
وعلى الفور ، أعدت شيئاً من الطعام ، وراحت تتناوله على عجل ، وهي تتمتم كما تتمتم دائماً بصوتها الشائخ : هذا يوم وجد للصيد ، فلأذهب وأصد .
وسكتت لحظة ، ثم تابعت متمتمة : صيد السمك طبعاً ، وأترك صيد الفقمات السوداء ، وصيد الدببة ، للرجال الأشداء ، وهم ليسوا قلة في قريتنا .
وتناولت الجدة نافارانا السنارة ، وخرجت من الكوخ ، وأغلقت الباب ، ثم اتجهت إلى منطقة من المناطق المتجلدة من البحر ، لتبحث عن فتحة تنفس ، تستخدمها الفقمات في الدخول إلى أعماق البحر ، والصعود منه ، لتدلي سنارتها منها ، لعلها تصيد سمكة تأكلها على الغداء ، فهي تحب السمك ، ربما أكثر من حبها للحم الفقمات ، الذي يقدمه لها جيرانها الطيبون .
وسارت ببطء على الجليد ، فالشتاء الآن في أوجه ، لكنه لا يخلو من أيام مشمسة ، تطل فيه الشمس على استحياء ، وكأنها تقول : أنا هنا .
وتراءى لها زوجها اتارتك ، وهما في السنة الأولى من زواجهما ، الذي لم يدم طويلاً ، يرتدي ملابسه الجلدية السميكة ، ويشدّ بيده القوية على رمحه ، ويقول لها : نافارانتي ، ستأكلين اليوم لحم دب .
وتقول له فرحة : إنني أحبّ لحم الدب ، يا نسري .
ويفتح اتارتك الباب ، ويقول لها ضاحكاً : سأطير إذن ، وآتيك بلحم الدب .
وطار اتارتك ، طار منها بعيداً جداً ، قتله دب قطبي أبيض ، فالدببة مثل صياديها ، يُقتلون ويَقتلون ، وهكذا بقيت وحيدة ، وأقسمت بينها وبين نفسها ، أن لا تأكل لحم دب ، مهما كانت الظروف .
وهذا اليوم ، توغلت نافارانا كثيراً في البحر المتجلد ، دون أن تعثر على فتحة تنفس واحدة ، لكنها مع ذلك لم تفكر في أن تقفل عائدة إلى البيت ، فقد خرجت بنية أن تصيد لها ولو سمكة واحدة ، ولن تعود من حيث جاءت ، قبل أن تصطاد هذه السمكة .
وتوقفت تسترد أنفاسها ، حين وقع بصرها أخيراً على فتحة تنفس ، ودققت النظر فيها جيداً ، فرأت رأس فقمة سوداء يبرز منها ، وما إن رأت الفقمة من مكانها ، الجدة نافارانا قادمة ، حتى سحبت رأسها بسرعة ، وغاصت في أعماق البحر .
وتقدمت الجدة نافارانا من الفتحة ، التي كان ماء البحر يرتج في أسفلها ، وأدلت سنارتها فيها ، وجلست تنتظر ، وخلال انتظارها ، الذي كان يطول أحياناً ، تسوح في أيامها الماضية الثقيلة والطويلة ، وهل أثقل وأطول من أيام الوحدة ؟ آه إنها أطول وأثقل من أيام الشتاء الباردة والعاصفة في أصقاع القطب المتجلدة .
وانتبهت الجدة نافارانا على سنارتها تغمز ، فراحت تسحبها على الفور ، وقبل أن تصل إلى سطح الماء في الفتحة ، عرفت أن صيدها مجرد سمكة صغيرة ، لكن لا بأس إنها سمكة مهما كانت ، وبالفعل كانت سمكة صغيرة ، بل أصغر مما توقعت ، فرفعتها من السنارة ، وألقتها جانباً عل الجليد ، ثم وضعت طعماً جديداً في السنارة ، ودفعتها ثانية عبر فتحة التنفس .
وعادت إلى سياحتها في أيامها الماضية ، أيام مشمسة ، وأيام مثلجة ، وليالٍ عاصفة ، كئيبة ، وما أكثرها ، وأثقلها ، في ليالي الوحدة ، و ..
وشعرت بشيء كأنما يغمز ذراعها ، أهو من الماضي ؟ وغُمز ذراعها ثانية بنفس الطريقة ، وفي الوقت نفسه تناهى إليها ما يشبه الشخير ، يصدر من ورائها ، فاستدارت إلى مصدر الصوت ، وإذا ديسم صغير ، كأنه دمية بلون الثلج ، يحدق فيها ، وكأنما يستغيث بها ، وهزت رأسها تأثراً ، وتمتمت : ماذا يا صغيري ، أين أمك القاسية ؟ لابد أنها تشخر الآن في كهفها الدافىء ، وقد تركتك في هذه المتاهة المتجلدة ، أم أن صياداً حجري القلب ، قتلها من أجل لحمها وفرائها و .. ؟ لابدّ أنك جائع ، صدقني ، يا بنيّ ، لو كان بوسعي أن أرضعك حتى تشبع ، لأرضعتك في الحال .
وتذكرت صيدها ، فمدت يدها المرتعشة ، وأخذت السمكة الصغيرة ، وقدمتها للديسم ، لكنه نظر إليها ، ثمّ هزّ رأسه ، وهو يشخر بصوت كالأنين ، فتمتمت بصوتها الشائخ : ماذا أستطيع أن أفعل ، يا صغيري ، هذا كلّ ما أستطيع أن أقدمه لك .
وغمزت السنارة بقوة هذه المرة ، وسحبتها على الفور بكل ما تملك من قوة ، وقلبها الشائخ يخفق بفرح ، فهذه المرة لن تكون كالمرة السابقة ، وفعلاً حصلت على سمكة ، كانت أكبر مما كانت تتمنى .
وحملت الجدة نافارانا السمكة ، رغم ثقلها بالنسبة لها ، وتركت السمكة الصغيرة في مكانها على الجليد ، وقفلت عائدة إلى الكوخ .
وانتبهت وهي تقترب من القرية ، إلى وقع أقدام خفيفة وراءها ، فاستدارت والسمكة بين يديها ، وإذا الديسم يتوقف على مقربة منها ، فخاطبته متمتمة بصوتها الشائخ المتعب : بنيّ ، أنا لست أمك ، أنا إنسانة ، وأمك دبة مثلك ، اذهب إلى أمك ، قبل أن يخيم الليل ، ستموت من البرد ، إذا بقيت في العراء .
ورغم أن الديسم لم يردّ عليها ، أو يتحرك من مكانه ، إلا أنها استدارت ، وواصلت سيرها البطيء ، حتى وصلت كوخه ، وفتحت الباب ، ودخلت والسمكة بين يديها ، دون أن تلتفت إلى الوراء .
















" 2 "
ـــــــــــــــــــــ
مع عويل العاصف الثلجية ، التي تهب في الخارج ، خيل للجدة نافارانا ، أنها تسمع ما يشبه الطرق على باب كوخها ، الذي بدا أنه لن يصمد .
أهي العاصفة الثلجية ؟
أم أنه حلم ، وما أكثر أحلامها الكابوس .
من يدري ، لكن ما يشبه الطرق مستمر على الباب ، فاعتدلت في فراشها متعبة ، صحيح أن الليل مازال في أوله ، لكن من يأتيها في هذه العاصفة المجنونة ؟
وانتظرت ملياً في فراشها ، لعل الطارق ، إذا كان هناك طارق أصلاً ، ينتابه الملل ، ويصيبه اليأس ، فيكف عن طرق الباب ، ويعود من حيث أتى .
وعلى غير ما تمنت ، استمرّ ما يشبه الطرق على الباب ، فنهضت الجدة نافارانا بصعوبة بالغة ، وهي تدمدم متذمرة ، وفتحت الباب ، وتوقفت مذهولة ، وقد اتسعت عيناها اللتان أذبلتهما السنون العجاف ...
إنه الديسم ، الديسم نفسه ، الذي يشبه دمية كبيرة بلون الثلج ، يقف في العاصفة المجنونة ، والثلج المتساقط بكثافة ، يتراكم فوق فرائه الثلج ، ويكاد يغطيه تماماً ، آه يبدو أن لا أحد لك في هذه الليلة القاتلة .
ومدت يديها الشائختين ، وسحبته إليها ، وهي تتمتم بصوت مرتعش : بنيّ ، تعال ادخل إلى الدفء والأمان ، بعيداً عن الليل ، وهذه العاصفة المجنونة .
وأغلقت الباب ، واقتربت به إلى الموقد ، الذي كادت النار فيه أن تنطفىء ، فغذتها من جديد بأخشاب جافة ، وسرعان ما ارتفعت ألسنة اللهب ، وأشاعت الدفء والشعور بالأمان ، داخل الكوخ الصغير .
ونفضت الجدة نافارانا الثلوج عن فراء الديسم ، وبدا لها فعلاً دمية ثلجية اللون ، فنظرت إليه ملياً ، ثم قالت : والآن وقد دفئت ، وشعرت بالأمان ، لا شك أنك جائع ، ولابد لك من طعام ، يسكت جوعك .
وأطلق الديسم ، الذي يشبه دمية ثلجية اللون ، أصواتٍ أشبه بالشخير ، وكأنه يحاول بها أن يحاكي صوت الجدة نافارانا ، فتساءلت متمتمة : والآن ماذا تأكل ؟
وصمتت لحظة ، ثم تمتمت محذرة ، وهي تلوح بإصبعها : أعرف أنك صغير ، لكن لا تقل ، أريد حليباً ، فليس لدي حليب ..
ومالت عليه ، وتمتمت : صدقني ، يا بنيّ ، لو كان بإمكاني أن أرضعك لأرضعتك في الحال ، فأنا رغم تقدمي في العمر امرأة ، نعم امرأة .
وصمتت لحظة ، وراحت تضحك مما تمتمت به ، ثم تمتمت وكأنها تتمتم لنفسها : آه لو أستطيع أن أرضعه ، إنه ابني ، ابني الصغير ، والمرأة عادة ترضع ابنها ، حين يكون صغيراً .
وراحت الجدة نافارانا تتلفت حولها ، وكأنها تبحث عما يمكن أن تقدمه للديسم ـ الدمية الذي بلون الثلج ، وتراءت لها أمها ، التي رحلت منذ سنين طويلة ، وبدا لها أنها تخاطبها قائلة : بنيتي ، الدببة الصغيرة ، تأكل دهن الحوت المذاب ، وبعض شحوم الفقمات .
وعلى الفور ، وضعت الجدة نافارانا ، الديسم الصغير ، أمام النار المشتعلة في الموقد ، وتمتمت له : ابقَ هنا قرب النار ، وسأعد لك ما تأكله من طعام .
وجلس الديسم ، الذي يشبه دمية ثلجية اللون ، أمام النار المشتعلة في الموقد ، وراحت الجدة نافارانا تذيب له بعض دهن الحوت ، وأحضرت له شيئاً من بقايا شحوم الفقمة ، التي يجيء لها به جيرانها الطيبون .
واقتربت منه ، وسقته دهن الحوت المذاب ، لكنه على ما يبدو لم يشبع به ، فأطعمته بيدها المرتعشة بقايا شحوم الفقمة ، التي حضرتها له حتى نهايتها .
ونهضت الجدة نافارانا ، وغسلت يديه من أثر الدهن والشحوم ، ثم جلست قرب الموقد ، الذي كانت النار ما تزال تشتعل فيه ، فمال اليسم عليها ، ووضع رأسه فوق صدرها ، وراح يشخر محاكياً تمتمتها ، فخفق قلبها بحنان ، وتمتمت بصوت دامع : آه من الأمومة .
وحدقت في الديسم ، الذي يتمدد على صدرها ، وقد أغلق عينيه الطفلتين ، وراحت تتمتم بصوتها الشائخ المرتعش : بنيّ ، أنت ديسم ، وأنت الآن معي ، أصارحك ، كان زوجي اتارتك صياد دبببة ، ولو رأيتك وقتها ، لطلبت منه أن يكف عن صيد الدببة ..
وصمتت لحظة ، ثم واصلت تمتمتها قائلة : لم يدم زواجنا طويلاً ، وقبل أن يكون لي ولد منه ، قتل بين مخالب دب ضخم ، من يدري ، لعل زوجي قتل زوجة هذا الدب ، أو قتل ديسم من دياسمه .. آه .
وانتبهت الجدة نافارانا ، إلى أن الديسم هدأ تماماً فوق صدرها ، وانتظمت أنفاسه ، المسكين ، لقد استغرق في النوم ، آه ما أجمله وهو نائم .
وتلفتت حولها ، وهي تتمتم : أنا أيضاً نعسانة ، وأريد أن أنام ، أين يمكن أن أنيمه ؟ هل أنيمه قرب الموقد ؟ لكن النار ستخمد بعد حين من الزمن ، ويتلاشى الدفء من الكوخ ، وقد يمرض هذا الصغير ..
وصمتت لحظة ، ثم تمتمت : لا مفر ، لن أدعه يبرد ، مادمت موجودة ، وليكن ما يكون .
وأخذت الديسم بين ذراعيها ، ونهضت بهدوء ، ووضعته في فراشها ، ثم تمددت إلى جانبه ، وسحبت الغطاء السميك فوقها وفوق الديسم ، وأغمضت عينيها ، واستسلمت للنوم .
ورغم غطيطه وغطيطها ، راحت الجدة نافارانا تتمتم ، ربما بينها وبين نفسها ، وربما تتمتم وهي مستغرقة في النوم ، وقالت : صغيري ، لقد أنقذتك من الموت في الليل والريح الثلجية ، لكن لك أم ، وسآخذك غداً إلى المكان ، الذي لقيتك فيه ، لعل أمك تبحث عنك هناك ، أو تعرف أنت الطريق إلى أمك ، أو ..
وصمتت الجدة نافارانا ، حين انبثق من العتمة زوجها اتارتك ، وقال لها : نافارنا ، هذا ابنك الذي انتظرته طويلاً ، فلا تفرطي فيه ، وأنت في هذا العمر المتقدم ، تمسكي به ، لا تتركيه ، وربيه ، وسيكن شمعة في كوخك المظلم ، الذي لم تتردد فيه أنفاس طفل من الأطفال حتى الآن .











" 3 "
ــــــــــــــــــــــ
عند الضحى ، والشمس تطل شاحبة من أعماق السماء ، طرق باب كوخ الجدة نافارانا ، فتوقفت الجدة نافارانا ، وقد كاد قلبها يتوقف من الخوف ، فهي لا تريد أن يعرف أحد ، أن لديها الآن صغير ، وطرق الباب ثانية ، فتمتمت بصوت خافت ، مطمئن بعض الشيء : هذه الطفلة ، ابنة جارتنا الطيبة ، ترمجان .
فأخذت الديسم ، الذي يشبه دمية بلون الثلج ، ووضعته في فراشها ، وغطته بجلد الدب السميك ، وهي تقول له : لا تخف ، يا بنيّ ، هذه الطفلة ترمجان ، هكذا تسميها أمها ، فهي تحب طائر الترمجان ، ابق هنا ، ريثما أصرفها ، وأبعدها عن الكوخ .
وردّ عليها الديسم بشخير خافت يحاكي صوتها ، فقالت له ، وهي تتجه نحو الباب بأقصى ما تستطيعه من سرعة : اصمت ، يا بنيّ ، لا تتكلم الآن .
وفتحت الجدة نافارانا الباب ، نعم ، إنها الطفلة ترمجان ، بوجهها الجميل الطيب ، وعينيها السوداوين الجميلتين اللتين تشبهان عيني أمها ، تقف على مقربة من الباب ، وفي يدها طبق فيه قطعة من لحم الفقمة ، وقليلاً من الشحم ، فتمتمت مبتسمة : أهلاً ترمجان ، آه لقد تأخرت عليك ، أنت تعرفين إنني امرأة عجوز .
وقدمت ترمجان طبق اللحم إليها ، وقالت : تفضلي ، هذه القطعة من لحم الصدر .
وأخذت الجدة طبق اللحم ، وقالت : ألف شكر لك ، يا عزيزتي ، ولأمك الطيبة .
واقتربت ترمجان منها قليلاً ، وقالت : أمي تسلم عليك ، وتقول إنها ستزورك قريباً .
وخفق قلب الجدة نافارانا ، وسدت فتحة الباب بجسمها النحيل ، فهي تخشى أن تنظر ترمجان إلى الفراش ، وترى الديسم الذي بلون الثلج ، فقالت لها ، وهي تهمّ بغلق الباب : عفواً ، سلمي لي على أمك ، وقولي لها ، إنني مشغولة بعض الشيء هذه الأيام و .. أريد أن تأتيني بشيء من دهن الحوت ، وقليلاً من شحم الفقمة و ..
وسكتت الجدة نافارانا ، وقلبها الشائخ يخفق بشدة ، حين رأت ترمجان تتسع عيناها السوداوان ، وتفغر فاها على سعته مندهشة ، فتمتمت متوجسة بصوتها المرتعش : ما خطبكِ ، يا ترمجان ؟
وأشارت ترمجان بعينيها السوداوين المندهشتين ، ونظرت الجدة نافارانا حيث تشير ، وإذا الديسم الذي يشبة دمية بلون الثلج ، يقف إلى جانبها ، فتمتمت محرجة : ترمجان ، هذا ابني .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : إن ما طلبته من دهن الحوت ، وشحم الفقمة ، ليس لي ، بل لابني ، فهو لا يأكل الآن سوى هذا النوع من الطعام .
وتراجعت ترمجان مبتعدة ، وهي تقول : سأجيئك دائما بدهن الحوت ، وشحوم الفقمة ، مادام ابنك الصغير هذا ، يحب أن يأكلها .
ولوحت لها الجدة نافارانا متمتمة : تحياتي لأمك .
وأخبرت ترمجان أمها ، بأنها رأت ديسماً عند الجدة نافارانا ، فهزت الأم رأسها ، وقالت : لقد جنت الجدة نافارانا ، سيكبر هذا الديسم ، ويقتلها .
ولم تكتفِ ترمجان بإخبار أمها ، بما رأته عند الجدة نافارانا ، بل أخبرت بذلك الكثير من أصدقائها وصديقاتها ، لكن بعضهم لم يصدق ما قالته ، وقالها أحدهم صراحة : ديسم ! لا أصدق هذا .
وقالت طفلة ، وقد فغرت فاها : ديسم ! ديسم حقيقي ؟
فردت عليها ترمجان قائلة : نعم ، ديسم حقيقي ، رأيته بعينيّ يقف إلى جانبها بباب الكوخ .
وقالت طفلة صغيرة : لعله طفلها .
وضحك بعض الأطفال ، لكن ترمجان لم تضحك ، وإنما قالت : لو كان طفلها لكان يشبهها .
وردت الطفلة الصغيرة نفسها : لعله يشبه أباه .
وهنا تقدم طفل ، وقال : الأفضل أن نذهب إلى كوخ نافارانا ، ونتحقق من الأمر .
واعترضته ترمجان ، وقالت : لن تسمح لكم الجدة نافارانا ، برؤية الديسم إلا إذا قدمتم لها شيئاً من دهن الحوت أو شحم الفقمة .
فقال أكثر من طفل : فلنقدم لها ما تريد .
وقبيل المساء ، كان عدد من الأطفال ، وفي يد كل منهم ، طبق فيه شيء من دهن الحوت أو شحم الفقمة ، يقفون مترددين متشوقين ، أمام باب كوخ الجدة نافارانا ، يريدون أن يروا الديسم ، الذي في بياض الثلج .
وطرقت ترمجان الباب ، وما إن فتحت الجدة نافارانا الباب ، ورأت الأطفال تتقدمهم ترمجان ، حتى تمتمت بصوتها الشائخ المرتعش : ترمجان ، أنت عاقلة ، ما كان لك أن تأتي ، ومعك كلّ هؤلاء الأطفال .
فمالت عليها ترمجان ، وقالت : أيتها الجدة ، هؤلاء الأطفال جاءوا بطعام للك وللديسم .
ولاذت الجدة نافارانا بالصمت ، وقد بدا عليها شيء من الرضا ، وتقدم منها العديد من الأطفال ، وقدموا لها ما جاءوا به ، وقال لها أكثر من واحد وواحدة : نرجوكِ ، أيتها الجدة ، أرينا الديسم الأبيض .
ونظرت إليها ترمجان بعينيها السوداوين الجميلتين ، وقالت راجية : أيتها الجدة ، الأطفال يحبونك ، اسمحي لهم برؤية الديسم ، ولو مرة واحدة .
ورفعت الجدة عينيها الشائختين ، وحدقت بهما في الأطفال ملياً ، ثم قالت لهم : اذهبوا إلى النافذة ، سأزيح الستارة عنها ، وأدعكم تنظرون إليه .
ومدت الجدة نافارانا يدها المرتعشة ، وأغلقت الباب ، ثم مضت إلى النافذة ، وأزاحت عنها الستارة ، وإذا الأطفال يتدافعون ، وهم يهتفون : الديسم .. الديسم .
وأشارت الجدة نافارانا إلى الديسم ، وكان يقف إلى جانبها ، كأنه دمية بلون الثلج ، وتمتمت قائلة : هذا ابني ، وهو صديق لكم منذ اليوم ، فارفقوا به .
وظلّ الأطفال يحملقون في الديسم ، الدمية التي بلون الثلج ، عبر نافذة الكوخ الصغيرة ، وحلّ الظلام شيئاً فشيئاً ، وشيئاً فشيئاً انسحب الأطفال ، بعيداً عن النافذة الصغيرة ، وذهب كلّ منهم إلى بيته .







" 4 "
ـــــــــــــــــــــ
جلست الجدة نافارانا ، والديسم الذي يشبه دمية بلون الثلج ، جنباً إلى جنب أمام الموقد ، والنار تطقطق وكأنها تتحدث إليهما بصوت هامس : تسامرا ، ودعاني أتسامر معكما ، وأقدم لكما الدفء والأمان .
وراحا يتسامران ، الجدة نافارانا تتمتمت له : بنيّ ..
والديسم الذي يشبه دمية بلون الثلج ، يحاكي تمتمتها بأصوات دافئة تشبه الشخير ، كما لو أنه طفل حقيقي يردّ على مناغاة أمه الحنون .
وصمتت الجدة نافارانا ، وراحت تحدق في الديسم ، ابنها الدمية الذي بلون الثلج ، ثمّ انتبهت ، وتمتمت بصوتها الشائخ : بنيّ ، حين تزوجت ، كنت آمل أن يكون لي طفل ذكر ، إنني أحب البنات ، لكني أردت أن يكون طفلي الأول ذكراً ، وقلت لزوجي مرة ، لو جاءنا طفل سأسميه ميشا ..
وصمتت لحظة ، وقد دمعت عيناها ، ثمّ تابعت تتمتم : وبعد سنين طويلة ، وصبر طويل ، جئت أنت ، أنت ابني ، هذا ما قاله لي زوجي اتارتك حين جاءني في المنام ، فأنت ميشا .. نعم أنت ابني .. ميشا .
وتسلل النعاس إلى الديسم ميشا ، الذي يشبه دمية بلون الثلج ، وسرعان ما أغفى أمام نار الموقد ، فحملته الجدة نافارانا ، ووضعته في الفراش ، فهو لم يعد فراشها وحدها منذ أن جاء ميشا ، وإنما صار فراشهما معاً ، ينامان فيه جنباً إلى جنب .
وراحت الجدة نافارانا ، تتأمله بعينيها الشائختين المحبتين ، وتناجيه في داخلها ، لأنها تريد أن يرتاح في نومه ، ولا تزعجه تمتمتها المرتعشة ، وكان يرد عليها ـ هكذا يخيل إليها ـ بغطيطه العذب .
وكما يمرّ السحاب ، في السماء الشاسعة ، تمرّ الأيام والسنون ، يمرّ الشتاء ، ويأتي الربيع ، فالصيف ، ثم الخريف ، وخلال مرور هذه الأيام ، وكما تكبر أشجار الغابة ، يكبر الأطفال ، وابنها الديسم ميشا ، الذي يشبه دمية بلون الثلج ، يكبر أيضاً بين الأطفال .
في البداية ، لم يكتفِ الأطفال ، بمشاهدة الديسم ميشا عبر النافذة ، وإنما طالبوها ، بواسطة الطفلة ترمجان ، التي تحظى بمكانة كبيرة عندها ، أن تخرج به من الكوخ ، ليكون قريباً منهم .
وهذا ما فعلته متوجسة ، وعلى مضض ، فراحت تخرج به أمام الكوخ ، وتبقيه على مقربة منها ، فيتجمع الأطفال حوله ، يتأملونه مندهشين ، ويتحدثون إليه ، بل راح بعضهم ، وخاصة الفتيات الصغيرات ، يرقصن أمامه ، وهذا ما أفرح الديسم ميشا ، وأدخل الفرح على قلب الجدة نافارانا نفسها .
ويوماً بعد يوم ، راح الديسم ميشا ، يشارك الأطفال لهوهم ، بل وحتى رقصاتهم الطفولية ، وهو يصدر أصوت الفرح ، فيمسك أيديهم ، أو يلمس ظهورهم ، وحتى وجوههم المتوردة ، ولكي لا يؤذيهم ، وكما أوصته الجدة نافارانا ، كان يخفي مخالبه الحادة داخل كفيه وقدميه ، ولا يخرجها أبداً .
لكن الديسم ميشا ، وإن التزم بتوصيات الجدة نافارانا ، حول عدم إبراز مخالبه الحادة الجارحة ، إلا أنه حين يستغرق في اللعب مع الأطفال ، كان ينسى أنه دب ، وأن حجمه وقوته بدأت تزداد ، فيدفع الأطفال دون عمد ، ويتسبب في سقوطهم بعضهم على الأرض ، فكانت الجدة نافارانا تسرع إليهم ، وتأخذهم إلى صدرها ، وتمسح دموع من يبكي منهم .
وبين حين وآخر ، صارت بعض الأمهات ، تمنع صغارهن من اللعب مع ميشا ، وقالت لها أكثر من واحدة من الأمهات : أيتها الجدة نافارانا ، إن ديسمكِ ميشا لم يعد ديسماً ، لقد كبر ، وصار دباً فتياً وقوياً ، ونخشى على أطفالنا منه .
لكن الجدة نافارانا كانت ترد متمتمة : ابني ميشا لا يؤذي أحداً ، ثم أنا أتواجد معهم دائماً ، وأنتم تعرفون أن أثناء اللعب يسقط بعض الأطفال ، هذا يحدث دائماً ، والأطفال يحبون ميشا ، وميشا يحبهم جميعاً .
والواقع أن الديسم ميشا لم يعد ديسماً ، لقد بدأ يكبر ، وحتى الجدة بدأت بينها وبين نفسها تعترف بذلك ، ومع حبّ ميشا للطعام ، وإفراطه في تناوله ، ازداد حجمه ، حتى بدأ يزاحم الجدة نافارانا في الفراش ، مما اضطرها أن تعدّ له فراشاً خاصاً به ، خشية أن يسحقها يوماً ، وهو يتقلب في الفراش .
وبدأ ميشا ينام في فراشه الخاص ، لكنه أحياناً ، ولسبب ما ، ينهض في منتصف الليل ، وعيناه مغمضتان تقريباً ، ويندس إلى جانب الجدة نافارانا ، ويستغرق في نوم عميق ، فتمد يديها الشائختين الحانيتين ، وتحضنه ، وتستغرق في النوم هي الأخرى .
وراح الأطفال ، رغم حبهم لميشا ، يبتعدون عنه الواحد بعد الآخر ، لكن الطفلة ترمجان ، ظلت على تواصلها معه ، وكلما جاءت إلى كوخ الجدة نافارانا ، ومعها اللحم ودهن الحوت وشحم الفقمة ، تلهو معه داخل الكوخ ، أو في محيطه ، دون أن يغيبا عن أنظار الجدة .
وذات يوم ، حوالي العصر ، والشمس معلقة شاحبة في الأفق ، وكانت ترمجان منهمكة باللعب أمام الكوخ ، والجدة نافارانا جالسة عند الباب ، أقبل الصياد افوفانغ ، يسحب زلاجته يحمل فيها دباً فتياً قتيلاً ، وتوقف على مقربة من ترمجان وميشا ، وحدق في ميشا بعيني صياد حاقد ، وقال : هيْ .. أيها الدب .
وتحاملت الجدة نافارانا على نفسها ، ونهضت بصعوبة بالغة ، وقد تملكها الغضب ، وتمتمت بصوت مرتعش : افوفانغ ، ابتعد عن ميشا ، إنه ابني .
لم يلتفت افوفانغ إليها ، وظلت عيناه القاسيتان مثبتتين على ميشا ، وقال : ما تسمينه ميشا دب ، وهو يكبر ، ولو مسّ شعرة أحد من أبناء القرية ، فسأقتله .
وصاحت الجدة نافارانا متمتمة : أيها القاتل ، لا تقرب كوخي ، ولا تقرب ميشا ، ابتعد .. ابتعد .
وسحب الصياد افوفانغ زلاجته ، وفيها الدب الفتي القتيل ، ومضى مبتعداً ، دون أن يلتفت إليها ، والتفتت الجدة نافارانا إلى الطفلة ترمجان ، وخاطبتها متمتمة : بنيتي ، الوقت متأخر ، اذهبي إلى البيت .
وابتعدت ترمجان حزينة ، وقد إغرورقت عيناها بالدموع ، فأخذت الجدة نافارانا ميشا ، الذي لم يعد ديسماً ، ودخلت به الكوخ ، وأغلقت الباب ، وهي تتمتم : بنيّ ميشا ، الصياد افوفانغ مجرم قاتل ، إذا اقترب منك يوماً ، فتذكر أنك دب .




" 5 "
ــــــــــــــــــــــــ
ذات يوم شتائي شديد البرودة ، تجمد فيه كلّ شيء في محيط المنطقة ، بما في ذلك أجزاء كبيرة من ماء البحر ، راح ميشا يدور متذمراً داخل الكوخ ، كما يدور دبّ كبير ، حُشر مكرهاً في القفص .
وحدقت الجدة نافارانا فيه ملياً ، ثم تمتمت بصوتها الشائخ : ميشا ، أراك متضايقاً ، ما خطبك ؟
ووقف ميشا ، وأشار بخطمه إلى النافذة ، ثم اقترب منها ، وأزاح الستارة عنها ، وإذا الشمس مشرقة ، وتبدو دافئة ، مبتسمة ، وكأنها تقول لمن ينظر إليها : اخرج من بيتك ، وتعال إليّ .
فابتسمت الجدة نافارانا ، وتمتمت بصوتها الشائخ قائلة : آه فهمت ، تريد أن تخرج من الكوخ ، وتلهو تحت أشعة الشمس ، هذا حقك ، يا ميشا .
وارتدت معطفها السميك ، المصنوع من جلد الدب الأبيض ، وتناولت سنارة السمك ، رغم أن لديها الكثير من لحم الفقمة وشحمها ، وكذلك الكثير من دهن الحوت ، وقالت لميشا : هيا يا بنيّ ، فلنذهب ، ونصطاد السمك من فتحات التنفس ، فالبحر متجمد الآن .
وخرجا من الكوخ ، وانطلقا نحو فتحات التنفس ، بعد أن أغلقت الجدة نافارانا الباب ، وسارا جنباً إلى جنب على الأرض المتجلدة ، واضطر ميشا للسير ببطء ، مجارياً يذلك سير الجدة البطيء ، متمتعاّ بالهواء الطلق رغم برودته ، وفرحاً بالشمس المشرقة .
ومالت الجدة نافارانا على ميشا ، وخاطبته متمتمة بصوتها الشائخ : بنيّ ، جئت بالسنارة لنصطاد السمك ، من إحدى فتحات التنفس ..
وصمتت لحظة ، لتلتقط فيها أنفاسها ، ثمّ قالت متمتمة : أنت تحب السمك ، وأنا أيضاً أحبه .
والتفت ميشا إليها ، وهمهم محاكياً تمتمتها ، فضحكت الجدة نافارانا ، وتمتمت بصوتها الشائخ : كلا ، لن أسمح لك بالنزول إلى البحر ، عبر فتحات التنفس ، وصيد السمك ، فهي ضيقة جداً بالنسبة إلى جسمك .
وصمتت لحظات طويلة ، تعكرت خلالها ملامحها الشائخة ، ثم رمقت ميشا بنظرة سريعة ، وتمتمت بصوت مرتعش : ميشا ، رأيت حوالي الفجر ، حلماً غريباً لم أرتح له ، إنني لا أكاد أذكره الآن ، إلا أنه حلم غريب صادم ، أتمنى أن لا أراه ثانية .
وحام ميشا حولها مهمهماً ، كأنما يريد أن يخفف عنها ، ويقول لها ، لا عليكِ ، إن هو إلا حلم ، وتوقف أكثر من مرة ، متلفتاً حوله باهتمام ، ومتشمماً ما لا تعرف عنه الجدة أي شيء ، ثم يعود إلى الحوم حولها ، لعلها تنسى الحلم الذي رأته في منامها حوالي الفجر .
وكلما أوغلا في السير ، على البحر المتجلد ، راح ميشا يركض مسافات متزايدة أمامها ، وهو يتشمم ، ماذا يتشمم هذا الميشا الذي لم يعد ديسماً ؟
وتضحك الجدة نافارانا فرحة ، وتتمتم له بصوتها الشائخ : ما الأمر ، يا ميشا ؟ ربما أنت نفسك لا تعرف ما تريده الآن ، هل تبحث عن عروسة بيضاء كبياضك ، الذي يشبه بياض الثلج ؟ تمهل ، يا بنيّ ، إنني لا أريد أن أفقدك بهذه السرعة .
وتوقفت الجدة نافارانا تلتقط أنفاسها ، إذ رأت فتحة تنفس على الجليد ، لم يجمد حولها الماء تماماً ، فتمتمت مخاطبة ميشا : بنيّ ، يبدو أنه كانت هنا فقمة ، من يدري ، ربما غاصت إلى أعماق البحر ، أو هي الآن تضطجع في مكان قريب ، تحت أشعة الشمس الدافئة .
وتقدمت من الفتحة ، وهي تلهث تعباً ، وألقت السنارة في ماء البحر ، الذي يرتج أسفل الحفرة ، وراقبت الطعم ، وهو يغوص ، ويختفي في عتمة الأعماق ، ثم جلست على الجليد تنتظر ، وميشا يحوم حولها ، وينظر إلى البعيد ، ويتشمم الهواء .
وأغمضت الجدة نافارا عينيها الشائختين الناعستين ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، لكنها على ما يبدو ، لم تكن مرتاحة في نومها ، ومن يدري لعل صور الماضي الحزينة تهاجمها الآن ، أو أن هواجسها ومخاوفها ، ربما على ميشا نفسه ، هي وراء كل ذلك ، آه ويقال مع ذلك ، إن النوم وجد للراحة .
وفزّت الجدة نافارانا على شدة هزّت يدها ، لعلها السنارة ، هذا ما فكرت فيه ، لابدّ أن سمكة كبيرة قد علقت بها ، وتحاول الخلاص من أسرها القاتل .
ونظرت إلى خيط السنارة ، وهمت أن تسحبه ، وتسحب ما علق به ، وهو سمكة كبيرة على ما يبدو ، لكنها رأته ساكناً ، مرتخياً ، لا حياة فيه ، يا للعجب ، أهو حلم ، ما أكثر أحلامها هذه الأيام .
واهتزت يدها ثانية ، وعرفت هذه المرة أن الغمز لم يأتِ من خيط السنارة ، وأتتها همهمة فرح وشخير من ورائها ، إنه ميشا ، والتفتت نحو مصدر الصوت ، وهي تتمتم : ما الأمر ، يا ميشا ؟ يبدو ..
وصمتت مصدومة مذهولة ، وقد اتسعت عيناها الشائختان ، نعم إنه ميشا ، ولكن إلى جانبه ، على الجليد ، كانت فقمة فتية مدماة ، فرفعت عينيها إلى ميشا ، وتمتمت بصوتها الذي ازداد ارتعاشاً : ميشا !
وتلفتت الجدة نافارانا حولها ، ثمّ حدقت في الفقمة الملقاة قريباً منها ، ، ترى من أين جاء بالفقمة ، هذا الميشا المجنون ، أيعقل أنه صادها ، عندما كانت مستغرقة في النوم ؟ لماذا لا ، ميشا لم يعد ديسماً ، إنه دبّ فتي ، قوي جداً ، وحدقت في ميشا ، والآن يا ميشا ، كيف سنحمل هذه الفقمة إلى البيت ؟
واعترى الذهول كلّ من رأى الجدة نافارانا ، وهي تسير حاملة سنارتها ، وإلى جانبها يسير ميشا ، الذي لم يعد ديسماً ، وقد أطبق بأسنانه القوية على فقمة مدماة ، وهو يسحبها ببطء وراء الجدة .
ومن بين الجموع اندفعت ترمجان ، وهي تصيح ، وقد اعتراها الذهول والعجب ، وصاحت : أيتها الجدة ..
لم تتوقف الجدة ، كما لم يتوقف ميشا ، وردت عليها متمتمة : نعم بنيي .
وواصلت ترمجان صياحها المذهول قائلة : هذه الفقمة السوداء .. من ..
وقاطعها الجدة متمتمة ، دون أن تتوقف : تعالي عصراً ، سأعطيك ألذ جزء منها ، قطعة من الصدر ..
وواصلت ترمجان سيرها إلى جانب الجدة ، وهي تتساءل : هذه الفقمة ، كيف اصطدتها ؟
وتوقفت ترمجان مندهشة وفرحة ، حين ردت عليها الجدة نافارانا متمتمة بصوتها الشائخ : أنا لم اصطد هذه الفقمة ، وإنما اصطادها ابني .. ميشا .



" 6 "
ــــــــــــــــــ
امتنعت الجدة نافارانا ، في اليوم التالي ، عن الخروج ، إلى الغابة أو منطقة فتحات التنفس ، وقررت البقاء في الكوخ ، رغم ثورة ميشا ، الذي راح يدور في الكوخ ، كما لو كان دباً بالغاً ، مسجوناً في قفص .
وحاولت أن تشغله عن التفكير في الخروج ، واللهو في الغابة ، أو تصيد فقمة من الفقمات ، فقدمت له الطعام ، وجبة بعد وجبة ، حتى عافه تماماً ، ورفض أن يتناول قطعة واحدة من لحم الفقمة ، أو السمك ، رغم نهمه وشراهته ، وحبه الشديد لهذا النوع من اللحم .
وجلست الجدة نافارانا أمام الموقد ، وغذت النار بقطع من الخشب ، حتى أشاعت الدفء في الكوخ ، وحاولت أن تغريه بالجلوس إلى جانبها ، وتبادل الحديث معها ، أو تمسيد فروته البيضاء الناعمة ، وهذا ما يرتاح إليه منها ، لكن دون جدوى ، وظل يدور في الكوخ ، وكأنه يريد أن يحطمه ، كما لو كان قفصاً .
وقبيل منتصف النهار ، والنار تطقطق في الموقد ، وميشا يدور ويدمدم متذمراً ، طرق الباب ، فاندفع ميشا إليه ، وكأنه يريد أن يفتحه للطارق مهما كان ، وهو يدمدم ويشخر ، وعرفت الجدة نافارانا فوراً ، أن الطارق هي الطفلة ، التي لم تعد طفلة تماماً ، ترمجان ، آه لماذا يكبر الأطفال بهذه السرعة ، ويتركون طفولتهم في الماضي من الأيام ؟
وطرق الباب ثانية ، فتمتمت الجدة بصوت مرتفع بعض الشيء : ترمجان ، لا أستطيع أن أفتح الباب لك ، فالجو بارد ، وأريد أن يبقى ميشا اليوم في الكوخ ، سأفتح لك النافذة ، تعالي من هناك .
وجاءها صوت ترمجان ، التي لم تعد الطفلة الصغيرة ترمجان ، من الخارج قائلة : سأذهب إلى النافذة في الحال ، أيتها الجدة ، افتحيها لي .
ومشت الجدة نافارانا بأسرع ما تستطيع ، كما لو كانت سلحفاة عجوزاً ، وأزاحت الستارة عن النافذة ، ورأت ترمجان تطل عليها بوجهها الطفولي الجميل ، فخاطبتها متمتمة بصوتها الشائخ : أهلاً ترمجان .
وابتسمت ترمجان لها ابتسامة واسعة ، وقالت بصوت ضاحك : جئت أطمئن عليك ، أيتها الجدة ، وأطمئن على صياد الفقمات ، ميشو البطل .
وما إن سمع ميشو ، ترمجان تنطق اسمه ، حتى ترك الباب ، وأسرع يزاحم الجدة نافارانا على النافذة ، ويهمهم لترمجان ، ترى ماذا كان يقول لها ؟ وضحكت ترمجان له ، وهذا خير رد على همهمته .
وضحكت الجدة نافارانا بدورها ، وتمتمت بصوتها الشائخ المرتعش : هذا ما يمنعني اليوم ، من الخروج مع ميشا ، رغم أن الجو مشمس ، ودافىء بعض الشيء ، فأنا أخشى أن ينطلق ، على الرغم مني ، لصيد الفقمات وغير الفقمات ، وهذا يشكل خطراً عليه .
ولوحت ترمجان لميشا ، وقالت : ميشا ، حبيبي ، ليتني أستطيع الآن أن ألعب معك .
وجنّ جنون ميشا ، وراح يتواثب كأنه يريد أن يلحق بترمجان عبر النافذة ، وحاولت الجدة نافارانا ، أن تمسكه وتهدئه ، متمتمة بصوتها الشائخ المرتعش : غدا نخرج ، يا ميشا ، وربما نأخذ معنا ترمجان ، لصيد السمك من فتحات التنفس .
والتمعت عينا ترمجان ، وقالت متحمسة : نعم أيتها الجدة ، خذيني معكما ، وسألعب مع ميشا ، ولا أدعه يبتعد عنك ، لأي سبب من الأسباب .
ولاذت الجدة بالصمت لحظة ، ثم تمتمت بصوتها الشائخ المرتعش : سآخذك معنا ، يا ترمجان ، لكن بشرط أن توافق أمكِ على ذلك .
وتراجعت ترمجان عن النافذة ، وقد غمرها الفرح والحماس ، ومضت مبتعدة ، وهي تقول للجدة نافارانا : سأتوسل إلى أمي ، وستوافق ، إنها تحبكِ .
ثمّ لوحت لميشا ثانية ، وأسرعت نحو البيت ، وهي تهتف بفرح : إلى اللقاء ، يا ميسشا ، إلى اللقاء .
وتراجع ميشا عن النافذة ، حين اختفت ترمجان ، وقد غمره الحزن والإحباط ، ودار قليلاً في الكوخ كالتائه ، ثم انكفأ على فراشه ، وخيم عليه الصمت .
واستدارت الجدة نافارانا ، بعد أن سحبت الستارة على النافذة ، ونظرت إلى ميشا بعينيها الشائختين ، وانتابها الحزن عليه ، فاتجهت بخطواتها الثقيلة البطيئة نحوه ، وجلست إلى جانبه متأوهة .
لم يلتفت ميشا إليها ، فمدت يدها المرتعشة إليه ، وراحت تربت على كتفه ، وتمسد فراءه الأبيض الناعم ، وتتمتم بصوتها الشائخ المرتعش : ميشا ..
لكن ميشا لم يردّ عليها ، وبقي منكفئاً على الفراش ، فواصلت الجدة نافارانا متمتمة : بني ميشا ، أصغي إليّ ، أنا أمك .. نافارانا ..
ومرة ثانية ، لم يردّ ميشا عليها ، فتمتمت الجدة نافارانا بصوت تزايد ارتعاشه : ردّ عليّ ، فأنت ابني ، وأنا أمك ، لقد انتظرتك ، لو تعلم ، سنين طويلة ، مثقلة بالوحدة والصبر ، بعد رحيل زوجي الطيب ..افوفانغ .
وصمتت الجدة نافارانا ، لعل ميشا يتحرك قليلاً ، ويردّ عليها ، ولو بكلمة واحدة ، لكن دون جدوى ، فقد بقي منكفئاً على الفراش ، وقد لفه الصمت ، فتمتمت له بصوتها الشائخ المرتعش : ليس لي غيرك في هذا العالم البارد الموحش ، يا ميشا ، نعم ، كان لي زوجي الطيب اتارتك ، لكنه مضى ، وتركني وحدي ، وهناك الجيران ، وهم طيبون ، لا يتأخرون عن مساعدتي ، والوقوف إلى جانبي في المحن ، إلا أنهم في بيوتهم الدافئة بالأولاد والأزواج والأجداد والجدات ، وأنا في كوخي البارد وحيدة ، حتى جئت أنت ، أنت ابني .. يا ميشا .
وهنا ، وبهدوء شديد ، التفت ميشا إليها ، واحتضنها بجسمه الدافىء الثقيل ، حتى كاد يكتم أنفاسها ، لكنها لم تدفعه عنها ، وتمتمت بصوتها الشائخ المرتعش : غداً ، إذا أشرقت الشمس ، سأخرج بك من الكوخ ، ونأخذ معنا ترمجان ، ونذهب لصيد السمك من فتحات التنفس ، على أن لا تتركنا ، وتركض وراء الفقمات .










" 7 "
ـــــــــــــــــــ
حتى قبل أن تشرق الشمس ، وتطل على العالم ، أفاق ميشا وعيناه تلمعان ، وعلى أصوات همهمته ، وحركته المنفعلة داخل الكوخ ، بين الباب والنافذة المسدلة الستارة ، أفاقت الجدة نافارانا .
وحدقت الجدة نافارانا في ميشا ، وهو يتحرك مستثاراً دون أن يقرّ له قرار فتمتمت بصوتها الشائخ الناعس كأنما تحدث نفسها : لا فائدة..
فاعتدلت في فراشها ، وآثار النعاس ما زال في عينيها الشائختين ، وخاطبت ميشا متمتمة بصوتها الشائخ : بنيّ ميشا ، الوقت مبكر ، والشمس لم تشرق بعد ، إنها مازالت نائمة في فراشها الدافىء .
واقترب ميشا منها ، ودفعها برفق بخطمه ، وهو يهمهم محاكياً تمتمتها المرتعشة ، وكأنه يحضها على النهوض ، والخروج به من الكوخ .
وتحاملت الجدة نافارانا على نفسها ، ونهضت بصعوبة بالغة ، وبدل أن تفتح باب الكوخ ، وتأخذه إلى الخارج ، راحت تعدّ طعام الإفطار ، واقترب منها ميشا ليستعجلها ، لكنه توقف منصتاً ، حين طرق باب الكوخ .
والتفتت الجدة نافارانا إلى الباب ، وقالت بصوتها الشائخ المرتعش : هذه ترمجان .
وتركت ما كانت تعده من طعام ، واتجهت إلى الباب ، وهي تتمتم ، سأفتح لها الباب .
والتمعت عينا ميشا ، وبدأ يتململ متشوقاً ، وفتحت الجدة نافارانا الباب ، ومدت يدها المرتعشة بسرعة ، وسحبت ترمجان إلى الداخل ، وأغلقت الباب ، وهي تتمتم بصوتها الشائخ : ادخلي يا ترمجان ، قبل أن ينطلق ميشا إلى الخارج ، دون أن يأكل طعامه .
واقتربت ترمجان من ميشا ، وراحت تمسد فراءه الأبيض الناعم ، وهي تقول له : هيا يا ميشا ، أكمل تناول طعامك ، حتى نخرج معاً من الكوخ .
ولعل ميشا أدرك ما تريده ترمجان منه ، فأشرق وجهه فرحاً ، ثمّ أسرع إلى طعامه ، وراح يلتهمه بسرعة ، حتى أتى عليه تماماً .
وحين رأت الجدة نافارانا ، ابنها ميشا يأكل فرحاً ، أكلت هي بضغة لقمات ، وما إن انتهى ميشا من تناول طعامه ، حتى نهضت ، وتمتمت بصوتها المرتعش : هيا .. حان الوقت .. فلنذهب .. ونصطاد السمك .
وعلى الفور ، خرجوا من الكوخ ثلاثتهم ، الجدة نافارانا وترمجان ومعهما .. ميشا ، وراحوا يسيرون معاً ، الجدة نافارانا تسير ببطئها المعهود في الخلف ، وترمجان وميشا يسيران أمامها يداً بيد ، وهما يتبادلان الحديث ، كلّ بطريقته ، التي تعود عليها .
وحين وصلوا المنطقة المتجمدة من البحر ، وتوغلوا فيها ، راحت الجدة وتلمجان ، تبحثان عن فتحة من فتحات التنفس ، ليتوقفوا عندها ، وتبدأ الجدة نافارانا ، بإلقاء سنارة الصيد في الماء ، لعلها تصطاد ولو سمكة واحدة ، مهما كان حجمها .
ومرّ بهم ثلاثة صيادين شباباً ، من أهالي قريتهم نفسها ، كانوا في طريقهم إلى صيد الفقمات ، فخاطبوا الجدة نافارانا قائلين : طاب صباحك ، أيتها الجدة .
فتوقفت الجدة نافارانا لاهثة ، وردت عليهم بصوتها الشائخ المرتعش : أهلاّ أبنائي ، يا للشباب ، ما أحلاه ، يبدو أنكم خرجتم لصيد الفقمات .
وضحك الصيادون الثلاثة ، وقال واحد منهم : أعيرينا دبك البطل ميشا ، فلا أحد في قريتنا يصيد الفقمات مثل .. ميشا البطل .
وابتسمت الجدة نافارانا ، وردت بتمتمتها الشائخة المرتعشة : ميشا مازال ديسماً صغيراً ، يا بنيّ ، دعك من جسمه الضخم ، إنه الطعام الذي أحشوه به ، اذهبوا إلى فقماتكم ، رافقتكم السلامة .
ومضى الصيادون الشباب الثلاثة في طريقهم ، وهم يتبادلون الحديث ويتضاحكون ، وواصلت الجدة نافارانا طريقها ، ومعها ترمجان وميشا ، وسرعان ما جاءها صوت ترمجان المميز : أيتها الجدة ..
وتوقفت الجدة نافارانا لاهثة ، وردت متمتمة بصوتها الشائخ : نعم يا ترمجان ..
فواصلت ترمجان قائلة : تلك فتحة تنفس ، أيتها الجدة ، فلنذهب إليها ، ونصطد السمك .
ونظرت الجدة نافارانا حيث تنظر ترمجان ، لكنها لم ترَ شيئاً ، فخاطبت ترمجان بتمتمتها الشائخة قائلة : ترمجان ، أنا لا أرى فتحة التنفس هذه ، قوديني إليها .
وقادت ترمجان الجدة نافارانا إلى فتحة التنفس ، ثم قالت : أيتها الجدة ، ها هي ذي أمامكِ .
وتوقفت الجدة نافارانا عند فتحة التنفس ، وألقت السنارة فيها ، فغاصت في أعماق مياه البحر ، حتى اختفت تماماً ، ثم جلست على الجليد ، وتمتمت بصوتها الشائخ : سأجلس هنا ، لعلي أصطاد شيئاً من السمك ، فلا تبتعدي عني أنت وابني ميشا .
فردت تلمجان تطمئنها : اطمئني ، أيتها الجدة ، سألعب مع ميشا هنا ، ولن أدعه يغيب عني .
وخلال دقائق معدودات ، غابت الجدة نافارانا في سبات عميق ، وفي الأثناء ، كان ميشا يسير كالمسرنم ، يتبع رائحة ربما لا وجود لها إلا في دواخله ، وتبعته ترمجان ، وهي تقول محذرة : ميشا ، ابقَ معي هنا ، ستقلق الجدة نافارانا كثيراً إذا ابتعدت .
لكن ميشا لم ينصت إليها ، بل وزاد من سرعة سيره ، وهو يتأثر الرائحة ، التي لا يشمها أحد غيره ، وهرولت ترمجان في أثره ، حتى حاذته ، ومدت يديها إليه ، وأمسكت به ، محاولة أن توقفه ، وهي تقول لاهثة : ميشا ، نحن نبتعد ، توقف ، ولنعد إلى الجدة .
لكن ميشا انتفض بقوة ، فسقطت ترمجان على الجليد متألمة ، بينما ظلّ ميشا يركض مبتعداً ، وتحاملت ترمجان على نفسها ، ونهضت واقفة ، وحاولت اللحاق به ، لكن دون جدوى .
وتوقفت ترمجان ، فقد غاب ميشا تماماً ، وقفلت عائدة إلى الجدة نافارانا ، وكانت مستغرقة في نوم عميق ، فانحنت علها ، وقالت : أيتها الجدة ..
وفتحت الجدة عينيها ، وتمتمت متوجسة : ما الأمر ؟
فقالت تلمجان : اختفى ميشا .
ونهضت الجدة نافارانا معولة : يا ويلي ..
ودمدمت العاصفة من بعيد ، فقالت تلرمجان : لنعد إلى القرية ، ستهب العاصفة .
وانكفأت الجدة نافارانا على الجليد ، وهي تتمتم باكية : لن أتحرك من هنا ، إذا لم يعد ابني .. ميشا .


" 8 "
ــــــــــــــــــ
انتظرت أم ترمجان ، وهي تغلي ، وصبرها يكاد ينفد ، أن تعود ابنتها ترمجان مع العصر ، كما اتفقت معها البارحة ، عندما وافقت على ذهابها بصحبة الجدة نافارانا ، ومعهما ميشا ، لصيد السمك .
إلا أنّ العصر جاء ومرّ ، ولم تجيء ترمجان ، وبدأت الأم تغيم مع تجمع الغيوم في السماء ، لكنها تثق بالجدة نافارانا ، وإن كانت لا ترتاح للديسم ميشا ، الذي ـ في رأيها ـ لم يعد ديسماً .
واقترب المساء قبل الأوان ، وأغلقت الغيوم الثقيلة السماء ، ونشطت ريح باردة ، ربما تنذر بعاصفة ثلجية عاتية ، وانقبض قلب الأم ، ولم تعد كلمات اتارتك المهدئة ، الذي لا يقل قلقاً عن زوجته ، تفيدها بشيء .
ورمقت الأم زوجها بنظرة سريعة ، يشتعل فيها الخوف والقلق ، واندفعت إلى الباب الخارجي ، وهي تقول : سأذهب إلى بيت الجدة ، وأرى ما الأمر .
واعترضها اتارتك ، وقال لها بصوت منفعل : ابقي أنت في البيت ، فقد تأتي ترمجان في أية لحظة ، سأذهب أنا إلى بيت الجدة نافارانا .
وذهب اتارتك مسرعاً ، وبقيت الأم في البيت ، يتأكلها الخوف والقلق ، وعاد بعد قليل ، وقد بدا يائساً منفعلاً ، وقال لزوجته : لا أثر للجدة نافارانا .
واستبد الرعب والقلق بالأم ، فتمتمت بصوت مجنون : ما العمل ؟ ضاعت ابنتي ، ضاعت ترمجان ..
واقترب اتارتك منها ، وحاول أن يهدئها ، لكنها تملصت منه ، واندفعت إلى الخارج ، وهي تصيح باكية بأعلى صوتها : ترمجان .. ترمجان ..
وعلى أصوت صياحها وبكائها ، أقبل الكثير من الجيران ، والتمّ حولها الرجال والنساء والأطفال ، وهي مازالت تصيح : ترمجان .. ترمجان ..
ومن بين من أقبل عليها ، الصيادون الثلاثة الشباب ، وأحاطوا بها ، وقال لها أحدهم : لا تخافي ، رأيناها صباح اليوم مع الجدة نافارانا ..
وأضاف الصياد الثاني : كانت فرحة ، تسير ضاحكة مع الدب ميشا ..
وعلق الثالث : نعم ، رأيناهم صباح اليوم ، عندما ذهبنا لصيد الفقمات .
واقترب اتارتك منهم ، وقال : لكن الليل يكاد يخيم ، ولم يعودوا ، أين هم ؟
وتشبثت الأم بهمم باكية ، وقالت : أريد ابنتي .. ساعدوني ..أريد ترمجان .
واقترب اتارتك منها ، وحاول تهدئتها ، وقال بصوت متهدج : اهدئي ، سنذهب الآن ، ونبحث عنهم في كلّ مكان ، ومن يدري ، فقد يكونوا الآن في الطريق ، أنت تعرفين أن الجدة نافارانا تسير ببطء شديد .
والتفت إلى الصيادين الثلاثة ، وقال لهم : أنتم رأيتموهم صباحاً ، تعالوا معنا ، ودلونا على المكان ، الذي رأيتموهم فيه .
والتفّ بعض الجيران من الرجال حولهم ، وقالوا : نحن سنأتي معكم أيضاً ، وسنجدهم بالتأكيد .
وخرجوا من القرية ، وقد خيم الليل ، وازداد نشاط الريح ، أم ترمجان وأبوها وعدد من الرجال ، يحملون المصابيح ، يتقدمهم الصيادون الثلاثة ، متجهين نحو المنطقة ، التي شاهدوا فيها الجدة نافارانا وترمجان .. والدب ميشا .
وعلى طول الطريق ، ظلت أم ترمجان تسير متعثرة ، واتارتك يسير إلى جانبها ، وهي تولول بصوت خافت : ترمجان .. ترمجان .
ولم يحاول اتارتك ، رغم تأثره ، أن يسكتها ، أو يحاول تهدئتها ، فهو نفسه قلق جداً ، ولولا أنه رجل ، ومن العيب أن يبكي الرجل ، لبكى هو الآخر ، وتمتم مع زوجته المنهارة : ترمجان .. ترمجان .
وتناهت من الأصقاع المتجمدة المظلمة البعيدة ، المكللة بالغيوم الثقيلة ، دمدمة متوعدة ، فقال أحد الصيادين الثلاثة : ستهب عاصفة ثلجية قوية .
ورفع الصياد الثاني رأسه ، وقال : وفوق ذلك ، بدأ الثلج يتساقط ، وسيزداد تساقطه مع مرور الوقت .
وتلفت الثالث حوله ، مدققاً في المكان على ضوء المصابيح ، وقال : فلنسرع ، لعلنا نجدهم ، لقد اقتربنا من المكان ، الذي التقينا بهم فيه صباح اليوم .
ويبدو أن الأم قد سمعت ما دار بين الصيادين الثلاثة ، فتقدمت في الظلام ، ودمدمة العاصفة تقترب ، وصاحت بأعلى صوتها : ترمجان .. ترمجان ..
ومن مكان ما وسط الظلام ، والعاصفة بدأت تهب ، والثلوج تتساقط ، ارتفع صوت مخنوق باكٍ : ماما .. أنا هنا .. ماما .. ماما ..
وتوقفت الأم مذهولة ، باكية ، وتمتمت بصوت خافت متهدج : اسمعوا .. إنها ابنتي .. إنها ترمجان ..
واقترب اتارتك منها ، وقال : نعم ، إنها هي .
وبصوت أعلى ، صاحت الأم ثانية : ترمجان ..
وعلى الفور ، جاءها الرد : ماما ، تعالي إليّ ، أنا هنا مع الجدة نافارانا .
واندفع الجميع نحو مصدر الصوت ، والمصابيح في أيديهم ، تتقدمهم الأم راكضة ، وهي لا تتوقف عن الصياح : ترمجان .. ترمجان .. ترمجان .
واقترب صوت ترمجان : ماما .. ماما ..
وعلى ضوء المصابيح ، والعاصفة الثلجية على أشدها ، والثلوج تتساقط بغزارة ، لاحت ترمجان ، تقف على مقربة من الجدة نافارانا ، التي تكومت على الجليد ، قرب فتحة التنفس ، وقد بدت متجمدة تماماً .
ومدت الأم يديها ، واحتضنت ترمجان ، وهي تبكي قائلة : ترمجان ، لو لم أرك الليلة ، لما رأيتُ الصبح ، حبيبتي ، أنت بخير ، وستبقين بخير .
لكن ترمجان رفعت عينيها إلى أمها ، وقالت لها : ماما ، الجدة نافارانا متعبة ، ساعدوها عل العودة إلى كوخها ، بأسرع وقت ممكن .









" 9 "
ـــــــــــــــــــ
تحركت الجدة نافارانا ، قبل شروق الشمس ، وانتبهت أم ترمجان إلى حركتها ، وسمعتها تئن ، فاعتدلت في فراشها ، القريب من فراش الجدة نافارانا ، وراحت تراقبها في صمت .
وفتحت الجدة نافارانا عينيها الشائختين ، اللتين غطاهما غشاء من الدمع المتجمد ، وتمتمت بصوت ازداد شيخوخة : أين أنا ؟
وزحفت أم تلمجان إليها ، وقالت لها : أنتِ هنا ..
وأنصتت ملياً ، دون أن ترد على أم ترمجان ثم تمتمت : إنني لا أسمع عويل العاصفة ..
وتابعت أم ترمجان قائلة : أنت في كوخك ، أيتها الجدة ، ولست في العراء ، اطمئني .
والتفتت الجدة نافارانا إلى أم ترمجان ، وحدقت فيها ملياً بعينيها الشائختين ، المضببتين بالدمع المتجمد ، ثم تمتمت بصوتها الشائخ : من أنتِ ؟
فردت عليها أم ترمجان قائلة : أنا جارتك ، أيتها الجدة ، أنا أم ترمجان .
واعتدلت الجدة نافارانا بشيء من الصعوبة ، وتمتمت بصوتها الشائخ : ترمجان ! أين ترمجان ؟
فردت أم ترمجان قائلة : ترمجان في البيت مع أبيها ، إنها الآن بخير وأمان ، وأنا بقيت عندك لأسهر على راحتك ، ريثما تشفين تماماً .
وتلفتت الجدة نافارانا حولها ، ونظرت ملياً هنا وهناك ، بعينيها الشائختين اللتين ضببهما الدمع المتجمد ، ثم حدقت في أم ترمجان ، وتمتمت بصوتها الشائخ المرتعش : أريد أن أرى ترمجان ..
وابتسمت أم ترمجان لها ، وقالت : نحن في آخر الليل ، أيتها الجدة ، انتظري بعض الوقت ، سأذهب إليها صباحاً ، وآتي بها معي لتراك ، إنها تحبكِ .
وتمايلت الجدة نافارانا ، وهي تئن وتتوجع ، وراحت تتمتم ، بصوتها الشائخ الباكي : ميشا .. ميشا ..
ولاذت أم ترمجان بالصمت ، وواصلت الجدة نافارانا أنينها وتوجعها ، وهي تتمتم : ميشا .. ميشا ..
ومالت عليها أم ترمجان ، وقالت : أيتها الجدة ، اسمعيني ، ميشا لم يعد ميشا ..
وحدقت الجدة نافارانا فيها ملياً ، ومشاعر متضاربة تعتمل في أعماقها ، وتمتمت بصوتها الشائخ المرتعش : ترمجان تعرف أين هو ، أريد ترمجان ..
ومالت أم ترمجان عليها ، وقالت : أيتها الجدة ..
وتأوهت الجدة نافارانا ثانية ، دون أن تلتفت إلى أم ترمجان ، وما تقوله لها ، وراحت تتلوى وتئن ، وتتمتم بصوتها الشائخ : ميشا .. ميشا ..
وتابعت أم ترمجان قائلة : ميشا ليس ابنك ، يا جدة ، ميشا دب ، كان ديسماً صغيراً ، فعطفتِ عليه ، ورعيتِهِ حتى كبر ، وصار دباً بالغاً ..
وحدقت الجدة نافارانا فيها صامتة ، لكنها كانت على ما يبدو تدرك ما تقوله أم ترمجان ، وما يمكن أن تصل إليه ، وهذا ما يفقدها صبرها .
ومرة أخرى ، تابعت أم ترمجان قائلة : ابعدي ميشا ، لا يمكن أن يبقى معكِ أكثر مما بقي ، لقد كبر ، وغدا خطراً عليكِ ، وعلى الآخرين أيضاً .
وتمتمت الجدة نافارانا بشيء من الحدة ، وصوتها الشائخ يرتعش بشدة : اسكتي ..
لم تسكت أم ترمجان ، وواصلت كلامها قائلة : فكري أيتها الجدة ، لعل ميشا ذهب ، ليعيش حياته الطبيعية كدب بالغ ، مع أنثى من نوعه ..
وصمتت أم ترمجان لحظة ، والجدة نافارانا تحدق فيها وهي تغلي ، ثم تابعت قائلة : أنتِ إنسانة ، امرأة عجوز ، وهو دب ، دب بالغ ، دعيه يذهب .. انسيهِ ..
ونهضت الجدة نافارانا ، وعيناها الخابيتان تشتعلان غضباً ، وتمتمت بصوتها الشائخ المرتعش : اخرجي .. اخرجي من كوخي .. الآن ..
وتراجعت أم ترمجان بعيداً عنها ، لكن الجدة نافارانا راحت تتقدم منها بخطواتها البطيئة ، وهي تتمتم بصوتها الشائخ المرتعش : اخرجي .. لا أريدكِ في كوخي .. اخرجي .. اخرجي ..
وتوقفت أم ترمجان ، وقالت : أيتها الجدة ..
ورفعت الجدة يدها المرتعشة ، وكأنها تريد أن تضربها ، وهي تتمتم بصوتها الشائخ المرتعش : اخرجي من كوخي .. لا أريدكِ .. اخرجي .. اخرجي ..
وتراجعت أم ترمجان باتجاه الباب ، وهي تقول : أيتها الجدة ، نحن في آخر الليل .
وتوقفت الجدة نافارانا ، وهي تشهق ، وتضيق أنفاسها ، وعيناها الشائختان تتسعان ، وتتمتم بصوتها الشائخ المرتعش ، ثمّ تنهار فوق فراشها : لا أريدكِ .. لا أريد أحداً .. لا أريد غير ميشا .. ميشا ..
وهدأت متكومة فوق الفراش ، دون أن يصدر عنها أي صوت ، هل نامتْ ؟ أم أغمي عليها ؟ أم .. واقتربت أم ترمجان منها ، دون أن تنبس بكلمة واحدة .
وتراءى للجدة نافارانا ، أنّ باب الكوخ يُدفع بشدة ، حتى أنها رأته يتهاوى ممزقاً على الأرض ، وكأن عاصفة ثلجية ً ، ضربته بقوة شديدة جداً ، ومن دوامة العتمة اندفع الصياد افوفانغ ، مدججاً بالسلاح ، وملامح وجهه كأنما قدتْ من الصخر ، واقترب منها ، وقال بصوت مدوٍ كالرعد : أين ميشا ؟
لم تستطع الجدة نافارونا أن تردّ عليه ، فراح يتلفت حوله ، وكأنه يبحث عن ميشا داخل الكوخ ، واستل خنجره الرهيب ، وهو يصيح : لن يفلت مني ، سأقتله ، وأفترسه قطعة قطعة ، وأقتل كلّ من يؤويه .
ثم اقترب من الجدة نافارانا ، ورفع يده بخنجره الرهيب ، وأهوى به عليها ، وهو ينفجر كالرعد وسط عاصفة ثلجية شديدة ، فصاحت بأعلى صوتها : ميشا .
وهبت أم ترمجان من فراشها ، وأسرعت إلى الجدة نافارانا ، وضمتها بين ذراعيها ، وراحت تهدهدها وكأنها طفلة صغيرة ، وهي تقول : لا عليكِ أيتها الجدة ، لا عليك ، إن هو إلا كابوس ، وانتهى .








" 10 "
ـــــــــــــــــــــــ
منذ أن أفاقت ، من غفوتها الأشبه بالإغماء ، لم تتوقف الجدة نافارانا لحظة واحدة ، عن النواح والتمتمة بصوتها الشائخ المرتعش : ميشا .. ميشا ..
وحاولت أم ترمجان مرات عديدة ، أن تهدئها بعض الشيء ، أو تجعلها تأكل شيئاً من الطعام ، أو تشرب قليلاً من الماء ، لكن دون جدوى ، وظلت تنوح وتتمتم طول الوقت : ميشا .. ميشا ..
وخلال هذه الساعات ، زارها العديد من جيرانها المحبين ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، وإن كان أغلبهم من النساء ، يأتين ومعهن أكثر من طفل ، ممن كانوا يلعبون مع ميشا ، وخاصة عندما كان ديسماً .
وكانت النساء ، يحطن بالجدة نافارانا ، ويتحدثن إليها ، وعبثاً حاولن إقناعها بأن تلتفت إلى نفسها ، فتأكل بعض الطعام ، وتركن إلى الهدوء ، وظلت تشهق ، وتردد بصوت شائخ مرتعش : ميشا .. ميشا .
وجاءت ترمجان مع أبيها ، بعد منتصف النهار ، وحالما رأت الجدة نافارانا ، وهي تتمتم بصوتها المرتعش .. ميشا .. ميشا ، وقد بدت منهارة ، حتى دمعت عيناها السوداوين ، وكادت أن تنخرط في البكاء ، فأسرعت أمها إليها ، وقالت لها بصوت خافت : تماسكي ، يا بنيتي ، لن يفيدها بكاءكِ ، وإنما سيجعلها تنهار .
وحاولت ترمجان أن تتمالك نفسها ، وأن تتماسك بعض الشيء ، وتكفكف دموعها ، ومال اتارتك على زوجته ، وقال بصوت خافت : لا يبدو أن الجدة بخير .
فرمقت أم ترمجان بنظرة سريعة الجدة نافارانا ، التي كانت تتمتم بصوتها الشائخ المرتعش المتعب .. ميشا .. ميشا .. ، وردت قائلة : كما ترى .
وصمت برهة مغالبة تأثرها ، ثم قالت بصوت خافت : لم تأكل أو تشرب أي شيء ، منذ أن جئنا بها ليلة البارحة إلى الكوخ .
ومال اتارك على زوجته ، وقال لها بصوت خافت : لتحاول ترمجان ، أن تتحدث إليها ، إنها تحبها كثيراً ، لعلها تهدئها ، أو تقنعها بتناول بعض الطعام .
ونظرت الأم إلى ترمجان ، التي كانت عبثاً تكفكف دموعها ، ثم قالت لها : ترمجان ، تعالي ..
واقتربت ترمجان من أمها ، ورفعت عينيها الغارقتين بالدموع إليها ، وقالت بصوت باكٍ : نعم ماما .
فأمسكت الأم يدها ، وقالت لها : ترمجان ، لا أحد يستطيع أن يهدىء الجدة نافارانا ، ويقنعها بتناول شيء من الطعام غيرك ، تحدثي إليها ، يا بنيتي ، هيا .
ودفعت الأم ترمجان برفق نحو الجدة نافارانا ، ومالت عليها ، وهمست لها : أيتها الجدة ، هذه ترمجان ، جاءت تزورك ، وتطمئن عليكِ .
وبدا أن الجدة نافارانا قد انتبهت إلى كلام أم ترمجان ، فقد توقفت عن الأنين والتمتمة ، وإن كانت لم تردّ بكلمة واحدة ، وانحنت ترمجان عليها ، وقالت من بين دموعها : أيتها الجدة ..
وصمتت ترمجان ، وهي تغالب دموعها ، ثم واصلت كلامها قائلة : أيتها الجدة ، أنا ترمجان ..
وتمتمت الجدة نافارانا : ترمجان !
وردت ترمجان قائلة : نعم ، ترمجان ، جئتُ أزوركِ ..
ورفعت الجدة نافارانا عينيها الشائختين ، وتمتمت بصوت باكٍ : ميشا .. يا ترمجان ..
ومدت ترمجان يدها ، ووضعتها برفق على رأس الجدة نافارانا ، لكنها لم تستطع أن تقول شيئاً ، فتابعت الجدة بصوتها الشائخ المرتعش متمتمة : ترمجان .. ميشا اختفى .. ذهب ولن أراه ثانية ..
ومالت ترمجان عليها ، وقد تماسكت بعض الشيء ، وقالت لها : أيتها الجدة ، أنت تعرفين جيداً كم أحب ميشا ، إلا أنّ ميشا كبر ، وصار بالغاً ، صحيح نحن نفتقده كثيراً ، خاصة أنا وأنت ، ولكن لنا أن نفرح له ، إنه دب ، ميشا دب ، وله أن يعيش حياته كدب .
وحوالي العصر ، استطاعت ترمجان ، أن تقنع الجدة نافارانا ، فتشرب قليلاً من الماء ، وتأكل بعض الطعام ، وإن كانت بين حين وآخر تتوقف لحظات ، تعود فيها إلى النواح والتمتمة ..ميشا .. ميشا .
وحين حلّ الليل ، ظلت ترمجان وأمها عند الجدة نافارانا ، وأبقتا النار مشتعلة في الموقد ، كما أشغلتاها عن أحزانها ، وتناولتا الطعم معها لتشجيعها على مواصلة الأكل ، وأخيراً تسلل النعاس إليها ، فوضعاها في فراشها ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق .
ومرت عدة أيام ، وترمجان وأمها تسهران على راحة الجدة نافارانا ، وذات ليلة ، وبعد أن تناولت الجدة طعامها ، واستعدت للنوم ، تمتمت لترمجان وأمها بصوتها الشائخ المرتعش : أشكركما ، لولاكما لما بقيت على قيد الحياة ، وأريد منذ الغد ، أن تعودا إلى بيتكما ، وحياتكما الطبيعية .
وتمددت في فراشها ، وسحبت عليها الغطاء ، وتمتمت بصوتها الشائخ المرتعش : تصبحا على خيرا .
فردتا عليها فرحتين ، لا لقرب عودتهما إلى البت ، وإنما لعودة الجدة نافارانا إلى حالتها الطبيعية : تصبحين على خير ، تصبحين على خير .
ومالت ترمجان على الجدة نافارانا ، وقبلتها ، وقالت لها : أيتها الجدة ، سأزورك كلّ يوم ، وفي بعض الأيام المشمسة ، سنأخذ السنارة ، ونذهب لصيد السمك .
ومرت أيام وأشهر وفصول ، ووفت ترمجان بوعدها ، الذي قطعته على نفسها ، فكانت تزور الجدة نافارانا في كلّ يوم تقريباً ، بل وذهبتا أكثر من مرة لصيد السمك ، وكانتا طول الوقت تتبادلان الحديث ، وإن حاولت ترمجان أن تتجنب الحديث عن .. ميشا .
لكن هل نسيت الجدة نافارانا ميشا ؟
وهل يمكن أن تنسى الأم ابنها الحبيب ؟
وذات ليلة هادئة ، سماؤها صافية ، يطل فيها قمر منير ، تناهى للجدة نافارانا صوت دب من بعيد ، وفتحت عينيها ، وابتسمت بشيء من الحزن ، يا للحلم ، لكن الصوت تناهى إليها ثانية ، فنهضت من فراشها ، هذا ليس حلماً ، وفتحت الباب ، ونظرت إلى البعيد .
وعلى ضوء القمر ، وكما يشبه الحلم ، وما أجمله حتى لو كان حلماً ، رأته .. رأت ميشا .. وبجانبه تقف أنثى في عمره ، وأمامهما ديسمان بلون الثلج .

30 / 8 / 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??