الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحنين للماضي وأبعاده السياسية

فهد المضحكي

2023 / 3 / 11
الادب والفن


الحنين للماضي هو بالأساس عاطفة إنسانية يشعر فيها المرء بالسعادة إثر التعلق بقيم وعلاقات وأشخاص وأماكن في الماضي على نحو إيجابي، ويحزن في الوقت ذاته لفقدها في الحاضر. تعمل هنا، الذاكرة البشرية على استرجاع الماضي بطريقة انتقائية، أي تحن لما هو أفضل، وتتجاهل الأسوأ. وبينما برزت حالة النوستاليجا تلك قديمًا كتعبير عن معضلة مرضية تتمثل في ألم يعانيه الإنسان لخوفه من عدم العودة إلى الوطن، فإنها انتقلت لاحقًا إلى مجالات الٱداب والفنون والسينما وغيرها لتشمل الحنين للماضي بشكل عام كنمط قيمي وحياتي مفضل. للكاتب والباحث المصري د. خالد حنفي علي رأيًا نشره مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يتحدث فيه عن نشأة المشاعر الحنينية لدى الأفراد والجماعات كرد فعل «تلقائي» على وتيرة الصدمات والتغيرات المتسارعة التي أحدثتها الأزمات العالمية والثورات الصناعية في العالم في بنية النظم والقيم والعلاقات داخل المجتمعات. وتكمن أهميتها بالأساس في أمرين: الأول، نفسي، فالحنين للماضي قد يولِّد احترامًا للذات والثقة والتوازن، بما يساعد الأفراد والجماعات على مواجهة الأزمات. ذلك أن إدراك الفرد أو المجتمع تجاوزه لأزمات الماضي قد يشكل لديه شعورًا محفزًا على مجابهة نظيراتها في الحاضر. لذا، تخصص الدول أيامًا وطنية للانتصارات في الحروب وتضع التماثيل للزعماء السياسيين التاريخيين في الميادين العامة والنصب التذكارية للضحايا، كأدوات رمزية لشحذ الذاكرة الوطنية وبث الثقافة الجماعية في المجتمع. أما الأمر الثاني، فهو هوياتي، فالحنين للماضي قد يسهم في بناء الهويات الفردية والجماعية، لأن الذاكرة، وهي تسترجع أحداث الماضي المفضل تحدد للأفراد والجماعات من أين جاءوا وكيف نشأوا، وبالتالي تساعد على تشكيل تصوراتهم عن أنفسهم والٱخرين، وما ينبغي أن يكون عليه الحاضر والمستقبل. هنا، ومن وجهة نظره، لا تمثل السرديات الفردية والعائلية والوطنية التاريخية مجرد قصص أو حكايات عن أحداث مضت لكنها تستدعي معها أنساقا قيمية وعلاقات اجتماعية وسياقات مكانية عاشها الفرد وتشارك فيها مع المجتمع، وبالتالي يصبح حنين جماعة ما لفترة تاريخية معينة محفزًا على تشارك القيم والمعاني وأنماط العلاقات الاجتماعية التي سادت حينها.

وهكذا يرى أن على أساس هذين البعدين النفسي والهوياتي، تساعد مشاعر الحنين للماضي على بناءِ «عقلية المقارنة» لدى المجتمعات بين سياقات وقيم ونمط الحياة في الماضي والحاضر في كافة المجالات، بما فيها السياسية. فمع وجود نظم حاكمة في الدول الحديثة تتعاقب على المجتمعات كل فترة زمنية سواء طالت أو قصرت، فقد خلق ذلك ذاكرة سياسية منتظمة تتيح مقارنة أداء تلك النظم في الماضي والحاضر. هنا يمكن القول إنه كلما كانت النظم السياسية، أيًا كان شكلها تسلطية أم ديمقراطية، لا تلبي تطلعات المجتمعات في الحاضر تنامت مشاعر الفقد لما كان أفضل بالماضي. لذلك، فإن الحنين السياسي للماضي هو بالأساس تعبير عن مشاعر فرد أو جماعة أو حتى دولة ما بتمجيد حقبة سياسية تاريخية، واعتبارها العصر الذهبي الذي كانت فيه الدولة أو الأمة أو المجتمع أفضل وأقوى. لكن هذه المشاعر السياسية تعرضت للنقد الشديد، إذ اعتبرها البعض «غير عقلانية»، وتنظر إلى الأحداث الماضية بمنطق إيجابي دون إدراك أن لها وجهًا سلبيًا، ناهيك عن أنها لن تسفر في الأخير عن عودة التاريخ أو الزمن إلى الوراء. مع ذلك، فقد فتح الجدال بين مفكرين وفلاسفة حول التاريخ ذاته بين «الحتمية التاريخية» لماركس، و«العود الأبدي» لنيتشه، ودورة صعود وهبوط الأمم والمجتمعات لابن خلدون مجالاً للاهتمام بمدى تأثير الحنين السياسي للماضي في الحاضر والمستقبل. وبدت الرغبة في الماضي تأخذ شكلين: أحدهما، تقديسي، أي أستدعاء كما هو دون أدراك تغير الظروف والملابسات، والآخر نقدي، أي استلهام العبر والدروس من التاريخ من أجل تطوير التعامل مع الحاضر والمستقبل. تحولت الرغبات الحنينية إلى واقع يؤثر في الظواهر السياسية ويلفت نظر الباحثين لها، عندما بات لديها حضور واضح لدي تيارات دينية وشعبوية قومية أخذت تصاعدًا في السياسية العالمية ردًا على انتشار تداعيات العولمة خلال العقود الماضية على الهويات المحلية، وتنامي أزمات الهجرة والاقتصاد العالمي وتراجع دولة الرفاة في الغرب. من هنا، بلورت بعض الأدبيات مكونات أساسية للحنين السياسي للماضي منها، الإحساس بالخسارة للعصر الذهبي للأمة مقابل اعتبار العصر الراهن مترديًا، والشعور بانهيار القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية، وفقدان الاستقلالية الذاتية والبساطة والعفوية والأصالة والنقاء، ومن ثم يصبح الحنين للعصر السياسي مصدرًا لاستعادة هذه الأمور المفقودة. واعتمدت التيارات الدينية والقومية في تغذية الرغبات الحنينية على استثمار الخوف ونشر الكراهية والعداء ضد الٱخر، وتصوير سياسات الحاضر على أنها أفقدت المجتمعات ما كان تملكه في الماضي من هويات وقيم أصيلة وغيرها تارة بسبب فساد النخب والمؤسسات الديمقراطية واختطاف السلطة من الشعب، كما ترى الاتجاهات الشعبوية، وتارة ٱخرى بسبب الأنظمة التي ترفض العودة لحكم الإسلام من وجهة نظر التيارات الدينية خاصة المتطرفة.

أخذ الحنين للماضي بعدًا توظيفيًا في المجال السياسي، أي يستخدمه القادة والجماعات والدول لتحقيق أغراض سياسية في الحاضر، كتعزيز للهويات والتماسك الاجتماعي، أو نيل تأييد شريحة من الناخبين أو شرعنة بعض الأنظمة السياسية عبر وصلها بسياسات ناجحة في الماضي، كي تستمد الدعم الاجتماعي. ومن خلال هذا التوظيف، تحول الحنين للماضي إلى جزء أساسي من خطابات وسياسات وممارسات الفاعلين السياسيين في الحاضر. على سبيل المثال، رفع ترامب شعار «أمريكا عظيمة مرة أخرى» لتوسيع قاعدته السياسية والاجتماعية في الانتخابات الأمريكية في عام 2016، فذكر ناخبيه في خطاباته وبرنامجه السياسي بقيمهم الأصيلة في الماضي، وأنها تعرضت للتراجع والتدهور بفعل توسيع الالتزامات الأمريكية العالمية والمهاجرين، ومن ثم ولد غضب مؤيديه تجاه منافسيه الديمقراطيين في تلك الانتخابات، وبالتالي، فعندما دخل البيت الأبيض، صاغ سياسات داخلية وخارجية تنطوي على العزلة والحمائية ومعاداة المهاجرين وتقليص الالتزامات الأمريكية إزاء الحلفاء. بالمثل، وظف تيار الإسلام السياسي الحنين للماضي عبر الترويج لاستعادة الخلافة الإسلامية، من خلال تذكير الشباب بالأزمان المزدهرة التي كان المسلمون يقودون العالم، ثم يبرر الانقطاع بفعل ما يعتبره «أنظمة كافرة»، وبالتالي يحفز الغضب ضدها. وأخيرًا، يستخدم هذه المراحل في صياغة نهج يستند على العنف ضد الآخر وإلغائه لكونه يعيق استعادة الماضي. في المقابل، فإن الرئيس الأمريكي جون بايدن، وهو يقود حربا بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا، يظهر حنينًا براجماتيًا لاستعادة القيادة الأمريكية في العالم وترميم تحالفاته الخارجية وإعادة الاهتمام الأمريكي بقضايا متعولمة كالمناخ والهجرة والأوبئة، لاسيما بعد سياسات العزلة والحمائية التي انتهجها ترامب. الحنين ذاته، ظهر قبل سنوات عندما رفع مؤيدو البريكست البريطاني شعار «استعادة بلادنا» في العام 2016. وبدا الخروج من الاتحاد الأوروبي انتصارًا عاطفيًا لأولئك الذين يرغبون في استعادة مكانة بريطانيا أيام زمن الإمبراطورية التي كانت تحكم العالم، حيث لا يستطيعون التعامل مع دولتهم على أنها جزيرة عادية في أوروبا. بدوره، وظف أردوغان في تركيا الماضي العثماني لخدمة سياساته الداخلية والتدخلات الخارجية في المنطقة، حتى أن وزير دفاعه خلوصي أكار برر تواجد أنقرة العسكري في غرب ليبيا بالتاريخ المشترك مع المنطقة منذ 500عام.

ًوولّد السياق العربي المأزوم أيضًا أنماطًا أخرى للحنين السياسي يتلاقى فيها ما هو تلقائي وتوظيفي، كما حال مساعي الحركات المناطقية والانفصالية في العودة إلى مرحلة ما قبل الدولة الوطنية الموحدة كما في شرق ليبيا والأكراد في شرق سوريا. وتعبر هذه الانجاهات الحنينية عن تعثر دولة الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي في أداء وظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة، ومساعي تلك الحركات لتوظيف فشل الحاضر في الحنين إلى نماذج ماضوية من جهة أخرى. ينطوي تفسير الحنين للماضي في العالم والإقليم على عوامل متعددة ومتداخلة وهي تتفاوت أوزانها النسبية من حالة إلى أخرى. فبرغم عولمة النوستاليجا السياسية، لكن تظل محفزات بروزها مختلفة، ووفقًا لطبيعة سياقات وظروف الدول والمجتمعات. فالحنين لحقبة تاريخية أو عصر ذهبي للأمة قد يمثل رد فعل على عوامل نفسية تتعلق بالإذلال والإهانة التي تتعرض لها المجتمعات والدول في الحاضر، فيصبح عندها الماضي مفضلة لها لأنه يمثل ذاكرة التقدير والاحترام والكرامة. على سبيل المثال، ينطوي أحد تفسيرات إقدام روسيا على اجتياح أوكرانيا لشعورها بالإهانة والإذلال بسبب الانتقاص من سيادتها في مرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حيث تمدد حلف «الناتو» في النطاق الأمني الحيوي لروسيا، أي الدول التي كانت تنتمي سابقًا للاتحاد السوفييتي ومنها أوكرانيا. أيضًا قد يفسر رد الفعل القومي على العولمة وما أثارته من تداعياته كزيادة موجات المهاجرين من الجنوب إلى الشمال حالة الحنين للماضي في العديد من المجتمعات الغربية التي باتت تخشى على فرصها الاقتصادية والاجتماعية. وأسهم هذا المناخ في توفير بيئة خصبة للتيارات اليمنيية المتطرفة وصعود قادة شعبوبين معادين للهجرة لا يخفون مشاعرهم المتعاطفة مع الماضي في مواقفهم وسياساتهم، متجاوزبن الأطر المؤسسية التقليدية التي واجهت تراجعًا ديمقراطيًا. على أية حال، تطرح ظاهرة الحنين للماضي إشكاليات عديدة تنتج عن طريقة التعامل مع مشاعر تفضيل فترة سياسية تاريخية معينة واستخدامها في تفاعلات الحاضر، وهو ما يرتب آثارًا مختلفة من مجتمع ودولة إلى أخرى. أولى الإشكاليات المطروحة وأبرزها هي إمكانية أن يؤدي الحنين للماضي وتوظيفه في سياسات الحاضر إلى «الاستقطاب السياسي» فتجمد فترة تاريخية قد لا يكون متفق عليها بالأساس بين القوى السياسية داخل المجتمع، وبالتالي قد يتحول الحنين إلى كراهية للٱخر واعتباره عدوًا، حيث يصبح الماضي المفضل لبعض الأطراف هو الذاكرة السيئة للآخرين. قد تبرز أيضًا إشكالية «التضليل السياسي» نتاج لتغول الحنين على عقول المجتمعات، وذلك عندما يتم تصوير مرحلة تاريخية معينة على أنها مثالية بينما كانت لا تخلو من السلبيات أو أنها مهدت لتأزم الحاضر. على الجانب الٱخر، فإن توظيف الحنين في سياسات الحاضر يؤدي إلى إشكالية إرباك سياسي وانعدام الرؤية لتغيرات وحقائق الواقع الراهن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل