الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رائحة الوقت ....مغامرة الإنسان في عزلته

فاضل سوداني

2023 / 3 / 11
الادب والفن


تدهشنا رواية "رائحة الوقت "للكاتب هاشم مطر بكونها سِفراً طويلاً في داخل أزمنة وأمكنة معروفة لنا جميعا ًشكلت جحيما لمجموعة من البشر بعد أن تلاشت أحلامها في مستقبل غامض ، وبالرغم من أن هذه الأماكن فقدت رائحتها، إلا أن كائنات مثل مريم ووليد وأمير وعلي وسمية وغيرهم من أبطال هذه الرواية عاشوا في مصيدة "الوطن الأم" ومن ثم ُشردوا أو طُردوا وتُركوا يبحثون عن خلاصهم في أوطانٍ أخرى ، ولكنهم في ذات الوقت حملوا معهم "رائحة ماضيهم " القاسي فكان هذا أحد أهم أركان مأساتهم التي سيعانون منها في المستقبل أيضاً.
وبهذا تحدد مصيرهذه المجموعة النموذجية التي فرضها الكاتب هاشم مطر في سِفرين تصف وتناقش عذاباتها التي لاتنتهي لدرجة أنهم يلاقون مصائر غير آمنة بل غير معروفة في رحلة من العذاب فرضت عليهم وهو "التهجير القسري العراقي " لدرجة أن القارئ النبه يدفعه اليقين بأنها لن تنتهي أبداً، لأن ابطالها حاولوا فيها ومن ثم سيحاولون بعد ذلك أن يتحدوا الموت بدون بطولات خارقة وإنما من خلال قدرتهم على تحمل "رائحة الوقت " ذلك الماضي الذي يبدو وكأنه يحمل رائحة لا تطاق هي رائحة العذاب الذي عانوا منه في أوطانهم .
عذاب يمتد الى مساحات بانورامية عن الحياة والموت والخيانة والتشرد والنفي والإغتراب وهامشية الإنسان ومن ثم الذل الذي عاشوه في "أوطان" أخرى غريبة ، بالرغم من أن هذه الشخصيات أعني مريم والآخرين كانت تعيش الغربة في " وطنها الأم" وكانت الحرية هاجساً أو حلماً بعيداً للخلاص وقد تضخم هذا الشعور في "الوطن" الثاني والثالث او الرابع الذي أُجبرت هذه المجموعة على التشرد فيه مما أدى هذا بهم بعد ذلك الى الإستسلام "للعزلة الذاتية" في بلدان الرفاهية "كالدول الإسكندنافية " عندما "أجبرت" مريم أيضاً أوإختارت العيش فيها كخلاص.
أن معايشة مريم والآخرين لإستلاب كامل في "وطنها الأم" ومن ثم التشرد في أوطان اخرى بمختلف تمظهراتها الأربعة يضطرها التفكير بأن هذه البلدان هي مصيدة أيضا نتيجة للتيه ومواجهة الكثير من المشاكل المعيشية والمصيرية إضافة الى إضطرارها العيش مع العديد من النماذج الهاربة من قيامة "الوطن الأم ". والمشكلة الأساسية هنا هي أن هذه المجموعة كلما تشردت او هُجرت الى هذه البلدان كلما حُصرت أكثر في "مصيدة العزلة"، فمثلا مريم كشخصية رئيسية كانت تعاني ـ إضافة الى مشكلتها المصيريةـ من محنة اخرى هي الجرح القديم الذي يذكرها برائحة الوقت "ماضيها " وهو إغتصابها الشرعي من قبل زوجها المحتال الذي استخدمها كجارية يمكن أن يتخلص منها في اي وقت ، يتركها دون أن يرسل لها ما وعدها به وهو "لم الشمل" للبلد الذي يعيش فيه ، وبعد احساسها بأن هدفه كان إغتصابها شرعيا بموافقة حتى أهلها ، فإنها الآن وبعد أن إستقرت في البلد الحر يمكنها أن تطلب الطلاق حتى تتخلص من رائحة ماضيها النتنة ، لكنها تكتشف بأن قوانين هذا البلد غير معنية بمثل هكذا وثائق لهذا سيبقى هذا الجرح لا يندمل مادام زوجها المحتال "صاحب الدم البارد" يرفض طلاقها وهي مازالت حتى اللحظة تشم رائحة الماضي، مما يزيد عذابها ويغرقها أكثر بعزلة قاسية .
إذن كلما هربت هذه الشخصيات الى مكان ما كلما عاشت العزلة التي تذكرها برائحة الماضي أيضا ً لدرجة تفقدها ديناميكيتها الحياتية كما تؤكد هذه الشخصيات ذاتها وكأنها تشير الى قدرها :
"المهم إحنا كلنا مهاجرين" "أنه الذل يامريم ، نحن نولد معه" أو
" لاتقلقي يامريم .. لا شيء .. لا شئ يامريم ".
أنها المهانة أن يجبر الإنسان على ترك وطنه، أنه شعور مؤلم ان ينتقل الإنسان من عذاب الى آخر ومن ثم يجبر على السقوط بالعزلة والإحساس بأنه "فائض " او "لاشئ"، أنه التشيؤ عندما يتحول الوطن الى ذل.
أن سردية الرواية التي طالت هذه المساحة الكبيرة من الأحداث (498 صفحة) وبِسفرين ، دفع بالكاتب الى تناول جميع الأحداث والمشاكل التي عانت منها هذه المجموعة من البشر بعنف وقسوة لا إنسانية ،إضافة الى هذا عليها أن تدفع الثمن المتمثل بالموافقة على أن تقذف للعيش في عالم غريب "كوطن ثان " الذي يمتلك خطورته وقسوته ، فهو لا يعني المكان فقط ، وإنما هو ملازم لزمانٍ ماض ٍ له رائحته كالعدوى أو الطاعون الذي يأكل روح الإنسان ، ولهذا فإن هذه الشخصيات وفي مقدمتها مريم لا تعاني من الهجرة في المكان فقط وإنما من الهجرة الزمانية أو الإغتراب الزماني ـ الروحي الذي تحول عند الكاتب الى " رائحة الوقت " إذن الحرية في مقابل العزلة أو العزلة في مقابل الحرية ، إنه الثمن الذي تدفعه هذه الشخصيات جميعها. وكأن مصيرها يشكل المعادلة التالية :
الوطن الأم (الغربة) ــــ أوطان التشرد (الحرية +رائحة الماضي) ـــ أوطان الرفاهية (العزلة +رائحة الماضي )
فإذا كانت مصيدة الماضي (السلطة ــ النظام هوطاعون يتحول الى رائحة) ستلاحقهم أينما تشردوا في "أوطان أم" مختلفة أخرى ، فإنها تضعهم من جديد في مصيدة التيه مما يدفعهم الى التفكير (بالحرية كخلاص) لكن أيضاً ستلاحقهم رائحة الماضي ، وعندما يختارون العيش في بلدان اللجوء الديمقراطية ـ المرفهة ، يستسلمون للعزلة الممزوجة برائحة الماضي .
التورط الأساسي هي أن هذه الكائنات تعي مشكلتها لكنهم غير قادرين على إتخاذ أي موقف يمكن أن ينقذهم ، أنهم وضعوا في مواجهة الموت وعليهم ان يتحدوه ، هل إمتلكوا هذه القدرة ؟أم أنهم تحولوا الى شخصيات سلبية (حسب مفهومنا الأخلاقي) ،وحتى إن فشلوا في هذا التحدي فإن فشلهم هو بطولة قياساً لحجم الهول الذي عانوه في الماضي وسيعانوه في المستقبل ، لأن حياتهم التي عاشوها والتي سيعيشونها هي حياة مفروضة عليهم لهذا فهم يعون بأنهم ولدوا دون إرادة ، ولكن عليهم أن يغامروا كما يهمس أحد الشخصيات لمريم :
( نحن هكذا يامريم نولد ونعيش دون إرادة ،وبدون مغامرة لا هدف نبتغيه) وما يريد أن يقوله الكاتب هو أن الحياة مغامرة حتى وإن كانت دون إرادة،
"فالمغامرة" هي التي تعطي المعنى الحقيقي لحياتهم ، لكن ماذا يعني هذا بالنسبة لهم ، هل يعني الخروج من مصيدة السلطة ـ النظام للسقوط في مصيدة العزلة الذاتية ؟أم هنالك شئ آخر ؟.
وبالرغم من طموح هذه الشخصيات في محاولة تحدي الموت بمختلف أشكاله إلا أن خروجهم من مصيدتهم يدفعهم للوقوع في مصيدة أخرى وهذا يشكل ابدية عذابهم .
وإذا كانت رواية "رائحة الوقت " تعالج ماضي هذه الشخصيات فإنها في ذات الوقت تعالج حاضرها ومستقبلها لأنه ليس هنالك حاضر مجرد أنه دائما بوتقة للماضي والمستقبل . لكن الإنسان يمتلك دائما وعياً جديداً عندما يصطدم بالسؤال المصيري :
من أنا ؟ وماذا أفعل هنا ؟ وهذا السؤال هو الذي يحدد فعل البطل ومصيره التراجيدي ، وتعتبر الأجابة على هذا السؤال إحدى مهمات الكاتب وتحدد اسلوبه في العمل الفني .
فلو تمعنا بأسلوب وتكنيك كتابة هذه الرواية لاكتشفنا بأن الكاتب كتب روايته بصيغة " الشخص الثالث" بمعنى أنه لم يشارك في الحداث وإنما راقبها وغذاها سرداً ووصفاً، وهذه الطريقة هي الكلاسيكية أو هي السرد الطبيعي والتي تفرض على الكاتب أن يكون حاضرا في عمله مثل المراقب الذي يدير الأحداث وهو اسلوب مهم في الكتابة حيث أن النسبة الكبيرة من الروايات كتبت بهذا الإسلوب ، فلا يعد إنتقاصاً، لكن هل يسمح هذا للكاتب أن يجعل من القارئ كشخص متعايش مع الأحداث أم سيبقى مراقباً ايضاً؟ بالتاكيد هنالك أساليب أخرى لكتابة العمل الفني لكن طبيعة الأحداث ورغبة ووعي الكاتب هي التي تفرض التكنيك الأسلوبي .
لكن الشيء الأكثر أهمية في رواية "رائحة الوقت "هو التناوب والتداخل بين الماضي والحاضرلدرجة أنه يجعل من السرد وكأنه " فلاش باك" كما في السينما مما يعطي افقاً جديداً ويدفع بالقارئ الى الشعور بإختلاف الزمان والمكان ليس من خلال السرد وإنما من خلال الحدث وفعل الشخصية الذي يمنح ابعاداً جديدة لها ، أي أن الشخصية لا توجد فقط في المكان وإنما في الزمان ايضاً .
وبالرغم من أن رواية " رائحة الوقت " تعتبر الرواية الأولى للكاتب هاشم مطر، كنت أتمنى أن يتم التأكيد فيها على الحدث المكثف وفعل البطل الداخلي ، ألا أن الملاحظ أيضاً أن إسلوب الكتابة فيها يدل على معرفة الكاتب ودرايته في إسلوبه الروائي وإدارة ألأحداث المتشعبة في الرواية ، وسلاسة اللغة سواء كانت في السرد أم في الحوارالذي يتميز ببعده الشعري والفلسفي أحياناً .
إن إحدى تمايزات الإسلوب الفني في أي عمل إبداعي هو الإيقاع الذي يعبر عن ديناميكية الشخصيات والجو العام وطبيعة الأحداث وسيرها وتتابعها والذي من خلاله يتم التأكيد على منطق العمل الفني ، وجوهه وعالمه والمحيط الذي تتحرك فيه الشخصيات ، فلكل شخصية في العمل الفني لها إيقاعها ومنطقها الذي يختلف عن منطق الواقع ، فكل الأشياء تختلف وتتغير وظائفها عندما تنتقل من الواقع الى عالم العمل الإبداعي .
والآن هل يحق للكاتب أن يسرد لنا الواقع بكامل تفصيلاته الواقعية التي عشناها ، أم الضرورة تقتضي التأكيد على "الإنتقاء" سواء كان في الشخصيات أم الأحداث حتى يستطيع الوصول الى ما نسميه " بالأسلبة أو التكثيف" * الذي هو صنو عبقرية الإبداع.
فالرواية هي إنتقاء في الحياة ذو طبيعة نوعية وهادفة وهذا يعطيها أهميتها الإبداعية ، وإلا فإنها ستتحول الى سرد نثري ، فالانتقاء والرمز وإسطورية الواقع والحياة عموما هو الذي يضعها في مصاف الشعرية ، لأن الرواية هي شعرية القول الذي من خلاله يمكن أن تبنى حدائق الأسرار الخيالية الغّناء ، بالرغم من أن منطق الرواية من الممكن أن يضع الكائن والحياة كلها على حافة الهاوية . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ هنالك تحليل واسع لموضوعة " الأسلبة أو التكثيف" وكذلك قانون البطل التراجيدي *
الأخلاقي في العمل الفني ـ في كتابي "العنف والفوضى المنظمة في مسرح شكسبير" الذي صدر عن مديرية الثقافة في الشارقة .
وبالرغم من أن الرواية تتحدث عن واقع حياة الإنسان ومحيطه ، اي أنها حدث واقعي بأحداثه وشخوصه التي يجب أن تكون نموذجية (مثال) بمعنى أنها تحمل شمولية مأزقها ومأساتها التي يمكن أن تدل او تؤشر على مكان
وزمان آخر في هذا العالم ، ولهذا عندما نؤكد بأنها واقعية الأحداث لا تعني
إطلاقاً سردية الأحداث وإنما تعني الكشف عن ذلك "السر الخفي"الذي يمكن
أن نطلق عليه " واقع الواقع"، لهذا فهي أحياناً تعتبر شِركاً للايقاع بالقارئ غير الواعي من خلال عرضها للواقع كما هو من خلال السرد .
أعتقد بأن الرواية تحدثنا عن ذلك الذي لا نعرفه ، وما يحتمل وقوعه ، وإذا حدث فإنها يجب أن تكشف لنا عن غرائبيته ، لأنها "رؤيا بصرية " في المكان والزمان .ولهذا فإن عالم الرواية أواي عمل إبداعي يختلف جوهريا عن عالمنا حتى وإن كانت أحداثها واقعية ، وهذا يعني بأن عالم الرواية له منطقه وقانونه الخاص ، وهذا يفرض حكما أخلاقياعلى البطل ينطلق من قانونه الأخلاقي وهو ضمن عالمه ، وليس قانوننا الأخلاقي نحن ، وعندما نقول عالم او جو الأحداث ليس المقصود هو المكان وإنما يعني سرد الأحداث في الزمان أيضاً .
رواية "رائحة الوقت"هي ذاكرة الماضي الذي عاشته مريم والشخصيات الأخرى التي اصيبت بمرض الذاكرة في "زمن أخرس" زمن الماضي بكل قسوته والذي لا فكاك منه لأنه يتسرب كرائحة تحفّر في روح الكائن سؤالاً مهماً : لماذا كل هذه الجراح ؟ والتي توصلنا الى "العزلة الذاتية" والتي نكتشف فيها حقيقة أخرى وهي .. لا خلاص يامريم .. لا خلاص فكل شئ إنتهى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ هنالك تحليل واسع لموضوعة " الأسلبة أو التكثيف" وكذلك قانون البطل التراجيدي الأخلاقي في العمل الفني ـ في كتابي "العنف والفوضى المنظمة في مسرح شكسبير" الذي صدر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب