الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد أبو الغيط والتجربة الإنسانية في رِهاناتها المتجدِّدة

أسامة عرابي
(Osama Shehata Orabi Mahmoud)

2023 / 3 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


قراءة في كتاب"أنا قادم أيها الضوء"
في بحثه الدائم عن البقع المغطاة بالشمس، المستحمة بالدفء، وركضه نحو الضوء؛ ضوء الحقيقة المجرَّدة، ضوء الحياة والحرية والأدب والفن والجمال والمرأة والأصدقاء، سعى الكاتب والصحفي والطبيب المصري محمد أبو الغيط (1988- 2022) الذي غادر دنيانا أخيرًا إلى عالم الخلود والبقاء، إلى أن يفتح حوارًا متصلًا أو أفقًا للتراسل الإنساني حول المستقبل وصلته بالتاريخ، وأكثر المواقف ارتفاعًا بالحياة وبالفرد الإنساني، وما بينهما من علائق متشابكة تُعيننا لاريب على فهم الذات في التزامها الحر نحو الوجود وما يجعل امتلاءه بالمعنى ممكنًا، على نحو ما نلمسه في كتابه الصادر عن دار الشروق باسم "أنا قادم أيها الضوء" (2022) الذي يمزج فيه الحبَّ بالألم، والمقاومة بالعدالة والمساواة؛ لهذا جعلَ العلاقة بين العقل والقلب باتساع الحياة والموت ذاتهما، مؤمنًا بأن "الكتابة تمنح البشر للمرَّة الأولى جانبًا ولو محدودًا من ذلك الحق الإلهي من الخلود، وما يستتبع ذلك من مسئوليات، أعني بها المسئولية الأخلاقية الممتدَّة" على حدِّ تعبيره. إذ إن سعي الإنسان وراء الحقيقة التي هي دائمًا تاريخية..نسبية هو سعي داخلي، ومِران إرادي، ولكي يجد حقيقته الخاصَّة فلا بدَّ له من أن يمتلك تبصرًا واضحًا ورؤية مكتملة وفهمًا أفضل لواقعنا. لهذا أعاد محمد أبو الغيط إلى المثقف اعتباره، وإلى الكلمة دورها، وإلى الصحافة الاستقصائية قيم التحرُّر والنهوض من ركام الاستبداد؛ لتكون أداة لمكافحة هذه العتمة الرهيبة وفساد الأنظمة، ومرآة تعكس احتمالات التغيير وحلم المستقبل.
هجر محمد أبو الغيط مهنته الأولى "الطب"؛ حيث عمل طبيبًا في مستشفى إمبابة العام بالقاهرة منذ عام 2012، وتفرَّغ لهواه الأصيل "الصحافة" فعمل في تلفزيون "أون" وجريدة الشروق، ثم في قناة الحرة الأمريكية، لينتقل بعدها إلى تلفزيون "العربي" في لندن منذ تأسيسه، معدًّا رئيسًا لبرامجه، إلى جانب عمله مع شبكة "أريج" للصحافة الاستقصائية، وكتابته مقالًا أسبوعيًّا في صحيفة العربي الجديد لسنوات. كما شارك في مشارع سينمائية وثائقية مثل فيلم "أسلحة اليمن"، وكذلك عمل مدقِّقًا للحقائق، ومذيع راديو عبر الإنترنت، ودرَّب صحفيين لصالح عدة مؤسسات. وقد أسهم محمد أبو الغيط خلال مسيرته الإعلامية بتحقيقات استقصائية حول قضايا تجارة السلاح الدولية، والفساد وتتبع الأموال وانتهاكات حقوق الإنسان، والتطرّف، أبرزها التحقيق مع مؤسسات مكافحة الجريمة المنظّمة والفساد مع 163 صحفيًّا من كل بلاد العالم؛ لجمع وتعريب وتحرير ونشر التسريبات السويسرية التي كشفت تفاصيل الحسابات الخارجية لشخصيات بارزة بينها ملوك ورؤساء دول.لذا نالَ جوائز عدَّة، وجرى تكريمه في أكثر من منتدى ومحفل.
لذا طرح محمد أبو الغيط على نفسه السؤال التالي: "لماذا أكتب؟ ليُجيبَ بحسمٍ: أكتب كي أدافع عن شرفي. أكتب لأن الكتابة ببساطةٍ تمنحني شعورًا أفضل. ونصحتني طبيبة التأهيل بالرياضة والكتابة".فقد كان - رحمه الله – مصابًا بسرطان المعدة.ثم أضاف قائلًا: "أكتب لأني أريد أن أصلح حياتي الخاصَّة المباشرة، فأجدني عاجزًا عن إصلاحها دون العودة للشأن العام الذي يشمل المساهمة في إصلاح ولو ثغرة واحدة في جدار سياسات البلاد التي أعيش فيها، أو العالم أجمع الذي لا سبيل حقيقيًّا لتحسين حياتي الخاصَّة فيه إلَّا عبر العالم لصالح حياة أرحم وأرحب لكل البشر".
لهذا ظلَّ محمد أبو الغيط فاعلًا إيجابيًّا، وحضورًا واعيًا في المشهد الإعلامي بنقده الموضوعي وتحليله العميق للظواهر السياسية والثقافية، وحرصه على تأسيس لغة جديدة تعمل على تشكيل الحقيقة كمشروع وطني شامل.
فقد سكنته روح المغامرة المبدعة، والسعي إلى خوض التجارب المتنوِّعة، والانفتاح على عالمٍ أكثر زخمًا وأغنى صورة، مسوِّغًا ذلك بفضوله الصحفي والرغبة في مسابقة العمر قبل أن يداهمه الوقت: "أنا أول مَن يتحمس للذهاب إلى مكان جديد، تعلُّم مهارة جديدة، التعرُّف على أشخاص مختلفين، تذوّق طعام جديد"..حتى إنه كان يُرحِّب بتعاطي علاجات تجريبية جديدة قد لا تكون مفيدة له على الإطلاق، لكنها قد تُفيد مستقبل العلم ومرضى آخرين غدًا. وكان يُخطِّط قبل مرضه لخوض تجارب جِدّ مختلفة عمَّا اعتاده وألِفه من قبل، فأعدَّ "قائمة بالدول التي يودّ زيارتها خاصَّة في أمريكا الجنوبية. أفكارًا وخيوطًا لكتابة روايتيْن على الأقل. بحث تجربة مجال عمل خارج الصحافة. المفاضلة بين العودة للطب بعد التقدُّم لامتحانات المعادلة البريطانية، وبين دراسة ماجستير السياسات العامَّة سواء في لندن أو من خلال منحة كينيدي سكول"، يقول محمد أبو الغيط: "لو لم أكن قد عملت بمشروع فيلم "أسلحة اليمن" ذاك، فهل كنتُ سأستمرُّ شخصًا طبيعيًّا بلا آلام؟".. مستشهدًا بقصيدة "لاعب النرد" للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش : "من سوء حظي أني نجوت مرارًا من الموت حبًّا،
ومن حسن حظي أني ما زلتُ حيًّا لأدخل في التجرِبة". لكن المرض اللعين وقف لطموحاته وأحلامه بالمرصاد.الأمر الذي حدا بمحمد أبو الغيط إلى أن يعيش مسلّحًا بالحلم، وأن يكون حرًّا بالروح والكلمة، مؤكِّدًا بجلاء أن الكتابة لديه "هي محاولتي لمغالبة الزمن والموت".
من هنا تقاطعت علاقة محمد أبو الغيط بالمرض مع صورة العالم في اختلاله واعتلاله، وما يعجّ به من قهرٍ وتشويه وهيمنةٍ وموروث متخلف؛ مما دفعه إلى التساؤل المعذّب:"لا أعرف المعنى في ألمي، لكني أعرف المعنى في مقاومته"، فكتب حكايته مع المرض لكي يموضع فيها هذا الألم، وليشدِّد على أن ما هو أقسى من الألم هو الألم الذي يقع خارج الحكاية وسياقها العام وتجرِبته المعيشة. وربما لهذا السبب، كان أفلاطون يصف الفلسفة بأنها الإعداد للموت، بينما رأى كيركجارد أن كل ما يحيا هو في حال دائم من الصيرورة؛ فالتغيُّر هو سمة الحياة وقانونها الأساسي.
غير أن محمد أبو الغيط في رحلة بحثه الذي لا يكلّ عمَّا يُعينه على مواجهة هذا الألم، راح يؤكّد لنا أنه"ليس سليمًا وصف كل مريض سرطان بأنه مقاتل، لكني أنا شخصيًّا لا أشعر بالأمر داخليًّا إلَّا كذلك.أنا مقاتل في معركة شرسة، أستخدم فيها كل أسلحتي البشرية بما فيها قوة الخيال العاتية تلك، آملًا أن تتحوَّل إلى حقيقة، فأراني الآن أقرأ ذلك الكتاب مع ابني بعد نحو عشرين عامًا، نتناقش في تفصيلة هنا أو موقف هناك، ونضحك".
ووجد أن"الحب عدو الألم"؛ فروى لنا قصة حبه الفريدة لزوجته النبيلة "إسراء" التي كان يناديها بـ"وردتي البيضاء"، "هكذا كنتُ أراها بتلات وردة رقيقة أخاف أن أتنفَّس قربها كي لا تتناثر، أو بلورات زجاج شفيفة لا تكاد تُرى".
ومن خلال إسراء وجوهرها الصلب ومواقفها المتماسكة، كان يتجدَّد فيه عشقه للحياة؛ ليمنح الشخصي والإنساني حرارة المعنى التي تُكسب الفعل دلالاته، وتُعطي التضحية فرح التواصل مع العالم الخارجي.ورفض بإصرار لا يلين كل عروضها عليه بأن تحقنه؛ لأنه "سيكون الأسوأ أن تُسبِّب لي هي تحديدًا الألم". وفي الوقت الذي ساوره فيه الخوف من"أن قصَّتنا تدنو من نهايتها، وأن الفراق الأبدي ينقضّ علينا، فإني أجدني أتشبث بذكريات البداية وتأمل الرحلة، لعل فيها ما يُسرِّي عني، ويخفِّف قلقي على مستقبل مَن قد أتركهم خلفي"، مُضيفًا: "لو كنتُ حقًّا سأفارق يحيى ، فإن مما يعزيني أن يكون ميراثه مني خير أهل ، وأجمل أصدقاء، وما تيسَّر من طيب الذكريات، والأهم هو أجمل وأقوى أمٍّ: إسراء".
كذلك عثر محمد أبو الغيط في "الرحمة عدوًّا للألم"، مستخلصًا درسًا مهمًّا مُفادُه "بشكلٍ واعٍ حاولتُ أن أدرِّب نفسي على أن أشعر بآلام غيري، وتحديدًا هؤلاء الذين لا أحبهم.لكن الأمر يستحق.حين يداهمني الغضب والتعصب لن أغيِّر من معسكري، لكني لن أنزع إنسانية خَصمي". وأخذ يُنشد بصوتٍ عالٍ:"الأصل ألَّا نؤلمَ بعضنا.. أحلم بوطنٍ أكثر رقة لا أكثر قوَّة.. أتمنَّى أن يكون السياسيون حول العالم أكثر رحمة لا ذوي هيبةٍ.. حين شاركتُ في ثورة يناير كنتُ أحلم بوطنٍ أكثر عدلًا وأقلّ ألمًا".
أجل.. لقد كان خبر رحيل محمد أبو الغيط مؤلمًا ومؤذيًا للنفس والقلب برغم أننا لم نلتقِ ولا مرَّة واحدة، لكنني أحببتُه من شجاعته في مقاومة المرض، وتمسكه بالحياة، وعاطفته المشبوبة دومًا بصفاء الفكر النفَّاذ نحو الذات والعالم.وكنتُ أودّ أن أقول له: متى نلتقي لنُكمِلَ حوارَنا الذي بدأ مع هذا الكتاب؟ كم أحبُّك، فلا تُعجِّل بالرحيل. لكنه كان يواجه وحشًا ضاريًا اقتحم عليه حياته، وأخذ يتلذذ بسادية بشعة بتخريب جسده، والإجهاز على أي طاقة أو فرصة للحياة والمقاومة داخله، وإضافة أعباء جديدة إليه. بَيْدَ أنه ببطولة عزَّ نظيرها، كان لا يَني يُخادع الموت، مغازلًا شغفه بالحياة طَوالَ الوقت بقراءاته المتعدِّدة وحبه للأدب ولا سيما الشعر، وكتاباته الصحفية الجسورة. ولعل ما طرَّز به كتابه "أنا قادم أيها الضوء" من جولات فكرية وأدبية، وسياحة فاتنة بين التاريخ والطب، سيبقى شاهدًا على قيمته العالية، وقامته السامقة بين كبار كتَّابنا المُجيدين.
صحيح أن كلَّ "القصص تنتهي بالموت" كما أخبرنا إرنست هيمنجواي؛ إذ إن هناك في آخر السكَّة ذلك الحائط الصلد الذي يقف حائلًا بيننا وبين مواصلتنا للحياة، لكنه سيظلّ – أي الموت - في التحليل الأخير ضربًا من القتل كما أخبرنا أبو الطيب المتنبي في بيته المدهش:
إذا ما تأمَّلتَ الزمان وصرفه تيقَّنتَ أن الموتَ ضرب من القتلِ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صفقة الاتحاد الأوروبي مع لبنان..ما خلفياتها؟| المسائية


.. بايدن يشدد على إرساء -النظام- في مواجهة الاحتجاجات الجامعية




.. أمريكا.. طلاب يجتمعون أمام منزل رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شف


.. الجيش الإسرائيلي: 12 عسكريا أصيبوا في قطاع غزة خلال الساعات




.. الخارجية الأمريكية: هناك مقترح على الطاولة وعلى حماس قبوله ل