الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خريف عدن . . واخيلة شبحية تذهب للمحو / نص قصصي - مارس 10- 2023

أمين أحمد ثابت

2023 / 3 / 12
الادب والفن


ما أن يحل الخريف على مدينة عدن ، افقد بوصلة ايقاع يومي الرتيب خلال بقية الزمن من كل عام – نعم لا تنكشف فصول السنة هنا كغيرها من البلدان . . سوى ما نعلمه بانقسام العام الواحد الى نصفين مناخيين ، ستة اشهر حرا والاخرى باردة – إلا أن من عاش منا في بلد تلونه الفصول الاربعة . . يعي تماما من منتصف شهر اكتوبر تسيد لهبوب الرياح الباردة ليلا والمشبعة برطوبة الهواء برائحة مياه الخليج المالح – قد يمكنك الجلوس شتاء وقتها عاري الصدر على شرفتك المطلة على الشارع العام واضواء اعمدة النور تشكل لوحة مسائية خلابة ، خاصة وتكون السماء صافية وغزوه بالنجوم المتلألئة بتزاحم مهيب وتسلل اعداد مجنونة من الكواكب الشاحبة متناهية الحجم . . بينها – إلا انك مع صفير رياح الخريف ليلا تشعر بوخز البرودة تخترق عظمك رغم ارتدائك لكامل ملبسك – احساس جسدي لارتعاد اوصالك . . لا تشعر به في وقت اخر من العام ، حتى عند قعودك مبللا بمياه غسلتك دون تنشيف جسدك . . داخل غرفتك المغلقة احتفاظا بتبريد مكيف الهواء الى اقصى درجته . . .
لم تدرك شيئا وقتها ، لكنك علمت لاحقا بعد مرور زمن بعيد . . حين تحضر إليك مجزءات من الذاكرة – كثير ما كان منها عالم عدن لعمر طفولتك وجزء من شبابك ، وحتى في ترحلك بعيدا عنها لعقود غير قليلة ، كانت ظلالها تصاحب روحك وتغلف عوالمك الاخرى التي تعيشها . . لتجدها بعد سنين قد اصبحت نسيجا من تراكم اخر من الذاكرة ، لكنها حين تأتيك لا تكون إلا مضمخة بمخيلات شبحية ومسيجة بروابط شبه مخفية لذكرياتك القديمة لمدينة الخليج اليمني . . .
كان يرتبك نظام حياتك لشهرين من كل عام ، خصوصا من بعد الخامسة والنصف عصرا – لم تعد تجرك قدماك الى اماكن اللقاء بالأصدقاء . . كما اعتدت عليه ، مغيرا المكان والصحبة كل بضعة ايام ، تارة في الشيخ عثمان واخرى في المعلا او التواهي واحيانا في كريتر – غالبا ما كان يأسر لقاءكم السير دون تخطيط بتجاذب الاحاديث التي لا تنتهي ، لتجدون انفسكم جالسين على التراب في منطقة عارية بعيدا عن المعمورة ، فضاء متكامل يحيط بكم بضوء قمري شاحب ، تظهر السماء متصلة بالأرض من مختلف الجهات ، وحين ينقاد ليلا زمرة الاصدقاء هروبا من عالم البشر الى المملاح او شط من شواطئ البحر ، وتجدون انفسكم متموضعين على صخور وصوت تكسر الموج يحيط بكم . . لا عقة اوجهكم واقدامكم العارية بعد خلع الاحذية والجوارب عنها ، لا يجد المرء حدا فاصلا بين الفضاء وصفحة المياه واليابسة – كما لو انك ومن معك تعيشون وقتا من الطفو في اللا مكان – يعبر الوقت وكالأطفال لا تحسون به و . . الاحاديث لا تنته ، لتفاجأوا بانبثاق ضوء الفجر . . تجرجرون اقدامكم بتثاقل الانهاك على اجسادكم . . عودة للنوم لبضع ساعات بعدها – لا اعرف سر دورة فصل الخريف علي ، اجدني اسيرا كمسحور لوحدتي ، حتى عند غيابي لايام عن اصدقاء يتصلون عن سبب انقطاعي ، كنت اتهرب بأعذار واهية و . . كثيرا ما كنت لا ارد عليهم او اتجنب الالتقاء بأي منهم خلال النهار – كنت اجدني بعد المرور لشراء مشروبي الخاص و . . الوقت يشير اقترابا من الدخول في الثامنة ليلا او ما بعدها قليلا ، إذا بي جالسا على صخرة اسفل قلعة صيرة من جانبها الخلفي بعيدا عن البشر ومياه البحر تحيط بي من اتجاهات ثلاث ، واحيانا التجئ لمساحة خالية من ساحل ابين – كانت نسمات البحر الباردة تسكرني مثقلة رأسي ، وإذا بجسدي يتلاشى الشعور به ، لأجدني اسير حالة عشق – في ماذا . . لا أدري ، تارة تتهيج عواطفي فينذرف الدمع بصمت دون توقف و . . إذا بنفسي تغادرها كل الالام ومنغصات الحزن واوجاع الجسد – شعور بنفسي لا أذكر مثيلا له غير زمن طفولتي – ينفتح العالم والكون بهيجا دون تعليل او ادراك ما – واخرى كلما ارتشفت ريقا يتفتح ذهني منتشيا . . حتى يتلاشى وجودي في المكان ، مذابا عبره باتساع متدفق في الكون و . . في اغواره غير المنظورة – كان الميني كاسيت وسماعة الاذن يغادران ركنهما المنسي طوال العام – افتح موسيقى رومانسية واحيانا سمفونية . . وفق حالتي التي اصل فيها الى موضع جلوسي – وقت يسير وفعل سحر النسمات البحرية الباردة و . . السكون عدى صور ايقاعات تكسر موجات البحر القريبة مني وتلك المتناوبة ابتعادا عن الشاطئ . . تنزعني مني . . لأتحرك تكوينا غير مرئيا خلال المسار الصوري للموسيقى . . حتى اتلاشى لأكون ظلا داخل اصوات الموسيقى واتحرك منسابا بانسياب مساراتها – لا استفيق إلا بقاطع شعور نعاس ثقيل يدب في نفسي مثقلا على عيني ، اشطف وجهي بقليل من الماء من القنينة او ماء البحر ، انظر في ساعتي ، كان توقيتها غالبا ما يشير الى ما بعد منتصف الليل بساعتين او اكثر – اقف محركا اذرعي وقدماي لتنشيط الدورة الدموية ل . . لطرد الشعور بالنوم ، انطرح على سريري واذهب في نوم لم اذق مثله قبلا – شهران ونصف على ذات المنوال واعتزال العالم ليلا – كم هي لذيذة الحياة وقتها ، مذاق وتمتع لا حدود لهما ، لا يضاهي ذلك الشعور . . حتى بقيد شعرة شعور التملك والثروة والليالي المجنونة من العشق او ممارسة الجنس . . .

تقودني اشواقي – بعد ثلاثة عقود - للعودة في ذات الموسم من كل عام الى عدن – الرياح الباردة ليلا المحملة بنسمات مياه البحر لم تزل كما هي تحس بها ، لكنها اصبحت فاقدة لأثر سحرها عليك – حاولت مرارا تقمص حالتك القديمة ، وحاولت كل الطرق والوسائل ل . . لتذوق ما كنت قد تعودت عليه من قبل ، حتى تصنعت السقوط في السكر – لا شيء يحضرك ، حتى دفء ما تحمله كل تلك الذكريات القديمة . . انمحت – تحث نفسك ، تعاصر دماغك لإفلات ولو شيئا من الذاكرة تستأنس بها وتشبع الحنين فيك – لا شيء . . سوى شعورك بالحزن و . . الضياع لفقدان جنة الارض طبيعتها و . . حتى انها اصبحت ما حية للذاكرة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان درويش صيرفي: أعطيت محمد عبده 200 دانة حتى تنتشر


.. بأنامله الذهبية وصوته العذب.. الفنان درويش صيرفي يقدم موال -




.. د. مدحت العدل: فيلم -أمريكا شيكا بيكا- كان فكرتي.. وساعتها ا


.. مين هو أعظم مطرب قام بالتمثيل في السينما المصرية من وجهة نظر




.. عوام في بحر الكلام - مدحت العدل: من حسن الحظ أنك تقابل فنان