الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإبراهيمية بين حوار الأديان وصدام الحضارات.. أزمة الفهم والسياق الثقافي!

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2023 / 3 / 12
الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني


تأتي إثارة هذا الموضوع عن "حوار الأديان" و"صدام الحضارات" والمفارقة بينهما وضرورة ضبط المسافات والسياقات والمقام الذي يرد فيه كل منهما، استكمالا لمقالي السابق ردا على مقالة الصديق د.هاني نسيرة المعنونة "بيت العائلة الإبراهيمية والزوبعة التي ثارت!"
والذي كتبته بعنوان: "زوبعة بيت العائلة الإبراهيمية في سياقها الثقافي.. أم سياقها المتوهم!"، خاصة بعدما نشر مقالة جديدة في الموضوع بعنوان : "حوار الأديان لم يبدأ سياسيًا بل بدأ فكريًا مدنيًا! من القديم إلى الحديث"، يطرح فيه وجهة نظره حول حوار الأديان والمشترك بينها في سياق مقاله السابق عن "المشترك الإبراهيمي" بين الأديان السماوية، و"بيت العائلة الإبراهيمية" الذي افتتح في الإمارات.

بحثا عن مشروعية
تجيز الحديث نيابة عن الذات العربية
ففي المقالة الجديدة يفتتحها بأنه يرد على سؤال: لماذا الحوار -في سياق المشترك الديني الإبراهيمي- دفعه الساسة ورفضه الفقهاء؟ ليخلص في نهاية المقال بأن الحوار بين الأديان لم يكن سياسيا في الأصل إنما هو مدني إنساني معرفي، وعلمي له صلة بالسياسات الدولية، ساكتا بشكل ما عن الإجابة عن دور الفقه أو المتخصصين في أمور الدين، حينما قال في المقال: "خلاصة أن مسألة حوار الأديان لم تكن سياسية في أصلها، وإن دفعها الساسة أحيانا، وليست حديثة، بل قديمة قدم الأديان والمذاهب نفسها، منذ عصر بطليموس وكتابة التوراة السبعينية في القرن الثالث قبل الميلادي، حتى عهد قسطنطين ومجمع خلقدونية سنة 451 ميلادية، بل مدنية إنسانية ومعرفية، تطورت لعلمية ثم مسألة دولية في العصر الحديث"(1).
وتبدو خلاصة مقالته أنه يؤسس لمشروعية المضي قدما في الترويج للاتفاقيات الإبراهيمية وصفقة القرن، في موجتها الجديدة التي تستخدم ستار "حوار الأديان" مع تدشين ما يسمى "بيت العائلة الإبراهيمية" في الإمارات، ولكن مع تجاوز رفض طبقة علماء الدين الذين عارضوا قبول الهيمنة الحضارية وتطبيع الاحتلال الصهيوني باسم "المشترك الديني" الإبراهيمي، وعن طريق تأسيس مشروعية ما لقيام ذلك الحوار الديني المزعوم على يد طبقة عربية تنتسب لـ"التيار المدني" أو "الفكري"..
فالأخ الدكتور هاني نسيرة في مقالته الجديدة، يبدو كمن يؤسس لمشروعية الحديث نيابة عن الذات العربية والترويج للاتفاقيات الإبراهيمية وصفقة القرن المعدلة باسم "المدنية" و"الحرية الفكرية"! في مرحلة جديدة من خطاب الاستلاب العربي للصهيونية والآخر الغربي، الذي ظهر بداية مع يوسف زيدان قرب نهاية عام 2015م ومع حملة ترامب الانتخابية الأولى للترشح للرئاسة الأمريكية.

صدام حضاري أم حوار ديني!
وهنا لابد من العودة لمجموعة من المفاهيم المتصلة والمتفاعلة؛ فالحضارة والثقافة والدين والسياسة، كلها مفاهيم لا غنى عنها في التعاطي مع الظاهرة الإنسانية الحديثة والمعاصرة، مع ضرورة فهم العلاقة بين كل منهم والآخر، خاصة في ظل استقرار مجموعة من المفاهيم والسياقات ذات الصلة بكل منهم، وكذلك محورية وضع كل منهم في نسق ثقافي متكامل أو داخل إطار منتظم يحدد علاقة كل منهم ببعضه، خاصة عندما تصدر المفاهيم نفسها عن حاضنة أو جماعة إنسانية ما.
فمثلا حينما تخرج دعاوى لـ"حوار الأديان" عن جماعة إنسانية وفي الوقت نفسه تخرج منها دعاوي لـ"صدام الحضارات"، هنا لابد من وقفة لتحديد النسق وحزمة السياسيات الكلية التي تتحرك منها هذه الجماعة الإنسانية، وتراتب هذه الأفكار والأدوار التي تلعبها كل منها، وما هو الرئيسي فيها وما هو الفرعي، ما هو المتن وما هو الهامش! ما هو الحقيقي وما هو الذي يتم بغرض المناورة والخداع!

أين المشترك بين دولة الاحتلال والشعب العربي الفلسطيني؟
فالحقيقة أن التعامل مع مفهوم "حوار الأديان" في ظل "الاتفاقيات الإبراهيمية" بمعزل عن سياقه الحضاري والثقافي العام ليس وسيلة ناجحة للترويج له، بل سوف يكشف عن سطحية الترويج وهشاشة حجته! فالحوار الديني يأتي بحثا عن "المشترك" وفي ظل مراكز متساوية للأطراف المشاركة به، لكن طرح مفهوم "الحوار الديني" في ظل "الاتفاقيات الإبراهيمية" بين دولة الاحتلال وبين الدول العربية، هو مغالطة حجاجية واسعة الحجم!!
أين الاتفاقيات الإبراهيمية والحوار الذي تطرحه على الطرف الأصيل مع دولة الاحتلال أي مع العرب الفلسطينيين (والسلطة الفلسطينية)! أين ذلك على المستوى الديني وعلى المستوى السياسي وعلى المستوى الحضاري؟

مقاربة للتعالي والهيمنة في كافة النواحي
على المستوى الديني قام صلب "الاتفاقيات الإبراهيمية" و"صفقة القرن" على سيطرة دولة الاحتلال على مدينة القدس المباركة، وعلى مخططات لهدم المسجد الأقصى وبناء معبد يهودي في موضعه! على المستوى السياسي لم تمنح صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية شيئا للفلسطينيين، لا دولة ولا حدودا ومدنا ولا أي شيء، على المستوى الحضاري ترفض دولة الاحتلال اعتبار الفلسطينيين داخلها مواطنين من الدرجة الأولى وتشرِّع المزيد من قوانين التمييز العنصري والحضاري بين العرب والمستوطنين الصهاينة من اليهود! إجمالا ما طرحته صفقة القرن على الفلسطينيين ومعها الاتفاقيات الإبراهيمية كان حزمة من المساعدات الإقتصادية!!
إجمالا صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية لا تضع العربي الفلسطيني على قدم المساواة، ولا تمنحه المركز المتساوي نفسه على طاولة الحوار والمفاوضات.

ليست حوارا دينيا
لغياب "شرط المشترك" في تعاملها مع العرب الفلسطينيين
من ثم فإن دولة الاحتلال لم ترتق لمعايير "الحوار الديني" من حيث بحثها عن "المشترك" مع الطرف العربي الأصيل معها، وتمارس معه كل أشكال تفجير التناقضات والصراع والتهميش والعنصرية والعدوانية، فكيف لنا إذن أن نعتبر "الاتفاقية الإبراهيمية" منصة بناء "حوار أديان" ودولة الاحتلال لا تبحث عن المشترك!
إنما تبحث عن التمييز والفصل العنصري والتعالي الديني والحضاري على العرب الفلسطينيين (والهيمنة الدينية على مدينة القدس وفضاء البقعة المقدسة بها والمسجد الأقصى)، وهي المغالطة الحجاجية الأولى التي يقع فيه خطاب الأخ الدكتور/ هاني نسيرة ومقاله الثاني هذا والأول أيضا.
المسألة الأخرى هي التقدير السياسي والثقافي والعام لمشروع "الاتفاقيات الإبراهيمية" وصفقة القرن، هل هو يأتي في سياق مفاهيم وأطروحات "صدام الحضارات"، أم يأتي في إطار "حوار الأديان" أو حتى "تحالف الحضارات" كمشروع طرحته الأمم المتحدة؟ حيث كان قد "أطلق كل من معالي رئيس وزراء الجمهورية التركية السيد رجب طيب أردوغان ومعالي رئيس الوزراء الإسباني السيد خوسيه لويس رودريغيس ثاباتيرو مبادرة تحالف الحضارات في عام 2005 بناء على الاقتراح الذي تقدم به السيد ثاباتيرو بهذا الشأن. وباعتماد هذه المبادرة من قبل السيد أمين عام الأمم المتحدة تحولت إلى مبادرة أممية."(2)، تطرح نفسها بديلا عن أطروحة صدام الحضارات التي قدمها هنتنجنتون..
فهل تنتمي الاتفاقيات الإبراهيمية وحواشيها إلى النسق الثقافي العام إلى "تحالف الحضارات" الذي تبنته الأمم المتحدة وتعايشها، أم تنتمي إلى "صدام الحضارات" وحواشيه إرث الثقافة الأمريكية والمسألة الأوربية ومركزيتها!

ترامب والإبراهيمية سليلا صدام الحضارات
لكي نرد الأشياء إلى أصلها علينا أن نعود إلى الطرح الأصلي لصفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية، التي ظهرت للوجود مع دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق، سنجد أن دونالد ترامب يننتمي إلى اليمين المسيحي الأمريكي، بأفكاره عن التفوق الأبيض الجرماني (الأنجلو ساكسوني)، والكنيسة الأمريكية التي طورت مفاهيم التعالي الديني لمذهب البيورتيانية أو التطهرية العنصرية (انظر مواقفها تجاه السكان الأصليين من الهنود الحمر وتجاه السود المستجلبين من أفريقيا)، كما أن رأسمالية ترامب البرجماتية بكل هذه الخلفيات الشعبوية والصدامية والتي وصلت ذروتها عند فشله في انتخابات التجديد الرئاسية، لا تقف بعيدا أبدا عن مشروع "صدام الحضارات" الذي طرحه صمويل هنتنجنتون، حيث اعتبرت العديد من منصات التحليل العالمية أنه :"يذكرنا ترامب بنظرية صموئيل هنتنغنتون عن صدام الحضارات والتي صاغها بعد نهاية الحرب الباردة، وأبرز فيها أولوية الأبعاد الثقافية في نزاعات زمن العولمة، في نقض لتفاؤل تلميذه فرنسيس فوكاياما عن نهاية التاريخ."(3)
إذن حقيقة يقوم النسق الثقافي الحامل لدونالد ترامب على مقاربة "صراع الحضارات" وعلى المستوى الديني يقوم على التعالي الديني، فكيف لنا إذن أن نعتبر مشروع "الإبراهيمية" (بصندوقه التمويلي وبيت العائلة الخاص به الذي قاما على أكتاف الإمارات) منصة لحوار الأديان أو التواصل الحضاري والبحث عن المشتركات ....!!!!!

غياب احترام الطرف الآخر كصاحب مركز مناظر
حوار الأديان والتواصل أو التحالف الحضاري والدبلوماسية الثقافية كلها مقاربات تقوم على احترام الطرف الآخر والتأكيد على المشترك معه، كلها مقاربات لم تحقق دولة الاحتلال العنصري ولم تستوف معايير الاندرجاح فيها... وأمريكا مع بايدن طورت نسخة معدلة من "صفقة القرن" الخاصة بها، واعتمدت السياسة الخارجية الخاصة بها "الاتفاقيات الإبراهيمية" وسعت لتوسيع نطاقها في استمرار لسياسات الهيمنة... كيف إذن يمكن أن تصب "الاتفاقيات الإبراهيمية" وصفقة القرن في مسار الحوار الحضاري أو التواصل الحضاري أو تحالف الحضارات!! وهي المغالطة الثانية التي يقع فيها مقال الأخ الدكتور/ هاني نسيرة.

هل تمهيد لرعاة جدد لـ"السردية الإبراهيمية"
بثياب مدينة أو فكرية!
وبالعودة إلى المقال المشار إليه سنجد أن منطقه الداخلي أو حجيته الخاصة لكي يطرح خطابه؛ تقوم مجددا على الرد فعل، وتقديم سردية سلبية خاصة بالذات العربية والإسلامية كي يبرر مشروعه للاستلاب الحضاري والثقافي للآخر الصهيوني و"السردية الإبراهيمية" التي يروج لها، وهو المنطق أو الحجاج نفسه الذي استخدمه في المقال الأول، ولكن هدف هذا المقال يعد تأسيسا للمكانة المشروعية أو المتخيلة للحديث في الموضوع، فهو في هذا المقال يسعى إلى إزاحة الربط بين "حوار الأديان" وبين المتخصصين في الدين أو الفقهاء، ويؤسس لكي يخلق مكانة لطبقة أخرى من المروجين لـ"السردية الإبراهيمية" بحجة أو بشرعية المدنية أو الاشتغال الفكري أو البحثي!
وفي كل الأحول تبطل تلك الحجة سواء بمرجعيات مدنية، أو ثقافية أو فكرية، أو حضارية، أو دينية فقهية، لأن الأخ الدكتور/ هاني نسيرة لم يقدم لنا الحجاج المدني والفكري الذي حملته "الاتفاقيات الإبراهيمية" للفلسطينيين والعرب! لقد قام تمرير الاتفاقيات الإبراهيمية في عهد ترامب على تفجير كافة التناقضات العربية والضغط على الدول، على سبيل المثال: في المغرب وقضية الصحراء، وفي السودان وقضية الديون والإرهاب، وفي غيرهما...

مرحلة جديدة من خطاب الاستلاب للصهيونية
و"السردية الإبراهيمية"
يبدو أن مرحلة جديدة من خطاب الاستلاب للصهيونية والآخر الغربي عموما الذي ظهر بداية مع المصري يوسف زيدان تقترب بشدة، حيث سينتقل على ما يبدو دعاة خطاب الاستلاب من مرحلة التمهيد وصدم الوعي العربي بكافة أبعاده ومن ضمنها البعد والمكون الديني، إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة التأكيد على "السردية الإبراهيمية" وظهورها في تمثلات ثقافية جديدة ومشاريع علنية، تحت عنوان "الحوار الديني"... لكنه حوار ديني تقوم به الحركة المدنية والفكرية والعلمانية العربية المزعومة؛ مع الصهيونية وطورها الأخير في الاتفاقيات الإبراهيمية وصفقة القرن المعدلة!!
من هنا يجب القول إن الذين تصدوا لخطاب الاستلاب العربي في موجاته السابقة؛ صاروا أكثر فهما وحنكة في كشف الأنماط الثقافية وهي في مراحلها الأولى، خاصة حينما تبدأ تلك الأنماط الثقافية المعادية للذات العربية في الاصطفاف معا على أكثر من جبهة، للمدقق جيدا في الأمر..
ونرجوا هذه المرة ألا يتأخر البعض في فهم ما يحدث، والعلاقات المتدخلة في شبكة السياسات الإقليمية في الخليج وباب المندب والقرن الأفريقي وغرب أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، وحضور الفواعل الدولية وأدوارها في المنطقة برمتها، نرجوا أن نكون على استعداد لموجة التدافعات الجديدة القادمة على الإقليم والدول العربية بقوة، والتي ستأتي في خضم عدة قضايا إقليمية وعربية لتمرر خطابها وتمكن لنفسها.




هوامش:
1 - هاني نسيرة، حوار الأديان لم يبدأ سياسيًا بل بدأ فكريًا مدنيًا! من القديم إلى الحديث، موقع مصراوي، بتاريخ 10 مارس 2023م
https://www.masrawy.com/news/news_essays/details/2023/3/10/2381724
2 - موقع وزارة الخارجية التركية على الرابط
https://www.mfa.gov.tr/medeniyetler-ittifaki-girisimi-ar.ar.mfa
3 - منصة مونت كارلو الدولية الإخبارية، 13/12/2015م
https://www.mc-doualiya.com/chronicles/decryptage-mcd/20151213








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حاكم دارفور: سنحرر جميع مدن الإقليم من الدعم السريع


.. بريطانيا.. قصة احتيال غريبة لموظفة في مكتب محاماة سرقت -ممتل




.. عائلات المحتجزين الإسرائيليين يضرمون النيران بشوارع تل أبيب


.. بإيعاز من رؤساء وملوك دول العالم الإسلامي.. ضرورات دعت لقيام




.. بعبارة -ترمب رائع-.. الملاكم غارسيا ينشر مقطعاً يؤدي فيه لكم