الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سَخافَةُ آلامْتِلَاك

عبد الله خطوري

2023 / 3 / 12
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


أضْحَيْتُ مقتنعًا الآن أكثر من وقت مضى أن فكرة الجذور خرافة سخيفة مضحكة. أباؤنا حاولوا قدر آستطاعتهم تقريبَنا من رموز بعينها رأوها حَبْلا سُرِّيا( Cordon ombilical)يُمْكن أن يلملم شتات المبعدين، ويُقَرب النائين المغادرين يَؤوبون ذات لحظة سعيدة إلى أتربتهم التي آحتضنت ألعاب طفولتهم الأولى؛ وكم كانوا يتمنون يتضرعون لله العلي القدير أن يُصرف مكاتب أقداره تصريفا ذا دَعَة فيه قَبول ورضى حتى إذا حان حَيْنُ رحيلهم حَلموها رقدة أبدية في حِضن تباريح البلدة آلرؤوم؛ الشيء الذي لم يحصل في أكثر من ظرف ومناسبة لحكمة يدرك سرها خالق مَلكوت الحِكَم؛ فلم أعُدْ أستسيغ بَعد سلسلة الفقد التي عشتُها في حياتي في بلدتي الرمز وفي غيرها من البلدات القصية والدانية قول المنتكسين ايييه لذاك الزمن الجميل لتلك الأمكنة التي سكنت الذاكرة شحنتها بشحنات كمية ونوعية..(واحفظوا هذا جيدا، البلدة نوع من الرموز وكفى..!!..لكن أخال الكثيرن منا لا يفقهون أبعاد سِر آلرموز كيف تتشكل في النفس كيف تتغلغل كيف تتشابك..مازااال خصنا سنين ضوئية باش ندركو هادشي للأسف!!)..النتيجة، أني لم أعد قادرا بعد تأملات ليست باليسيرة في تواريخنا القريبة والبعيدة، استيعاب وفهم مقولة القائلين:جذوري هنا
أو عبارة:العودة إلى الجذور أمْسَتْ ضرورة مُلِحّة تادولا ايطَا دوازتشا(١) يُمَنون النفوس..لا بد يوما سنؤوب..مَنْ قال هذا..مَنْ أوحى به لنا، من أين أتينا بهذا البيانِ المفصحِ آلمُفْلِقِ الواثقِ من نفسه أكثر من اللزوم..

يَحكي تولستوي في إحدى قصصه(٢)أن السيد باهوم عاش لاهثا حياته يجري وراء ضم التراب تلو التراب الى ما يملك من تراب مستوليا على أراضي الجيران وجيران الجيران والاقرباء وذوي الدم المشترك من علاقات القرابة دون رادع يردعه ماعدا المزيد من الجشع الذي لا تحده حدود يستحثه أن يزيد للمزيد مزيدات أخرَ، فغرق في السطو والنهب والاحتيال والسعي الحثيث وراء مضاعفة الاحساس بنشوة الامتلاك، حتى لم يعد يدرك أو يعي أو يحس بجريرة ما يفعل، مادام يرى أرزاق الغير وما ورثوه جزءا من مستحقاته التي تستلزمها الحياة بشبكة تواطؤاتها الملتبسة، فآستمر كذلك يسيج الفدادين يضع لها الأنصاب والأحجار يوثق ملكيتها له من غير أن يميز بين سرقة واختلاس وحلال وحرام ما بين ارزاقه وارزاق الناس، كل شيء سيان، مادامت الاشجار بقطافها والفدادين بغلاتها تصب مزيدا من الروبلات في مخزونه من الجشع واللهطة..واستمر به الحال حتى وجد القرية الصغيرة لم تعد تكفيه أو تشبعه من جوع، فراح ينقل أنشطته اللهاثية الى قرى الجوار زورا بهتانا كذبا افتراء وبيعا وشراء بأثمان سخيفة هي أقرب الى الاستيلاء منها الى التراضي بطرق ملتوية غير قانونية في أحسن الاحوال.. حتى وصل إحدى القرى اقترح على أهلها بيع اراضيهم فردوا عليه باقتراح لا علاقة له بكم الدراهم المجزاة من اجل ملكيتها وانما طريقة الشراء عندهم مختلفة خلاصتها أن يعدو الراغب في الأتربة في اكبر مساحة يستطيعها يركض خلالها ذهابا وايابا طيلة نهار كامل، وكل ما آستطاع قطعه من مساحة يصبح ملكه بشرط مدة الركض تكون محدودة من الفجر إلى المغرب..بدأ باهوم المطعوس(٣)بحقل الذرة ركض حوله كله إلى أن تعب والتفت جنبه تفاجأ بحقل فاكهة جميل بدأ يركض حوله لساعات، وبعدها التفت لقى جنبه أرضا خصبة يتخللها نهر جميل عدا بكل ما يملك من قوة عَدا مجتازا الأرض والنهر مضيفا مساحات أخرَ جراء ساعات تجشم فيها عناء لا يُحتمل حتى تأكد له بما لا يدع مجالا للشك أن ملكيته غدت أضعافا مضاعفة مقارنة بما كان بحوزته من أراض قديمة..ولما أحس بالارهاق نظر الى السماء فإذا بالشمس تنزاح الى المغيب فقرر العودة كي لا يضيع ما ربح من ممتلكات، وهو في الطريق لقى يمينه أرضا خضراء جميلة مغرية جعل يركض حولها بأعلى مجهود كي يضمها هي الأخرى الى ممتلكاته؛ وقبل أذان المغرب بقليل قرر باهوم أبو مْحَايَنْ ن تيخينْ(٤) العودة نهائيا كي تُكتبَ الأراضي بآسمه.. وفرح لوصوله قبل الوقت المحدد بدقائق؛ ولكن بعد ما وصل شعر بألم شديد في قلبه نتيجة المجهود العنيف لجسمه وسقط على الأرض مغشيًا عليه.. حاول الأهالي إسعافه دون جدوى...
بعد وفاته، قرر الرجل المسؤول دفنه فورًا لصعوبة إعادة الجثة الى بلدتها الاصلية، وإذ همّوا يفعلون تساءل الرجال:

_كم مساحةَ أرض سنخصصها لباهوم؟

فكانت إجابتهم واحدة حزينة:

_مترين في متر حق كل ميت من تراب الأرض...

حكاية تولستوي ترفض هنا مثل هذه اللهطة المريضة التي يعيش جحيمها باهومات الحياة، بل إن الكاتب نفسه قرر هو السيد النبيل الغني صاحب الأملاك والأطيان أن يوزع جميع ثروته من الأراضي والأملاك على الفلاحين وذوي الخصاصة المحتاجين من الفقراء وآنتحى جانبا كوخا بسيطا ومساحة قليلة يزاول فيها أنشطته اليدوية الفلاحية بعيدا عن أطماع الطامعين ولهاث جري الوحوش مؤمنا بأن الحياة بما حوت لا تساوي لحظة يضيع فيها الانسان كل شيء عزيز لديه رجاء هكتارات من الأتربة مهما اتسعت امتدت لن يحوز منها المرء غير حيز ضئيل بالكاد يستوعب بدنه الهالك...
لنتفق، لتطمئن نفوسنا، علينا التعلم كيف نتخلص من وطأة(هَلْ مِنْ مزيد!!).. لسنين خَلَتْ آبْتُلينا بسعي سيزيفي نحو وهم الامتلاك فآزددنا ثقلا على ثقل على ثقل..
_ثقل البيولوجيات
_ثقل الفيزياء
_ثقل الجيوميتري
_ثقل اللوغاريتمات
_ثقل الواقع
_ثقل الافتراض
_ثقل آلأوهام
_ثقل النفس الأمَّارة
_ثقل النفس اللوامة
الخ الخ الخ....
أظن أننا، في لحظة بَرَكة الأعمار، نستحق أن نعانق ولو لحظات وجيزة أفياء النفس المطئنة بعيدا عن التفكير السلبي بعيدا عن المخاوف والهواجس والوساوس وأوهام الخلود المطلق في حياة خُلِقَتْ لزواااال..
أنا لست رقما في حساب أنا لست رصيدا في مخزون بنكي أنا لست جَوابَ آفاق يغامر يكد كده للتنقيب عن الذهب أنا لستُ لاهث نحو سراب ثروة تركها السابقون وراءهم ورحلوا أنا لست أتربة وأطيانا وفدادين وهكتارات أنا لستُ شجرة يا هُوووه.. حتى آلشجر آقتلعوه..أنا من تراب(٥)أنا مجرد كيان بسيط من شهيق من زفير من نَفَس مِن روح تفكر تؤمن تعشق السفر في ناموس رحموت الله الذي لا تحده حدود لا تقيده قيود لا تتشابك في رحابه حسابات المحافظات الدنيوية الدنية..أنا إنسان لي قدمان، وقدماي تمشيان تحملانني إلى كل ما أستطيع أن أبلغه من أراضٍ هنا هناك هنااالك لا يهم..أعتقد يا سادة أننا جذورنا نحملها كجيناتنا في دواخلنا، لا في أي مكان آخر كيفما كان هذا المكان ولو كان بلدة في صخرة من صوان(٦)في حفرة نائية بين وهاد في آلأعالي ...

☆إشارات:
١_تادولا ايطَا دوازتشا:العودة الى الأصل اليوم أو غدا
٢_قصة(كم هو نصيب الإنسان من آلأرض)لتولستوي قصة السيد باهوم الذي ربح كل شيء وخسر نفسه
٣_المطعوس:الشقي التعس
٤_أبو مْحَايَنْ ن تيخينْ:أبو المصائب
٥_(ولسوف أريكم خوفكم في حفنة من تراب)_توماس ستيرن إليوت/من قصيدة..الأرض آليباب..المقاطع الأولى..
٦_(كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا)حديث شريف








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد 9 أشهر من الحرب.. ماذا حدث في غزة؟


.. أبو عبيدة: محور وسط القطاع المسمى نتساريم سيكون محورا للرعب




.. 10 شهداء على الأقل في استهداف الاحتلال لمنزل مأهول في منطقة


.. قطاع غزة.. حياة الأطفال مهددة بسبب نقص الدواء والغذاء




.. تفاعلكم | صدمة.. حقائب البراندات العالمية لا تكلف صناعتها أ