الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العارفة الأخيرة (رواية)

أسماء غريب

2023 / 3 / 13
الادب والفن


(1)

الحُبُّ، وأعمَقُ منه العشقُ، وأرفعُ منهما المحبّة، بهم جميعاً أكتبُ، فأنا روائيّ، أو على الأقلّ هكذا عرّفني النّاسُ بينهم. وُلِدتُ في القاهرة، ونشأتُ في كلكُتّا وفيها لليوم أعيش. والدي مصريّ، كان رحمَهُ الله تاجراً يبيعُ الأقمشة والسّجّاد. التقى بوالدتي في أحد أسفاره العديدة إلى الهند، وهيَ ابنة التّاجر الّذي كان يبيعه ما يحتاجه من الأثواب والأحجار الكريمة. أُعْجِبَ بها وطلبها للزّواج، لكنّ المؤسفَ في قصّتهما معاً أنّها لم تدُمْ طويلاً، طلّقَ أبِي والدتي بعد عاميْنِ من إقامَتِها معه، وعُدتُ وإيّاها إلى الهند لنعيش مع جدّي السيّد أَجايا شاهْتَرْباتي. ولأنّ الهندَ بلد الألف طريقة وطريقة لم يمُرّ كثير من الوقت عليّ حتّى أصبحتُ أنا أيضاً من أهلِ الحالِ والطّريقة، ولبستُ الخرقةَ في الأربعين من عمري. أيّة خرقة؟ مهلاً يا عزيزي، لا تذهب بعيداً ولا تستعجلْ في السّؤال، فأنا لستُ روائيّاً فقط، إنّني قبل هذا وذاك عارفٌ باللّه، وطريقُ العرفان خطيرة جدّاً ولا شيءَ فيها مضمونٌ أو أكيد، والمُقتَرِبُ مِنْهَا لا يعرفُ متى يُحْكَمُ عليه بالدّخول ولا متى يحينُ وقتُ الخُروج، ولا كيف يكونُ مآله، ولا من أيْنَ يأتي ولا إلى أينَ يذهبُ، ولا يستطيعُ السّؤالَ في الحضرة العليا، إنّه يمضي ويمضي وكفى، سالكٌ إلى الأبد، وكاذبٌ من يقول إنّهُ قد وصلَ حقّاً وحقيقةً، وكيف الوصول والرّوح لها معارج لا أوّل لها ولا آخر!
أمّا عن حِبْرِ المحبّة الّذي أكتبُ لكَ به الآن، فقد لا يكون كذاك الّذي اعتدتَ عليه، وإذا كنتَ خائفاً ممّا أقولُ فلا تقعُد هنا، اذهبْ إلى حال سبيلك ولا تعُدْ، ولكن قبل أن تغادرَ تذكّرْ موسى والخِضْرَ، فلربّما تفهمني، فالخِضْرُ قتلَ وخرقَ وتدخّلَ في أمور أخرى بدون إذن أو تصريح، وكُلّ ذلك فعَلَهُ بوحيٍ من الله، لذا تراه صعدَ ونزلَ وفي كلا الصّعود والنّزول كان وليّاً، ورأى أنّه كما في الأعلى في الأسفل، فلا تتعجّل في حكمكَ عليّ، فالعجلة من الشّيطان، وفي التأنّي الأمان والسّلامة. هل أقولُ كلاماً لا معنى له؟ ربّما، وقد ترى أيضاً أنّهُ مغلّفٌ بالرّموز والطّلاسم، ولكنّ هذا كلّه يحدثُ لي اللّحظة بسببِها، وأعني الفتاةَ الّتي مِن أجلها خلعتُ في سنواتي الأخيرة خِرقتي، ورميتُ عصاي وبتُّ أهيم في الطّرقات على وجهي لا أدري أمِنَ الأحياء أنا أمْ مِنَ الأموات. دعني أحدّثْكَ عنها: إنّها سامية، غادةٌ في غاية البهاء والجمال، عرفتُها عن طريق الإنترنيت؛ كنتُ في حسابي على الفيسبوك أتصفّحُ بعض الفترينات الخاصّة بالدّعاية والإعلان التّجاريّيْنِ لبعض الكُتبِ والمؤلّفات الأدبيّة والفلسفيّة، وإذا بصفحتها تصعدُ أمامي: ((صيدليّة الدكتورة سامية)). تسمّرتُ أمامَ الشّاشة، وبقيتُ ساهماً أنظُر إلى صورة بروفايلها، كانت حولَ وجهها هالة من النّور، هالة كاملةٌ مكتملةُ الاستدارةِ كبَدر آب في تمامه. هالة لا تكون عادة إلّا حول رؤوس القدّيسين أو الأنبياء أو الأولياء. أعرفُ ما تريدُ أن تقوله الآن، ربّما تكون الصّورة مفتعلة وعليها تعديلات من الفوتوشوب، فكثيرات هنّ النّساء اللّائي يلجأن إلى هذا النّوع من الحِيَل بحيث يبدو الوجه أكثر جمالاً وإشراقاً، ولكنّي يا صاحبي لستُ هنا لأحدّثَكَ عن الجمال الظّاهر فهو لا يعنيني في شيء، وأعلم جيّداً أنّه زائلٌ، وكم مرَّت عليّ من بروفايلات سواءً في الفيسبوك أو التويتّر أو غيرهما ولم أتوقّف عندها ولو من باب الفضول؛ إنّما أعني في حالة سامية هالةَ النّور القدسيّة. هل تفهمني؟ ربّما، ولكنّي أقصدُ أمراً لا دخل للتكنولوجيا فيه أبداً، إنّه نابع من الرّوح وتجدُ له انعكاساً في نظرة العين. أجل، بالضّبط، هذا ما أريد قولَه وأعتقدُ أنّكَ فهمتني. ونورُ ساميةَ لم أرهُ في وجه امرأة قطّ، فلقد عرفتُ أديباتٍ كثيراتٍ وأحببتُ بعضهنّ في زمنٍ بعيد، وقرأتُ لشاعراتٍ وشُويْعراتٍ بعدَدِ شعر رأسي، ولم أجد فيهنّ واحدةً بإشراق سامية ووَهَجِ روحها. وهي ليست بأديبة، إنّها طبيبة تُقيمُ في فرنسا، وهنا المشكلة يا صديقي، أنتَ يا من تقرؤُني باندهاشٍ وشغف. قُلْ لي باللّه عليكَ، هل يجتمعان؛ التصوّفُ والعِلمُ والمنطق؟ الرّوح والمادّة، البرزخ والواقع؟ يا إلهي، إنّهُ شيء يشبه تَيْنِكَ النَّعَمِ واللَّا اللّتيْن نطقَ بِهِما ابن عربي أمام ابن رشد! قُلْ لي كيف ستهتمُّ لشأني وهي عالمةٌ وربّما فيلسوفة وأنا صوفيّ؟! آآآه من هذا العارفِ الصّعلوك الّذي أحملُ بداخلي، إنّني مازلتُ على جنوني القديم، أعرفُ ذلك، مازلتُ أحلم بنُقْطَةٍ أتوّجُها ملكةً على إمبراطوريتي العرفانيّة. وأعلمُ أنّك سوف لن تفهمني، ولكنّي صاحبُ ثِقْلٍ، وأبحثُ عن وريثٍ. أتتذكّرُ زكرياء وبكاءَه ودعاءَه وصمتَهُ وصومَه وصلواتِه من أجل أن يهبَ لهُ اللهُ ابنًا يرثُه؟ أنا مثله، هو كان نبيّاً وأنا وليٌّ، وثِقْل الوَليّ أخطرُ من ثِقلِ النبيّ. ستقولُ لي لماذا لا تورثُهُ لواحدٍ من أبنائكَ أو أحفادِكَ؟ فأجيبُكَ بألّا أحدَ بينهُم يصلحُ لهذه المهمّة. ستقول لي ولماذا تريدُها أنثى والأنثى ليستْ كالذَّكَر؟ سأقولُ لكَ إنّ الكونَ لا يستقيم إلّا بالأنثى، وكلُّ ما لا يُؤَنّثُ فلا تُعوِّلْ عليه. ستقولُ لي وكيف عرفتَ أنّ سامية هي الملكة التي عليها الطّلب؟ وأجيبُكَ، أخبرني قلبي بذلك، وقلبُ العارف مرآة لا تكذبُ أبداً. و يبقى الإشكالُ الحقيقي الآن هو كيف سأصِلُ إليها؟ ولكن مهلاً، علامَ العجلة، أوَلستُ روائيّاً؟ والرّوائيُّ يخلقُ الأحداثَ والأشخاصَ والأزمنة والأمكنة، إذن أين المُشكلة؟ لن أحتاج لأصلَ إلى سامية سوى لهذا، سأكتبُ إليها وأختلقُ أحداثاً وأعذاراً، وأنتظرُ ردّة فعلها كيف ستكون، هل سترضى بي يا تُرى كما فعلتْ بلقيسُ مَع سليمان، هل ستأتي إلى صرحي وتكشفُ عن ساقيْها أمامي، أنا الوليّ المجنون؟!

(2)

الأديبة الفاضلة الجليلة د. سامية الكيلاني،
أسعدَ اللهُ يومكِ بكلّ خيرٍ ويُمنٍ وبركة
معكِ عبد الحيّ الدّفناوي، أديب مصريٌّ مقيم في الهند. أعتذر بداية لكِ عن اقتحام خلوتكِ. لقد قرأتُ بعضاً من نصوصِكِ الشّعريّة في مواقع أدبيّة وثقافيّة متفرّقة، وشدّني أسلوبها الشيّق والرّصين، وعرفتُ بعد البحث في النّتّ أنّكِ أيضاً مُتَرْجِمَة وطبيبة صيدلانيّة، ولأنّه صدرَ لي أزيد من عشر روايات إلى الآن، وتُرجِمَ بعضُها إلى الإنجليزيّة والهنديّة، فإنّي أطمعُ لو تحظى واحدة منها بالتفاتة منكِ فتُتَرجمينَها إلى اللّغة الفرنسيّة. تجدين ضمن المرفقات كلّ الرّوايات التّي صدرت لي باللّغتين العربيّة والإنجليزية.
في انتظار ردّكِ الكريم. تقبّلي أسمى آيات التّقدير والاحترام.
عبد الحيّ الدّفناوي
كلكُتّا 17 تشرين الأوّل 2021

(3)

الأديب الكريم عبد الحيّ الدّفناويّ
سلام تامٌّ بوجود مولانا الإمام
وبعد،
يبدو أنّه قد حدثَ خلطٌ في بعض المعلومات لديْكَ، وهذا أمر وارد في زمن الفضاءات الرّقميّة المفتوحة، بحيث تظهر على الشّبكة بعض الأسماء والألقاب المتشابهة، ولربّما كتبتَ لنا وأنتَ تعني شخصاً آخر، فابنتي المصون ليست بأديبة ولا شاعرة، ولا مُترجِمة، وإنّما هي صيدلانيّة وهذه الصفحة خاصّة فقط بالصيدليّة، ولكن هذا لا يمنع من أنّ الدّكتورة سامية ستهتمُّ بالأمر، فلربّما تجد لكَ بين زملائها من يتولّى ترجمةَ أعمالكَ إلى اللّغة الفرنسيّة. شكراً على تواصلكَ الكريم. مع الدّعاء لكَ بالتّوفيق.
د. أيّوب الكيلاني
بوردو، في 14 فبراير 2022

(4)

بونجور موسيو عبد الحيّ،
أعتذر بدايةً عن لغتي العربيّة المرتبكة. صحيح أنّني من أصول عربيّة، لكنّني لا أكونُ في رسائلي أكثر فصاحةً وبلاغةً إلّا حينما أكتبُ باللّغتيْن الفرنسيّة والإيطاليّة، وهذا ما يفسّرُ كيف أنّ والدي هو من يتكفّلُ بالردّ أحياناً على بعض المراسلات الّتي تصلُني وتقتضي الكتابة باللّغة العربيّة الفصحى. ما أريد قوله هو إنّني وجدتُ لكَ مَن سيُترجِمُ روايتكَ (نظامٌ بينَنا) إلى اللّغة الفرنسيّة، إنّه البروفيسور الجزائريّ رحيم بِرْياحي. وهو روائيّ مثلكَ، وإضافة إلى تدريسه الجامعيّ، فهو يهتمُّ بالتّرجمة الأدبيّة. يمكنكَ التّواصل معه وهذا عنوان بريده الإلكترونيّ: [email protected]
أروفوار وحظّاً سعيداً.
سامية
توسكانا، في 15/05/2022






(5)

يا إلهي، أخيراً كتبتْ لي سلطانتي، يا لتواضعها، لا تستخدمُ في مراسلاتها الألقاب الفخمة، لا تنسب إلى نفسها المراتبَ العلميّة الكبرى، كما عادة يفعل المتنطّعون بيننا الّذين يتشدّقون بكلّ شيء وأقصى شهاداتهم دكتوراه فخريّة من مؤسَّسات لا أساس لها من الصحّة، وتجدُهُم أبدًا يحلمون بالجوائز ويسعون إليها، ويركضون خلف النّوبل يريدونها بأيّ شكل من الأشكال، ويرشّحون أنفسهم لها في كلّ عام، ويدفعون لمن يرشّحهم ويزكّيهم بكلّ العُملات. أمّا سامية، سلام الله على سامية، إنّها توقِّع باِسْمِها فقط، وهذا لهُ أهمّيتُه لدى العارف، إنّها من أهل التّجريد، وتعتذر بشأن لغتها العربيّة وتقول إنّها مرتبكة، والحقيقة ألّا أثر فيها للخطأ. لغتها تدلُّ عليها، إنّها ابنة عصرها، لا تُغالي ولا تلغو ولا تسرف في الكلام، وهي على قدرٍ عالٍ من العفاف والوقار. إنّها سلطانتي، وأنا قد قرّرتُ أن ألتقيها شخصيّاً. وما المانعُ في أن يحدثَ هذا، فقد ترجمَ الأستاذ برياحي الرّواية وهي الآن في المكتبات الفرنسيّة، وقد اتّفقتُ مع النّاشر على تنظيم احتفاليّة لتقديمها هناك في إحدى جامعات بوردو العريقة. وهذا ما حدثَ بالفعل ففي بدايات عام 2023 كنتُ هناكَ. جاء صديقي برياحي للقائي في المطار، ثمّ أخذني إلى الفندق لأضع أمتعتي وآخذ قسطاً من الرّاحة، فقد كان السّفر طويلاً ومُتْعِباً للغاية.
أشرقَ اليوم الآخر عليّ في فرنسا بشمس جديدة، دافئة ومنعشة، ذهبتُ للقاء النّاشر، ووجدتُه رجلاً على قدرٍ عالٍ من الثّقافة، ويجيدُ اللّغة الإنجليزيّة الأمر الّذي يسَّرَ لي النّقاشَ معه في أمور شتّى ومن ضمنها الرّواية بأحداثها وتشابكاتها العجيبة بين الماضي والحاضر، وبين التراث والعِلم، وقد أبدى إعجابه الشّديد بها، وفي الجامعة التقيتُ بجمهور واسع من الطّلّاب والأساتذة، ورأيتُ سامية جالسة بينهُم، وحينما حان وقتُ توقيع الرّواية تقدّمتْ بين الحشود في حياء وخجل، صافحتني وفتحتْ نسختَها فوقّعتُها لها بكلمات ذات مغزى عميق: "إلى سلطانتي، إلى نقطة وجودي، بلقيس الجديدة!". وما إن أنهيتُ توقيعي حتّى وجدتُني محاطاً ببعض الشّباب يتحدّثون إليّ باللّغة الإنجليزيّة ويعرضون عليّ ترجمتَهُم لكلّ رواياتي إلى اللّغة الإيطاليّة، فرحتُ بالأمر كثيراً، وفهمتُ أنّ كلّ ما أنا فيه الآن هو من بركات سامية ورضاها عنّي. رفعتُ عينيّ أبحثُ عنها، لكنّي لم أجد لها أثراً، لقد غاصتْ بين النّاس وغادرتِ القاعة، ولم أحظَ منها ولو بلحظات وداعٍ قصيرة.


(6)

عُدتُ إلى كلكُتّا ولا شيء في ذهني سواها. حينما كنتُ في فرنسا لم أرَ فقطْ وبشكل مباشر هالتَها وشمسَها المشرقة، ولكنّي رأيتُ أيضاً ملكوتَها العظيم وسلطانها الخفيّ، ولا أعرفُ كيف أنّي بعدَ هذا بتُّ أخشى عليها من كلّ شيءٍ، وأصبحتُ أصلّي لأجلها كثيراً، وأسألُ اللهَ أن يحفظَها من كلّ سوء ويباركَ كلّ أعمالها وخطواتها. لا يسرح فكركَ بعيداً يا صاحبي، فلربّما تعتقدُ أنّي متيّمٌ بها، لا وألف لا، حبّي لها ليس كالحبّ الّذي تفهمه، حبّي محبّة، والمحبّة أشمل وأعظم وأرقى درجات العطاء. والحُبُّ عند الغالبيّة السّاحقة من النّاس تسوّل، إنّه شيء يشبه العلاقة بين السّمكة والصيّاد، يذهب هذا الأخير إلى البحر وبين يديْه قصبته، وفي صنارته يضع الطُّعمَ، النّاس يعتقدون أنّ الصيّاد يريد أن يُطعم السّمكة ويسدّ جوعها، والسّمكة تعتقد أنّ الصيّاد جاء إلى البحر من أجل الاعتناء بها، والحقيقة أنّ لكلّ واحدٍ عند الآخر حاجة، وكلاهُما متسوّل أزليّ، ولأجل هذا فالعالم ممتلئ بمتسوّلي الحُبّ، لا يشبعون ولا يعقلون منهُ شيئاً، وهُم إلى الأبد في عراكٍ مرير وصراع لا تفهم له سبباً. الحُبّ يا أخي ليس علاقة أو مؤسّسة فحسب، ولا يوجد في الخارج، إنّه بداخلكَ، وهو لا يُباع ولا يُشترى، وإذا لم تتفجّر عينُه في قلبكَ فقُل على نفسكَ السّلام. الحبُّ ليس جنسًا وشبقاً، إنّما صلاة وعبادة توقظ القلبَ من غفلته ونومه، وطريق الحُبِّ لا يسلكها إلّا عاشق، والعاشق يعطي ولا يأخذ، وسامية عاشقة كبيرة، تُعطي أبداً، لقد سمعتُ عنها الكثير في فرنسا، وعرفتُ عن طبيعة عملها في الصيدليّة الكثير، أخبرني بذلك صديقها الجزائريّ برياحي، وهي فتاة تبلغ من العمر ثلاثاً وعشرين سنة، وأنا رجل على أعتاب السّبعين، والعِشقُ المتدفّق بيننا عشقُ أباطرة، والأباطرة لا يتسوّلون أبداً، لا هيَ ترغبُ في شيء أمنحُه إيّاها ولا أنا أريد أن أمنحَها شيئاً من المتعارف بينكم. أقول هذا وقد مرّ على لقائي الآن بها أزيد من أربع سنواتٍ لم يكسِر ما فيها من ملل وسأمٍ سوى رسالةٍ وصلتني من باريس، ليست من سامية مع كامل الأسف، ولكنّها من سيّد اسمه برنار بريفير، قال لي إنّه قرأَ معظم رواياتي المُتَرْجَمَة إلى الفرنسيّة، وأنّه معجبٌ بطريقتي في النّظر إلى الأمور وبمساري العرفانيّ، وطلبَ صداقتي على الفيسبوك، ثمّ شيئًا فشيئًا أصبحنا نتحدّثُ حتّى على الواتساب عبر مكالمات فيديو طويلة باللّغة الإنجليزيّة، ولا أخفيكم قولاً أنّني أصبحتُ أستلطفُ هذا الرّجل؛ إنّه خيميائيّ، من خيميائيّي أوربا النّادرين، ربّما آخر الخيميائيّين فيها. دعوتُه إلى بيتي، وقَبِلَ الدّعوة بقلب طفل تغمره السّعادة من رأسه إلى أخمص قدميْه. وإنّي لثمل جدًّا بهذه المحبّة التّي أصبحتْ تجمعُنَا. غداً سأذهب إلى استقباله في المطار، إنّه يبلغ من العمر تسعين عاماً، وأنا مُنْبهر بما فيه من حيويّة ونشاطٍ وذكاء ثاقب.



(7)

دخلَ برنار بيتي ودخلتْ معه البركاتُ والأنوار. جلبَ لي معه هديّةً هي إكسيرُ الحياة، صنعه بيديه الكريمتيْن، شربتُ منه واغتسلتُ بهِ ورَويْتُ بعض النباتات التي أرعاها في حديقتي بكلّ محبّة لأغراض شفائيّة محضة. حدّثَني طويلاً عن فرنسا ورجالها الصّالحين، وحدّثتُهُ عن الهند وعجائبها ودياناتها المتعدّدة وأهل الله فيها من كلّ لون ومُعتَقَد، وخرجنا في نزهات طويلة بين الغابات والجبال والحقول، وأخذتُه إلى نهر الغانج، وسعد كثيراً بما كنتُ أقدّمه له من أطباق هندية نباتيّة لا أثر فيها للحوم أيّ كائنٍ فيه روح. وحينما توطّدتْ صداقتي به أكثر فأكثر، حدّثتُهُ عن سامية، رويتُ له قصّة تعرّفي عليها وكيف أنّ أخبارَها انقطعتْ عنّي لما يقاربُ خمس سنوات، لا سيما وأنّني توقّفتُ عن مراسَلَتِها على صفحة الصيدليّة، إذ لم يعد هناك من أعذار أختلقُها بعد أن ترجمَ أصدقاؤها أعمالي إلى الفرنسيّة والإيطاليّة، فابتسمَ وقال:
- كيف لعارفٍ مثلكَ أن يقول مثل هذا الكلام؟ لا تنقطعُ الأخبارُ بين المحبّين أبداً. اسأل قلبكَ، فعنده الجواب. وأنا متأكّدٌ أنّ سامية قد زارتْكَ في الرّؤى والأحلام، فقل لي يا صديقي ماذا رأيتَ؟
- أجل أنتَ مُحقٌّ في ذلكَ، وأنا أعلمُ أنّها ذات سلطان، وقد زارتني في ثلاث رؤى أو ربّما أكثر: [أذكُرُ أنّها في الأولى أرَتْنِي نفسي وأنا جالسٌ إلى مائدة خضراء دائريّة الشّكل، ورأسي فوقها رأس أسد وأنا أنظر إليه بعمق وأبكي. جاءتْ هي ووضعتْ يدَها فوق كتفي اليُمنى وقالتْ: "لماذا البكاء يا وجهَ الأسد؟"، قلتُ: "لقد اشتقتُ إلى أمّي الشّمس، وأريدُ أن أرحلَ إليها". نظرتُ إليها ونَهرٌ من الحنان يتدفّقُ من عينيْها، ثمّ وقفتْ خلفي وبدأتْ تخيطُ فوقَ ظهري وتحتَ وهجِ القمر ستّةُ أجنحة فِضيّة، وحينما انتهتْ أوقفتْني وأخذتْ رأسَ الأسد من فوق المائدة ثمّ وضعتهُ فوقَ رقبتي، ورسمتْ فوقَ الجدار نافذةً فتحتْها وقذفتني منها وهي تقول: "حلِّق بكلّ ما تملكُ من قوّة أيّها الأسد، حلّق... حلّق فهناك في الأعالي تنتظركَ الشّمسُ الذّهبية، ولا تنس بعد أن تحضنَها أن تأكلها كاملةً ولا تتركْ منها ولو نصفَ شعاع."، وفعلاً أكلتُ الشّمسَ، وحدثَ شيء غريب، رأيتُني وقد أصبحتُ قائداً عسكريّاً لجيش عظيم، يبدو أنّني جُلتُ بهِ العالم كاملاً، وخُضتُ به حروباً شديدة الضّراوة، وانتصرتُ على أعداء كُثْر.
في الرّؤيا الثّانية، رأيتُ سامية تتوغّلُ في قلبي، ولم أكُ أعلمُ بأيّة طريقةٍ كانتْ تفعلُ ذلكَ، رأيتُها وبين يديْها إبرة ذهبيّة، بدأت تغرسُها بحنان بالغ بين ثنايا القلبِ وتقول: "جئتُ لأنزعَ سخيمتكَ، وأخيطَ بالنّور جراحَكَ". كنتُ أنظُرُ إليها ولا أقوى على الكلام، كانتْ ترتدي نظّاراتٍ طبيّة، وفوق رأسها تاجٌ من الفضّة. ولا أعرفُ كيف انفتحَ في قلبي سيرك عظيم، فيه الكثير من الحيوانات: الأسود والفيَلة والنّسور والفهود والأحصنة، وكانت سامية بثديَيْنِ عظيميْن عاريَيْن، تمشي فوق صهوة طويلة لحصانٍ أسوَد وتلبسُ فستانًا أبيض وفي يدِها سوط أحمر، تضربُ به الخيولَ والفيَلة. وأنا منبهر بها، وأنظرُ إلى ثدييها وأقول: اسقني من حليبكِ فأنا ظمآن، يا أمّي!".
وفي الرّؤيا الثّالثة جاءت سامية ومعها ثلاثة رجال: الأوّلُ كان صيّاداً يجلسُ فوق صخرة ذهبيّة، والبدرُ مكتمل في السّماء، والسّمكُ يتقافزُ من الماء وهو غير عابئ به، وإنّما ينظرُ إلى البدر ويحدّثهُ قائلاً: "قلبي ظامئ، والملكةُ لا تأتي، إذا كانت غاضبة منّي، فقلْ لي كيف السّبيل إلى رِضاها؟ أنا هنا ألقي بصنّارتي وهي بعيدة عنّي، أبكي ولا من مجيب. أسألُكَ المدد والعون أيّها البحر، ليتَكَ تُعَلّمني لغتَها كي أخاطبَها من هُنا، أو تُعلّمني الغوصَ كي أذهب باحثاً عنها في كلّ ممالك الماء. آآآه يا قلبي، يا لوجعكَ الأزليّ، كيف لا تهدأ وقد اشتعل الرّأسُ شيباً، متى سترتوي، متى سترتوي؟!".
أمّا الرّجلُ الثّاني، فكان مَلكاً بعينيْنِ فرعونيّتَيْنِ كحيلتيْن ورأسٍ حليقة، بيده اليُمنى كلبٌ أبيض، وفي اليسرى ثعبان ضخم أخضر، الثعبان يريد أن يأكلَ الكلبَ، والكلبُ يريد أن يأكلَ حاملَه، وأنا أنظرُ إليهم جميعاً وأبكي خائفاً من الكلب والثّعبان.
بقي الرّجلُ الثّالث، وهو جدّي، السيّد أجايا شاهترباتي، كنتُ في الرّؤيا رجلاً ناضجاً راشداً، وأنا أمامه واقفاً وأخاطبه قائلاً:
"- حان وقتُ الفراق يا جدّي، لقد لبستُ الخرقةَ وأصبحتُ من الدّراويش.
- هل اتّبعتَ ديانة والدكَ السيّد محمود الدّفناوي، عشتَ بيننا إلى الآنِ بوذياً، فما الّذي حدثَ، هل أصبحتَ مُسلماً؟!
لم أعرف بعد كلماته تلكَ كيف أجيبُهُ، ولا كيف سأشرح له وحدة الأديان والإيمان والوجود وأشياء أخرى كثيرة فتح اللهُ بها عليّ، واكتفيتُ بالبكاء في صمتٍ. ثمَّ عانقتهُ وقلتُ له: سأزوركَ من حين لآخر يا جدّي، كلكتّا ليست بعيدة عن نيودلهي، وحينما يأتي نداؤكَ فإنّي سألبّيه، اطمئن".]
هكذا انتهت الرّؤى الثلاث، وعرفتُ أنّ سامية من أهل الله وإنْ لم تعرف هي بعدُ هذا في نفسها ظاهراً، وكيف لا وهي تكلّمني باطناً بلغة الرّموز وتُطلعني على أحوال الرّوح الكونيّة، لا روحي أنا فقط ولا رحلاتي ولا حيواتي الماضيات. هل فهمتَ الآن لماذا أعشقُهَا يا برنار؟!.
- هل لديْكَ صورة لها؟
- إنّها في قلبي، ولكن دعني أبحثْ لكَ من جديد في الفيسبوك عن صفحة الصيدليّة لتراها بشكل مباشر. لحظة فقط، أدخلُ إلى صفحتي أوّلاً. ابقَ قريبًا منّي. يا إلهي هل رأيتَ ما أرى؟ هناك طلبُ صداقة من حسابٍ بِاِسْم سامية الكيلاني، إنه ليس من صفحة الصيدليّة وإنّما من حساب جديد!
- هيّا اقبل الدّعوة، ودعنا نَرَ ما الجديد؟
- إنّ طلب الصّداقة هذا منذ سنة تقريباً، أيْ منذُ أن ذهبتُ لاستقبالكَ في المطار. يا إلهي كيف حدث هذا وما الّذي جدَّ حتّى يصبح لسامية حساباً خاصّاً مستقلّاً عن صفحة الصيدليّة؟
- لا تُكثر الأسئلةَ يا عبد الحيّ، اذهبْ إلى صفحتِها وسنكتشف الآن كلّ شيء.
- آآآه إنّ معلوماتها تقول بأنّها حصلت حديثاً على إجازة في اللّغة العربيّة من جامعة نابولي بإيطاليا، وبأنّها تُتَرْجِمُ من العربية إلى الفرنسيّة والإيطاليّة. وأنّها أصبحت تكتبُ الشِّعْر! هل يُعْقَلُ هذا؟ هل غابتْ كلّ هذه السّنوات عنّي لأنّها كانت تدرسُ وتستعيد لغة آبائها وأجدادهَا، ولتصبحَ شاعرةً ذات إبداع باهر؟! إذن أنا لم أخطأ حينما راسلتُها أوّل مرّة، لقد لقّبتُها بالأديبة وكانت آنذاك صيدلانيّة فقط، لم يكن في الأمر أيّ لُبس كما قال والدُها، كانت نبوءتي صحيحة، وقلبُ العارف لا يكذِبُ أبداً.
- هيّا اذهب إلى صُوَرها يا صديقي لقد شوّقتني كثيراً.
- نعم، نحنُ الآنَ أمام ألبوماتها.
- يا لجمالها واكتمال الشّمس حول وجهها، إنّها الملكة المطلوبة، وأعتقدُ أنّ وقتَ العمل قد حان يا صاحبي، سنجعلُ منها سلطانة العرفان الجديدة.
- لقد استوعبتَ كلّ شيء، لقد فهمتَ لغةَ قلبي يا برنار، وأنا سعيد بهذا الأمر.
- لا بدّ من تحصينها، هالتُها هذه يجب ألّا تكون مكشوفة لأحدٍ، فالخُبَثاء كُثر، ومواقع التّواصل الاجتماعيّ هذه بكلّ أنواعها، على قدر ما فيها من فوائد، إلّا أنّ أضرارَها أكثر من فوائدها، ولأنّ سامية لا تعرِفُ هويّتَها الحقيقيّة للآن ولم تكشِفْ لها أنتَ بعد شيئاً، فالتّحصينُ واجب. انظر إلى كمّ المنتسبين إلى صفحتها، وانظر إلى المتابعين، هذه كلّها عيون ترسلُ إليها طاقاتٍ سلبيّة يُمكنُ أن تخترقَ هالتَها فتصيبها بالضّعف والمرض. انظر انظر، هناكَ أيضاً السَّحَرةُ والمشعوذون في صفحتها تحت أسماء أدبيّة وهميّة وهي لا تدري عنهم شيئاً، إنّهم من كلّ دين وملّة، إنها في خطر يا عبد الحيّ!
- وماذا سنفعل، إنّني أرتبكُ حينما أشعر بأنّ سامية في خطر، تبّاً لهذا التقدّم التكنولوجيّ الّذي أصبح يكشفُ عورات وأسرار من نُحبُّ ونخشى عليهم حتّى من النّسيم العليل.
- عليّ أنْ أعود إلى فرنسا، فتحصينُها أصبح واجباً الآن ولتتذكّر دائماً أنّي أخافُ اللّه ربّ العالمين.
- لا، لن تعود إلى فرنسا الآن، مازلتُ أحتاجُكَ إلى جانبي، قُلْ لي فيمَ تُفكّرْ؟
- أريدُ أن أصنع لها قلادة وأساور ومحابس من معدن النّحاس وأحملها إليها، وأكون هناك إلى جانبها، وأصنع لها حليّاً من أحجار كريمة معيّنة تلبسها حفظاً لها من كلّ شرّ وخطر. أمّا عن تواجدي معكَ وضرورة حضوري في بيتكَ، فهذا ليس بإشكال يا صاحبي، هناك شيء اسمه طيُّ المكان وقد حان أوانُهُ. سأكونُ عندكَ متى ما أردتَ ذلك. ما عليكَ أن تفعله الآن هو أن تكتبَ إليها، وتخبرها عنّي: قلْ لها إنّني سأكون عندها في الأسبوع المقبل بإذن الله، ولكن لا تحدّثها عن القلادة ولا عن الأحجار الكريمة ولا عن أيّ شيء آخر، قل لها إنّي صديقكَ، ويُسعدني أن أقرأ لَها ما تكتبُ من أشعار.
- اتفقنا يا عزيزي برنار، على الله الاتكال، وبسم الله الّذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السّماء وهو السّميعُ العليم.


(8)

وصل برنار إلى باريس، وفي غضون عشرة أيّام ذهبَ للإقامة في بوردو ليكون قريباً من سامية. وفي يوم الأربعاء 14 شباط 2028 ذهبَ إلى لقائها في الصيدليّة. كان يحمل في جعبته مشروعًا تجاريّاً جديداً؛ أنْ تبيع سلطانَتي إلى جانب الأدويةِ المعادنَ النّفيسة والأحجارَ الكريمة، باعتبارها عناصر علاجيّة تجود بها الطّبيعة ويجهلُ الإنسانُ أهمّيتها في الحياة. انفرجتْ أساريرُ سامية عن ابتسامة وضّاءة حينما سمعتْ كلماته، وطلبت معلومات أكثر وأكثر، ثمّ اتّفقَا معاً على أن يصبحَا شريكيْنِ معاً في المشروع الجديد، وأن يكون العملُ مباشرة مع ابنه كلود الّذي يملكُ محلّاً تجارياً ضخماً لبيع الذّهب والجواهر. وقفتْ سامية، ثمَّ قالتْ لتختم لقاءها:
- إذن سأنتظرُ زيارة كلود بريفير، أريد أن أتحدّث معه في تفاصيل أخرى، لأنّ النّماذج من الحليّ والأحجار الّتي ستوضع في الصيدليّة بقِسْم العلاج البديل يجب أن تكون لها مواصفات خاصّة تختلف تماماً عن تلك الّتي عادة ما يبيعُها الصّاغة.
- طبعاً وهنا سنجمعُ بين الخبرتيْن: خبرتُكِ في الصيدّلة وخبرتي في الخيمياء، وهما كما تعلمين مجالان يُكَمِّلُ بعضُهُما الآخر. أمّا مهارةُ التّسويق فنتركُها لابني كلود.
- هذا أمر أكيد، اتّفقنا إذن، قريباً سأزوركَ في متجر ابنكَ.
وذاك ما كان بالفعل، ذهبتْ سامية للقاء كلود، واتّفقا على تزويد الصّيدلية بحليّ متنوّعة بين ذهب وفضّة ونحاس ومرجان وعنبر وعقيق أسود وأحمر، وطلبتْ أيضاً كمّيةً لا بأس بها من حجر الفيروز على أن يكون من مصر، وهذا ما استدعى تدخّلي، بحيثُ نزلتُ إلى مصر خصّيصاً لكيْ أجلب لها السّلعة المطلوبة، وعندَ اختتام الصّفقة لم ينسَ برنار أن يقدّم لها كهديّةٍ ما صنعهُ من أجلها مِن حليّ نحاسيّة وأحجار كريمة بين كهرمان وبلخش أحمر، وأوصاها بأن ترتديها وتنتفع بفوائدها الطّاقية الكبيرة. وقد سعدتْ بذلك أيّما سعادة، ووضعتْ على الفور قلادة النّحاس حولَ عنقها ولبستِ الأساور والمحابس لتعبّر عن جزيل شكرها وامتنانها للشّيخ برنار وابنه كلود.


(9)

هأنذا أعود إلى مصر من أجل سلطانتي بعد سنواتٍ من الغياب، كان أوّل ما فعلته هو الذّهاب إلى مدينة الصّولجان؛ طِيبَة البهيّة، هناكَ حيثُ يرقُدُ أبي الحبيب السيّد محمود الدّفناوي. كان لا بدّ من أن أجدّدَ العهدَ والوعدَ معه، وها أنا بالقرب منه وهو في مثواه الأخير أتذكّرُ دروسه المُهمّة وحِكَمه الجليلة التي كان يلقِّنُها لي حينما كان يعيش في القاهرة. آآآه من الذّكريات يا أبي الغالي! كان حكيمًا في كلّ ما يفعله، وكان يأخذني إلى العديد من الأماكن السّاحرة حينما كانت تأذنُ لي والدتي رحمها الله بزيارته، أذكرُ من هذه الأماكن قبرَ السيّدة زينب، ومرقد السيّدة نفيسة ومقام مالك الأشتر، وما كانتْ فرحتي تكتملُ إلّا حينما كنّا نذهب معاً إلى وادي الملوك. كان أبي محمود يقول لي إنني أنحدرُ من أسرةٍ نبويّة ملكيّة شريفة ولأجل هذا لا تجدُ روحي سكينتَها إلّا في مجالس ملوك الحضرة الإلهيّة. واليوم وأنا في طِيبَة لديّ مهمّة عظيمة أريد أن أنفّذها من أجل سلطانتي سامية. سأذهب إلى وادي الملكات، أفكّرُ في اللّقاء هناكَ بالإمبراطورة نفرتاي. هاقد دخلتُ إلى مقامها، كلّ شيء فيه يتحدّثُ عنها، أقفُ منبهراً، أنظرُ إلى السّقف الأزرق المرصّعِ بالنّجوم، ثمّ تستقرُّ عيناي على صور نفرتاري منقوشةً على الجدران، أقرأُ التّعويذات الهيروغليفيّة، وأنظرُ باسماً إلى أنوبيس، وأعرفُ أنّه صاحبُ أسرار عظيمة، لقد كان هو والكثير من حرّاس المكان هناك يحرِصون على أن تنجح نفرتاري في رحلة العبور تلك، والآن وأنا هنا، يظهر لي جليّاً كيف أنّ هذه الرّسوم لم تكن تعني نفرتاري وحدَها بقدر ما هي رسالة موجّهةٌ إلى كلّ روح تجدُ نفسَها في هذا المكان، أيْ أنّها تعنينا معاً، أنتَ وأنا يا قارئي، وعليّ أن أقرأ التّعاويذ مادمتُ أنوي العبورَ إلى البرازخ الأخرى لألتقي بالملكة البارعة الحديث والغناء، وعازفة مقطوعات العشق والسّعادة، وساقية قلوب العطاشى للمحبّة والجمال. آآآه يا سيدة المملكتْين، يا شمس الشّموس، يا من حارَ في بهائها وسنائها كبار ملوك الجِنّ والإنس، أين أنتِ يا سيّدتي ومولاتي، إنّني ببابكِ المرصود واقفٌ فَاذَنِي للحرّاس برفْع المغلاق، واذَنِي بالدّخول واحميني من خطر التّيه إذا أنا لم أعرف أو أُجِدِ الانصهارَ بين النّجوم والذّوبان في حضرة قوى الكون الكبير. يا نفرتاري العظيمة يا سيّدة الأمجاد القديمة، إنّني هنا فهل حان الأوان ليُرفَع الأذان ويلتقي الزّمانُ بالمكان؟!
- اقتربْ يا عبد الحيّ، قُل حاجتكَ.
- سيّدتي نفرتاري، هاقد وصلتُ أخيراً، إنّكِ أنتِ كما عرفتُكِ في حيواتي الماضيات، مازلتِ ببهائكِ وجلالكِ وسلطانكِ القديم. جئتُكِ يا صانعة الملكات بخبَر غادة جديدة أعرضُ عليكِ اسمَها ورسمَها وتاريخَها، وأطلبُ منكِ الإذنَ في تتويجها على يديْكِ سلطانة ووكيلة جديدة لكِ على كوكب الأرض، تحكم مثلكِ وتكون شفاءً للقلوب والعقول كما كنتِ أنتِ يا مولاتي في أزمانكِ الأولى وبين أجيالكِ السّابقة.
- مازلتَ مجنوناً كما عرفتُكَ يا عبد الحيّ، ولكن اطمئنّ لقد وصلني خبر سامية قبل حلولكَ بطِيبَة، بل قبل أن تعرفها أنتَ بسنواتٍ عديدة. أعرفُ عنها ما لا تعرفهُ أنتَ. وإنّها ستكون تحدّياً كبيراً بالنّسبة لكَ، إنّها المستقبلُ وأنتَ الماضي، وعليكَ أن تدركَها وتدخلَ عصرَها وتفهَمَ لغتَها ليسهل الحوارُ بينكما فيما بقي لكَ من السّنوات على الأرض. لا تعرض عليها أعوانكَ الآن، ولا تطلعها على دوائر الخدمة حالياً لأنّها سترفُضُ كلّ شيءٍ، ورفضُها هذا سيكون مُحبطاً لكَ في البداية ولكن عليكَ أن تعلم أنَّ سلطانَها أقوى من سلطانكَ، ولهذا فهي لن تصغي لكَ بالسّهولة التي يمكن أن تتوقّعَها أنتَ ما دُمتَ تنظرُ إليها من باب السِّنّ وتقول إنّها أصغر منكَ عُمراً وأقلُّ منكَ خبرة، وأنتَ تعلمُ جيّداً أنّهُ ليس بالعمر البيولوجي تقاسُ الأرواح، وإنّما بعمر النّفخ والظّهور في الكون، وإنّي لأعتقدُ أنّ سامية أكبر عمراً منكَ ومنّي، لهذا حاول أن تتعاملَ بنوع من اللّيونة والكياسة معها، وستبهركَ بإذن الله ربّنا وربّ العالمين أجمعين، ملكُ الملوك القدّوس الجبّار المهيمن. بقي الآن أن تفكّرَ في هديّتكَ لها، هديّة القبول والمحبّة والمودّة، عليكَ أن تجلبَها لها من مقبرة الغوّاصين وأن تُرَوْحِنَها أنتَ بيديْكَ، ولا تعطيها لبرنار لأنّ مفتاح تعويذاته لا يُمكنُهُ أنْ يفتحَ الدّوائر الخاصّة بسامية أبداً.
- سمعاً وطاعةً يا مولاتي، سأذهبُ إلى مدينة دهب، وسأغوص بطريقتي الخاصّة في أعماق الثّقب الأزرق لأجلبَ لسلطانتنا الجديدة هديّة تليقُ بمقامها.
- على بركة الله إذن، رافقتكَ السّلامة، وانتبه الآن إلى ما تقرؤه عند الخروج حتّى لا تتعرّض لخطر التّيه.



(10)

البحرُ سلطان، ومن لا يلتزمُ بالاحترام والتّقدير والهيبة في حضرته لا يستحقُّ أن يكون من أهل اللّه، وأنا الآن وصلتُ إلى دهب، أنظر إلى هذه المدينة التّاريخيّة العريقة وأحتارُ في أمرها، يمرُّ أمامي شريط من الأحداث، كم مِنَ الملوك تعاقبوا على حكمها منذ القدم، وكم من الحروب اشتعلت بين أحيائها، وكم من الانتكاسات عرفتْها إلى يومنا هذا، لكنّ البحرَ فيها بقي شامخاً أبيّاً، لا يبوح بأسراره لأحد ولو كان مِن أمهر الغوّاصين القادمين إليه من بقاع مختلفة من العالم. إنّ أمرهُ لعجيب حقّاً، وأعجبُ منه تلكَ البئر الزّرقاء الّتي ما اقترب منها أحدٌ إلّا وابتلعته، حتّى بات النّاسُ يسمُّونَها بمقبرة الغوّاصين. نعم، أعلمُ أنّك الآن تتساءل عن وجودي هنا، وكيف لي أن أغوص في البئر على الرّغم من خطورتها والحال أنّني رجلٌ مُسنٌّ وجسمي ضعيفٌ واهن، وأقول لك إنّ البئرَ كالمرأة، والمرأة لا تفتحها سوى المرآة، وبئر مدينة دهب لا يجوز محاذاتُها بالغوص وإنّما بالبصَر، وهذا يعني أنّني لن أغوص فيها بجسدي وإنّما بروحي، وسآتيها ليلاً حينما يكتمل دورانها وصفاؤها وبريقها فأتمكّن من النّظر في أعماقها ومخاطبة روحها، بالضّبطِ كما تفعل المرأةُ حينما تنظر إلى المرآة. ابقَ قريباً إذن منّي وانظر معي في مرآة البئر، أيْ في مرآة هذا الثّقب الأزرق. يا إلهي إنّهم جميعاً هناكَ، أحياء يُرزقون ستيفن كينان، وجيمس بول سميث، وسعيد القاضي، وليزيك سيزينسكي، وكارولين جوان ودانيال مايكل، يا إلهي لقد غدَوْا أجساداً من نور أزرق، وأصبحوا أكثر صحّة وجمالاً وتألقاً ونضارة وسعادة! كلّ هؤلاء الغرقى، هم ضحايا حبّ المغامرة، لكن البحرَ السّلطان كان كريماً معهُم وفتح لهم أبوابه وأنعمَ عليهم بخيراته وباركَ حياتهم الجديدة في أعماقه، وأنا الآن هنا لستُ لأمدّكَ بأخبارهم، ولكن لأتحدّث مع البئر:
- يا سيّدة البحر، يا قلبَه المضيئ، يا مرآة الرّوح، قولي لي أين أجدُ هديّة سلطانتي سامية، لقد أرسلتني إليك الإمبراطورة نفرتاري، وأعلمُ أنّكِ صنعتِها لها بيديْكِ الكريمتيْن منذُ الأزل في مُختبَر بحركِ الأحمر.
- عليكَ بالرّمز السّحري أيها العارفُ المجنون، ارسمه بإصبعكَ فوق المرآة، وسترى الهديّة حاضرةً بين يديكَ.
- أيُّ رمزٍ يا سيّدتي؟
- طلسم المحبّة، إذا لم ترسمه في غضون سبع دقائق فسوف نختفي أنتَ وأنا من على وجه الأرض إلى الأبد، فأنا لم أكلّم إنسيًّا منذ قرون بعيدة.
- آآآآه، آآآه طلسم المحبّة....ها قد رسمتُه.
- خذ الهديّة إذن، وعُد إلى أرضكَ قبل أن تكتمل دورة اليوم، ولا تنسَ أنْ تشتري الفيروزَ المطلوب، اذهب عند التّاجر الطّهرانيّ بحيّ السيّدة زينب فهو في انتظاركَ، خذ منه ثلاثة أحجار ولا تزد عليها شيئاً.
لمْ أغُص، لمْ أفعل كما يفعله معظم المغامرين، لم أُلْقِ بجسدي في الماء، لأنّني أنا البحر وأنا الخشبة والمرآة، لكن السرّ يكمن في المحبّة، من كانتْ مفتاحه فلن يخشى شيئاً. وها قد عدتُ إلى الهند، والهدايا بين يديّ. فتحتُ منْدَلي واستدعيتُ برنار فقدِم عندي والوقتُ فجر، سلّمتهُ أحجار الفيروز ليعطيها لسامية وكتمتُ عنه هديّة البئر كما أوصتني مرآة البحر، والبحرُ إذا أمرَ، فأمره مطاع وإلّا هاجت المياه وانفجر الطّوفان وجرفَ الأرض ومن عليها من جديد. وما عليّ الآن سوى الانتظار، انتظار الإشارة من سلطانتي لتُعلنَ لي الموافقة والقبول بعد سبع سنوات من الصّبر والترقّب. إنّها الآن في صفحتي على الفيسبوك، وأقرأ أشعارَها كلّ يوم، وأتابع أخبارَها ورحلاتِها ونجاحاتها، ولا أسجّلُ ولو نصفَ إعجابٍ بما تكتبُ أو تنشرُ حتّى لا يرى اسمي وبصمتي مَن يوجد في صفحتها من مُقَنَّعين بأقنعةِ الشِّعْر والأدب وهم في الحقيقة مِن صيّادي الشّموس؛ السَّحَرة الفجرة الكفرة من كلّ دين وملّة. ولأنّني أصبحتُ شبهَ مرابط في صفحتها فقد كُنتُ أنتظرُ كلّ شيءٍ إلّا أن يظهرَ فوقها موعدُ حفل خطوبتها من رجل الأعمال وتاجر الذّهب والأحجار الثّمينة كلود بريفير، ابن صديقي برنار! صعقني الخبرُ حقّاً، ليس لأنّني لا أريدُها أن تقترنَ أو تتزوّجَ في حياتها، ولكن لأنّ الابن وأباه أخفَيَا الأمرَ عنّي. تحرّكتْ قوى القلق في قلبي وبتُّ أسترجعُ كلّ الأحداثِ الّتي مررتُ بها في السّنوات الأخيرة، وشعرتُ ولا أعرفُ لماذا أنّ سامية في خطرٍ كبير: هل يكونُ برنار من قنّاصي الشّموس؟ هل سيأخذُها منّي، يا لسذاجتي، إنّني مازلتُ على طيبتي القديمة، أينَ حِسُّ الرّجُلِ العسكريّ المحارب بداخلي، لماذا وثقتُ ببرنار، لماذا لم أشُكَّ فيه ولو للحظة واحدة، لقد قدّمتُ له سامية على طبقٍ من فضّة ولربّما هو الآن قد أحكمَ قبضتَهُ عليها، وكيف لا، فهو سلّطَ عليها ابنَهُ بِاِسْمِ الحُبّ، وكم من الكوارث وقعتْ في حياة البشريّة قاطبة باِسْم الحبّ، هل ستشربُ سامية يا ترى السُّمَّ؟ هل ستذوق الحُبَّ؟ هل ستموت بالحبّ؟ يا إلهي لقد حان وقتُ التّرياق، والتّرياق عندي، أعطتني إيّاه البئر الزّرقاء، ولن أسلّمَه إلّا لسامية حتّى لا تدخل إلى القفص بقدمَيْها ولا تسلِّمَ الرّوحَ للذِّئْبِ الجَديد، يا لسذاجتي كيف لم أنتبه لهُ وقد قال جملة الشّيطان الشّهيرة "إنّي أخافُ اللّهَ ربّ العالمين"، إنّه يعملُ تحتَ الدّائرة الإبليسيّة إذن ولا بدّ من التعامل معه بحذرٍ شديدٍ.

(11)

تشاو موسيو عبد الحيّ،
لمْ تكتبْ لي منذ ما يزيد عن شهريْن، كنتَ دائماً تُتحفني في رسائلكَ الفيسبوكيّة بآرائكَ القيّمة حول قصائدي، وآخر رسالة منكَ كانت تلك الّتي تُخبرني فيها بتوصّلُكَ بديواني الشّعري الجديد (الشّمسُ تُشرِقُ من قلبي). أرجو أن تكونَ بخير. اليوم أكتبُ إليكَ لأدعوكَ إلى حضور حفلة خطوبتي، ستكون في توسكانا بتاريخ 15 آب 2029، ربّما لمْ أخبرْكَ قبلُ بأنّ والدتي إيطاليّة ولنا بيتٌ هناكَ في توسكانا، سأكون سعيدة لو تأتي، وقد تكفّلتُ بكلّ شيءٍ، أرجو أن تكونَ تذكرتُكَ مفتوحة، لا تحدّدْ يوم الرّجوع إلى الهند، فأنا وبعد كلّ هذه السّنوات التي شغلتْني فيها الكثيرُ من الالتزامات عنكَ، أريد أن أقضي برفقتكَ في إيطاليا أطول وقت ممكن قبل أن أعود لفرنسا، وأبدأ بالإعداد لحفل الزّواج الّذي سيكون في العام المقبل بإذن الحيّ القيّوم.
في انتظار ردّكَ، تقبّل أنبل السّلام والتحيّات.
سامية
بوردو في 28 حزيران 2029

(12)

تحيّة طيّبة يا سامية الغالية، يا حرفَ الخير والمحبّة
سأكونُ في توسكانا في الموعد المحدّد.
كوني في رعاية الحيّ القيّوم وحفظه وأمانه.
عبد الحيّ.


(13)

هل سأنتظرُ حتّى حلول آب؟ لا، أبداً، هذه حربٌ جديدة وعليّ أن أخوضها بكفاءة المُحارب القديم، ذاك الّذي أرَتْنِي إيّاه سامية صورتَه في الرّؤيا الأولى التي رويتُها لبرنار بسذاجة لا مثيل لها. هو إذن يعرفني، ويعرف أنّني قائدٌ عسكريّ كبير، وأنّ الحربَ بيني وبينه ستشتعلُ قريباً، لكنّ الّذي لا يعرفه، هو أنّني لم أكشفْ له حقّاً أوراقي كلّها، وإنّما حدّثتُه فقط عن سامية، ولم أحدّثه عن نفسي، ولا يعرفُ عنّي حقيقة إلّا ما قرأ عنّي في رواياتي، وأنا لستُ رواياتي ولستُ بالحُمْق الّذي كان يتوقّعُهُ، ولربّما ستكون سامية حربي الأخيرة في هذه المحطّة من حياتي، ولأجل هذا لا بدّ من الاستعداد لها جيّداً. سأذهبُ إلى توسكانا، وهناك سأصحبُ جيشي من الكائنات الفكريّة الّتي صنعتُها طيلة هذه السّنين، ربّما تسمّيها أنتَ يا من تقرؤني بالجِنّ، ولكنّ الّذي لا تعرفه هو أنّ هذه المخلوقات هي بداخلنا وليستْ أبداً في خارجنا، إنّها صنعة السّنين فينا، صنعة الفِكْر وصنعة هذا الكائن الّذي هو الإنسان في مملكة الخيال والأحلام على مرّ الحقب والأزمان، منذ بدء الخليقة إلى ما بعد كلّ الأكوان، ولنرَ لمَنْ ستكونُ الغَلَبة، ألِعارفٍ وليّ أمْ لسَاحِرٍ شيطان؟!
ها قد وصلتُ إلى إيطاليا، لستُ في توسكانا بعدُ، وإنّما ذهبتُ أوّلا إلى كوكولّو، مدينة الثعابين السامّة، هناكَ أريد أن تكون معركتي، وسأستدعي برنار عبر طيّ المكان، سأجعلهُ يعرفُ أنّني هنا. هاهو قد ظهر، والوقت منتصف ليل، إنّه واقف أمامي ينظرُ إليّ ولا يستطيع أن يخفي حقده ويسألني، يسألني عن أشياء كثيرة:
- لماذا أنتَ هنا يا عبد الحيّ؟ هل أخبرتْكَ سامية بحفل الخطوبة؟
- أنتَ من عليكَ أن تقول لي، لماذا أخفيتَ عنّي الأمر والخاطبُ ابنكَ كلود؟ ألسنا بأصدقاء، أوَليْسَ من واجب الصّداقة أن تعلمني بهذا الخبر المُهِمّ جدّاً، أمْ ربّما لا تذكر أنّني أنا من عرّفتُكما عليها؟
- ليس الأمرُ كما تعتقد يا برنار، أنا كنتُ أظنّ أنّكَ تحبُّها، وحرصتُ على ألّا أجرحَ مشاعركَ إذا ما عرفتَ أنّها اختارت ابني كلود شريكاً لحياتها.
- هل أنت مجنون يا برنار؟ أيُعقَلُ أن أحِبَّ سامية كما يُحِبُّ الشّبابُ وعامّة النّاس المرأةَ بشكل عامّ. أمازلتَ لا تعلمُ حقيقة ما الّذي أريدهُ من سامية؟ ألمْ أحدّثكَ عنها وعن سُلطانها؟ هل تخفي عنّي شيئاً يا برنار؟ قلبي يقول لي إنّك ستُهلكنا جميعاً. لماذا وقد عرفتُك رجلاً طيّباً حنوناً؟ هل تريد أن تخطفَها إلى عالمكَ؟
- أنتَ من عرّفتني عليها نعم، ولكنّي رأيتُ ما رأيتَهُ أنتَ فيها وربّما أكثر، وكما لكَ مملكة، فلي أنا كذلكَ مملكة، وكما تريدُها سلطانةً، فأنا أريدُها سلطانة أيضاً.
- مملكتُكَ سفليّة، ومملكتي عُلويّة يا برنار، لا تلعبْ بالكلمات.
- ومن ذا الّذي يُقرّرُ ويحدّدُ الاتّجاهات؟ مَنْ ذا الّذي يستطيع أن يعرفَ أين يوجدُ الأعلى وأين يوجدُ الأسفل؟ أوَلَا يكون الأسفل انعكاساً للأعلى؟
- مملكتي إلهيّة، ومملكتكَ إبليسيّة يا برنار، كفّ عن استهتار إبليس القديم.
- وهل عرفتَهُما معاً كي تميّز بينهُما بهذا الشّكل من الثّقة والثبات؟ اللّه وإبليس، مَن رآهُمَا؟ لا أحد. وكلّ ما قيل تجارب لا يقين فيها.
- لا تخلط الأوراق يا برنار، أنت تعلَمُ جيّداً أنّ الحربَ قائمة إلى الأبد بين الله وإبليس.
- لا، ليست بين الله وإبليس، وإنّما بين الإنسان وإبليس.
- هل أنتَ مأذونٌ فيمَ تريد أن تفعله بسامية يا برنار؟
- لا، ليس بعد.
- إذن فاستعدّ الآن، لقد حانت ساعتُكَ، ونهايتُكَ ستكون على يدي.
- ماذا تريد أن تفعل؟
- ألم تأتِ لقتلي؟
- وهذه الثّعابين، من أينَ أتتْ؟
- إنّها ثعابين القدّيس دومينيكو، ولأنّكَ ثعبان وتريد أن تنفث سمومكَ فيَ وفي سامية وفي مملكتنا فلتمُتْ بسموم القدّيس الإيطاليّ وثعابينه، هيّا يا ثعابين كوكولّو اخرجي من جحورك وجبالكِ وغاباتكِ وتعالي إليّ خادمة طائعةً، هيّا فالحربُ طاحنة في هذه الليلة المشهودة ولتعصري هذا الشّيطان عصراً أليماً، ولتخلّصي العالم وأوروبّا بأسرها منه.
- لا، ارحمني يا عبد الحيّ، ما كنتُ أظنُّ أنّك بهذا الذّكاء، كيف عرفتَ أنّني أخاف من الثّعابين؟
- أنتَ لا تخافُ الثّعابين يا برنار، أنتَ كلّكَ ثعابين، إنّها تتلوّى في قلبكَ وفي كلّ خليّة وذرّة منكَ، وإلّا ما وضعتَ عينكَ على سامية، دعني أقُلْ لكَ ما الّذي كنتَ تُخطّطُ له: سامية سلطانة الكون الجديدة، سلطانة تاء التأنيث بها أريدُ أن أصلح حال الأنثى في العالم بأسره، بها أريد أن أعيد للمرأة مجدَها، أدبَها وأخلاقَها، حياءَها وعفّتَها، جمالها ورونقَها، وسيادتها على نفسها وعلى من حولها. بها أريد صلاح المرأة في الدّنيا والآخرة، وأنتَ كنتَ تريدُ أن توجِّهَ كلّ طاقاتها وقوّتها وبهائها لخدمة الوجه المعكوس للأنثى في عالمكَ: الأنثى الإباحيّة، الأنثى الشّيطانة، الأنثى المتمرّدة، الأنثى المُشَعوذة السّاحرة الفاجرة الماكرة الفاسقة الزّانية، كنتَ تريد أن تنسخَها صورة معكوسة في عالمكَ يا برنار، وكنتَ تريد أن تستعين في هذا بكلّ خبرتكَ في عالم التكنولوجيا والخيمياء، لكنّكَ لم تحسبها جيّداً، صحيح أنّ سامية مازالتْ لم تفصحْ لها قوى الكون العلويّة عن هويّتِها الحقّة، لكنّها ذكيّة جدّاً جدًّا وفوق ما تتصوّر، وإلّا لما كانت لتُخبرني بحفل خطوبتها؛ إنّها ولا شكَّ استشعرت خطراً ما يحدق بها فاستنجدتْ بي.
- هذا كلّه من وحي خيالكَ المريض، أيّها الصّوفيُّ المجنون، أنا من سيقتُلُكَ، أنا من سيصنع من هذه الثّعابين إعصاراً يطحنكَ. اسكت أيّها العجوز ولتذهب إلى الجحيم.
- هاهاهاها؛ الجحيم، أنت فيها فكيف تريدني أن أكون معكَ بين ألسنتها، أيّها المهرطق المُشعوذُ المهووس! وسامية لن تكونَ لابنكَ، أتعرفُ لماذا؟ لأنّهُ يعملُ تحتَ دائرتكَ، وهو يريدُ أن يفتح لها أبواب الحُبِّ واللّذة والشّهوة والخطيئة ويتركَها، يريدُ أن يجعل منها أنثى الجسد والمتعة، أنثى الشّعارات الزائفة والعبودية المغلّفة بقناع الحريّة، هذا ما يريد أن يفعله بها. وأنتَ وهو ومَن على شاكلتكما لا تخجلون من شيء وتُسَمّون كلّ هذا بالدّيموقراطيّة. الفردُ أنتم من أخرجتموه من الجماعة، أنتم من استفردتم به وغسلتُم دماغه بشتى الإيديولوجيّات الهدّامة، أنتم تقولون إنّ الله قد مات، وأنّ الإنسان وحده من يستحقُّ أن يعيش وأن يعتمد على كلّ قواه الفرديّة، ثمّ ماذا بعد؟ ماذا سنفعل بالأجيال القادمة؟ بإناثِ المستقبل، أنتم تريدونها محرقة كبرى لكنّني لن أدعكَ تُكمل مشروعكَ الخطير هذا...
- يا لكَ من طوباوي، إنكَ تعيش في عالم من الخيال والأوهام، وهذا شيء طبيعيّ فأنتَ روائيّ، والرّوائيُّ كالنبيّ، يمشي عاريًا ويصيح ويبكي أمام كلّ الأبواب الموصدة. وقد تُفتَحُ لكَ بعض الأبواب ولكنّك لا تدركُ أنّها لغوايتِكَ فقط كما هو الشّأن مع بابي، فقد فتحتهُ لكَ لأستدرجكَ وأغويكَ، وأنتَ ابتلعتَ الطُّعم، أتعرف لماذا؟ لأنّك تحبُّ سامية وكنتَ تريدني أن أحصّنَها لكَ من خطر اقتحام هالتها الطّاقيّة، وهأنذا الآن أتشفّى بكَ وبعاهاتكَ ودموعكَ وضُعفك، وأشمتُ بجنونكَ. أنتَ لمْ تسألْ نفسكَ يوماً، بضاعتُك البائرة هذه من يريدها؟ من سيقرأ ما تكتبُه؟ المجانينُ مثلكَ لا أقلّ ولا أكثر، يا لك من مسكين، لم تجد مَنْ يُحذّركَ من أن تُصبحَ أديباً أو وليّا أو نبيّاً، كلّكُم بضاعتكُم فاسدة لا أحد يُقبِلُ عليها، الكلُّ أعمى، ولهم عيون في الوجوه ولكن لا يبصرون بها، ولهم آذان ولكن لا يسمعون بها. إنّ الرّؤيةَ ليست عيوناً يا صاحبي، والإنصاتَ ليسَ سمعاً، انظر إلى كلّ هذا التقدّم الّذي حقّقَهُ الإنسان، إنّه ليس وليد عالمكَ وقواه السّحريّة الإلهيّة، إنه وليد آلة العقل، إنّنا استطعنا أن نحدَّ من الأمراض والمجاعات والحروب، وانظر إلى مجال المعلوميّات والتواصل الإلكترونيّ، والصّناعات الروبوتيّة لا أحدَ وصل إلى ما وصلناه، ولم نعد في حاجة إلى استخدام تلك القوى التي تحلمُ بها أنتَ، لم نعد في حاجة إلى طيّ المكان والاستبصار، هناك آلات تنقلُ الإنسانَ من مكان إلى آخر بالسّرعة المطلوبة دون أن يلجأ إلى جسده ودون أن يستنزفَ طاقاته في كلّ رحلة أثيريّة ينوي القيام بها، أنتَ فقطْ من أجبرتني على استخدام طيّ المكان لأصلَ إليكَ حينما كنتَ تريد ذلكَ، وأنا سايَرْتُكَ لحاجة في نفسي، مع العلم أنّ هذا الأمرَ يُرْهِقُنِي كثيراً، ولا أحتاج إليه بعد كلّ ما حدثَ مِن تَقَدُّم، ولا أفتحُ المنادل كما تفعل أنتَ، لا حاجة لي بها. ألا ترى ما الّذي تفعله الهواتفُ المحمولة؟ إنّك ترى على الشّاشة من تُحبُّ وفي أيّ وقت تريد...فلماذا نتعب أنفسنا بخزعبلات الماضي؟ ذاك ماضٍ سحيق وعليكَ أن تتخلّصَ منه يا عبد الحيّ، لسنا في حاجة له، استيقظ أرجوكَ، ولا ترجعنا إلى الوراء فلا أحدَ يرى ما تراه، ولا أحدَ يسمَعُ ما تسمعه. هناك العباقرة بين البشر، نعم، صنعوا كلّ شيء، لكنّهم لا يرون، إنّ امتلاكَ العبقريّة شيء أسهل بكثير من امتلاك الرُّؤية، وقد رأيتُ الكثير من العباقرة بين النّاس ولم أجدْ من الرّائين إلّا القليل جدّاً جدّاً. إنّهم نادرون، وهُم أكثر النّاس معاناة وعذاباً، لأنّهم مثلكَ يعيشون في مجتمعات تصبرُ على العبقريّ وتتحمّله ولكنّها لا تطيقُ الرّائي ولا تقبله. كلُّ الرّائين كانت نهايتهم بشعة، ولو عاد عيسى لصلبوه من جديد، ولو عاد الحُسَين لقطعوا رأسه بدون أدنى شفقة، ولو عاد الحلّاج لنثروا رمادَ جسده في دجلة بدون حياء ولا خجل. لا أحد يريدُ الأنبياء ولا الأوليّاء ولا الكتّابَ الأدباء. أتعرف لماذا يا صاحبي التّعيس؟ لأنّ الكونَ موجودٌ في عيونهم ولا يمكنه أن يعيش خارجَها، ولا أقصدُ بالعيون تلك التي توجد في الوجه، وإنما تلك التي توجد في القلب وفي كلّ ثقب في الجِلد، وأنا مثلكَ يا صاحبي أرى ولكن بطريقة أخرى، ولهذا لن أقبل ولن أغفر ولن أفهم وسأكون خصمًا لكلّ الأشياء، حتّى لهذا الإله الّذي تتحرّكُ أنتَ باِسْمِه، وأعلمُ جيّداً أنَّ الثّمنَ باهظٌ جدّاً، أعلمُ أنّ كلّ ما حولي سيتحوّلُ إلى ثعابين تفترسني وتلتهم عيونَ جسدي، ولكن لا يهمُّ، أنا أكثرُ منكَ حرّية يا عبد الحيّ، أنا برنار، وأنتَ عبد مقيّدٌ بالأوهام والماضي السّحيق.
- يا لك من رجل ماكر، هذا هو زمنُ الدِّجِتال، واحذف التاء ولن يبقى سوى الدّجَّال، إنّه الدّجل الإلكترونيّ، وبه تريدون أن تفرغوا الرّوحَ من كلّ شيء، قريباً سوف ينتهي هذا الإنسان، هذا الصّرح الإلهي العجيب، هذا ما تريدون تحقيقَه، قريبًا ستحرمونهُ من الأكل، وقريبًا سيتغذّى فقط على المكمّلات الفيتامينيّة والهرمونيّة المصنوعة في الصيدليّات، وقريباً سيصبح كائنًا فضائيًّا بدون هويّة ولا بصمة في الخلق، أنتم تصنعون وهو يستهلكُ، هذا ما تريدون، لكنّني لن أسمح لكَ بهذا ما دمتُ حيّاً.
- تسمح أو لا تسمح، ما أنتَ إلّا حرف لا محلَّ له من الإعراب، ورأيُكَ لا يعنينَا في شيء، وإذا قتلتني اليومَ فالآخرون ماضون، ولن ينصتون لكَ ولا لغيركَ أيّها المجنون البليد.
- يا عاصفة الثعابين تحرّكي، يا ألسنة اللّهب اصعدي وتَدَوَّري، ولتأكلي عيونَ هذا الكائن المريض الّذي لا يفقه ما يقول ولا ما يفعل.
- آآآي، آآآي إنّي أحترق، عاصفة الثّعابين هذه حارقة، حارقة، آآآي، آآآآي إنها تلدغني في ساقيّ، ماذا فعلتَ بها يا عبد الحيّ، دعني أعود من حيث أتيتُ....آآآآي.....آآآآي... لن أقتربَ من ساميتِكَ بعد اليوم، إنّها لكَ، لكنّها ستتزوّجُ ابني، وهو لا يعلمُ شيئاً عمّا بيننا، ولا عن سامية نفسها.
- سيجدونكَ ميتاً في سريريك بباريس، ولا أحد سيعلمُ بأسفاركَ في الزّمان والمكان وحتّى إن علموا فإنّهم لن يصدّقونها، سيرونها ضرباً من الخيال العلميّ كما عادتهم في النّظر إلى عالم الرّوحانيات، لا أقلّ ولا أكثر، لا أحد سيعرفُ بحرب الثعابين هذه، سيأتي الطّبيبُ ويقول إنّكَ قضيتَ بسبب سكتة قلبيّة.
- جسدي هو من سيموت، لكن تأكّد يا عبد الحيّ أنّنا سنلتقي من جديد، هناك في عوالم البرازخ، فالحربُ مستمرّة بيننا كما كانت بين أجدادنا وأسلافنا منذ الأزل. وإذا كنتَ قد كسبتَ الجولة هنا، ففي الهناك معارك أخرى لا بدّ سنخوضها آجلاً أم عاجلاً.
- إلى الجحيم، خالدا فيها أبداً. كانت هذه حربكَ الأخيرة ولن تعود، كن متأكّداً من هذا، ولقد نزلَ الأمر بسجنكَ وتقييدك بالسّلاسل والأغلال. كانت هذه فرصتُكَ في العدول عمّا أنت فيه من غيّ وضلال، لكنّك خسرتَ كلّ شيء، وانظر إلى هذا الإنسان الّذي تريدهُ إلهًا في عوالمكَ، إنّه رغم الأشياء المدهشة التي أصبح قادراً على فعلها وتحقيقها فإنه مايزال غير متأكّد من أهدافه التي يرنو الوصولَ إليها، إنّه أكثر تشوّشًا ممّا مضى، صحيح أنّه تقدّم من المركب إلى الباخرة والمنطاد والقطار السّريع والطّائرة بدون قبطان والهاتف المحمول، ولكن لا أحد يعرف إلى أين هو ماضٍ، والأخطر في كلّ هذا أنّه غير قادر على تحمّل مسؤولية ما يقترف من أخطاء فادحة، إنّه قد يكون إلهًا كما تقول، ولكنّه إله خلقَ نفسه بشراكة قوانين الفيزياء، ولا يوجد من يسائله، وهو لأجل هذا يعيث فسادًا في الأرض، بالضّبط كما تفعلُ أنتَ. انظر إلى الحيوانات كيف دمّرتموها، وانظر إلى الطّبيعة واسأل نفسكَ، هل يوجد في الكون كلّه أخطر من إله غير واعٍ وغير مسؤول ولا يعرفُ ماذا يريد؟ هكذا أصبح الإنسانُ اليوم أيّها البئيس، هيّا اذهب إلى الجحيم أنتَ ومن يشبهُك، يا أيّتها الأرواح العسكريّة السّنيّة العُلويّة، هيّا خُذُوه فغُلُّوه ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوه ثُمَّ فِى سِلْسِلَة ذَرْعهَا سَبْعُون ذِراعاً فَاسْلُكُوه إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ العَظِيمِ وَلا يُحُضُّ على طَعَامِ المِسْكِينِ فَليْس لَه اليَوْم هَـهُنَا حَمِيمٌ وَلا طعام إلّا من غِسْلِين لا يَأكله إلا الخاطِئونَ.


(14)

بونسوار موسيو عبد الحيّ،
حدث شيء مفجع، لقد توفّي موسيو برنار. إنّني حزينة جدّاً. سوف نؤجّلُ حفل الخطوبة إلى فترة أخرى. قال الطّبيب أنه مات ليلاً بسكتة قلبيّة في فراشه. وكلود في غاية الحزن والكمد. وأنا مازلتُ في إيطاليا، ولا أستطيع العودة حالياً إلى فرنسا لأواسي كلود في محنته، لقد أغلقوا الحدودَ من جديد بسبب هذا الوباء الّذي يتطوّر في كلّ عامٍ إلى مصيبة أكبر من سابقتها.
سامية
10 تمّوز 2029

(15)

سامية الغالية، أنا في إيطاليا.
وفي غضون ثلاثة أيّام سأكون عندكِ بتوسكانا.
عبد الحيّ
10 تمّوز 2029

(16)

لا داعي لأنْ تحجز غرفة في الفندق، تعال مباشرة إلى بيتنا في كبالبيو، وإنّ والدَيَّ سيكونان في غاية السّعادة برؤيتكَ أخيراً واستضافتكَ لأطول فترة ممكنة.
نحن بانتظارك، ابعث لي رسالة صوتية بمجرّد أن تصل، وسنأتي لأخذكَ من محطّة القطار. ابقَ على تواصل مستمرّ معي عبر الفيس أو الواتساب.
سامية
10 تمّوز 2029

(17)

سلام الله عليكِ يا كَبالْبْيو، سلام الله على مُلوككِ وأجاويدكِ، على أوليائك وأنبيائكِ، على قدّيسيكِ وخُدّامكِ وحُرّاسِكِ، سلام قلب هذا الوليّ المجنون لقلبكِ البحريّ المُدَثّر بالعجائب والأسرار، سلام هذا الطّفل الغاطس في مياه الغانج والنّيل ومَلْوية المغربيّ لحورياتكِ وملكات مياهِكِ المالحة والعذبة، سلام مُحبٍّ لعاشقة كبيرة هي أنتِ، البحر الّذي ناداني من أعماق مصر والهند، لألتقي بعد سنوات صبر وحرب وعذاب بسلطانتي سيّدة الأسماء، سامية سلّمَها الله من كلّ شرّ وأذى، إنّني هنا، في محطّة القطار أنتظر والدَها أيّوب ليحملني إلى بيت الأمن والأمان، والسّلم والسّلام. وهاهو قد أتى بسيارته البيضاء، باسمًا فاتحاً ذراعيْه يحتضنني ويقول: "زارتنا الأنوارُ والبركات يا شيخنا الجليل، طال انتظاركَ، وها قد حللتَ بديارنا أخيراً".
أعانقُهُ بكلّ ما فيَّ من محبّة وشوق، أصعد إلى السيّارة، فينطلقُ مسابقاً الرّيح وصوتٌ شجيّ يأتي من بِنْدْرَيْف موصول بمذياع السيارة يشدو ويقول:" من المُحال يا قلبي باش تنساه / من المُحال أگلبي وأنت تهـواه / يا قلبي جيتْ غريـــــــــــــــبْ / يــاك أگلبــي مــن بلاد بعيدة / ياكْ أقلبي هجرت الأوطـــــــــان / يــاكْ أگلبــي وبلادي عزيزة / يــــــــا لْيَعَة ْقلبـِــــــــي يــــا بكـــاه ويـــــــا حسرتــــه / يــــــــا لْيَعَـــــــــــةْ قلبـــــــــي يـــــا دموعـــه علـــى غُرْبتــه / الرّيــــح والسّحـــاب مشاتْ / والغَيْــــــــم ظـَـلـَّـــمْ عْلِيـَّـــــــا / ولحبـــــاب گـــــــاع گـَـفـَـــاتْ / بقيــتْ فريد والعَمْدة عليــــّـا / من المُحال يا قلبي باش تنساه / يا الأبصـــــــار الشّايـــفــة يـــــا لقلـــــــوب العـــارفــــــة / يـــــــا الجبـــــال الواقـــفـــــة / يــــا لريــــــــاح العــــاصفــــة / هـــــذا جــــيــــــل جــــديـــــد مــــا فيــــــه عَبْــــدْ ولا سَيـّــدْ..." ، آآه من الذّكرى، كيف لأيّوب أن يختار هذه الأغنيّة ليستقبلني بها فوق أرضٍ إيطاليّة، يا لروحه الشّفّافة، إنّه لا شكَّ يدري بحُلمي الكبير، ألم يكن هو أوّل من تواصل معي وردّ على رسالتي الأولى عبر بريد الصّيدليّة، إنّ روحه تدري وتعلمُ كلّ شيء. آآآه من هذه الذّاكرة، ناس الغيوان...ناس الغيوان...ناس الغيوان...صوت الشّعب المغربيّ، أبناء المكان العبقريّ، أبناء الحيّ المُحَمّدي، رُسُل الأغنية المغربيّة الجديدة، صوت العربي باطْما ساكن بين جوانحي، صورته، وجهه، شَعره، وعيناه المفعمتيْن بالسّحر والألق، بلغة الأحلام وأسرار الشّعوب الكادحة، وُلِد من رحم الحرمان، من رحم الاحتفالات الصّوفيّة، صاحبُ حالٍ هو ورفاقه، صاحبُ فهم وغرام وغيوان...
- آآآه يا أيّوب ماذا فعلتَ بي، ناس الغيوان في إيطاليا؟
- أتعرفُهُم؟ هذه سيارة سامية، وتستمع إليهم كثيرًا، لم أقصد إزعاجكَ، ولكنّ البيندريف اشتغل لوحده بمجرّد أن أدرتُ المحرّكَ، فاستحسنتُ الأمر وتركتُ الأغنيّة مسترسلة. ولكن قل لي، هل تعرفهُم؟ وهل تفهم لهجتهم، إنّهم يغنّون بالدّارجة المغربيّة؟
- طبعاً أفهمُهُم، وأفهم الدّارجة المغربيّة، زوجتي صفيّة رحمها الله مغربيّة، وقد عشتُ في المغرب فترةً لا بأس بها، قبل أن أستقرّ نهائياً في الهند، أقول أستقرّ بشكل مجازي، فأنا في الحقيقة أجد نفسي لسبب أو لآخر دائم التّرحال والتّجوال.
- ستسعد سامية كثيرًا حينما ستعلم بأنّك تجيد اللّهجة المغربيّة، وبأنّ زوجتكَ مثلنا من أصل مغربيّ.
- هل أنتَ أيضاً مغربيّ؟ ومن أيّة منطقة في المغرب؟
- من الصّويرة...هاقد وصلنا...انظر إنّها سامية بعيون متلهّفة لاحتضانكَ.
.....
- آآآه يا موسيو عبد الحيّ، أهلاً بكَ، وحمداً لله على سلامتكَ، لقد اشتقنا إليكَ كثيراً، هيّا ادخل فالبيتُ بيتُك.
- أهلاً يا وجه الخير، أهلاً يا سلطانتي.
- هذه والدتي إيلفيرا... بأيّة لغة تحبُّ أن نتحدّث؟
- أعتقد أنّها الوحيدة الجامعة لنا من الآن فصاعداً: اللّغة العربيّة وإذا شئتِ تحدّثنا أيضًا بالدّارجة المغربيّة.
- هيّا تفضّلْ، اجلس، فأنتَ تفاجئني دائماً، تعرفُ أيضاً الدّارجة المغربيّة!
- نعم، لقد أخبرتُ والدكِ قبل قليل بأنّ زوجتي رحمها الله من المغرب، وأنّني عشتُ فترة لا بأس بها هناك، كنتُ مقيمًا في فاس.
- والدتي تنظر إليكَ بانبهار وإعجاب، هي أيضاً تجيد اللّهجة المغربيّة.
- نعم، لاحظتُ ذلك، ولاحظتُ أيضاً كيف أنّ أثاث البيت ونظامه على الطّراز المغربيّ الأصيل. آآآه كي لا أنسى، خذي هذه الأشرطة الموسيقيّة، إنّها بصوت ساهانا ديـﭭـي، المغنيّة الصّوفيّة مُلْهِمة الشّاعر الكبير طاغور.
- شكرا لكَ، كم أنتَ رائع يا عبد الحيّ. لا شكَّ أنّ وجودكَ بيننا سيخفّفُ من حالة الحزن التي أمرّ بها بسبب وفاة والد كلود. هيّا بنا، والدتي تقول إنّ مائدة الغداء جاهزة.

(18)

- طبعاً أخبرَتْكُم سامية بأنّني نباتيّ، لا آكل أبداً ما فيه روح. وإنّني لأرى ما لذّ وطاب من الأطباق فوق هذه المائدة المُباركة. ولكن هذا كثير على رجلٍ مُسنٍّ مثلي. معدتي لن تهضم كلّ هذه الخيرات. لقد حرّكتم في قلبي الكثير من الذّكريات، كانت صفيّة رحمها الله تجيد كلّ الأطباق المغربيّة التقليدية والعصرية منها، آنذاك كنتُ آكل اللّحوم، كم من البسطيلاتْ بالسّمك أكلتُ، وكم من الطّيور المحمّرة والمجمّرة، وكم من قِصاع المفتول بسبع خضار، وكم من الطّنجيات والطّواجين بكلّ الأشكال والألوان والأنواع....ههه ههه ههه رحم الله ذاك الزّمان وتلك اللّحظات السعيدة التي عشتها مع زوجتي الحبيبة...
- افتح يا شيخنا هذا الطّاجين الّذي أمامكَ، إنّ فيه البامية والسّفرجل...
- يدهشني يا سيّدتي إيلفيرا أنّكِ تجيدين أيضا الطّبخ المغربيّ... بارك الله بكِ وفيمن ربّاكِ.
- طبعاً لقد عَلَّمَتْهَا والدتي رحمها الله بعد زواجنا كلّ أصول المائدة المغربيّة، وهي أضافت إليها ما اكتسبت من خبرة في المطبخ الإيطاليّ وخاصّة التّوسكاني، وكذا المطبخ الفرنسيّ بحكم إقامتنا الدّائمة هناك في مدينة بوردو...
- قُل لي يا سيّد أيّوب، كيف جئتَ إلى بوردو؟
- أنا ابن البحر، تربية الماء، إنّني أطلنتيّ أو قُل سندباديّ، أحبُّ المغامرة واكتشاف ماوراء البحار، كان والدي بحّاراً، يركبُ سفينته الصّغيرة ويلقي شباكه في اللّيل، وكنتُ أخرجُ معه وبعض الرّجال من أهل حرفة الصّيد، كنتُ أنا مثله ﯕــنـاوياً، أحمل قيثارتي وأدندنُ بالأذكار والأوراد، كان البحرُ كريماً معنا، ومرّة في منتصف كلّ عام، كنّا نقيم في بيتنا اللّيلة الــﯖـناوية، ليلة المحكومين بالماء، أصحاب اللّون البحريّ، كلّ شيء كان يتحوّلُ في جوهره ومعناه، وكان الاستماع يصبح سماعًا، والنّظرُ رؤيا، واللّمسُ مَسّاً وحلولاً ونُطقاً بلغة الألم والشّوق واللّوعة. كلّ شيء كان يجذبُ أصواتَ أجدادنا وهُم يحاربون قراصنَة الزّمن الماضي، أسرى البحار وعبيدُ إفريقيا والعالم بأسره. والبحرُ له ذاكرة قويّة، لا تنسى مياهه ولا أمواجه شيئاً. وحركة الأجساد لحظة الرّقص والجذبة تُذَكِّرُ بلسع السّياط، وقوّة الضّرب على الطبول لا توحي إلّا بعنف السجّان والجلّاد على أجساد العبيد، وحينما يرتفع صوتُ القراقب تقود الرّوح إلى خشخشة السّلاسل والأغلال والقيود. كلّ هذا يُبكي ملوكَ البحر ويؤجّج الصّور في ذاكرتهم وصدورهم. تبكي لالّة مليكة، ولالّة ميرة، ويبكي سيدي ميمون الغوّاص، ويبدأ النّزولُ أو ما يسمّيه أهل الحال المغاربة بالدَّرْدْبَة، ثمّ يبدأ أبي يردّدُ ويقول: ((لله يا سفينة / فين غاديـة بينا / وحنايا فـيك رهينة / للســايقين بينا / الغرب فنى بزواقــو / ما بقات قيــمة لخلاق / غزا لكساد سـواقو / وبدات السفينـة تغراق / الشرق طغاو رفاقو / شعلت نارو بالآفاق / تحرق وطال حــراقو / وتكدر العيش وضـــــــــاق / وحنا حتى لين وحنا تابعين / فين راحو معاهـــم رحنا / ولا حيـلة بدينا / هما يرتاحو وحنا فالمــحنة / مداومة علينا / طاحـو لكتاف / صعــاب التقداف / على لمغامرة ما بقينا قدينا / فين غاديا بينا هاد السفينة)). وحينما يشتدُّ العزف والرّقص وتهيج الأجساد يظهرُ سلطان البحار كلّها، وعرشه في مدينة آسفي، وهو صاحب خزائن الماء، يفتح المحاكمَ ويبدأ في محاسبة الظّالمين وسجن المجرمين، وشفاء المرضى والمضيومين، وينادي على لالّة عيشة البحريّة، ولالّة فاطنة وسيدي بوزيد البَحْراوِيان، وسيدي موسى وسيدي بوشعيب الردّاد، وتُرَدُّ الحقوق لأصحابها، ومن يستحقُّ النّفي أرسله إلى منفى الصّويرة، وتُختمُ الدّورة بمحلّة الملوك الحُمْر وتتمُّ المناداة على سيدي حمّو والكلّ يقف في الختام في ضريح سيدي بلال الحبشيّ....
- رضي الله عنه وأرضاه...
- نعم يا شيخنا الجليل عبد الحيّ، لأجل هذا تجدني محكوماً بالماء، عبرتُ البحار ولا أسكنُ إلّا في أرض فيها بحر؛ ففي فرنسا أنا في بورْدو، وفي توسكانا أنا في كَبَالْبْيو، وملوك البحر يساندون أبناء الماء في كلّ شيء، ويهبونهم البراعة في الحكمة والإبداع والطبّ والصيدلة والهندسة والبناء، إنّهم مهندسو الكون ومُشَكِّلو مسارات الرّوح ومعارجها.
- يظهر لي من حديثكَ أنّك غادرتَ المغرب صغيراً.
- مباشرة بعد أن أنهيتُ دراستي الجامعية، وجئتُ إلى فرنسا لأنهي دراساتي العليا في مجال الطبّ، وفيها التقيتُ بزوجتي إيلفيرا، واكتملت قصّة عشقنا بابنتنا سامية حفظها الله ورعاها.
- هي ابنتكما الوحيدة إذن، أليس كذلك؟
- نعم، ونأمل من الله أن يُيَسِّرَ أمورها، فتتزوّج قريباً بعد انقضاء فترة الحداد على موسيو برنار.
- نسأل الله السّلامة لها ولنا، ولكن قل لي كيف يجتمع الطبُّ والعرفان، كيف لم تذُبْ في مادّيات الغرب وفكره، وكيف لم تتأثّر بإيديولوجيّاته وفلسفاته الماديّة؟ مالسرّ في ذلك؟.
- الإيمان غير الدّين، وأنا رجل مؤمن ولا أعَرِّفُ نفسي بالمتديّن. الدّينُ كأيّة إيديولوجيّة، يخاطبُ فيكَ ما هو سطحيّ، ولا يلجُ إلى أعماقكَ، لكنّ الإيمان هو شأن الرّوح الأوّل والأخير، ولذلك تجدُ في القرآن الكريم تلك الآية التي يقول فيها ربّ العزّة: ((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))، نعم، نحن الآن في زمن المسلمين، ومازلنا بعيدين جدّاً عن زمن المؤمنين، أولئكَ الّذين آمنوا باللّه عن تجربة وبحث في الأعماق. أن تكون متديّناً، فهذا يعني أنّكَ تعتقدُ في الله بالوكالة، لأنّ النّاس يريدون من يفكّر مكانَهم، هُم كسالى، لا يسعون للبحث عن الله، وإنّما وجدوه جاهزاً معلّباً كمفهومٍ ونظريّة. رجال الدّين يفتون ويكتبون ويؤدلجون في العالم بأسره وفي مختلف الديانات، والناس يعتقدون ويصدّقون. والرّجل يعتقد في الله لأنّه وجدَ والديْه قد فعلا الشيء نفسه قبله، أيْ أنّه مثلهما لم يبذل أيّ مجهود روحيّ نحو عوالم المعرفة القلبيّة. وهذا قد جرّبتُه بنفسي، فأنا كنتُ أعتقد في الله لأنّني ولدتُ في بيئة متديّنة، ولكنّي عرفته هنا في الغرب، في فرنسا، وذلك لأنّني وجدتُ الفرصة الثّمينة لأن أجرّب وأقارن بين تجربتي وتجربة الفكر الغربيّ، فازداد عطشي، وبدأتُ أتوغّلُ أكثر فأكثر، وفهمتُ بعد هذا طريقة والدي، لقد كان رجلاً صوفيًا شعبيًّا بالفطرة، وأنا إلى فطرته أضفتُ العلم والبحث، وكان يقول رحمه الله إنّ السرّ في تجربتي الرّوحيّة هو أنّني أنتمي إلى بيت النبوّة المحمديّة، ولكنّ هذا في اعتقادي ليس كافياً، نعم ليس كافيًا أن يكون جدّكَ الأوّل نبيّاً، لأنّ كلّ نفس عليها أن تسعى لخلاصها وتجِدّ في ذلك حتّى تكتبَ من الصّالحين أهل التقوى والفردوس الأعلى، وهذا ما دفعني أيضًا أن أترك لزوجتي حريّة اختيار طريقة إيمانها، فأنا عرفتُها مسيحيّة ومازالت كذلك، ولا أنفي عنها أبداً نجاة الرّوح فقط لأنها تنتمي لدين غير ديني، ربّما هي في ميزان الأرواح أشدّ بياضاً وتقوىً منّي، من يدري؟ وحده الله المطّلع على القلوب والنيّات.
- وسامية هل اتّبعتْ دينَ أمّها، أم هي على دينكَ، أم ماذا؟
- سامية مختلفة عنّا تماماً. منذ يفاعتها وهي في عالم غير عالمنا، إنّ لها رفقة روحيّة ذات شأن عظيم، وهي حريصة جدًّا على كتمان هذا الأمر في عالم لا يؤمن فيه أحد بممالكِ الأرواح النقيّة السَّنيّة. إنّها كما تراها تلبسُ بطريقة أهل عصرها، وتشاركهم الحياة في حدود المعقول، دون أن تفقد هويّتها وانتماءها.
- نعم أتفهّمُ تصرّفها وسلوكها هذا، إنّها تحتجبُ عن الأعين، وتمزّقُ خرقةَ العرفان حتّى لا يشمّ فيها أحدٌ عِطر الله.
- بالضّبط، هذا أأمَنُ لها، ألم يكن أجدادُنا يفعلون الشّيء نفسه؟ نحن لا نريد أن نكرّر أخطاء الحلّاج وغيره ممّن نالهم أذى النّاس. ولا تظنّ أنّ سامية تتوارى عن الفضوليّين لأنها تعيش في الغرب، أو في مجتمع لن يفهمها فيه أحد، إنّها بدون أدنى شكّ كانتْ ستفعل الشّيء نفسه حتّى وإن كانت تعيش في مجتمعات شرقيّة محافظة، ولا تنس إنها أكثر فرنسيّة من الفرنسيّين أنفسهم، بل أكثر إيطاليّة ومغربيّة من الإيطاليّين والمغاربة أنفسهم، إنها خلطة كونيّة، وتجتمع فيها انتماءات شتّى. أن يداري الإنسانُ نقاوته شيء لا بدّ منه، يمكن أن تعتبره نوعاً من الحرص. حتّى في تاريخ المسيحيّة كانت هناك نماذج عدّة من نساء كنّ يتوارين عن الأعين حفاظاً على نفخ الله ونوره، وسامية ليست بأقلّ ذكاء منهنّ.
- وماذا عن كلود، ابنُ برنار؟
- أعتقدُ أنّها لم تفتح معه هذا الموضوع بعد، صحيح أنّه طلبَ يدها، لكنّها مازالت لم توافق بشكل رسميّ. هي تحبُّ أن تعلن عن موافقتها في يوم الاحتفال، ومن يدري لربّما تعلنُ أيضاً رفضَها، هكذا قالت له، وشرطت عليه أن تكون النَّعَمُ أو اللّا في يوم الاحتفال.
- أتفهّمُ الأمرَ، أنا أخفيتُ حالي عن زوجتي رحمها الله وهي المسلمة، كانت إنسانة بسيطة، ولم أكن أريد أن أدخلها في متاهات لا قدرة لها على خوضها، حتّى أبنائي وأحفادي، ما لهم منّي إلّا ما هو ظاهر، وكي لا أموت مصعوقاً من شدّة النّور اختلقتُ لنفسي الكتابة، وأصبحتُ أُنَفِّسُ عن أحوالي عبر الأدب والرّواية.
- سامية تقوم بالشّيء نفسه، إنها الآن تكتبُ الشّعرَ وتترجمُ الأعمال الأدبيّة ومن حين لآخر تعزف الموسيقى أو ترسم: لا بدّ من متنفّس، حتى يستطيع الإنسان أن يحافظ على توازنه في عالم لا توازن فيه. بل في عالم لم يعُدْ يؤمن بالرّوح ولا بعوالمها بتاتاً.
- هذا هو حال الإنسان، تخيّل أنّه منذ أزيد من خمسة آلاف سنة، كان في الهند رجل اسمه بْرِيهَاسْباتي، وكان لا يُؤْمِنُ بعالم ما بعد الموت ولا بالرّوح، وفي ظرف وجيز من الزّمن استطاع أن يجعل من فكره هذا طريقة أطلق عليها اسم الشَرْڤـاكِيّة، وقد اتّبعها آنذاك الملايين من النّاس في الهند، وكانت قائمة على فكرة أنّ الإنسان هو من تراب فقط وإليه يعود وينتهي كلّ شيء، ولا توجد جنّة ولا جحيم، ولا ثواب ولا عقاب، وبالتّالي كان النّاس أحراراً فيما يفعلونه، وتساوى السّارقُ والقاتلُ والزّاني والقدّيس. إنّه شيء يشبه ما قام به بعد ذلك بقرون عدّة كارل ماركس، حينما أنكر وجود الله ومَجَّدَ المادّة والطّبيعة. وهي الفلسفة التي أصبح بموجبها طغاة روسيا في تلك الفترة يبرّرون ما ارتكبوه من سفك للدّماء دون أن يرفّ لهم جفن، وهم غير ملومين في ذلك، فقد كانوا لا يؤمنون بوجود شيء اسمه الرّوح، هو فقط جسد مادّي لا شيء فيه، كالسّاعة فيها محرّكٌ إذا توقّفَ كفّتْ عن الحركة، وإذا فتحتَها لن تجد بداخلها شيئاً غير مادّي. وهذا حدث لأنّ لا أحد جرّب أن يتقدّم إلى ما بعد الموت. والإنسانُ يبقى حقّاً كائناً مُحَيِّراً في تقلّباته، كيف أنّ شعباً مثل الرّوس، بعد قرون عديدة من التديّن جاء فجأة كارل ماركس وجعل الملايينَ منه ملحدين، هذا هو السّؤال الأكبر!
- السّبب هو قابليّة الإنسان لأن يتقمّصَ ويشرب ما يقرّرُه الآخرون له. الكسلُ الفكريّ والرّوحي يجعل منه كائنًا ينساق إلى من له القدرة على برمجته بأيّة إيديولوجيّة كيفما كان نوعها، والإلحاد والتديّن يتساويان في هذا الإطار، كلاهما يصبحان إيديولوجيّة وعقيدة يتّبعهما مَنْ لا رغبةَ له في بذل أيّ مجهود للتّفكير والتأمّل، لكن هناك فئة واحدة تنجو، فئة الشّجعان، أصحاب الهمّة العالية أولئكَ الّذين ينفضون كلّ شيء ويذهبون باحثين عن اللّه. ألمْ تسمع كيف أنّ الخالقَ قالَ واستقِم كما أمِرتَ؟ هذه هي الاستقامة المطلوبة، نفض التّراب، والقيام من غفلة النّوم والقبور، وتوجيه النيّة نحو رحلة بحث حقيقية عن جبال الوعيّ الأكبر والصّادق... لا أريد أن أرهقكَ يا شيخنا الفاضل بالمزيد من التّفاصيل عن مسارات النّاس المعقّدة ولا عن حياتنا وماضينا بالمغرب الحبيب، فلا شكّ أنتَ مرهق وتحتاج للرّاحة من عناء السّفر، ومازالت أمامنا الأيّام القادمة بإذن الله لنتبادل الأحاديث والقصص إلى ماشاء الله....تعالي يا ابنتي سامية، رافقي الشيخ عبد الحيّ وأريه غرفتَه والحمّام ليأخذ دشّاً ساخنا قبل النّوم.
(19)

آهٍ يا عزيزتي ساهانا ديـﭭـي، ما أعذبَ صوتكِ وما أروعَ كلمات طاغور هذه على شفيتيْكِ وبقيثارتكِ! دعيني أدندنْ معكِ في عمق هذا اللّيل وقد خلد الجميع إلى النّوم، دعيني أخاطب روح الإنسان بلسان العرفاء وأقُلْ لها:
((لستُ ساذجاً يا فتاتي
حتّى أطمعَ في شراء قلبكِ بالهدايا
ولكنّي على الرّغم من ذلك
فإنّه لديّ شيءٌ أريدُ أن أهبَهُ لكِ
قبل أن تتفرّق بنا السُّبُلُ
في غمرة تيّار الحياة الجارف
وقبل أن يطوي حبّنا النّسيان.
أنتِ مازلتِ يافعة، والطريق أمامك طويل
وكأسُ العُمر الّتي نقدّمها لكِ
تشربينها دفعة واحدة
ثم تديرين ظهركِ لنا وتمضين غير آبهة بشيء
وكيف لا تفعلين،
فأنتِ لكِ ألعابكِ وزملائك في اللّعب
ولا غرابة إذن في ألّا يكون لديكِ وقتٌ لنا
وألّا نخطر ببالكِ!
نحن بالتأكيد نمتلك الكثير من وقت الفراغ في شيخوختنا
لنحصي الأيّام التي ولّتْ
ونحتفظ في قلوبنا بذكريات عزيزة
أفلتتْ من بين أيدينا إلى الأبد مخترقةً كل المواقع
ولكن الجبلَ يبقى ويتذكّر،
ويتبعه بنظرات الحبّ)).
آآآه يا سَاهَانا، قولي لي يامُلهمة العباقرة، ما هذه الكلمات التي أسمعها من فِيكِ؟ هل حان الوقتُ لأشربَ كأس المعرفة دفعة واحدة، ومن سيقدّمها لي يا ترى؟ أهُوَ عبد الحيّ؟ ألِأجل هذه المهمّة النّبيلة هو هنا؟ لقد أهداني صوتكِ، وقصائدكِ المفعمة بالمعاني السّامقة، وأنا ماذا سأهديه؟ قولي لي: أعلمُ أنّه أديب روائيّ، وقد كنتُ منذ زمن أفكّرُ في أن أهديَهُ رواية تتحدّثُ عن بلاده من وجهة نظر غربيّة، ولأنّ الرّوايات عن الهند كثيرة، وقع اختياري بعد جهد وعناء على رواية (ليالٍ هنديّة) لأنطونيو تابوكّي. مارأيكِ؟ سأسلّمُها له في الأيّام المُقبلة. لا شكَّ أنّها ستنال إعجابَه. لكن ماذا عنكِ أنتِ؟ ما سرّ هذا السِّحر الّذي في صوتكِ؟ إنها معضلتي الكبرى؛ الموسيقى المُتَألِّهة، لا أعرفُ لماذا أحبُّها، وكثيراً ما أتساءلُ من أين تأتي الموسيقى في الكون؟ فأجدني أمام هذا الإنسان الحيّ الّذي تسري الألحانُ في كلّ ذرّة من كيانه. هل الموسيقى وحيٌ، هل هي نشاط فكريّ يحتاج إلى إلهامات تتنزّلُ علينا من السّماوات العلا؟ عوالمكِ يا سَاهانا تذكّرني بالموسيقيّ المتألِّه السيّد محمّد رضا لطفي، حينما يعزفُ هذا الرّجل على آلة السّيتار يأخذني إلى عوالم غير العوالم، فيضٌ من النّور يهطل عليّ، وتنفتحُ أمامي الفراديس العليا، وتظهر أنوار الحضرة...ما أتعسَ من شغل نفسهُ بألحان الأرض واحتجبتْ عنه ألحان السّماء. ثمّة موسيقى تُحيي القلبَ يا عزيزتي ساهانا، وأخرى تقتلُه، وثمّة أدبٌ يرفعُ الإنسانَ إلى علّيين وآخر ينزلُ به إلى أسفل سافلين. وأنا سعيدة للغاية لأنّني في رفقتكِ هذه اللّيلة، لقد أزهرتْ براعمُ الورود الّتي في المزهريّة، وفاحَ عطرُ العشق وانتشرَ أريجُهُ في السّماء. ما أبهاكِ يا ساهانا، شكراً لكِ، ولعبد الحيّ. وعلى ذكر عبد الحيّ، أتعلمين أنّني رأيتُ قبل أيّام رؤيا عجيبة أثارتْ بداخلي بعضُ القلق والمخاوف، لقد رأيتهُ في حربٍ ضارية مع موسيو برنار، كان يقاتلهُ بعاصفة من الثّعابين، وقد نال منه وتركه غارقاً في أنهارٍ من السّموم الثّعبانيّة. آلمني المنظر كثيراً، ولا أعرف كيف وجدتُ في داخلي القدرة على إسعافه فوراً، لم يكن بعدُ قد غادر الحياة، وإنما كان يصارع الموت ويحتضر، ثمّ جئتُ أنا وبنفخة منّي فوق جبهته استرجع قواه، ثمّ أخذته إلى بيته ووضعتُه فوق سريره ولم يبق من آثار تلكَ الحرب الضّارية سوى ثقوب لدغات أنياب الثعابين والأفاعي...غريب أمر عبد الحيّ يا عزيزتي ساهانا، هل يكون حقّاً قد ألحق الأذى ببرنار؟ من يدري لربّما يكون الأمرُ كلّه مجرّد هواجس بداخلي ليس إلّا، لأنّ برنار غادر الحياة حقّاً ولكن ليس بلدغ الثعابين وإنّما بسكتة قلبيّة كما قال لي كلود في الهاتف... سأودّعُكِ الآن فقد حان وقت قيام اللّيل ولقاء الحبيب، وغداً بإذن الله يوم آخر، سآخذ فيه ضيفنا العزيز في جولة طويلة بالمدينة، وبأماكن عدّة ستزيد ولا شكَّ من خصوبة ملكاته الإبداعيّة، ومن يدري لربّما يتحفنا برواية جديدة أترجمُها له هذه المرّة بنفسي.


(20)

- هاقد مرّ أزيد من شهر على إقامتكَ معنا يا عبد الحيّ، أرجو أن تكون قد اعتدتَ على كَبَالْبْيُو وأحببتَ أماكنها وأسواقها وبحرها وطبيعتها وشمسَها الدّافئة.
- هذا أمرٌ لا شكَّ فيه يا سامية العزيزة، وهذا يرجعُ الفضل فيه لكِ ولوالديك الأحبّاء. احتضانكم لي بكلّ هذه المحبّة والدّفء زاد من هناءتي وسكينتي في هذه البلاد المباركة...إنّها حقّاً مدينة رائعة، بمآثرها الوسيطيّة، وكنائسها الجميلة، وبساطة النّاس فيها، وروعة الطّقس، كلّ شيء فيها يُحيي الرّوح.
- على ذكر إحياء الرّوح، هل قرأتَ الرّوايةَ التي أهديتُكَ إيّاها منذ أسبوعيْن؟
- لا، لمْ أقرأها، ولكنّني أعرفُها جيّداً، كنتُ قد قرأتُها في سنوات ماضية باللّغة الإنجليزية هي وروايات أخرى للرّوائيّ نفسه.
- وما رأيُكَ فيها؟
- إنّها كمعظم الرّوايات التي تُكتَبُ عن الهند بقلم غربيّ. الغالبيّة العظمى من أهل الأدب الغربيّ لا يرون في الشّرق إلّا مكاناً للحلم والغيبوبة عن الواقع، ولا يوجّهون عدسةَ الرّوح إلى الجوهر الحقيقيّ في الذّات الشّرقية، وإذا كتبوا فإنّهم لا يكتبون إلّا عن الفقر والجوع والأمراض والمخدّرات والدّعارة والجريمة والإرهاب وما إلى ذلك من الأشياء التي يطعنون بها الصّورةَ الشّرقية وإن بكلام معسول. كاتبُ (ليالٍ هنديّة)، لمْ يُوَفَّقْ في رسالته الأدبيّة، تجدينَهُ يستخدم الرّموز الهنديّة وهو لا يعرف عنها شيئاً، ويصوّر المجتمعَ الهنديّ ككائن خارج عن الهويّة الكونيّة، شيء أشبه بعوالم الهلاوس والتهيّؤات. ثمّة رحلةٌ للبحث عن الذّات، نعم، ولكن بأيّة طريقة، إنّه بحثٌ هَلوَسيّ، وليس ببحث يقظ وفيه نوع من الوعي الرّوحيِّ.
- أعتقدُ أنّ عالم الهلوسات ذاك، إنّما هو عالم رمزيّ ويريد أن يحاذي من خلاله حقائقَ باطنيّة أخرى.
- ليس بهذه الطّريقة يا سامية، من يقرأ عن الهند التي يرسمُها في كتبه، يعتقد أن بلدَنا لا شيء فيه سوى عالم الهلاوس والتخيّلات الأفيونيّة، اقرئي لهُ رواية (إزابيل) وسوف تتّضح الصّورة لديكِ بشكل أكثر عمقاً، إنّه يعتقد كما غيره أن الرّواية الرّوحيّة أو الأدب الصّوفيّ لا يستقيم إلّا باستخدام الرّموز الثيوصوفيّة والماندالات وما إليهما لكي يتحقّق هدف العروج بالرّوح والسّمو بالنّفس. إنهم واهمون جدّاً، رحلة الكمال تجربة داخليّة حقيقيّة، وليست مجرّد رحلة على الورق تستقي رموزها من القراءات أو الاطّلاع على مخزون الثرات العرفانيّ الخاصّ بثقافات وحضارات الشعوب الأسيوية والشرقيّة، إذا لمْ تجرّب فإنّكَ لن تذوق، وإذا لم تذُقْ فإنّكَ لن ترى، وإذا رأيتَ عرفتَ أنّ الطّريق إلى الله طهرٌ وليست أفيوناً وضرباً من الخزعبلات والترّهات.
- أنا معكَ في هذا الأمر، ولقد لاحظتُ الشّيء نفسه عند العديد من الكتّاب الغربيّين، فهم تستهويهم كثيراً الصّورة الكارثيّة في المجتمعات الشّرقيّة. خذ عندكَ مثلاً حينما يُفكّر أحدهم أو إحداهم في الكتابة عن المرأة العربيّة: إنّها بالنّسبة لهم دائماً وأبداً تلك المسحوقة التي لا حول لها ولا قوّة، تلك التي تعيشُ تحت ظلّ الزّوج السيّد الآمر النّاهي، أو تلكَ التي يقتلُها أبوها أو أخوها، أو تلك الّتي لا تعرف القراءة ولا الكتابة، أو تلك التي تُعَنَّفُ داخل البيت وخارجه، أو تلكَ الّتي تُختَّنُ في طفولتها. وإذا كتبوا عن الرّجل فإنّه ذاك المجرم الإرهابيّ الّذي لا يتقبّلُ الآخرَ، ولا يعرف أصول التّعايش والعيش في المجتمعات الغربيّة وهلمّ جرّاً من هذه الأحكام الجاهزة والمُعَلّبة.
- نعم يا أحبّائي، هذا كان يحدث حتّى في طفولتي حينما كنتُ أعيش في المغرب، كنتُ أرى كيف كان السّياح القادمون من دول غربيّة مختلفة يلتقطون صوراً غريبة عن المناطق التي يزورونَها، بحيث كانوا يركّزون على الأماكن المتّسخة، وأطفال الشّوارع، والفقراء والمجانين، وأصحاب العاهات، وأماكن الدّعارة والجريمة، وقوافل الجِمال والبِغال والحمير، والحيوانات الجربانة، وكلّ ما يخطر على بالكَ من صور مسيئة للدّول الشرقيّة والعربيّة التي يزورونها.
- هو كذلك يا دكتور أيّوب، وهذا ما ساهم في تعميق الهوّة التي مازالت لليوم تفصلُ الغربَ عن الشّرق. أنا عشتُ في المغرب لسنواتٍ عدّة، وأعلمُ أنّه بلد عريق وفيه من العجائب والمآثر التي تحار فيها الأذهان والقلوب لما فيها من علامات بارزة عن رقيّ هذا البلد وجماله وروعته. فقد كنتُ كثيراً ما أزور وزوجتي رحمها الله القصورَ الملكيّة العتيقة في مدينة مرّاكش وفاس ومكناس، والأماكن الطّبيعيّة الخلّابة، والشلّالات والأنهار، وفتحتُ عينيّ على كرم الشّعب المغربيّ وحبّه للأجنبيّ والغريب. وعرفتُ وعاشرتُ أسماء لامعة في السّياسة والحكم، والاقتصاد والعلوم بمختلف مراتبها، وهي أشياء لا يمكن أن تجدَها في الأدب الغربيّ، إلّا قلّ ما ندر.
- الحقيقة هي أنّنا مجبولون على خصلة السَّتْر، لا نفضحُ الآخر أبداً. وحينما يكون الأجنبيّ الغربيّ في بلداننا نكرمه ونعتني به ونُعلي من مقامه وننبهر بثقافته، أمّا الغالبية العظمى منهم، تجدهم يتعاملون مع العربيّ والشّرقيّ والمشرقيّ من باب الفضيحة، لا عيبَ يرونه إلّا وفضحوه في وسائل الإعلام بألف طريقة وطريقة، وفي المقابل فالأديبُ العربيُّ الّذي يجد نفسَه على أرض غربيّة لا يتحدّثُ بالسّوء أبداً عنها؛ نحن نرى الفقر والجوع وسوء الحال، ومعاناة المرأة الغربيّة من البغاء والعنف المنزليّ وتفشّي الجريمة وما إلى ذلك، لكنّنا لا نستخدم أبداً أسلوب الفضيحة والقذف والتشفّي، وهذا يحدث لأن العربيّ المثقّف ينظر إلى الغربيّ كأخٍ لهُ في الإنسانيّة، وإذا كانت هناك معاناة ما أو أذى أو شرّ في حياة أخيه الغربيّ فإنّه يتمُّ التّعامل معه من باب أنّ كلّ هذا يدخل في رحلة الحياة وأنّه لا فرق بين عجميّ ولا عربيّ ولا أسود ولا أبيض إلّا بالتّقوى والخُلُق الحسن.
- هذا صحيح يا سامية، لكن لا تنسي أنّه عادة ما ينقلبُ السِّحْر على السّاحر، فالتقدّم المعلوماتيّ والإنترنيتيّ الّذي تعيشه الإنسانيّة اليوم، صحيح أنه غربيُّ المصدر، لكنّ مفعوله كان في اتجاهات عديدة، والنّاس انفتحوا على العالم بأسره بسبب هذه الثّورة الرّقميّة ولم تعد هناك حدود سياسيّة ولا عِرقيّة ولا جُغرافيّة، وأصبح المواطنُ الغربيّ العادي الّذي من عامّة الشّعب يرى على المنصّات الرقميّة الكبرى أخاه الإنسان في كلّ العالم. يرى كيف هي حياته، وحضارته وتاريخه، وبدأ يستوعبُ أنّه كان حقّاً مُغلقاً عليه في قمقم من التّضليل والتعتيم، والآن فتح عينيه وأصبح يرى الحقيقة التي كانت وسائل الإعلام السّابقة تخفيها عنه، ولمْ يعد مثلا العالم العربيّ بالنّسبة له ذاك الّذي يُصَدِّرُ الإرهاب، أو ذاك الّذي تعاني فيه المرأة العربيّة من الغبن والظّلم والشّقاء الذّكوريّ. انظري مثلاً إلى نجاح النّساء العربيّات والهنديات والصّينيّات والماليزيات في شبكات الإنترنيت ومنصّات اليوتيوب وما إلى ذلك.
- ما من شكّ في أنّ الثّورة الرقميّة قلبت كلّ الموازين، ولكن هذا لا يمنع من أنّ لها سلبياتها أيضاً، وكما هي مصدر للمعلومة والاطّلاع على ثقافات الشّعوب، فهي أيضاً مصدر للشرّ والجريمة والانحراف. لكن دعنا من هذه الأشياء وقل لي هل أنت مستعدّ لآخذك معي غدًا في نزهة مطوّلة قد تدوم اليوم كلّه؟
- طبعاً، وإلى أين سنذهب؟
- إلى حديقة نيكي دي سانت فال.
- يبدو اسم الحديقة فرنسيّاً، لا بدّ أنّه يعود لشخصيّة تاريخيّة كانت فاعلة هنا في المجتمع الإيطاليّ.
- إنها فنّانة فرنسية جامعة لفنون وإبداعات مختلفة، من مواليد عام 1930، وشغلتِ الدّنيا بما كانت تنحتُ وترسم من أعمال فنيّة في غاية الدّهشة والتّجديد والابتكار. والحديقة التي سنذهب إليها غداً بإذن الله وحوله وقوّته، هي حديقة فنّية من إنجازها وإبداعها، وقد استقت مادّتها الإلهاميّة من ورق التاروت، بحيث نحتتْ لكلّ ورقة تماثيل ذات حجم كبير وأضافت إليها رموزها الخاصّة وأفكارها وطريقة تأويلها لكلّ بطاقة تاروتيّة. والحديقة في الحقيقة هي على شكل غابة كبيرة، بدأت نيكي العمل فيها عام 1979 وبقيت ورشتُها مفتوحة فيها حتّى بعد وفاتها عام 2002، ويبدو فيها واضحاً تأثّرهَا بالخطّ الفنّي والأسلوب الّذي صُمّمتْ به حديقة جويل في اسبانيا.
- 1930 سنة الانهيار الاقتصادي الكبير، 1979 عام انقلابيّ على كلّ المستويات، عرف صعودَ أسماء وبزوغ أحداث غيّرت العالم وطريقة تقييم النّاس لأمور وقضايا حياتهم اليوميّة. فعلى سبيل المثال ظهرتْ مارغريت ثاتشر كوجه للرأسماليّة الجديدة والسوق العالمية المفتوحة على كلّ الجهات، وتسلّمتْ مهامها كرئيسة للوزراء في هذا العام العجيب، وتبدّلت حالها من ابنة بقّال وطالبة في الكيمياء إلى سيّدة العالم الحديديّة. ولا تنسي أنّ الغزو الروسيّ لأفغانستان حدث في هذا العام أيضاً. وإصلاحات شياوبينغ الجذريّة والقويّة في الصين بدأت في العام نفسه. كما ظهر البابا يوحنا بولس الثاني وتحدّى الشيوعيّة، وأسهم في إنعاش الكنيسة الكاثوليكيّة، وتسلم منصبه عام 1978، ولكن أكثر خطواته جرأة حدثتْ في عام 1979. وبالطبع من يستطيع أن ينسى الثّورة الإيرانيّة التي انفجرتْ في ذلك العام الغريب؟
وفي 2002 أطلقتِ الهندُ صاروخًا بالستيا متوسّطَ المدى قادرًا على حمل قنبلة نووية. وانفجرتْ بين المسلمين والهندوس في ولاية غوجارات مواجهات دامية أسفرتْ عن حوالي 500 قتيل. وفي أوروبا أصبح اليورو العملة الواحدة لـ304 ملايين من الأوروبيّين وزالت تماماً كلّ العملات الوطنية. وفي العالم كلّه كانت القضايا التي حفل بها عام 2002 أشبه بتداعيات لأحداث سبتمبر/ أيلول 2001، حيث تحوّلت أميركا فيما تسمّيه بالحرب على الإرهاب من الجبهة الأفغانية إلى السّاحة العراقيّة، وذلك بسبب انهيار الشركات الأمريكيّة الضّخمة.
-صحيح يا عمّي العزيز، ونيكي كانت ابنة هذا العالم الرّهيب المتأجّج بالفوضى والحروب والانهيارات الاقتصاديّة الكبرى. وأعتقد أنّ هذا ما جعل منها فنّانة استثنائية.
- الفنّ الحقيقيّ، لا ينبع إلّا من ذات طحنَها الألمُ وحرقتها عذابات الرّوح.
- ولعلّ هذا ما يفسّر كيف أنّها في حديقتها استخدمت رموز التّاروت، لتعبّرَ عن قضيّة عبور الرّوح وتحوّلها من حالة الفحم إلى حالة الماس في نقائه وصفائه...ستعاين ذلك بنفسكَ غداً.
- إن شاء الله يا ابنتي سامية، استمتعَا بيومكما وإذا وجدتُ بعض الوقت فإنّي سألحقُ بكما أنا ووالدتكِ في الحديقة.
- سأكون في قمّة السّعادة ياوالدي الحبيب...سأقوم الآن لمساعدة أمّي في المطبخ فقد حان وقت العشاء.

(21)

- ها قد وصلنا يا عمّي عبد الحيّ، هيّا قُلْ بسم الله، ولندخل بالخير والبركة إلى حديقة التاروت.
- يا إلهي، إنّي أرى حضوراً قويّا لوالدِ نيكي دي سانت فال. أعتقد أنّه هو السّبب الكامن وراء إنجازها لهذا العمل الفنيّ الضّخم.
- وأنا أرى والدتَها جين جاكلين هاربر.
- كانت تكره ابنتها على ما يبدو، ربّما كانت تتشاءم من قدومها إلى الوجود، فحياتها تدمّرت مباشرة بعد انفجار أزمة 1929 الاقتصادية.
وأعتقد أنّ ابنتها انتقمتْ منها بأن تركت هذا العمل الفنّي الضّخم خلفها: إنّها رسالة لكلّ الأمّهات السّيئات. نيكي كانت تريد أن تقول لوالدتها إنّها انتصرت عليها، وأنّها استطاعت أن تقاوم كلّ الآلام الّتي تسبّبت لها فيها.
- لا تنسَ أن علاقتها بوالدها كانت سيّئة جدّاً.
- لقد لمستُ ذلك وتكفي الإشارات دون الدّخول في التّفاصيل: انظري إلى كلّ هذه الثّعابين المنحوتة والملوّنة بأبهى الزّخارف، إنّها عنصر فحوليّ بامتياز، عنصرٌ تسبّبَ لها في الكثير من الألم، فحوّلته خيميائيّا إلى علامة فرحيّة تضجُّ بالحياة والطّاقة الإيجابيّة.
- الثّعابين راسخة في ذاكرة نيكي، فحينما كانت طفلة رأت في إحدى حقول ضيعة جدّتها ثعبانا وأفعى أسوديْن في حالة جماع، كانا ملتفيّن أحدهما حول الآخر، انتابها الرّعب والدّهشة، وتحوّلت هي نفسها إلى ثعبان ينفث الحياة والموت في الآن نفسه، ومنذ ذلك الحين وهي منبهرة بعالم الثّعابين.
- بأيّة بطاقة تريدين أن نبدأ يا عزيزتي؟
- بالمجنون، ثمّ السّاحر.
- ونختم بالإمبراطورة، ما رأيكِ؟
- إذن هيّا بنا إلى المجنون.
- لنجلس تحت فيء هذه الشّجرة ولتحدّثيني عن هذا المجنون، فأنا أرى أنّ نيكي قد اختارت له مكاناً بعيداً عن كلّ منحوتات التاروت، وجعلت منه كائنًا وحيدًا ومنعزلاً.
- يجب أن تعرفَ أوّلاً يا عمّي عبد الحيّ أنّ نيكي قد قلبت موازين التاروت هنا، وهي تعرفُ جيّداً ما الّذي تقصدُه بكلّ عمل نحتته في هذا المكان.
- هذا أمر أكيد، لأنّ فكرتها عن أوراق التاروت ليست بتلك الّتي عادة ما يستخدمها العرّاف أو قارئ الحظّ. أعتقد أنّها ولا شكّ تعرفُ جيّداً المسار الرّوحيّ لكلّ ورقة.
- لا أظنُّ، لأنّ هناك أعمال أخرى لا توحي بمعرفتها العميقة لكلّ رموز التّاروت.
- لنقل أوراق نبي الله إدريس عليه السّلام. لأنّ كلمة التاروت جديدة، ولم تظهر إلّا على أيدي العرّافين والمشعوذين ولاعبي القمار.
- النّاسُ لا يعرفون أنّ نبي الله إدريس قد ترك بين أيديهم كتابه الّذي تناقلته الثّقافات والحضارات على مرّ العصور، وهو وإن كان الأكثر تداولًا وشيوعًا إلّا أنّه لا يوجد أحد يفهمه أو يعرف حقّاً أنّه كتاب وحي وليس كتاب دجل وقمار. وقد ظهر عند الفراعنة باسم كتاب توث، وعند اليونان باسم كتاب هرمس، أيّها المجنون الكبير.
- ما دمت قد ناديتني بالمجنون الكبير، فأنت لا شكَّ تعرفين لماذا أتيتِ بي إلى هنا؟
- كلّ عارفٍ هو مجنون، وكلّ مجنون هو أكبر العقلاء في الكون، وأعظم الرّاشدين.
- إذن ما الجنون وما العقل وما الرّشد يا سلطانتي؟
- الجنون هو الخروج عن القطيع والتمرّد على التّقاليد التي تحكم سلوك الجموع الغفيرة. هو أوّل خطوة نحو المعشوق. هو تجلّي الرّوح في حياة الإنسان بشكل يصبح معه جاهزًا لأن ينهل من دروس عالم الحقيقة والمثال. ولا يكون العارفُ كذلك ما لم يُنْعَت بالمجنون، لأنّه لا يهتمُّ بما يقوله الآخرون في حقّه وهو يعلمُ أنّهم لا يرون ما يراه، وأنّى لهم ذلك وهم المحجوبون عن النّور بالعوارض والغواشي. والمجنون لا يحجب نفسه عن النّور، لأنّه هو نفسه النّور الّذي يسمح له بأن يرى العالم بعيون مختلفة ويتعلّم أشياء جديدة ترتقي به إلى أعلى مراتب الصّفاء والنّقاء. ولأجل هذا يكون جنونه عقلاً خالصاً.
- إنه أعلى درجات الوعي الرّوحيّ.
- وفي هذا الكون، لايوجد إلّا نسبة قليلة جدًّا من أصحاب هذا النّوع من الوعي، إنهم يعدّون على رؤوس الأصابع. كلّ من يأتي إلى هذا العالم يدخله من باب الأنانية، ولا يفكّر سوى في مصلحته الخاصّة. لقد كان أمل قوى الكون أن يصبح الإنسان كائناً راعياً يمكن الوثوق به في حديقة الله، وأداة لتحقيق الخطّة الإلهيّة في الطّبيعة لكنّه خيّب هذا الأمل، لأنّه لم يعرف كيف يكونُ سيّداً يلتزم بالغاية والوعد الإلهيّيْن.
- انظري هناك يا سامية، إلى تلك الحمامة قرب الشّجرة...
- يا إلهي ما أجملها!
- انظري ما الّذي ستفعله... أنا أحمل دائمًا معي في جيبي بعض حبّات من القمح والأرز، سألقيها على الأرض، وراقبي ما ستفعله...
- إنها تدير رأسَها الصّغير...
- إنّها تنادي على رفاقها من الحَمَام الآخر
- لا يوجد أحد بجوارها...
- انتظري فقط...
- يا إلهي إنّها تقترب منّا، ارم ارم بالحبوب كي تقترب أكثر فأكثر...يا إلهي إنّهم هنا...
- كلّ حَمَام حديقة نيكي...هيّا قفي كي ألتقط لكِ بعض الصّور لتخليد هذه اللحظة التّاريخيّة.
- إنهم يأكلون بنَهَم...
- هل رأيتِ، الحمامة فعلت ما لا يفعله الإنسان. قبل أن تأكل ممّا رزقه الله لها، نادت على أهلها وإخوانها وشعبها من كلّ الحمام الّذي يعيش معها في هذه الحديقة.
- ولكن بأيّة طريقة فعلت ذلك؟ إنّها لم تصدر أيّ صوت، ولا نطقت ولا قامت بأيّ شيء آخر...
- لقد أدارت رأسَها فقط، وحامت حول حبّات القمح ثلاث مرّات لا غير.
- تلك كانت رقصتها.
- وكانت رسالتُها. الحمامة أرشد وأعقل من الإنسان.
- أتريد أن تقولَ لي إنّ الإنسان لكي يبلغ مستوى هذه الحمامة الرّوحي عليه أن يُجَنّ؟
- نعم، عليه أن يتركَ ثقافة القطيع، ويعود إلى طبيعته الأولى وفطرته التي جبله الله عليها. أيْ عليه أن يصل إلى مقام "إنّ الله بداخلي"
- وهذا المقام لا يقتربُ منه عارف إلّا بسؤال مَنْ خَلقَ اللهَ؟
- وأنتِ ماذا ترين في هذا السّؤال؟ أهُوَ سؤال القرينِ، أمْ سؤال العقلِ؟ وهل هناكَ فرقٌ بينهُما، على الأقلّ من النّاحية العلميّة أمْ لا؟
- على كلٍّ، لا أحد استطاع لليوم أن يقدّم لنا إجابة قاطعة عمّن خلقَ الخالقَ، وعلى الرّغم من ذلكَ فمازال العديد من أهل العلم والفلسفة يحاولون، أيْ نعم بدون فائدة، ولكنّهم يحاولون. أمّا رجالُ الدّين فقد قطعوا الحبل منذ زمن بعيدٍ؛ لا تسأل عن هذا الأمر، إنّه من المسلّمات ولا تبحث وراءه كثيراً، إنه غواية من القرين لا أقلّ ولا أكثر، فلا تنصتْ لهُ.
- لكن ما الّذي سيفعله البحثَةُ مع العقل؟ إنّهُ لا يهدأ ولا يستسلم، هذه هي طبيعته، لا بدّ أن يجد لنفسه ما ينشغل به، إنّه يريد أن يحلّ كلّ المسلّمات والبديهيّات، ويُحبُّ أنْ يجيبَ عن كلّ الأسئلة ويعالجَ كلّ الإشكاليّات. ففي عُرفه لا يوجد شيء اسمه مستحيل، أو سرّ أبداً، ولأنّ القلّة من أهل العقل توصّلوا إلى أنّ الله مرادف للحياة، فهم دائمُو البحث فيهما وعنهما، والعقل عندهُم لا يعرفُ شيئاً اسمه موقف وسط، أو مستوى وسطيّ تلتقي فيه كلّ الأضداد وتنصهر كلّ الأشياء بحيث لا أسئلة ولا أجوبة.
- لكن ماذا يحدثُ لو تخيّلتَ معي، فقطْ على سبيل الافتراض لا غير، أنّكَ في يومٍ من الأيّامِ استيقظْتَ من نَومكَ ووجدتَ العقل البشريَّ قد اختفى أو قُلْ توقّفَ عن العمل ولو لوقتٍ بسيطٍ، هل سيبقى الشّيءُ ونقيضه؛ سؤال وجواب، خير وشرّ، قبح وجمال؟ أبداً، لأنّه حينما تنصهرُ الأضداد في مستوىً وسطيّ أو في نقطةٍ تلتقي فيها الأقطابُ القُصوى، يتوقّفُ العقل بشكل آليّ عن إصدار الأحكام والأفكار، وفي أقلّ من لمح البصر لن تكون الزّهرةُ زهرةً، ولا الشّوكُ شوكاً، الكلّ سيّان، ولن تكونَ النّخلةُ أفضلَ من شجرة السّرو، ولا الوردةُ أجملَ من الأقحوان، بل لن يكون أيّ نوع من الجيراركيّة والتّفاضل أو التّمايُز في إصدار أيّ نوع مِن التّقييم والحُكم لأنّها كلّها من خلقِ العقل. وسترى كيف أنّ العاصي والقدّيس سيستويان، وإذا تحقّقَ لكَ هذا، فتأكّدْ أنّكَ سوف تفيق على حقيقة خطيرة جدّاً: أنتَ لستَ بمؤمنٍ ولا بمُلحِدٍ وكلّ ما تراه حولكَ هُو فيلم سينمائيّ من إخراجِ العقل، ولربّما ستصحو يوما ما من غفلتكَ وتكتشفُ أنّكَ كُنتَ تحلم، ألم تسمع من قال: "النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"؟!
- والانتباه لا يكون يا عزيزتي بالعقل المادّي، وإنّما بوعي الرّوح التّجاوزي، وعليه فسيُدْركُ الإنسانُ إذا انتبهَ أنّهُ هو هو ولا شيء غير ذلكَ، وقد خُلقَ منذُ الأزل كاملاً وبكَمالهِ تباهى البارئُ أمام الملأ الأعلى. لكنّ العقل ليست مهمّته إيجاد الطّريق الوسط هذه، أو طريق الانتباه، وإنّما طرح الأسئلة وإيجاد الأجوبة، ولأجل هذا يتجلّى أكثر في مجالات محدّدة بعينها مثل الدّين والفلسفة والعلوم بمختلف أنواعها.
- وأنتَ تُحدّثُني عن العقل، حضرتِ الآن أمام عينيّ أستاذتي "جميلة"، فرنسيّة من أصل مغربيّ، يا للمسكينة، لا هي كانتْ تحبّني ولا أنا كنتُ أتقبّلُ المادّة التي كانت تُدَرِّسُها لي في صغري، لقد فشلتْ فشلاً ذريعاً في غرس حبّ الرّياضياتْ بداخلي، لقد كانت تتحدّثُ عن مسلّماتٍ لا يقبلها عقل متنبّه ولا روح واعية، كانتْ تُكرّرُ على مسامعي أشياء أبحثُ عنها من حولي فلا أجدُها: أفكار مجرّدة اتّفق الجميع على تسميتها في الشّرق والغرب بالرّياضيات الحقّة أو الخالصة لأنّها لعبة عقليّة محضة عجينتُها الأفكار، واليوم فقط يظهرُ لي كيف أنّ علماء الرّياضيات لم يضعوا في اعتبارهم أنّ العقلَ هو في حدّ ذاته مشكلٌ كبير حتّى وهو يحاول باستمرار حلّ كلّ المشكلات الّتي تعترضه أو المتناقضات. دعني لأوضّح لكَ فكرتي أذكّركَ بعالم الرّياضيّات والفيلسوف الألماني غوتليب فريجه، هذا الرّجل قضى حياته في البحث عن نظام رياضيّ يحلّ به كلّ المشاكل والمغالطات والمفارقات والمسلّمات التي ظهرت في تاريخ الرّياضيات، ولقد نجح في ذلك أيّما نجاح، فوثّق كلّ عمله في كتاب ضخم، قرّر أن ينشره سريعاً ليفيد به عطاشى الحلول العلميّة البالغة الأهميّة، وبينما هو على وشك فعل ذلك وصلته رسالة صغيرة جدّاً قلبتْ كيانه وأعادتهُ إلى نقطة الصّفر، كانت الرّسالة من فيلسوف بريطانيّ مغمور آنذاك اسمه برتراند راسل.
- آآآه المشاكس راسّل، أذكرُ لهُ كتابَه المستحيل (مبادئ الرياضيات)، والّذي بذل فيه طاقة هائلة وغير عادية فقط ليقول إنّ (1+1=2)، كتابٌ التّفكير في قراءته يصيبُ أعقل النّاس بالجنون.
- كانت رسالة راسل عبارة عن مفارقة بسيطة جدّاً، يوصي فيها فريجه بأن يتريّث في نشر الكتاب إلى أن يحلّ مفارقته التي كانت على الشّكل التّالي: ((في العاصمة طلبَ رئيس المكتبة الوطنيّة الكُبرى من كلّ كُتُبيّي المدن الأخرى تقديم سِجلّ يجردون فيه كلّ الكتب الموجودة في المكتبات الّتي يشرفون عليها، واحدٌ منهم وهو بصدد الانتهاء من عمليّة الفهرسة كتبَ للرئيس في العاصمة يسأله: هل عليّ بعد أن أنهي الجرد أن أضمّ السّجلَّ نفسه إلى لائحة الفهرس، أم وجبَ تركه خارج كلّ الكتب، ما العمل والحال أنّ السّجلَّ نفسه أصبح كتاباً ضمن كتبِ المكتبة الّتي أشرف عليها؟!))، السؤال نفسه وجّهه راسل إلى فريجه وهو يعرف أنّ رئيس مكتبة العاصمة سيصله نوعان من الفهرسة، الأوّل يضمُّ السجلَّ الّذي حُرّرَ في داخله جرد كلّ الكتب، وآخر تُركَ فيه السجلُّ خارج لائحة الجرد نفسها. وعليه كانت ملاحظة راسل لفريجه كما يلي: "قبل أن تحلّ مشكلات رياضيّة أكثرَ أهميّة وأبلغ قدراً، أرجو أن تحلّ للكتبيّ مشكلته البسيطة هاته".
- أنا لا أجد أيّة مشكلة في الأمر لأنّ أيّ اقتراح كيفما كان نوعه سيكون خاطئاً ولن يحلّ المفارقة بأيّ شكلٍ من الأشكال. وهكذا الأمر بالنّسبة للفلسفة والدّين والعلم، لا بدّ أن يأتي يوم ويجد المختصّون أنفسهم عاجزين عن تقديم الأجوبة الحاسمة لقضايا حاسمة أيضاً: مَن خلق الحياة مثلاً؟ الله، ومن خلق الله؟ لا نعرف، أقصى ما عرفنا في هذا الصّدد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، وليس كمثله شيء.
- وهذا في اعتقادي أمر كافٍ جدّاً وعلينا أن نتقبّله، وهذا القبول هو الّذي يطلقُ عليه الدّينُ اسمَ الإيمان. لكن هل سيحلُّ المشكلة؟ طبعاً لا، إنّما يبدو الأمر وكأنّكَ وضعتَ قطعة من الثوب على ثقب كبير بدون قرار، ولكي ترتاح نسبيًا من مطارق عقلكَ عليكَ فقط أن تغمض عينيْكَ، هل فهمتَني؟
- لأجل هذا كلّ الأتباع في أيّ دين وعقيدة وإيديولوجيّة عميان، والله يقول هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ!
- عن أيّ بصير يتحدّث؟
- عن المجنون الّذي نجلسُ بالقرب منه في حديقة نيكي، ذاك الّذي لا يطرحُ سؤالَ الخلق بعقله المادّي وإنّما بروحه الواعية، لن يكون مثل فريجه، ولا مثل راسل، لن يطرح أفكاراً عقليّة تبرّرُ من خلق الكونَ، ومن خلق خالقَ الكون، لأنّهُ يعرف جيّداً أنّه سرّ، وأنّ خالقه سرّ آخر، وأنّ الحياة سرّ الأسرار، لن نحتاج لأن نقول بشأنها أنّنا فهمناها كما يقول الأمريكيون مثلاً للتّعبير عن فعل الفهم (understand).
- أنتَ لن تحتاج لأن تضع الشّمس تحت (under) قدميْكَ، وتقولُ أنّكَ سيّدُها، أو أنّك أخيراً فهمتَ كلّ شيء، فالحياة لا تحتاج لمن يفهمها، ولا لمن يضعها تحت ويكون هو فوقها، وإنّما بحاجة لمن يعيشها ولمن يكونُها، كُنْ أنتَ الحياة وكفى، وتأكّد أنّكَ إذا فعلتَ هذا فإنّكَ سترى الحياة في الموت، والموت في الحياة، والجمال في القبح، والقبح في الجمال، والخير في الشرّ والشرّ في الخير إلى غير ذلك من الثنائيات المتناقضة، لأنّ كلّ شيء هالك ويبقى وجه ربّكَ ذو الجلال والإكرام، هذا هو السرّ، الّذي إذا أدركتهُ أبصرتَ.
- بعد أن أرسلَ برتراند راسّل مفارقته لغوتليب فريجه، تراجع هذا الأخير عن فكرة إصدار كتابه وتركه في الخزانة، ولم ير النّور إلّا بعد وفاته بسنوات عدّة، الاثنان معاً يذّكراني بموسى والخضر، شيء فيه من أسئلة موسى العقليّة، وأجوبة الخضر الرّوحيّة الواعية.
- بل أمر فيه مِن لماذا فعلتَ هذا وكان أولى بكَ أن تفعل ذاكَ، ومِن إنّكَ لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبرُ على ما لم تُحطْ به خُبراً. هكذا هو العقل، إنّه لا يصبر، ويسأل باستمرار ويريد أن يجد الحلول بأيّ شكل من الأشكال، وهكذا كانتْ أستاذتي الفرنسيّة-المغربيّة "جميلة"، كانتْ لا تصبرُ، وكنتُ أنا أرفضُ رياضياتها بقلب طفلة عارفة. كنتُ أرى فيما تحكيه عن إقليدس مثلاً ضرباً من الجنون، كنتُ أسمعها تقول: يُمكنُ رسمُ خطّ مُستقيم يصلُ أيّة نقطتين في الفراغ، ويسمّى بالقطعة المسقيمة، والمستقيم له بُعد واحد هو الطّول، أمّا النّقطة فلا طول لها ولا سُمك. وكانتِ المسكينة ترسمُ كلّ هذه الأشياء فوق السبّورة، وكنتُ أزمُّ شفتيّ وأخفضُ عينيّ، وكأنّي بذلك أشيح بوجهي عنها، أو أخاصمُها وأخاصمُ إقليدس معها، وحينما كنتُ أعود إلى البيت، كنتُ أتساءل دائماً عن هذا الجنون الّذي يدرّسون، كيف يطلبون من الإنسان أن يلقي بنفسه إلى التّهلكة؟ هندسة إقليدس ورياضياته هما أساس العلوم كلّها، وهو أساس لا أساس له بتاتاً من الصحّة، إنه قائم في الهواء على بنية من القشّ، لا أقلّ ولا أكثر، ولكي أحافظ على ما في قلبي من وعي، كنتُ أنهي محادثاتي الدّاخلية بعبارة: هذا فراقٌ بيني وبينكم، سيأتي يومٌ وأخبركم لا محالة بما لم تستطيعون عليه صبراً، وهذا اليوم قد أتى، فكيف باللّه عليك يا عمّي عبد الحيّ يقول إقليدس إنّ المستقيم له بعد واحد هو الطّول، أين ذهب سُمكه، أو عرضه؟ قد يكون رقيقاً جدّاً لكنّه مهما رقّ أو نحفَ سمكه فهذا لا ينفي عنه بُعد العرض، والشّيء نفسه بالنّسبة للنّقطة فهي لها طول ولها سُمكٌ أيضاً ولكنّ إقليدس لا يراه.
- ولهذا فإنّي أدعوهُ اليوم بعد كلّ هذه السّنين ليدخل إلى حانتكِ يا سلطانتي ليرى من تكون النّقطة ومن يكون المستقيم.
- فيا أرباب العقول كيف عميتم عن الصّواب وعلمتم سرّ الخطاب وعجزتُم عن ردّ الجواب! تعال يا عزيزنا إقليدس لنفرق الجمع، ونجمع الفرق ونحقّق الحقّ ونجمع النّقيض بسرّ التّفويض، تعال لتُقيم معنا الخالقَ في مقام الخلق ونستخرج الوجود من باطن فناء الحقّ لتشهد معنا عند رفع الحجاب النّقطة الإمبراطورة ملكة الملوك، تلك الّتي نفيتَ عنها الطّول والسُّمكَ.
- فيا علماء الرّياضيّات، أينَ السرّ المكتوم في قوله والله يعلم وأنتم لا تعلمون، قل لنا يا إقليدس، كيف شهدتَ والله خلقكُم وما تعملون، وأيّ شيء تطلبُ والمطلوب لا تدركه العيون، اعلم أنّ النّقطة هي سرّ الهويّة الغيبيّة في عالم الرّقم، محتجبة بصورها وأعيانها، وما من شيء إلّا وهي فيه، وما المستقيم إلّا ألِف، وما الألِفُ إلّا نقاط متقارب ومتداخل بعضها في بعض.
- ولأنّ النّقطة هي عينُ الألِفية، فكذلك الألِفُ هو عين التّعينات للحروف والنّقطة معهم أينما حلّوا بل أقربُ إليهم من حبل الوريد ولكن لا يبصرون، وأنّى لهم ذلك والسرُّ مصون لا كان ولا يكون. هذه رياضياتي عزيزي إقليدس، وتلك رياضياتُهم، ولهم دينهم ولي دين. ولقد عاينتُ يا عمّي عبد الحيّ رياضياتي الحقّة ورأيتُ تجلّياتها منذ الصّغر حينما التقيتُ عارفاً متألّهاً كان أستاذاً للرّياضيات يُقيمُ في مغارة بحريّة، حينها فقط تصالحتُ مع ذكرى أستاذة الطّفولة، وعلمتُ أنّ الرياضيات نوعان، نوع يدخلكَ إلى حضرة الرّحمن، وآخر يدخلكَ إلى المارستان، وقد اخترتُ الأول لأنّ به يتحقّقُ الوعيُ التّجاوزيّ، وتنصهر المتناقضاتُ، ويظهرُ الجليل بِاِسْم الحبيب، وصفات السّلم والأمن والأمان.
- أشعر بدوار في رأسي وحالة من الإغماء بعد كلماتكِ هذه يا سامية، تعالي لنخرج من هنا، ولنذهب إلى ورقة السّاحر، ربّما إذا مشيتُ بعض الشيء، ذهب عنّي بعضُ ما أنا فيه من الذهول من علمك وعرفانكِ.

(22)

- عجيبة جدّاً هذه المنحوتات، انظري كيف جمعتْ نيكي دي سانْت فال بين السّاحر والكاهنة العليا، وكيف جعلتهما معاً بالقرب من عجلة الحظّ، وما دخل عنصر الماء هنا؟ إنّها حقّا غريبة كلّ هذه التوليفات؟
- طبعاً نيكي تعرفُ جيّداً ما تنحتُ وما تؤلّف من أعمال في غاية الإبداع والرقيّ، إنّها في هذه الحديقة حاولت أن تحدّد مسارات الرّوح وطريق الخلاص من وجهة نظر خيميائيّة محضة، ولو كان بيننا الآن برنار لشرح لك الأمر بشكل أكثر تعمّقاً وغوصاً في معاني هذه الرّموز، ولو أنّني لا أراهُ ساحراً بالمعنى العرفانيّ الحقّ، ولكن دعني أقُلْ إنّه خيميائيّ، لأنّ صفة السّاحر الحقيقيّة هي هبة يمنحها الله لكلّ إنسان، انظر مثلاً إلى نفسكَ يا عبد الحيّ، ألستَ بروائيّ؟ وما كتابة الرّوايات إذا لم تكن ضرباً من ضروب السّحر؟ انظر إلى نفسكَ وأنتَ تحيكُ من الحروف كلمات، ومن الكلمات نصوصا، تخلق فيها الأزمنة والأمكنة والشّخصيّات، وتلعب بكلّ عناصر التّخليق، وتحرّكُ الأحداث، وتحبكُ السّرد، وتصنع التّشويق، وتارة تكون سريعاً في حركتك، وتارة تكون بطيئاً، وتارة تكون كالبركان، كلّ هذا سحر محض، لأنّك في الختام تخرجُ بعمل من واقع فكريّ إلى واقع مادّي محسوس، وحينما ترى أعمالُكَ النّور في المكتبات، تبدأ في عملها الحقّ، وهو تغييرُ فكر النّاس، وتخصيب ملكات الخيال والإبداع، والقدرة بالتّالي على المضي قُدُماً في رحلة الحياة بعزيمة أكثر تماسكاً، وإرادة أكثر قوّة وصلابة. والأمر نفسه تقوم به الشّاعرة والعازفة والطّبّاخة والخيّاطة وغيرهن من نساء الخلق والتّخليق...كلّ منهنّ ساحرة في مجالها، وكلّ منهنّ قادرة على إحداث التّغيير المطلوب. أمّا الشّعوذة فتلك أمر آخر لا علاقة له بالسّحر الإلهيّ والهبة الربّانية الموجودة بداخل كلّ إنسان، إنّها نوع من خلط الأوراق والمعلومات، والأخذ من كتب الدّجل القديمة وضرب الحابل بالنّابل، فيحدث الضرر والتّشويش، لا أقلّ ولا أكثر. وأمر هؤلاء المشعوذين مقدور عليه من خلال توعية النّاس وتنويرهم، ودمجهم في منظومة العلوم الإلهيّة الحقّة، حتّى يصبحوا قادرين على التّمييز بين التّبر والتّراب.
- بالضّبط، وإنّي لأراكِ محقّة في كلّ ماذكرتيه، انظري إلى هذا اللّون الأزرق، إنّه مبهر حقّاً، إنه لون صوفيّ بامتياز: لون الدّراويش، أهل التّجريد، لون المعرفة، لون الدّخول إلى بوابة الأسرار.
- هذا شيء أكيد، انظر إلى السّاحر كيف نحتته نيكي، إنّه مغلّف بالمرايا، وله رأس ضخمة ويد كبيرة فوقها، وفم مفتوح إلى ما لا نهاية وعينان مجوفّتان وبدون بؤبؤ.
- أتعلمين يا سامية لماذا المرايا والعينان الفارغتان، والفم المجوّف؟
- إنّها كلّها تدلّ على بلوغ مقام الرّؤيا، والرّؤيا لا تتحقق إلّا بإدراك الفراغ، والفراغ لا يحتاجُ إلى عين تبصرُ من الخارج ولا لفم يتحدّث بلغة اللّسان، وإنّما البصر يصبح بصيرة، والكلام يصبح صمتاً، والمرآة صافية تعكس كلّ الوجود.
- وماذا عن اليد التي فوق رأسه؟
- إنّه ساحر، أليس كذلك؟ ولذا فإن اليدَ تشير إلى قوة تحكّمه في العناصر الأربع للوجود: الماء، الهواء، النّار والتراب. وكلّ إنسان يصل إلى هذه المرتبة تصبح لديه القدرة على التحوّل عبر استخدام الإرادة. ولا تعني نيكي بهذه المنحوتة صورة السّاحر المطبوعة في أذهان عامّة النّاس، وإنّما هي رمز فقط لتلك القدرة التي نملكها بداخلنا جميعاً، بحيث يمكننا أن نجعل من العدم شيئاً له معنى، وهي قوة إلهيّة بالأساس، لذا فإن كلّ أعمالنا إذا انتبهنا ونظرنا إليها بالعمق المطلوب فإنها ستبدو سحراً خالصاً.
- وماذا عن الكاهنة العليا التي تخضع لسيطرته؟
- إنها لا تخضع لسيطرته، وإنّما هي متكاملة معه، وهي إذا دقّقتَ النّظر فيها فإنّكَ ستجدُ أنها تشترك معه في خصائص عدّة: الفمُ المفتوح مثلا والعين المجوّفة، وما لا يظهر عليه هو تكشفهُ هي، عنصر النّار مثلاً في العين الحمراء، وعنصر الماء الخارج من فمها، وهي مرتبطة ارتباطاً كبيراً بالصّوت الدّاخلي عند كل إنسان، إنّها اللّاوعي، وهي المخزون الّذي يستمدُّ منه السّاحر قوّته ويمكّنه بالتّالي من تحويل أو خلق ما يشاء في العالم المادّي، وإني لأعتقد أنّ نيكي جمعت بينهما لتشير إلى الجمع بين مبدأي الذّكر والأنثى. والكاهنة بالنّسبة لها هي المرشد الأعلى لمن يريد أن يغامر في خفايا العقل بغرض اكتشاف القوى الحقيقية المخفيّة داخل كلّ شخص فينا. لكن علينا ألّا نغفل حقيقة في غاية الأهميّة، وهي أنّه إذا كان الساحر يكمّل الكاهنة، فإنّه يختلف عنها اختلافاً جذريّاً، فهو يوجّه قوّتَهُ نحو الخارج بهدف تحقيق عمليات الخلق في العالم المادّي، في حين توجِّهُ الكاهنة قواها نحو الدّاخل لتسمح لكلّ إنسان بإثراء نفسه والسموّ بها إلى أعلى المراتب... يا إلهي، ماذا أرى؟ انظر إنّهما السيّد برنار وكلود...كيف حدث هذا يا كلود، ألم تخبرني الأسبوع الماضي بأنّ والدك قد توفيّ؟ هل هذه مزحة منكَ؟ لقد أوجعتَ قلبي، وأدخلت إليّ الحزن طيلةَ هذه الفترة، ثمّ أنّنا أجّلنا موعد الخطوبة... إنّني سعيدة برؤيتكَ يا سيّد برنار. لكن ما الّذي حدثَ؟
- أعتذر منكِ يا ابنتي، أنا مَنْ قلتُ لكلود بأن يفتعلَ هذه الكذبة. كان هناك بيني وبين عبد الحيّ خلاف فأحببتُ أن أسويَّه بنفسي معه قبل أن يعود إلى الهند. ولأجل هذا حزمنا حقائبنا وها نحن هُنا. وصلنا إلى البيت وشرحنا لهم خبرَ موتي الكاذب، وقالوا لنا إنّكما في حديقة التّاروت، فطلبنا منهما أن يصطحبانا إليها، وفعَلَا ذلكَ بدون أدنى تردّد ثمّ ذهبا إلى شراء بعض الأغراض اللّازمة للبيت، وسيعودان لمرافقتنا من جديد إلى البيت.
- ألم تكن الحدود مغلقة بسبب الوباء المتحوّر؟
- نحن إذا أردنا فتح الحدود فعلنا يا سامية. وقبل أن أنسى، خذي هديّة عبد الحيّ إليكِ: ثلاثة جواهر من حجر الفيروز المصريّ، كان من المفترض أن أسلّمها لك في فرنسا، لكنّكِ كنت قد طرتِ إلى إيطاليا.
- ألمْ تمُتْ يا عدوَّ الله؟
- في خيالكَ المريض فقط يا عبد الحيّ؟ وهل تعرفُ من أنقذني بعد أن تركتني أتلوّى من شدّة الألم في سريري بسبب تلك السموم الّتي نفثتها في جسدي ثعابين كوكولّو؟ إنّها سامية، لقد استنجدتُ بها، فاخترقتْ عوالم الحلم وأتتني في رؤيا، ثم امتصّت كلّ سمومي، وأعادت لي عافيتي، وأنا الآن مشافى أكثر من أيّ وقتٍ مضى. صحيح أنّه مازالت بساقيّ آثار أنياب الثعابين والأفاعي، ولكنّي سليم معافى كما ترى.
- يا إلهي، إذن فالرّؤيا التي رأيتُها قبل يومين كانت حقيقة، أكنتَ تريد قتله يا عبد الحيّ...آهٍ يا إلهي، لقد كنتُ معكُما أسمع وأرى، وحينما استيقظتُ ظننتُ الأمر كابوساً ليس إلّا. ولم أركّز كثيراً في القضيّة. صحيح أنّني في الحلم رأيتُ نفسي أمتصُّ السّموم من جسده وأنفخ فوق جبهته، لكنّي لم أكن أعرف لماذا كنتُ أفعلُ ذلك ولا بأيّ سلطان. الآن فهمتُ كلّ شيء. لقد كنتما تتقاتلان من أجلي، وكلود المسكين لا يعرف شيئًا عمّا أصبح بينكما من عداوة.
- بالضّبط، هذا ما حدثَ يا سلمى. وأنتَ يا عبد الحيّ هل سلّمتها ثقلَ ولايتكَ؟
- سأفعلُ هذا في مقام الإمبراطورة.
- مهلاً مهلاً يا أصدقاء، قبل أن نذهبَ إلى مقام الإمبراطورة، عندي بعضُ الأشياء التي أريدُ أن تسمعها يا عبد الحيّ وأنت معه يا برنار، ونحن هنا في مقام السّاحر والكاهنة العليا. يبدو أنّني فهمتُ كلّ شيءٍ الآن، وأنّ عبد الحيّ كان ينوي التخلّص من وجودكَ ونسَب إليكَ العمل تحتَ الدّائرة الإبليسيّة. لكن اسمح لي يا عبد الحيّ أن أقول لك، إنّك لم تكن عادلاً معه في حربكَ، وكونُكَ عارف أو وليّ، فهذا لا يخوّلُ لكَ أيّ حقٍّ في التحكّم بمصائر النّاس أو أيّ كان من الكائنات الحيّة في جميع الأكوان. يؤسفني جدًّا أن تسمع منّي هذا الأمر، كان من الأفضل أن تكون أكثر ليونة معه، وتعطيه الحقّ في طرح اقتراحه عليّ وترك أمر الاختيار لي، ألم تفقه للآية الّتي تقول: "وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لآمَن مَن فِي الْأَرْضِ كلهم جَمِيعا أَفَأَنت تُكْرِهُ الناسَ حَتىٰ يَكُونوا مؤمِنِين"، هل ستكون أكثر فهماً من خالقكَ يا عبد الحيّ، هذا هو عيبكم أيّها العرفاء الجُدُد، تعتقدون أنكم على صواب مطلق دائما وفي كلّ الأحوال، وأنّ غيركم من النّاس لا يفقهون أيّ شيء في أمور الدّين والدّنيا، ألا تعلمُ أنّ كلّ إنسان له الحقّ في تقرير مصيره، هذه قاعدة إلهيّة عظمى، وقد تركَ ربُّ العزّة للنّاس الحريّة في الاختيار، ولا يُجبر أحداً على شيء، وما الكونُ إلّا أرض اختبارات قد يفشل فيها الإنسانُ أو ينجح و قد يقرّر نهايته بنفسه...هل رأيتَ تفكيرًا أكثر ديموقراطيّة من تفكير الله؟!
- وهل مازلتِ لم تختاري بعد يا سامية؟ هل تريدين الانضمام إلى دائرته بعد كلّ ما شرحتُه لكِ؟ لقد كان يريدُ أن يستخدم طاقتكِ ويسخّركِ لخدمة عوالمه السّفليّة.
- ليس هذا ما أريد قوله يا عبد الحيّ، إنّما أريد أن أؤكّد حقيقةً آملُ أن تصبح راسخة في عقليْكما معاً: أنا لستُ ملكاً لأحد، لست لا لكَ، ولا لهُ، ولا لأبي ولا لوالدتي ولا لأيّ أحدٍ فوق هذه الأرض، إنني لخالقي وحده فقط، هو مولاي، وهو سيّدي وهو شيخي وقطبي ومُرشدي وكلّ شيء في حياتي ومماتي. وهناك شيء آخر عليكَ أن تفهمه جيّداً يا عبد الحيّ، لا تكن من أولئكَ الّذين خلطوا الذّهب بالنّحاس في تأويلهم لكلام الله. لا تقل إنّكَ تفعلُ مثلما فعلَ الخِضْرُ مع موسى، وأنّه وإنْ كان وليّاً فإنّه خرقَ وقتل. وإنّي لأعلم أنّ الكثيرَ من العرفاء يبرّرون ما يفعلونه من السّوء بهذه القصّة العرفانيّة الموسويّة، فقل لي باللّه عليك كيف سوّلتْ لكَ نفسكَ بأن تقتلَ أخاكَ في الإنسانيّة برنار؟ ألمْ تكونا صديقين؟ ألستَ أنتَ من أرسلتَهُ إليّ؟ ولنفرض جدلاً أنّه قد ظهر لكَ منه ما يفيد في أنّه يخدم تحت الدّائرة الإبليسيّة، فهل هذا يبرّرُ أو يُجيزُ لك أن تمدّ يدكَ إليه لتقتلَه؟ ألم تسمع الخالق وهو يقول من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها كأنما أحيا الناس جميعا؟ من أنتَ كي تقرّر مصائر النّاس؟ ألم يكن حريّا بكَ أن تترك له هو أيضًا فرصة للعروج؟ ما الفرق بينكَ إذن وبين من يعيث في الأرض فساداً باِسم الله وباسم الدّين؟
- ولكنّه كان يريد أن يؤذيكِ؟
- لست أنتَ من يحدّد ذلك؟ إن كلّ نفس لمّا عليها حافظ، ونحن في حمى الله ولسنا في حمى البشر، ولن تُغيّر من قدَري أو قدَر أيّ إنسان. نحن هنا على الأرض لتكتمل تجاربنا، ونعطي لكلّ إنسانٍ الفرصة في أن يرقى، وأن ينصلح حاله. وإذا فعل كلّ رجل مثلما فعلتَ لانقرض الإنسان من على وجه الأرض. ولا تضرب لي مثالاً بقصّة الخضر مرة أخرى لأنّه يبدو لي أنّكَ لم تفهمها أنت والعديد من عرفاء الحسرة، هيّا لنذهب إلى بيت الإمبراطورة الآن لأنّني هناك أريدُ أن أحدّثُكُما عن الحبيبيْن الخِضْر وموسى، ولكن قبل ذلك اسمعا قصيدة كثيراً ما ألقيتُها حينما كنت أزور من حين لآخر هذه الحديقة، فنحن هنا بيننا أدباء وشعراء وروائيين أليس كذلك؟
- كلّنا آذان صاغية لكِ يا سامية...
- منذُ أن وصلتُ إلى المركز
فقدتُ الإحساس بالاتّجاه
هنا حيثُ أنا الآن
لا توجد اتّجاهات:
لا شمال ولا جنوب
لا شرق ولا غرب
لا يمين ولا يسار
ولا توجد حتّى الألوان
هنا صمتٌ مطبقٌ وكفى
ويبدو أنّي فقدتُ كلّ شيء؛
القدرة على الكلام
وربّما حتّى على الكتابة.
هنا لا توجدُ لغات
ولا كُتب
كأنّي فقدتُ ذاكرتي
وفي ذهني فراغ كبير
لذا لا تسألني لماذا أنا غائبة
فمنذ أن وصلتُ إلى المركز
لم أعُدْ موجودة:
كأنّي قطرة ندى سقطتْ في الماء الفسيح
كيف لك أن تجدني
الآن وقد أصبحتُ المحيط؟
- لماذا ولجتِ المرأة ساحة الإبداع؟ لماذا أصبحتْ شاعرة وروائية ومترجمة؟ أليس في هذا إنقاص من أنوثتِها، ودورها الفاعل في الأسرة والمجتمع؟
- يا له من سؤال غريب يا كلود، أشتمُّ فيه رائحة الاعتراض على إبداع المرأة في الفنّ والأدب.
- ليس بالضّبط، ولكن بي رغبة عميقة لأفهمكِ، وأفهم تعدّد مواهبكِ واهتماماتكِ.
- في الفنّ والإبداع لا فرق بين ذكر وأنثى، كلّ ما هنالكَ هو أنّ المرأة قديمًا كانت منشغلة بإبداع من نوع آخر: إنجاب الأطفال. واليوم وقد امتلأ العالم بالبشر، وأصبحتِ الأرض تضجُّ بكائنات لا تزيد إلّا من تفاقم مشاكل الكون وحروبه ومجاعاته، فإنّ المرأة فقهت إلى أنّهُ أصبح من الضّروريّ جدًّا وضع حدّ لمهزلة الإنجاب هذه، وبدأت ترى أنّ الحياة ستصبح أفضل لو وجدت لنفسها طريقة أخرى للخلق والإبداع بعيداً عن إنجاب الأطفال هكذا بشكل آليّ وكارثيّ لا حكمة فيه ولا رشاد، فوجّهت ذكاءها إلى العمل الفنيّ والأدبيّ والثّقافيّ والعلميّ وبرعت فيه بشكل تحار فيه العقول، وانتبه الرّجل إلى أنّها بهذا النّوع الجديد من الخلق لا تضرُّ الكونَ أبداً بل على العكس من ذلك فهي تخدمه كثيراً، لذا تجده يؤيّدُها في اتجاهها الجديد هذا، وقد تطلّب هذا الأمر العديد من القرون حتّى يؤمن الرّجلُ بأنّ المرأة قد تكونُ أكثر قدرة منه على الإبداع الخلّاق وليست في حاجة لأن تظهر قدراتها هذه لأحد، لأنّه أمر من المسلّمات والبديهيات. المرأة كائن يرى بقلبه يا كلود، والكون سجِلّ كبير ممتلئ بالهزائم والكوارث والأحزان، ويحتاج إلى عينَي امرأة تداويه وتخرجه إلى الوجود عبر حرفها وإبداعها، عبر لونها وموسيقاها، عبر رقصاتها وألحانها، عبر كلّ نبضة في كيانها. الإنسانُ كائن تعيس جدّاً يا أصدقائي ويحتاجُ اليوم ليد امرأة تداوي جراحه، وتنظر إلى ذنوبه وتسمع أنينه. إنهم عميان ولا ينظرون، جرّب أن تنظر في عيني أخيك الإنسان يا كلود، لأنك لو تفعل هذا فإنّك سترى ما في عينيه من دموع متجمّدة، ومن بكاء صامت هامس صارخ. وهل توجد يا أصدقائي، يا برنار وعبد الحيّ عيون ليس فيها ألم؟ الشّعراء والأدباء رأوا هذا، ولكن ليس بنفس طريقة المرأة الأديبة العارفة، إنّها ترى الذنوبَ والأخطاء والعاهات، وتمسح دماء العيون الباكية، ولذا فإن عين المرأة الرّائية أكثر عذابًا من العيون المعذّبة نفسها، لأنّها تتألم لما ترى، ولأجل هذا يكون إبداع هذا النّوع من النّساء جارحاً كومضة سيف في بحر من الظّلام: فأنا مثلاً حينما أكتبُ أكونُ إعصاراً
يرقصُ وسطَ حلبة الدّراويش
عليكَ أنْ ترقُصَ أنتَ أيضاً
إذا أردتَ أن تقرأني.
عليكَ أن تطيرَ مع الرّيح
أن تصبحَ أنتَ نفسُكَ
قصيدةً أو أغنيّة أو رقصةً
إذا أردتَ أنْ ترى وجهي الحقّ
وتذكّرْ دائماً أنّه حينما تكون عاصفة الحروف قد هدأت
لن تجدَ منّي شيئاً:
فقط فراغٌ مهول وصمتٌ مُدَوٍّ
ودموع حارقة.


(23)

- يا إلهي، ماهذا الهرمُ العجيب الّذي شيّدتهُ الفنّانة نيكي، بيتٌ على شكل أنثى بهذا الحجم الهائل؟
- نعم، يا كلود، يبدو أنّ الأنثى الكونيّة كانت قضيّة نيكي الأولى والأخيرة. كلّ منحوتاتها الأنثوية بهذا الشّكل من الضخامة، انظر إلى الأثداء الكبيرة، والملوّنة بشكل طفوليّ فيه الكثير من الإبداع والحيويّة والحركة والنّشاط. إنّها رمز للعطاء الّذي لا حدود له. ورمز للخصوبة والأمومة.
- إنّها أنتِ يا سامية. هل تتذكّر يا برنار، تلك الرّؤيا الّتي رأيتُ فيها سامية بثديين عظيميْن عاريَيْن، تمشي فوق صهوة طويلة لحصانٍ أسوَد وتلبسُ فستانًا أبيض وفي يدِها سوط أحمر، تضربُ به الخيولَ والفيَلة. وأنا منبهر بها، وأنظرُ إلى ثدييها وأقول: اسقني من حليبكِ فأنا ظمآن، يا أمّي!؟ هل تتذكّر، أوليستْ هي نفسها الإمبراطورة الّتي نراها منحوتة أمام أعيننا الآن؟
- نعم، هي كذلكَ يا عبد الحيّ، وإنّي لأرى أنّه حان وقتُ تتويج سامية هنا، انظر إلى النحاتة نيكي كيف صنعت هذا الهرم، لقد جعلت منه بيتا كبيراً مرصوصاً بالمرايا في كلّ جانب. الجدران مرايا، والسقوف مرايا أيضاً، لقد سمعتُ أنّ نيكي كانت تسكن هنا وزوجها.
- لا أرى مكانا أفضل من المطبخ يا سامية. تعالي لطفاً وكرماً منكِ واجلسي هنا إلى هذه المائدة. ودعيني أتوّجكِ بما يليقُ بمقامكِ الكريم. هاتي خنصركِ لألبسكِ هذا الخاتم الّذي جلبتهُ لكِ من البئر الزرقاء في مدينة دهب المصريّة. إنّ حارسة البئر صنعته خصّيصاً لكِ.
- ....يا إلهي، ما هذا الّذي نرى: لقد تحوّلتِ إلى ملكة عظيمة يا سامية... أيُّ سحرٍ هذا، وماهذا التّاج المرصّعُ بالزمرّد والياقوت. وماهذا الصولجان، وما هذا النّور والبريق الّذي يحيطُ بكِ؟!
- آآآهٍ يا ابني كلود، امسك بيدي، إنّني على وشكِ أنْ يُغمى عليّ، إنّني آمنتُ بربّ عبد الحيّ وصدّقتُ الأنبياء والرّسل، وكلّي أمل في أن يغفر لي ربّي ما تقدّم وتأخّر من ذنبي وما أكرهني عليه خيميائيّو الشرّ من شعوذة. الآن فهمتُ ما الّذي كنتَ تريدهُ من سامية يا صديقي، سامحني لقد كنتُ غارقاً في بحار الجهل والغفلة.
- لا عليكَ يا أخي برنار، أنا أيضاً ارتكبتُ بعض الأخطاء تجاهكَ، وما حدث الآن هو بفضل نقاء وطهر إمبراطورتنا الجديدة سامية حفظها الله من كلّ شرّ وأذى.
- انظر يا أبي إلى حديقة التّاروت من الخارج، لقد تحوّلت إلى فردوسٍ حقيقيّ، انظر إلى الأشجار والطّيور والأزهار، وانظر إلى الشّمس ساطعة بلون أخضر في عمق السّماء، إنّه عالم من الطّمأنينة والسّكينة والجمال.
- نعم يا ابني كلود، إنّ هذا نابع من معنى الأمومة الفيّاض من حضور سامية، إنها الخالقة مانحة الحياة صاحبة الخصوبة والوفرة، والفهم والحكمة.
- هو كذلك يا والدي، ولكن ماذا عن موسى والخضر يا صاحبة السّعادة سامية الحبيبة، إنّني متشوّق لمعرفة المزيد عنهما، واعتبريني منذ الآن تلميذًا في مدرستكِ الإلهيّة.
- أنصتوا إليّ جيّداً يا أحبّائي كلود، برنار وعبد الحيّ: إنّ الخضْرَ هو العقل المقدّس في كلّ واحد منّا، بل في كلّ إنسان في طريقه إلى الله، وقد حباه المولى عزّ وجلّ بكمالٍ معنويّ فريد عبر التجرّد عن المادّة والتقدّس عن الجهات. وعلومُه لدنيّة ولا أثرَ فيها لوسيط بشريّ. وحينما يصلُ كلّ سالكٍ إلى درجة الرُّشد وتظهر عليه صفات الرّغبة في الرّقيّ والسّمو لا بدّ لهُ من إِذْنِ هذا العقل العلويّ حتّى يمدَّ لهُ يدَ العون في الطّريق ويساعده على ألّا يفقد صبره فتغلبه العجلة والفضول في الاطّلاع على الحقائق المعنوية، ويغفلَ عن كونه لا يمكنه امتلاكَها مادام محتجباً بغواشي البدن.
- ولكن ماذا عن النّفس، إنّها التّوّاقة دائما إلى النضج والاكتمال، فكيف ستحوز المعارف والعلوم اللّدنيّة وهي مازالت محتجبةً بعوارض الجسد؟
- هنا تأتي مهمّة الخِضْر يا برنار: ستُمسكُ النّفس بتلابيبه وتطلبُ منه أن تتبعه، وحينذاك سيشترطُ عليها المجاهدة الخلقيّة والريّاضة الرّوحية وسينصحها بعدم الاستعجال في طلب الحقائق والمعاني قبل أن يحين وقتُ ذلك.
- أتريدين أن تقولي يا إمبراطورتي، إنّ العقل المقدّس الّذي هو الخضر والنّفس التي هي موسى، سيركبان سفينة البدن، ويبحران في بحر الهيولى؟
- نعم يا عبد الحيّ، ومادُمتَ قد قلتَ هذا، فإنّك ولا شكَّ عرفتَ الآن ما معنى خرق السّفينة، وقتل الغلام وإقامةِ الجدار، أليس كذلك؟
- إنّني خجلٌ جدّاً من نفسي، وأعتذر أمامكِ الآن لأخي برنار عمّا صدر منّي، ولكلّ من تصرّفتُ بسوء معهم أو ألحقتُ بهم الأذى، وأنا أظّنُّ بأنّ للعارف أن يتصرّف في الملكوت بما تمليه عليه الإرادةُ الكونيّة.
- أنتَ كنتَ تتصرّف بما تمليه عليكَ نفسُكَ، وليس بما تمليه الإرادةُ الكونيّة، وخرقُ السّفينة يعني إضعاف قوّة النّفس بالرّياضة وتقليل الأكل حتّى يختلّ نظامُها المُتَفَرعن ويضعف جبروت قواها الحيوانية والنباتيّة. أمّا قتل الغلام، فلا يعني أنّ الخضْر قتل إنسانا حيّاً، وإنما هو دائماً العقلُ القدسيّ الّذي يقتلُ النّفس التي تظهرُ بصفاتها الأمّارة بالسّوء وتحجبُ القلب عن الحقيقة. وإذا أردتَ أن تستدلّ على هذا العقل القدسيّ هنا في هذه الحديقة فستجده في ورقة الإمبراطور، إنّه القوّة التي تُشكّلُ الكون، وهو الأب الحكيم صاحب الخبرة في إدارة شؤون العالم، ويعرف جيّداً كيف يكون قويّاً وقاسياً حينما يكون مضطرّاً إلى فرض إرشاداته وقوانينه الصّارمة.
- يا إلهي، ما أتعسني، أبهذا بلغتُ معكِ مقام "هذا فراق بيني وبينكَ"، ألأجل هذا رفضتِ أن ترثي ثِقلي، حينما توّجتُكِ إمبراطورة جديدةً؟ ما أشدّ شقائي، كيف لي أن أصلحَ ما مضى من حياتي، كيف لي أن أنوب وأعود إلى طهري ونقائي؟ لقد قالتها لي الملكة نفرتاري، حينما كنت في وادي الملكات، قالت لي إنّها أكبر عمراً منكَ يا عبد الحيّ، وأعمق منك فهْمًا لأمور الرّوح والجسد، والعلوم اللّدنيّة.
- إنّها ليستْ أكبر منكَ فقط يا عبد الحيّ، إنّها أكبر منّي أنا أيضاً، وأنا تسعينيّ العمر، سامحيني يا سيّدتي، يا إمبراطورتي، كنتُ أعمى ورأيتُ النّور على يديْكِ، أنا من سينضمُّ إلى دائرتكِ، وأطمع في لمحة نور من عينيْكِ علّكِ تغسلين كلّ الأفكار السّيئة التي كانت تنتابني تجاهكِ. كنتُ طفلاً، وهاقد بلغتُ الرّشد في حضرتكِ، وإنّي لسعيد جدّاً بأنّك ستكونين زوجة لابني، علّه يناله بعض من نورك، وأنتَ يا عبد الحيّ، تعال يا صديقي عبد الحيّ لنتصالح إلى الأبد، وندخل معاً بيتَ واستقم كما أُمِرْتَ.
- رفضتُ ثقلكَ يا عبد الحيّ، لأنّه ثقل لا يخلو من أخطاء، وأنا لا أريدُ أن أبدأ حُكمي بإرثٍ رثّ وبالٍ، لا بدّ من التّجديد والتّطهير واقتلاع أخطاء الماضي من الجذور، وإلّا فإنّنا لن نفلح في شيء أبداً. لا بدّ أن ندخل العهد الجديد بنفس قادرة على الولوج إلى المعاني الحقّة بعقلٍ راشد وأكثر وعياً وتنوّراً وتبصّراً. أعتقد أنّ الأمور الآن أصبحت أكثر وضوحاً، وأظنُّ أنّه قد حان وقتُ العودة إلى البيت، اذهب أنت يا عبد الحيّ مع برنار، فوالديّ بانتظاركما أمام الباب الرّئيس للحديقة، أمّا أنا وكلود فسوف نبقى هنا لبعض من الوقت، سنذهب إلى ورقة العاشقين، فلديّ الكثير ممّا أريد البوح له به.

(24)

- هل تعرفُ لماذا نحن هنا يا كلود؟
- لنباركَ عشقنا بحضور هذين العاشقين اللّذين نحتتهما نيكي بهذا الشّكل من السّحر والبراعة.
- انظر إليهما جيّداً وقل لي ماذا ترى؟
- الولد العاشق بوجهٍ ذهبيّ، والفتاة العاشقة بجسدٍ أبيض وشَعر أحمر ووجه بدون عينين ولا أيّة ملامح أخرى.
- وهل تجد بينكَ وبين هذا العاشق شبهاً ما؟
- طبعا لا، فهو مجرّد تمثال، وأنا كائن حيّ.
- هل تجد في نفسكَ هذا الوجه الذّهبيّ الخالي من العينين والأنف والفم؟
- لا.
- لأجل هذا جئتُ بكَ إلى هنا يا كلود، لأجيبكَ عن سؤالكَ الّذي طرحته عليّ حينما كنّا في فرنسا، أي حينما قلت لي: هل تقبلين بي خطيباً لكِ الآن وزوجاً لما بقيَ من حياتنا؟
- وما جوابُكِ الآن يا حبيبتي؟
- لستَ الشّخصَ المناسب لي يا كلود. وجهكَ لم يصبح بعدُ ذهبيّاً، ولم تشرق في قلبكَ الشّمسُ بعد، وأنا لا أفكّر بالارتباط الآن، لا بكَ ولا بغيركَ.
- لكنّي أحبُّكِ يا سامية.
- الحبُّ المشتعلُ في قلبكَ وهمٌ كبير، إنّه كيمياء تخلقُها الهرمونات في جسدكَ. ربّما تكون منبهراً بي، منجذباً إليّ، لكنّكَ أبعدُ ما تكون عن العشق الحقّ.
- وما هو هذا العشق الحقّ الّذي تبحثين عنه يا سامية؟
- أنا لا أبحث عنه، إنّه بداخلي، وعليكَ أن تبحث عنه في داخلكَ أيضاً لتعرفه. عليكَ أن تذوق لتراه.
- إنّ لغتكِ كلّها طلاسمٌ لا أفهمها أبداً. قولي إنّكِ تحبّين شخصاً آخر وكفى.
- آهٍ يا كلود، ما أشدّ بعدكَ عنّي...لن تفهمني ما حييتَ.
- انظر إلى هذه الأنثى العاشقة التي نحتتها نيكي، انظر إلى وجهها، انظر إليه بعين القلبِ لتفهم معنى العشق: إنّها تعطي ولا تنتظر مقابلاً من أحد، إنها ربيع بلا حدود. خصوبة ليس لها مثيل: شَعْر أحمر متوهّج من شدّة العشق، وجسد مخضرّ زاهر من شدة الارتواء. وأنت وغيرك من الرّجال لن تفهموا أنثى بهذه الصّفات، قد تحبّونها نعم، لكنكم ستبقون على السّاحل فقط، لا أحد عنده الشّجاعة الكافية ليغرق في محيطها.
- أنا أعرفُ وجهكِ جيّداً، أنا أحبّه وكفى، ولا شأن لي بوجه هذه الأنثى العاشقة التي نحتتْها نيكي دي سانت فال.
- لا، أنتَ لا تعرف وجهي.
- قولي أنتِ، ماوجهكِ؟
- وجهي مجرّةٌ من النّور
تدورُ فيها الكواكبُ
بسرعةٍ تفوقُ سرعةَ الضّوء
وجهي قلبٌ وفي وسطهِ عينٌ
والنّجومُ من حولها
يصعقُها البرقُ
تذوبُ وتحترقُ حتّى آخر شظية فيها.
وجهي أرضٌ جديدةٌ
لمْ يكتَشِفْهَا بعدُ أحد
تركضُ فيها الأرقامُ والحروف
بسرعة تفوق سرعةَ النّار.
وجهي أُذُنٌ
يصعقها الرّعدُ
تخرُّ مغشياً عليها
من شدّة الذّهول والسُّكْر
تفنى ولا يبقى منها شيء يُذكر.
وجهي طلسمٌ كبير
حجابُه الشّمسُ
لذا لا يعرفهُ أحد،
حتّى أنا لا أعرفُ مَن أكون،
لا أعرفُ وجهِي
لا أعرفُ اسْمِي
لا أعرفُ ذاتي
لا أعرفُ حتّى أنّي لا أعرفُ
أنا نسيانٌ مُطلق
حرفٌ كلّما رسمتُ شيئاً منه فوق الرّمال
أتى الماء ومسحَ كلّ أثر.
وجهي لم يولدْ بعدُ
ولم يمُت قبل
فعلامَ البحثُ والسّؤال
أنا لا أنا
أنا أنتَ يا إلهي
وانتهى الأمر!
- أنا أقتربُ منكِ، وأنتِ تبتعدين عنّي، هذا رفض قاطع يا سامية.
- متى ستقولُ لِي مَن أكونُ يا إلهي،
روحٌ واحدةٌ أمْ أكثَر؟
متى ستَرفعُ السُّتُرَ لأراني كما أنا،
صوتٌ واحد أمْ أكثر
كونٌ واحدٌ أمْ أكثر؟!
لا ثقة بعد الآن يا جدّي
فالسمُّ الّذي استُشْهِدتَ بهِ
مازال موضوعاً فوق المائدة الصّغيرة
ومازلتُ أشربُ منه كلّ يومٍ قطرة.
أنتَ رحلتَ وجئتُ بعدَكَ
وورثتُ سرّكَ
وفهمتُ الدّرسَ جيّداً:
من تظنّهُم الأصفياء
لا بدّ أن يكون بينهم على الأقلِّ خائنٌ واحدٌ
لذا لن أفعلَ كما فعلتَ؛
لن أفتَحَ بابيَ لمُتَعَرْفِنٍ واحدٍ
لن يرى شمسِي أحد
ولن أهديَ بدري السّاطع فوق رأسي لأحدٍ
كؤوس الأعداء مازالتْ تدور
واسألْ عيسى عن كأسه فوق المائدة الأخيرة
واسأل محمّداً بعدهُ
واسأل عليّاً عن السّيف المسموم
واسأل نظامًا ورابعة
عمّا فعله بهما المُتَعَرْفِنون،
آآآهٍ يا جدّي
كَفّي خارطة الكون
ولن يقرأَها أحد
كيف ونحن نموتُ بالسمّ في كلّ شيء؛
في الكُوز وفي القميص
في السّيف وفي زيت القنديل.
قلبي مرآة
وجبهتي شاشة
وأنا محطّاتُ إرسال واستقبال
والسّمُّ فوق المائدة
أشربُ كلّ يومٍ منه قطرة
فلا تستغرب يا هذا إنْ أغلقتُ بابي
فالطّارقون كُثر
ولا أحد بينهم يشبه النّجم الثّاقب
ذاك الّذي إذا ما فتحتُ له
طارَ السمُّ وطارتِ المائدة.
- أنت تبحثين عن نجم ثاقب، وأنا لستُ هذا النّجم يا سامية. وداعاً وإلى الأبد.
- انتظر حتّى نذهب للبيت معاً.
- لا، خذيني إلى الفندق الّذي نزلتُ فيه أنا ووالدي برنار. وحينما تصلين إلى البيت أخبريهم برفضكِ، وقولي لوالدي أن يلحق بي، فغداً سنغادر إلى فرنسا. أمّا الأعمال الّتي تجمعنا، فابحثي لكِ عن شريكٍ آخر يمدّك بالمعادن والأحجار الثّمينة الخاصّة بالصيدليّة.
- هذا ليس بمشكل أبداً، العالم ممتلئ برجال الأعمال الّذين سيسعدون ولا شكّ بالتّعامل مع صيدليّتي. لا تشغل نفسك بهذا الأمر. هيّا بنا إذن.

(25)

حينما علمتُ أنّ سامية قد رفضتِ الارتباط بكلود، تزلزلتُ من الدّاخل، لقد كانت تعرفُ كلّ شيء إذن منذ البداية، إنّها لم ترفض كلود وحدَه، لقد رفضتني أنا أيضاً ورفضتْ برنار، ورفضها هذا ليس له سوى معنى واحد: إنّها تقطع كلّ صلة بكلّ من جاءها طالباً ودّها عبر العالم الرّقميّ. إنّها لا تؤمنُ بهذا العالم، لا بل إنّها ليست من أرضنا هذه. من أنتِ يا سامية حقّاً وحقيقة؟! ها قد عدتُ إلى الهند ولا شيء في جبّتي سوى هذا السّؤال. رفضكِ لنا جميعاً جعلني أعيد التّفكيرَ في كلّ شيء. وهذه الخرقة الّتي لبستُها لأزيد من ثلاثين سنة رميتُها من أجلكِ، وبتُّ أهيم في الطّرقات، علّني أفهم من أنتِ. هل أنتِ قادمةٌ من المُستقبل؟ حينما قلتُ لكِ إنّكِ العارفةُ الأخيرة رفضتِ هذا اللّقب تماماً وقلتِ لي اتركِ البابَ مفتوحاً للجميع، فليس هناك شيء اسمه العارف الأوّل أو العارف الأخير. وأنّكِ ستنسحبين من كلّ مواقع التّواصل الاجتماعيّ حتّى لا يبحث عن شمسكِ أحد كما فعلتُ أنا وبرنار معكِ. وضربتِ بتجربتنا في العرفان والخيمياء عرض الحائط، وبتُّ أعرفُ من خلالكِ أنّني كنتُ كما غيري أحاولُ أن أدليَ بدلوي في كلّ بحار العلوم والمعارف، وأجد في نفسي ما يؤكِّدُ لي أو يطمئنني بأنّني أصبحتُ ذا شأنٍ ثقافيّ وعلميّ كبير. ما أشقاني يا سامية، وأنت تفتحين عيوني على كلّ عيوبي، ما الفرقُ إذن بيني وبين كلّ هؤلاء الّذين يتسابقون للظّهور في كلّ محفل ومجلس؟ لا فرق، أنا مثلهم، كنتُ قبلكِ أخافُ أن أُنْعتَ بـ "الجاهل" أو قليل العلم والمعرفة والثّقافة، ونسيتُ أو ربّما تناسيتُ أنّهُ بظهور وسائلِ التّواصل الاجتماعيّ، أصبحتِ الألقاب العلميّة تُباع وتُشترى، وكثُرَ المدّعون في كلّ شيْءٍ، لكن لا أحد من هؤلاء لديه اليوم الشّجاعةَ بأن يقول إنّه لا يعلمُ، ولا يعرفُ أو إنّهُ "جاهل". هكذا هو حال الإنسان منذ الأزل، وهو يعتقد في الجهل بالشّيء نقيصة مهما كان نوع هذا الشّيء، هذه هي مشكلته ومعضلته الكبرى. وهذا يحدثُ لأنّ الإنسانَ لم يطرح على نفسه بكلّ شجاعة ومصداقيّة سؤال الجهل أو العجز عن الإحاطة بأشياء الوجود وظواهره كاملةً. أو بمعنى آخر لم يعرف كيف يواجه سؤالَ الجهل الكبير، وإن كتبَ العلماء والفلاسفة ورجالُ الدّين في هذا الشّأن كثيراً وبكلّ اللّغات. وأنا هنا أعيد بكِ طرح هذا السّؤال العصيّ، ولا أجدُ في نفسي القدرة على التّفيْقُه والتّفلسف بشأنه، كلّ ما يُمكنني أن أقوله إنّني حقيقة لا أعرفُ شيئاً عن إشكاليّة الجهل، متى بدأت أو ظهرتْ في الوجود. هذا سرّ من أسرار الله الكُبرى وأنا لم أكن موجوداً قبل الوجود لأشهد بما رأيتُ عن الجهل. لكن هناك شيء واحد فقط يمكنني أن أقوله بكلّ ثقة وأريحيّة: أنا بعدكِ يا سامية، وبظهوركِ في حياتي ورفضكِ لثِقلي لستُ بعارفٍ أبداً، أيْ أنّني لا أعرفُ متى ظهر الجهلُ ولا متى بدأ، ولكنّني أعرفُ متى ينتهي، تجربتي معكِ علّمتني هذا، لذا فأنا أثقُ بالتّجربة أكثر من الثّقافة، وعليه فإنّ الجهلَ ينتهي حينما تبدأ المعرفةُ. والمعرفةُ هي أنتِ الّتي رفعتِ حجاب الغفلة عن عينيّ، وسمحتِ لي بأن أدركَ مرحلة الوعيِ التّجاوزيّ. وبهذا أريد أن أقولَ أيضاً إنّني الآن بكِ أصبحتُ أعرفُ متى تبدأ المعرفةُ، ولكنّي لا أعرفُ متى تنتهي، وهذا تعلّمتهُ من كلمات ربّي حينما قال إنّه وليُّ الّذين آمنوا يُخرجهم من الظُّلمات إلى النور، أيْ من الجهل إلى الوعي الكبير، وعليه فإنّ الإيمانَ رديفُ الوعي وأخُ المعرفة، إنّه النّور المطلق الّذي لا نهاية له، لأنّه إذا حدثَ للإنسان أن أزهرَ وتنوّرَ فإنّ كلّ ما بعد هذه المرحلة سيكون نوراً أبديّاً لا نكوصَ فيه. والأصلُ في الوجود الجهلُ وفيه وُلدنا جميعاً وكان سبباً في قبولنا بتجربة الحياة على الأرض لأنّ بها فقط يُمكننا أن نخرجَ من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة واليقين، هذه فرصتُنا الوحيدة. والجهلُ نارٌ وكلّنا فيها، ومن زُحزحَ عنها وأُدخلَ جنّة الوعي ويقظَةَ الرّوح فقد فازَ. أعلمُ يا من تقرؤني أنّ كلامي هذا سيجرحُ كبرياءَكَ، فأنتَ تعتقدُ إنّكَ عارفٌ والعارفُ مكشوفٌ له كلّ شيء، لكن دعني أدلّكَ على شخصٍ كُشِفَ له حقّاً كلّ شيء لكنّه لم يدّعٍ علماً ولا معرفةً حينما سُئِلَ سؤالَ العرفان الكبير، وحينمَا طُلِبَ منهُ أن يقرأ كتابَ الوجود لتعطاه مفاتيحه كلّها. أتعلمُ ماذا قال هُوَ؟ "ما أنا بقارئٍ"! إنّه محمّد فتى الصّحراء، وصاحب التّاج والمعراج، لم يخشَ أن يقالَ عنه إنّه لا يعرفُ القراءة، ولم يهمّه قطُّ رأي الآخرين فيه، ولا رأى في جوابه هذا انتقاصاً منهُ أو من حكمته ونبوّته، والمثير للشّفقة حقّاً، هو أنّ قومَه بعدهُ أشاعوا عنه أنّه أميٌّ، واعتقدوا في عدم معرفته للقراءة دليلاً على نبوّته، وتفاخروا بهذا بين الأمم، ظنّاً منهم أنه حقّاً لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة، وغاب عنهم، ومع كامل الحسرة والأسف، أنّه ما أعطى تلكَ الإجابة وهو في مقام قراءة كتاب الوجود إلّا لأنّه متبخّرُ الأنا، والأنا حينما تتبخّرُ يتنوّرُ القلبُ، والقلبُ حينما يتنوّرُ، يخرجُ من الظّلمات إلى النّور، وبالخروج من الظّلمات يتزحزحُ الإنسانُ عن النّارِ ويدخلُ في الجنّة بشكل آليٍّ ويُصبحُ وعيهُ تجاوزيّاً وتُكشَفُ لهُ العوالمُ. وليس كلّ الأنبياء ولا كلّ الأولياء كمحمّدٍ، والكثيرُ منهم فشلوا في سؤال القراءة هذا، أو سؤال المعرفة، أو سؤال التّواضعِ، هكذا أحبُّ أن أسمّيهُ. ما أجملَ أن تقولَ: لا أعرفُ. ليس في ذلك أيُّ عيبٍ، وهذا ليس جهلاً بالمعنى المتعارف عليه، وإنّما نقاء وبراءة، بهما فقط يمكنكَ أن تبلغَ المُطلق، وتفهَمَ أنّ السرّ يُعاشُ ولا يُعرَفُ، وحتّى إن عشتَهُ وذقتَهُ فإنّهُ يبقى في كلّ الأحوال سرّاً! وقد فشلَ كلود في امتحان العاشقيْن وهو في حديقة كتابِ النبيّ إدريس لأنّه كان يريد أن يقفز على الأسرار كلّها، ويمتلكَ سامية باِسم الحُبّ والزّواج. ولكنّ سامية ليست لأحدٍ، إنّها لعَالَمٍ لمْ نصلْ إليهِ بَعْدُ، وجنانٍ لم نكتَشِفْهَا بعدُ، لأنّها محاطة بحجابٍ سريّ يجعلُها تختفي عن الأنظار. كلُّ الجيوشِ مرّت بالقُربِ منها، لكن لا قائدَ في عينيْه نورٌ يراهَا بهِ. وسامية ابنة هذه الأرض الّتي يحرسُها أكثر البشرِ سموّاً وتطوّراً. والمراقبُ الصّامتُ، إمامُ العصر النّجم الثّاقب، يقبعُ هناكَ في مجلسه، وعجلة الزّمان على يمينه والمياه البِيضُ على يساره، ينتظرُ وصول حبيبته وحبيبتنا كلّنا: سامية، عارفة أخيرة ترفضُ كلّ الألقاب والصّفات، وتفضّلُ أن تبقى بعيدةً محجوبة عن الأنظار لتحرسَ بكلّ عشق ومحبّة بذورَ البشريّة الجديدة في الأرض المستقبليّة بيْن سطوع ومغيب شمسِ يومِ النّفَسِ الكبير.



انتهت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب