الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دوستوفسكي مقامر يبدع من أجل تسديد ديونه

عزيز باكوش
إعلامي من المغرب

(Bakouch Azziz)

2023 / 3 / 13
الادب والفن


في عام 1864 نشر شاب روسي نبيه وذكي وثوري للغاية رواية أسماها " رسائل من العالم السفلي" ورغم أنه كان يعاني من مشاكل صحية ناتجة عن مرض "الصرع" ورثه عن والده ، فإن الشاب كان يمتلك قدرات عالية في التحليل الفلسفي ،والنظرة الثاقبة للأشياء . لقد كان أحد أهم الأصوات الأدبية المقروءة والمسموعة في روسيا القرن التاسع عشر
وقد ساهمت حالة العوز المادي في تدهور حالته الاجتماعية ، لا سيما بعد أن زج به في المعتقل ، وصدر في حقه حكم بالإعدام بسبب نشاطاته المعارضة المكثفة، وانتمائه إلى تجمعات سياسية ثورية مناهضة للحكم القيصري ،لكنه حصل على العفو في أخر لحظة ، وتم تغيير الإعدام إلى النفي أربع سنوات إلى سيبيريا . وهناك في منفاه السيبيري الخانق سيسجل أدق تفاصيل معاناته النفسية وأطوار حياته المأساوية البالغة القسوة ،ضمنها بروعة فائقة التصور في روايته الملهمة "منزل الموتى" التي نشرها عام 1861.
ورغم أن هذا الشاب الروسي كان غاية في الذكاء ومثال يحتذى في التفوق بين أقرانه وخريج كلية الهندسة ،إلا أنه لسبب ما ،كان يكره الخدمة العسكرية التي سيجبر لاحقا على أدائها بعد تخرجه من الجامعة مباشرة . فقد كان فيودور دوتسوفسكي مشاغبا وله قدرة على المواجهة والتحديات ، فالأفكار عند دوتسويفسكي ﺗﻨﺸﺄُ ﻣﻦ ﺍﻷﻟﻢ، ﻭﺍﻷﻟﻢ ﻳﻨادي للأفكار ويستدعيها ، ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺳﻌﻴﺪﺍً، ﻫذا ﻳﻌﻨﻲ ﺃﻧﻪ ﻟﻢ يستعمل فكره بل لم ﻳﻔﻜﺮ على الإطلاق فالاستياء من واقع ما ليس أكثر من فعل تطهير ووعي لاذع ومؤلم
وفي نفس الوقت وياللمفارقة ،كان مدمنا على القمار ومهوس بالرهانات بشكل خطير للغاية . ولعل هذا ما كان سببا رئيسيا في تدهور حالته المادية بشكل لافت . وكما هو شأن العباقرة الملهمين . فقد استطاع أن يجعل من هذا الوضع النفسي الاجتماعي البئيس حافزا من بين أكبر الحوافز على الخلق والإبداع الأدبي . بل كان السبب الرئيسي الذي دعاه إلى كتابة روايته الملتاعة " المقامر" وهي رواية بإجماع النقاد والمهتمين بالأدب ،صورة نابضة تعكس تقلبات وويلات المجتمع الروسي جراء الاضطرابات السياسية والاجتماعية في القرن التاسع عشر علما أنه كان قد كتب روايته المقامر تحت ضغوط معينة ، لعل أبرزها سداد الديون المتراكمة عليه. وقد نجح في ذلك إلى حد كبير .
ولعل هذا الجانب المشرق في حياة دوتسوفسكي هو ما دفع باليونيسكو اعتماده عام 2021 عاما للأديب والروائي الروسي فيودور دويتسوفسكي (11 نونبر 1821-9 فبراير 1881) . احتفاء بالذكرى المئوية الثانية لميلاده . وهو تقدير واحتفاء كوكبي بالغ الأهمية، وتثمين عال لنموذج في الإبداع ليس للقراء في روسيا وحدها فحسب ،وإنما للمولوعين بالأدب والحياة في العالم كله .

في روايته "رسائل من العالم السفلي" يقدم لنا دوتسويفسكي صورة من الحياة الروسية في نهايات القرن التاسع عشر، حقبة سوداء بالنسبة للكائن المثقف ، أو بالأحرى صنف من المواطنين الذين وإن كانوا يتوفرون على مؤهلات معرفية عليا ،وشكل اعتباري مميز في الهرم الاجتماعي ، كأساتذة جامعة لكنهم يعملون في وظائف عادية، كي يؤمنوا قوت يومهم ، في حين أن إدراكهم ووعيهم بذاتهم وبالمحيط والحياة من حولهم أكبر بكثير من العمل الذي يزاولونه . إنه التجسيد المريع للإنسان البطل، حينما يأتلف اليأس الإيمان باليقين أنصاف قيم ،تستنزف عقل الإنسان الواعي لتنتج وعيا مختلفا عن محيطه العادي. "وعيا يجعله هو نفسه بين الحقد والمحبة، يعيش التيه، بحثا عن سبيل يصـل بـه إلـى النور في آخر نفق عتمة النفس." هو كذلك الوعي المفرط مرض العصر المستمر برأي المترجم د نداء عادل "الوعي الذي يجعل البعض يبتكرون مغامراتهم الفردية، ويعيشونها بطريقة مختلفة، ويخرجون منها أيضا بنتائج مختلفة. المغامرة هنا هي مغامرة ، انتقام، ولكن هل يحدث الانتقام حقا أم أن الوعي ينتصر، ولا يضرب البطل رأسه في حائط كي يهدأ الثور الهائج بداخله؟أم أنّه يختار أن يكون الجاحد على قدمين ؟؟ "

عندما نقرأ لدوتسويفسكي في هذه المرحلة بالذات ، نعرف للوهلة الأولى نظرة البطل الحقيقية لذاته والعالم من حوله ، نظرة يؤطرها اليأس ويرعاها الأمل في تحد الأقوى في مواجهة الحياة لطاقة الإنسان. ندرك كيف يصير المال ضروريا ودينامو حياة ، ومحرضا في الآن نفسه ، وسيأسف لما قد يفعله الانتقام به أو بواسطته من فظاعات . نعرف أيضا كيف يعالج البطل مشاكل "ليزا " تلك الشابة اللطيفة والجذابة التي تعرف عليها ذات صدفة في إحدى الغرف الرثة ، وقد سقطت بريئة في العالم المظلم لبطرسبورغ، وظلت تحلم بالخروج منه دون جدوى . إن البطل هنا يتقمص دواخل الناس ليتحدث باسمها ومن خلالها ،كما لو كانت هي الحقيقة إنه يقرأ فنجانها الباطني برجاحة حكماء النفس وعقلائها . يستقرئ ما يعج به دواخل الناس، يستبطن آلامهم وأحلامهم ، يستبئر أحاسيسهم بقساوتها والحميمة . ليرسمها واقعا اجتماعيا مريعا بذهول لا يصدق .
يتبدى ذلك أكثر وضوحا في الحديث مع " ليزا " التي خصص لها فصلا كاملا . كما لو أنه محلل سيكولوجي وهي مريضة تحت التنويم ،يتقمص شخصيتها من الداخل " على الرغم من أنني لا أصر على التأكيد أنها فهمت كل هذا بشكل واضح ،لكنها بالتأكيد فهمت تماما أنني كنت رجلا حقيرا ، وماهو أسوأ من ذلك غير قادر على حبها " لنتمعن حواره الداخلي مع ليزا من دون أن تنطق هي بكلمة واحدة " وأخيرا لا حظت أنها تحبني وتحبني بشغف . وصرت أتظاهر بأنني لا أفهم لا أعرف على الرغم من ذلك لماذا أتظاهر؟ ربما فقط من أجل التأثير . وكنت أعتقد أنها في النهاية رغم كل الارتباك والتغيير والارتعاش والبكاء سوف تقذف بنفسها تحت قدمي وتقول إنني منقذها وأنها تحبني أكثر من أي شيء في العالم " وسأظهر لها انني مندهش وأقول " ربما كنت الوحيد الذي تخيلت أنني جبان وعبد . وقد تخيلت ذلك فقط لأنني كنت أكثرا تطورا . ثم يضيف متقمصا مشاعرها "لكن ليزا هل تتخيلين أنني لم ألاحظ حبك . لقد رأيت كل شيء. لقد كرست لك كل شيء. لكنني لم أجرؤ على الاقتراب منك أولا لأنني ذا تأثير عليك .وخشيت أن تجبري على ذلك تعبيرا عن الامتنان أو حتى استجابة لحبي ...لكن الآن أنت ملكي أنت من تكويني أنا أنت نقية وصالحة .أنت زوجتي النبيلة . لكنه سرعان ما يسخر من نفسه لقد بدا له الأمر مبتذلا في النهاية .

عندما تقرأ لدوستويفسكي، فاعلم أن رأسك سيمتلئ بالدخان . وستشعر للتو أن أجنحة مسوخ غير مرئية ترفرف في سمائك الدنيا لتوقظك وتثير وعيك ،ليرتفع منسوب البؤس والحقد أمام عينيك المفتوحتين على مصراعيهما . فتتفحص الأشياء والوقائع والناس بفضول وأصرار ، وبنظرات باردة ،ومتجهمة وانتقامية في الآن نفسه . ثم ما تلبث أن فترى العالم، كما لو كان فندقا رخيصا كل الغرف فيه مظلمة تماما ، ومنافذها ضيقة ،بسقوف خفيضة وأجساد ملتوية، وشموعها تشرف على نهايتها وسط ضباب ورقص ونجاسات. فيما عليك أخذ الكثير من الوقت والمال والأوهام لا سترجاع نص وعيك كاملا .
وإذا كان البطل بمزاج انتكاسي ، فلأنه يلوم المجتمع، فينسب إليه ذلك الشعور بالغرور غير المحدود الذي يجتاحه ، وتلك المعايير العالية التي حددها لنفسه، فينظر اليها بسخط عارم بكراهية مثيرة للاشمئزاز . إن البطل في العوالم السفلية يتفوق على نفسه بشكل مذهل ،عندما يحتقر بعض من يقابلهم من الشخصيات الماكرة والمارقة في المجتمع ، لكنه في الوقت نفس يعترف لهم بالتفوق ،تواق إلى الارتقاء نحو الرعب . حساس بشكل مرضي. فالرجال في عصره كان يراهم جميعا أغبياء جهلة ومتشابهين مثل قطيع من الأغنام .

يحضر الألم النفسي والجسدي مثل أي شيء مركزي متجسد بقوة في حياة البطل . فإن هذا الكائن الأليم استطاع بدهاء ملهم أن يتصالح مع آلامه ومتاعبه ، بالسخرية منها تارة ، أو الاستيطان داخل حبكتها الدرامية باغتراب بعيد عن السخافة قريب من المتعة المبتكرة . ودوتويفسكي على هذا الحال مثل ساحر يبهر ، ويستخرج من الأشياء والمواقف بمكر ذكي للغاية ابتكارات لا تكتفي بمساعدته على مواجهة متاعب العالم ،وإنما التغلب عليها بمتعة جذابة .

في الترجمات العربية للنص الأصلي للرواية " NOTES FROM UNDERGROUN يلاحظ القارئ صيغا مبتكرة تحاول تقريب المعنى بشكل يبدو أكثر وضوحا مثل "رسائل من العالم السفلي " رسائل من تحت الأرض" وكلها محاولات تستشف البعد الرمزي للعالم الخفي والمظلم في النفس البشرية ،هناك حيث تترادف المفاهيم وتتناسل دلالاتها ومعانيها في محاولة لفهم بريء للمعنى ،لكن الحمولة النابضة بأسئلة الوجود تبقى لافتة . لدرجة يمكن الوثوق بتماهيها الكوني والإنساني المشترك . أليس ثمة من يقول أن هذه الأفكار والتساؤلات الوجودية كان لها تأثير على بعض الفلاسفة الأوروبيين لعل أقربهم الفيلسوف الوجود بول سارتر .وهو هنا على قدر كبير من الوثوقية ؟

هكذا نجد البطل يقول "إن حياة الإنسان المألوفة ،لا تتطلب منه أكثر من إدراك الإنسان العادي، أي نصف أو ربع الإدراك الذي يتمتع به الإنسان المثقف في هذا القرن "لقد تعودت دائما يقول البطل ذاته أن أجد نفسي محاطا بمشاكل ليس لي ذنب فيها حياة لا يمكن للذكي فيها ان يكون شيئا خطيرا، وأن الأحمق وحده هو الذي يمكنه أن يكون أي شيء " . ويضيف البطل متسائلا "ترى ما الذي يستطيع أن يتحدث به الإنسان السوي ويحس بأعظم المتعة ؟ ويأتي الجواب سريعا : أن يتحدث عن نفسه " وفي حديث أخر ، يقسم البطل أن شدة الإدراك مرض - مرض حقيقي "فيقول " إنني مقتنع تماما بأن الإدراك الشديد، أو أي نوع من الإدراك، هو في الحقيقة مرض "


يظهر البطل كما لو كان من الصعب عليه أن يجلس وسط الفظاعات مكتوف اليدين، لذلك يعبئ طاقته القصوى كي يحرض على الإكثار من محاولات تحطيم وكسر القيود التي تشل حركته وتقتل طموحه وتميت الحب داخله . حتى أنه يقول " لقد خلقت لنفسي بعض المغامرات، واصطنعت حياة ما، لأنني كنت أريد أن أعيش بأي طريقة، وكم كنت أتضايق وأنزعج بدون سبب لذلك "قد حاولت مرة، بل مرتين في الحقيقة، أن أحب ،وأؤكد لكم أيها السادة أنني عانيت الكثير ، ولم أكن في أعماق قلبي أؤمن بعذابي ذلك، وإنما كنت أسخر منه سخرية ضعيفة، بيد أنني كنت أعاني بالفعل، وكنت أتعذب عذابا حقيقيا، وكنت أغار "ويلمح بإيعاز عاطفي مشلول "يحق لي أن أعيش مرتاحا ،وأن أموت كريما، وتلك أمور أخاذة فاتنة جدا "
لكن بمجرد الانتهاء من قراءة الرواية ، ستكتشف أن " الإنسان يميل إلى النظم والنتائج المنطقية إلى درجة أنه مستعد حتى لتشويه الحقائق عمدا، ولإنكار ما تشعر به حواسه من أجل تبرير منطقه "وقد يقوده الملل إلى أن يفعل أي شيء طبعا، لأن الملل يصوره دوتسوفسكي كما لو كان ذلك الشيء الذي يدفع المرء إلى أن يغرز الدبابيس الذهبية في أجساد الناس "و أن الإنسان ليس مجرد أحمق وكفى ، وإنما هو ناكر للجميل إلى درجة لن تجد له مثيلا في الخليقة ، ولعل الجاحد هو أفضل توصيف يجده دوتويفسكي لهذا الكائن الذي يسير على قدمين .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى