الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متلازمة بْرُوتيه Proteus Syndrome قراءة في عوالم هرفيه بازان

عبد الله خطوري

2023 / 3 / 14
الادب والفن


(سيكون للسيدة روزو هواية كبيرة بالإضافة إلى تربيتنا:وهي جمع الطوابع. ولم أكن أعرف لها، بآستثناء أولادها، إلا عدوين: العث والسبانخ.ولا أعتقد أنني أستطيع أن أضيف شيئا إلى هذه الصورة، إلا أن لها يدين عريضتين وقدمين عريضتين كانت تجيد آستعمالهما.وان ما أنفقته أطرافها من كيلوغرامات في آتجاه خدي وفخذي يطرح مشكلة هامة في تبديد الطاقة)(١)
هي شذرة وصفية من بين أخرَ جادت بها قريحة الطفل Jean Rezeau آتجاه أمه التي بالكاد تعرف عليها..من المفروض أن يحبها..ذلك ما تقوله قوانين الطبيعة وعلاقة القرابة الدموية وأعراف الاجتماع العائلي لدى الإنسان؛ لكن العكس هو الذي حدث..فأين آلمشكلة...

(الأفعى في قبضة اليد/Vipère au poing )رواية للفرنسي هرفيه بازان، كتبها عام ١٩٤٨ من بين رواياته كذلك :
_(الرأس أمام الجدران ) 1949م،
La Tête contre les murs
_ (قم وامش) 1952م،
Lève-toi et marche
_(الزيت فوق النيران) 1954م،
L Huile sur le feu,
_(ما أجرؤ أن أحبه) 1956م
Qui j ose aimer
_ (بآسم الابن) عام 1958م
Au nom du fils
_(نيران تخمد نيرانا أخرى) 1978م،
_( السيدة وايكس) 1974
Madame Ex وغيرها من الأعمال السردية...

يمكن القول إنها رواية عن العائلة بآمتياز، من خلال تيماتها الرئيسة وأجوائها ومشاكلها النفسية والاجتماعية التي تقاربها عبر هذه المؤسسة عبر مسارها السلالي التاريخي ليضع الكاتب لحظته الراهنة(طفولته بداية القرن العشرين)محطة للاستغوار وسبر تشنجات العلاقة التي تجمع الطفل بأمه بعد أن كان مرتبطا بجدته التي رحلت برحيل فترة زمنية من تاريخ فرنسا العائلي، مما يضعنا أمام متغيرات سريعة جعلت تؤشر على واقع فرنسي جديد على غرار ما كان تشهده ألمانيا وإنجلترا من تحولات في صلب وشكل المعيش اليومي لمؤسسة العائلة التقليدية الممتدة عبر عهود خلت، مما استوجب تحولا آخر على مستوى مقاربة الروائيين لها برؤى ووجهات نظر من زوايا مختلفة وقناعات لم تعد بأي حال من الأحوال تشبه في طريقة صياغتها مقاربات واقع العائلة التاريخي في القرن التاسع عشر عند هنري دو بلزاك في كوميديته الإنسانية ولا واقعية إميل زولا التي سماها طبيعية في تأريخه لحقب عائلة (روغون ماكار)..
يقول هرفيه بازان:(فن الرواية ليس بقدح الشاي وأنا أعتبرُ نفسي روائي الحياة الخاصة، ولذا أعتقدُ أن على الرواية أن تتركَ الديكورات السياسية والاجتماعية وتبحث لها عن عالم آخر)..
من خلال هذا الشاهد من قول الكاتب، يتضح جليا إصراره على الاختلاف الذي تفرضه الوقائع التي ترسى على بر، مما جعل المقاربة الروائية التقليدية عن العهود السابقة غير ذات جدوى، فواقع الحربين العالمتين أثرت في مفهوم العائلة كما توارثها أوروبا من عهودها السابقة، ولم يعد هناك مبرر للحديث عن رسالة فلسفية أو آجتماعية أو أخلاقية أو سياسية أو ما شابه من خلفيات و "ايديولوجيات"التي تُحَمَّلُ بها عادةً الرواية عند كتابتها..إنه يكتبُ عن حياة العائلة كما هي، بل كما يراها المؤلف عبر شخوصه وكفى..وهذا بالضبط ما أشار إليه الناقد"ألبير يس"في القسم الثالت من كتابه"تاريخ الرواية الحديثة"عند حديثه عن أشكال جديدة في الواقعية. يقول:(أما في فرنسا فقد سيطرت، اعتبارا من عام 1948 الحادثة اليومية والكتابة اللاذعة والتحقيق الصحفي ضِدَّ رواية التأمل والوضع البشري والبحث الجَمالي أو الأخلاقي. "فهرفه بازان" و "روجيه بيروفيت"و"فرنسواز ساغان" اعتبروا الأدبَ تعبيرا وصفيا للحياة وفرضوا أنفسَهم على جمهور أتعبته الروايات المُسمَّاة بالروايات الفلسفية أو الآثار الملتزمة.ولقد أعلن"هرفه بازان"أن لا شيء غير الحياة في الحياة وفي الكتابة حين أخذ على عاتقه الإشراف على سلسلة من الكتب.وبينما كانت الرواية في الماضي بين أيدي المفكرين والمتأملين والمغامرين والمُعلمين المربين، تراها اليومَ قد انتقلت الى أيدي الصحفيين أو كُتَّاب التحقيقات الصحفية)(٢)
في روايته":"الرأس أمام الجران"يقدم (بازان)كتابةً واقعيةً لحياة واقعية عادية قريبة لِمَا يُعرفُ بأدب الشطَّار والمزاج المتغير كآلحرباء(ميكانيزم دفاع!!)مثلما آنتشر عند المغاربة في كتابات من شاكلة يوميات محمد شكري(٣)التي جمعها بآختزال وآختصار بين دفتي كتاب وأسماها رواية تتتبَّعُ أحداثا من سيرة ذاتية عاشها صاحبها وحكاها بلغة أقرب الى اللسان الدارج المغربي، دون تأمل أو منولوجات أو تداعيات أو وصف إيحائي أو ماشابه من التقنيات السردية التي تُوَقِّفُ الزمن السردي لتدعَ المجال لمحكي آخر من نوع آخر لم يكن محمد شكري ليتقنه نتيجة ظروفه الاجتماعية والثقافية القاهرة..إن أثر كتابات"بازان" و"فرنسواز ساغان"وغيرهما (سِيلينْ مثلا) بادية للعيان في مثل هذه المحاولات التي تتوازى مع الواقع وتحاول أن تحاكيه كما هو..إن بازان يقدم راويَه في صورة طفل يروي تصوره لما عايشه في عائلته، خصوصا علاقته المرتبكة بوالدته المسماة Folcoche فُولكُوش(٤)التي يبدو أنها لم تك تحسن معاملته، لِما تتميز به من برود عاطفي غير عادي ومزاج عصابي (٥)كسر تلك الصورة النمطية التي ألفنا قراءتها في الروايات الرومانسية والواقعية.. الأم هنا ليست مدرسة تعلم مكارم الأخلاق ولا منبع العطف والحنان، ليست(أم سعد)غسان كنفاني أو أم ماكسيم غوركي أو فونتين فيكتور هيجو في أشقيائه أو السيدة أمينة ثلاثية محفوظ أو حتى تلك العاشقة المتصاببة في(الأحمر والأسود) لهنري بيل ستاندال، أو أم طفل محمد شكري في خبزه الحافي التي يعنفها الأب ويمارس عليها وعلى أطفالها سادية واقع قاهر لا يرتفع ولا أم عُمَر"عَيْني" المتفانية في خدمة أولادها بصبر ونكران ذات في دار السبيطار ثلاثية أحمد الديب..ليست أم بازان تلك الأدوار التي كنا نتلقاها عبر تشخيص أمينة رزق الحادب الهادئ الوديع في المسلسلات والأفلام المصرية ولا أدوار سعاد صابر المغربية..لم تعد الأم هنا أما رَؤوما بخلفية صوفية مسيحية تجليا للأم الكبرى القديسة التي تتجلى للمؤنين في رؤاهم.. لم تعد رمز عطاء أو حنان أو تضحية أو رعاية أو محبة، بل هي نقيض من كل ذلك؛ الشيء الذي خرق أفق آنتظار القراء الفرنسيين وآنزاح عن تلقيهم التقليدي دون أن يؤثر سلبا في منسوب القراءة لديهم، إذ شهدت الرواية إقبالا منقطع النظير من لدن الفئة العريضة من الفرنسيين والفرنسيات الى درجة آعْتُبِرَ الكتاب بيستْ سيلير في وقته لما حققه من أرقام قياسية في سوق المبيعات، الشيء الذي جعل بازان من أكثر الكُتاب متابعة في عصره..ان الأحداث هنا عائلية بسيطة يومية لا قيمة رمزية أو إيحائية أو دلالية تحملها. انها أحداث تقع وكفى..وما على الرواي إلا روايتها ببرودة دم وتقديم شهادة إزاءها كما في رواية:(الأفعى في قبضة اليد)التي تحكي مشاهدَ من الحياة الريفية الفرنسية بلسان الشخصية الرئيسة نفسها ودون واسطة راوٍ غير مُمَثَّلٍ في الحكي..لا شيء مهم في عالم "بازان"سوى حياة هذه الأسرة البورجوازية في مشاغلها وهمومها اليومية ولا جدوى من سرد التفاصيل كي تَظهر معالم الأفكار..كل شيء مُختزل في حادثة أو حوادث تقع كل يوم ومروية بوجهة نظر شخصية غير مُحايدة تُصْدِرُ أحكامها خامة كما هي دون تقويم على الشخصيات وتُبدي وجهات نظرها اتجاه الأحداث..فلا موضوعية ولا علمية في الوصف والسرد.. بل الذي يفرض نفسه هو الحضورُ الواضح للمِزاج والذاتية والأحكام المُسبقة..ان الشخصيات لا نَتعرَّفُ عليها الا من خلال المتكلم في الرواية..لقد كَفَّتْ الرواية مع بازان وأمثاله عندنا في العالم العربي أن تكون نموذجا لأي شيء..انها رواية غير مُفجعة كما عند دوستويفسكي ولا تتحدث عن وضع بشري أو إنساني كيفما كان، كما هو الشأن عند الفرنسي"أندريه مارلو"في الوضع الإنساني، ولا تهتم بالحمولات الاجتماعية أوالسياسية أو..غيرها..فهي باختصار تحقيقٌ صحفيٌّ له جاذبيته وجماليته الخاصتيْن به، يُقَدِّمُ تجربةً إنسانيةً مُختلفةً عن تجربتنا، قد نتفق معها أو لا نتفق، هذا ليس مُهما، لكن الأهم كونها تجربة خاصة في عالم خاص لا ينفكُّ يفاجئنا يوميا بخصوصية فارقة نلهثُ في اللحاق والإمساك بتلابيبها دون جدوى..إنها خصوصية التغيُّر الدائم التي هي سِمة آلمخلوقات القادرة على التكيف والتأقلم وما يحيطها من تحولات قاهرة، ولَكُمْ أن تتذكروا ما أنجزه التيتار ذلك الكيان الهش من أجل أن يستمر في الوجود في الوقت الذي آستسلمت فيه أعتا المخلوقات لأقدار الثبات ظلت رهينة معيشها المتوارث فهلكت..الإنجاز الذي قامت به روايات"بازان" وغيره..أنها استطاعتْ أن تنجزَ عَمَلَ التيتار في عصور الديناصور بفطرة وسليقة وموهبة "بروته"في الأسطورة اليونانية..ذلك الإله البحري(أسْرَة بوسيدون..العائلة مرة أخرى..)الذي تلقى من والده"نيبتون"هِبَةَ النبوءة ولكنه كان يرفض التحدث والكلام.اختار عوالم الصمت، ولكي يفرَّ ممن كانوا يتابعونه بأسئلتهم فقد كان يُغَيِّرُ شَكْلَه كما يشاء..لقد أثبتَتِ الروايةُ مع بازان وغير بازان مَقدرتها على التغييير بمسايرة الطبائع المستجدة وأمزجة الاستهلاك القرائي وميولات أجيال جديدة من الفرنسيين لا علاقة لهم تاريخية أو ثقافية أو ذوقية بالالياذة والأوديسة وجحيم دانتي والحرب والسلم وأزمنة بروست غير المستعادة؛ مع محافظتها على جوهر العملية الإبداعية ذلك النسغ المتوارث في جينات العائلة التقليدية التليدة التي من أجل آستمرارها كمؤسسة وقيمة عليها أن تبذل جهدا لتتكيف والظروف المستجدة وتظل كيانا قويا متحول الشكل ثابت الأصل والجوهر رغم كل هذه السنوات من التراكم الكمي والنوعي في عوالم التعالقات الاجتماعية للاسرة ومقاربات السرد الحكائي والروائي لها..في آنتظار أن يعجز"بروته"عن تغيير شكله يوما ما...

☆إشارات:
١_صفحة ٣٩ رواية(الأفعى في قبضة اليد)هرفيه بازان/عن مؤلف تاريخ الرواية الحديثة/صفحة ٣١١/القسم الثالث/ الفصل الخامس عشر/

٢_صفحة 307 و308 من كتاب"تاريخ الرواية الحديثة"ألبير ياس..ترجمة جورج سالم/منشورات بحر المتوسط و
عويدات بيروت باريس/الطبعة الثانية 1982

٣_ من أقوله"أنا إنسانٌ عاش التشرد وأكل من القمامة فهل ينتظرون منِّي أن أكتُبَ لهم عنِ الفراشات"...

٤_Folcoche:يتكون الاسم من كلمتين:(Folle)و(Coche) الأولى تعني معتوه والثانية تعني خنزير، ولا يخفى ما لهذا الاشتقاق الغامز من دلالة قدحية تعكس كراهية الابن الصغير لأمه نتيجة سوء معاملتها له.

٥_بعد ذلك سيصرح بازان في إحدى حواراته التلفزية أنه لم يبذل مجهودا لفهم والإحساس بأمه، بل حتى في مراحل نضجه النفسي عند كتابته الرواية لم يظهر الجانب الآخر من هذه الأم وآقتصر على التركيز على الأعراض العصابية التي يبدو أنها أدمنتها كمرض مزمن نتيجة إصابتها بالتفوئيد أثر أيما أثر على قدرتها العقلية المسؤولة عن برود عاطفة الأمومة لديها...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هو اكثر شيء يزعج نوال الزغبي ؟??


.. -احذر من صعود المتطرفين-.. الفنان فضيل يتحدث عن الانتخابات ا




.. الفنان فضيل يغني في صباح العربية مقطعا من أحدث أغانيه -مونيك


.. مشروع فني قريب بين الفنان فضيل وديانا حداد وجيبسي كينغ




.. أغنية -عبد القادر- بصوت الفنان فضيل في صباح العربية