الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الاستثمار في تنمية الميليشيات إلى استثمار عديدها في التنمية الاقتصادية

حسن خليل غريب

2023 / 3 / 15
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان في العام 1975، واستناداً إلى تجربة شخصية عيانية، وإلى استنتاجات وطنية عامة، توصلنا إلى رؤية نظرية خلاصتها التالي:
-لا سلاح يجوز أن يكون خارج سلطة الدولة متمثِّلة بالجيش الوطني، والمؤسسات الأمنية الأخرى.
-التمييز بين السلاح الذي يُستخدم في الحرب الأهلية، والسلاح الذي يُستخدم في مقاومة العدو المحتل.
-والحل بالنسبة للسلاحين، هو التنازل عن ملكيته لمصلحة الدولة بعد أن تنتهي وظيفته.
وإذا اعتمدنا هذه المبادئ، يعني أن دور حاملي السلاح ينتهي ويبدأ دور الدولة، والتي بدورها تقوم بتأهيل عشرات الآلاف من هؤلاء الشباب للقيام بوظائف التنمية الاقتصادية. ولكن للأسف لم يحصل هذا الأمر، لأن أمراء الميليشيات أصروا على الاستثمار بـ(تنمية ميليشياتهم عدداً وعُدَّة) للاستثمار بهم سياسياً في الداخل، وتجنيدهم للاستقواء بواسطتهم مع الخارج.
إن خلاصة القول، وبعيداً عن الغرق في متاهات من هو الذي كان السبب في إشعال الحرب الأهلية في لبنان منذ العام 1975، والتي لم تنته فصولاً حتى اتفاق الطائف في العام 1989، لأن لهذا مكان آخر، يهمنا التأكيد على الرغم من أن ذلك الاتفاق قد جاء بقرارات أخرى تضع لبنان على سكة الحل الطويل، فكان قرار إلغاء الطائفية السياسية من أهم تلك القرارات. لكن من وقَّع ذلك الاتفاق أو من رعاه، كان في وادي (نظرية جميلة) وأما النية على تطبيقه فكانت في وادٍ آخر.
وأما النتيجة، ولأن مؤتمر الطائف جاء ليعالج ذيول الحرب الأهلية بين أمراء الحرب، ولأن تنفيذه كان بعهدة النظام السوري. ولأن النظام السوري كان يأمر وينهي، يأتي بمن يشاء منهم إلى السلطة، ويُنهي من لم يأتمر بأوامره، فقد حملت وقائع التنفيذ أخطاء كثيرة، ولعلَّ من أهمها أنه بدلاً من اختيار الأكثر كفاءة ونزاهة، فقد أتى بأمراء الميليشيات التي شاركت في الحرب، وخاصة تلك التي قدَّمت للنظام المذكور خدمات جُلَّى في حينه.
كانت المراهنة على أن يتحوَّل أولئك الأمراء إلى رجال الدولة، ولكن المراهنة كانت عبثية، إذ بدلاً من الارتقاء من المنهج الميليشياوي إلى منهج إدارة شؤون دولة، فقد حكموا لبنان على قواعد وأسس ميليشياوية، فتحوَّلت مؤسسات الدولة إلى مؤسسات ميليشياوية يتقاسمها الأمراء حصصاً فيما بينهم.
بين هذا التحول وذاك، أصبح أمراء الحكم بعد الطائف، هم أمراء الميليشيات أنفسهم، يعملون لتوظيف أجهزة الدولة لخدمة أتباعهم من جهة، وخدمة مصالحهم الشخصية من جهة أخرى. وحولوا ميليشياتهمم إلى أحزاب منطوية على نفسها، لا يمكنها أن ترى أي إنسان آخر، إذا كان خارج صفوفها. وأصبح الهاجس عند النخب الفوقية في تلك الأحزاب أن يحافظوا على عشرات الآلاف بين صفوفهم، من أجل أن يشكِّلوا حاضنة شعبية لهم يوظٍّفونها لإعادة انتخاب ممثليهم في المجلس النيابي.
وبهذا المنهج في إدارة الدولة، تحوَّل الحكم إلى تنمية الميليشيات الخاصة، سواءٌ المسلَّحة منها أم كانت غير المسلحة. يشدُّون عصبهم الطائفي بإغراءات كثيرة، أيديولوجية ومادية. ومن خلال زرع أنصارهم في شتى مفاصل مؤسسات الدولة، فقد استثمرت تلك الأحزاب أو الحركات أو التيارات، مرافق الدولة ومؤسساتها وحوَّلتها إلى بؤر من الفساد والسرقات لتكديس مزيد من الثروات المنقولة وغير المنقولة.
وإذا كانت وجوه الفساد موضوعاً مستقلاً، فلها مجال تفصيلي آخر يخرج عن صلب موضوعنا، إذ تكفي الإشارة إلى تأثيره الكبير في تحويل الأحزاب الطائفية إلى دويلات داخل الدولة، يتقاسمون مواردها على قاعدة الـ(6 و6 مكرَّر). وبدلاً من أن تهتم الدولة بمصالح المواطنين، فقد حوَّلتها الحركات الميليشياوية إلى أداة تهتم بمصالح تلك الميليشيات، خاصة أنها راحت تعتني بتنميتها عدداً وعدة. وكلما ازدادت أعدادها يزداد مؤسسوها تأثيراً وسطوة بالاستيلاء على الدولة في الداخل، كما على صعيد بناء علاقات التحاق بالخارج.
ولكن ما تجدر الإشارة إليه هو خطورة تأسيس ميليشيات انتخابية، أو ميليشيات طائفية تستقوي بها قيادات تلك الأحزاب والنخب المتقدمة منها. وهي بلا شك تشكل أسوأ ظاهرة في تاريخ لبنان بشكل خاص، وتاريخ الدول في العالم بشكل عام.
وإذا كنا، في مقالنا هذا، نتَّخذ من لبنان أنموذجاً، فلأنه كان الموطن الأول لولادة نظام الطائفية السياسية. وقد تميَّز بخاصَّتين أساسيتين، وهما:
-أولاً: يصبُّ هذا النظام في مصلحة النخب الطائفية، انتقلت بمرور الزمن من طبقة الإقطاع التقليدي إلى طبقة الإقطاع الطائفي السياسي.
-ثانياً: تلك النخب كانت ولا تزال تستثمر بقواعدها الموالية لها ببناء علاقات استقواء مع الخارج.
بين تاريخية الولادة وراهنيتها كانت القاعدة الشعبية الواسعة، الحاضنة لهذا النظام، هي محور اهمامنا. وكانت النتيجة التي نبني عليها تحليلنا تستند إلى أن النخب الطائفية تستثمر ببناء كتلة شعبية تحيط بها من أجل ضمان استمرارية مصالحها السياسية والاقتصادية. وبين هذه وتلك، كان نفوذ النخب الطائفية يزداد أو ينخفض استناداً إلى مقاييس الجهل والتعصب والفقر المنتشرة في أوساط الحواضن الشعبية.
إننا استناداً إلى هذه المعايير سننتقل إلى قراءة ما وصلت إليه مسارات الطائفية السياسية في المرحلة الراهنة التي يمر بها لبنان.
لقد وصلت الطائفية السياسية في لبنان في هذه المرحلة إلى أخطر فصولها. ونستدل على هذه الحقيقة من مظاهر انهيار الدولة انهياراً تاماً على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، لنجد أن أكثر مظاهر هذا الانهيار يحدث في الأوساط الشعبية غير المرتبطة بذيول الأحزاب والحركات والتيارات الحاكمة في لبنان. لكن هذا لا يعني أن مفاعيل الانهيار تستثني القواعد الشعبية الملتحقة بالمكونات الحزبية الملتحقة بالأحزاب الحاكمة. ولكن تأثيرها كان أقلَّ بكثير مما حصل مع الآخرين، وأما السبب فلأن المنهج الميليشياوي الطائفي لا يسمح بتجويع أبنائه إلى حد الموت جوعاً وانتحاراً لأنهم لو فعلوا ذلك لانفضُّوا عنهم، وهذا يعني تدمير السلاح الذي يقاتلون به. ولهذا السبب فإن القيادات الطائفية السياسية حريصة على صيانة هذا السلاح، وإمداده بالوقود لكي تبقى عجلته جاهزة للحركة كلما احتاجت تلك القيادات لتحريكها.
بمثل هذا الواقع، فقد تحوَّلت شريحة كبيرة من الشباب اللبناني، التي تعادل بضعاً من مئات الآلاف، إلى طبقة من العاطلين عن العمل من الذين يتسكَّعون في الشوارع يملأون المقاهي، ينفقون مما تمدُّهم به تنظيماتهم من مساعدات هزيلة لا تكاد تُشبع منهم البطون. وهذا يعني فيما يعني أنهم يبقون على قيد الحياة لحراسة مصالح تلك التنظيمات. ومن هذا الواقع الأكثر مرارة، لم يقرأ أولئك الشباب مستقبلهم بشكل واضح، وإنما القصور بالتفكير أعماهم عن السؤال: ماذا لوجفَّ المال السياسي؟
بداية نحذِّر تلك القيادات الذين أعمتهم مصالحهم الشخصية من أنه عليهم أن يتخلَّصوا من أنانياتهم الميليشاوية، وأن ينظروا إلى مشكلة مستقبل مئات الآلاف من الشباب، الذين يعتاشون بما لا يزرعون، ويستهلكون ما لا يصنعون، من أنهم سوف يشكلون طوابير من الجياع بعد أن يجفَّ المال السياسي الآتي من الخارج، وبعد أن يجفَّ ضرع السرقات التي ينهبها أمراؤهم من الدولة اللبنانية.
إلى هنا، ولكي لانخرج عن قواعد كتابة مقال محدود بالإضاءة على مشكلة واحدة، والإجابة على تساؤل محدد، او فكرة واحدة، نختتم مقالنا بما يلي:
لقد استثمر أمراء الطوائف، الحاكمون بالدولة اللبنانية، المصادرون لمؤسساتها، الحامون للفساد والفاسدين، أن يعودوا إلى أخلاقيات الدين، وتشريعات بناء الدولة المدنية. ندعوهم إلى أنه يكفيهم تجارة بالبشر وبعقولهم، كفاهم حقناً بالعصبيات الطائفية، كفاهم استجداء الأكل والشرب من أموال الخارج، لأن الخارج ليس جمعية خيرية. كفاهم بطراً وأشراً، فالمرحلة الراهنة سوف تنتقل، عاجلاً أم آجلاً، إلى مرحلة المستقبل، مرحلة الأجيال الشابة الجديدة التي أخذت تقلب ظهر المجن لمرحلة التخلف الذي كانت الطائفية السياسية من أهم عوامل استفحاله.
وعن ذلك، لا يتوهمَّن أحد من أحزاب وحركات الطائفية السياسية أنه سيكون بمنجى عن حركة التغيير القادمة، مطمئناً إلى تدجين عشرات الآلاف من الشباب داخل أسوار الطاعة والإذعان، وذلك بشرائهم ببضع دريهمات. وعليهم أن يتذكَّروا أن ما يدفعونه من أجور للحشود الشابة، سوف تنقطع مصادر إمدادها ليس بالأمر البعيد.
ما تبقَّى لديهم من أموال منقولة أو غيرها، لن يُنجي تلك الأحزاب والحركات من المسؤولية والمساءلة، لأن رياح التغيير العاصفة القادمة من الداخل والخارج، العربي والإقليمي والدولي، سوف تجفِّف مصادر ما يتلقُّونه من أموال يستغلُّونها، ويستثمرون به في (تنمية أعداد الميليشيات). وعليهم أن يتذكَّروا أنه عندما (ينفخت دفُّ المال المستورد أو المسروق)، سوف يتفرَّق عشاق السحت السهل الذي يُقدَّم لهم من هنا وهناك. وعندما تفرغ خزائن المستفيدين من الاستثمار بـ(تنمية المليشيات)، سوف تبدأ المآسي الاجتماعية والمالية بشكل يثير الفزع والخوف بأكثر مما يتصوَّرون، لأنهم لن ينجوا على الأقل من لعنات طوابير العاطلين عن العمل الذين درَّبوهم على التسكع بالشوارع، وارتياد المقاهي على الأرصفة.
سوف يتذكَّر كل من استثمر بـ(تنمية الميليشيات) أنه كان عليه أن يتحلَّى بروحية الأخلاق الدينية والإنسانية، وكان عليه أن يقوم باستثمار زنودهم في شتى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، خاصة أن الأرض اشتاقت لمن يعتني بها ويستفيد من خيراتها ليأكل ساكنوها مما يزرعون. وإن تُبنى لهم المصانع ليُنتجوا ويستهلكوا مما يصنعون.
وأخيراً،
إن الاستثمار بـ(تنمية الميليشيات كماً وعدداً) كما هو كائن الآن، يعني خلق نهج من مناهج (البطالة المقنَّعة). أما كما يجب أن يكون، فإن الاستثمار بعقولهم وزنودهم، في (التنمية الزراعية والصناعية والعلمية والتربوية) هو إعادة الحياة لعشرات الآلاف من الشباب، بل لمئات الآلاف منهم، ولملمتهم من التسكع بالشوارع، لأنهم بعودتهم إلى الإنتاج عودة للحياة لهم، وبإنتاجهم تحيا بهم الأوطان.
واستناداً إلى هذه الحقيقة العلمية، ندعو من ألمحنا إليهم في هذا المقال، أن ينتقلوا بالشباب الذين كدَّسوهم في الشوارع، عاجلاً وعاجلاً جداً، من ضفة البطالة المقنَّعة إلى ضفاف التنمية والإنتاج. وانتقلوا بلبنان من ضفة النظام الميليشياوي الطائفي الذي يشتِّت ويفتِّت، إلى ضفة النظام المدني الذي يجمع ويُوحِّد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز


.. يوم الأرض بين الاحتفال بالإنجازات ومخاوف تغير المناخ




.. في يوم الأرض.. ما المخاطر التي يشكلها الذكاء الاصطناعي على ا


.. الجزائر: هل ستنضمّ جبهة البوليساريو للتكتل المغاربي الجديد؟




.. تصريح الرفيقين جمال براجع وعبد الله الحريف حول المهرجان الخط