الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطائفية بين عصبية الطائفة وتردي المجتمع

رسلان جادالله عامر

2023 / 3 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


الطائفية اليوم هي إحدى أكثر المشاكل الخطيرة التي تعاني منها المجتمعات العربية، والتي تلعب دورا كبيرا في النزاعات التفتيتية التي تدور في هذه المجتمعات.
وفي التعامل مع هذه المشكلة الجسيمة ليس غريبا أن تتعدد وتختلف المقاربات والتفاسير، فيذهب البعض إلى ربط الطائفية حصرا بالطوائف، واعتبارها مشكلة محصورة بالوضع المتردي للطوائف الموجودة التي ما تزال تحمل ثقافة طائفية متخلفة متطرفة، شديدة الانغلاق والتعصب في ما يتعلق بذاتها، ورفضية، بل وعدوانية العلاقة، في موقفها من غيرها من الطوائف والجماعات الأخرى، وفي مثل هذه المقاربة تهمل الظروف والعوامل المجتمعية الأخرى المحيطة بالطائفة في محيطها الاجتماعي، أي مجتمعها، وكأن هذه العوامل والظروف لا دور ولا تأثير لها على حال وفعل الطوائف، التي تتحول في هذا الأسلوب من التعاطي مع مشكلة الطائفية إلى ما يشبه الجزر المنفصلة في حالها وفعلها، ويصبح كل ما يصدر عنها من فعل مرتبطا بحالها الخاص، وبحثياتها الداخلية، وحسب، أي باختصار هنا تتهم الطائفة ويبرأ المجتمع، ويصبح المجتمع ضحية للطائفة.
في المقاربة الثانية يحدث العكس، حيث تتم تبرئة الطائفة وإدانة المجتمع، وتصبح الطوائف في ما يصدر عنها من أفعال وأعمال تعصبية عنصرية، هي الضحية، والمجتمع هو الجاني، وتتمثل جناية المجتمع عندها بما فيه من مشاكل وأزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، وسواها، ويضاف إلى ذلك بالطبع التدخلات الخارجية، وهنا يصبح التطرف الطائفي هو الثمرة الشريرة التي تنتجها الطوائف بفعل ضغط ووطأة الظروف المترددية في مجتمعها عليها من ناحية، ومن ناحية ثانية، بسبب وجود المستغِلين المغرضين، الذين يشكلون جزءا رئيسا من العوامل التي تفسد وتوزّم وضع المجتمع، وهؤلاء المستغلين ذوو المصالح الخبيثة، في صراعاتهم المصلحية الشرسة يستغلون الطوائف، وينمّون فيها التعصب الذاتي والنزوع إلى العدوانية والعنف في علاقاتها مع سواها، ثم يوظفونها وفقا لما تقتضيه أغراضهم المصلحية.
وكما نلاحظ فكل من هاتين المقاربتين، تتناقض مع الأخرى وتستثنيها، وببعض التأمل، يمكننا أن نجد خللا جوهريا في طريقة تفكير كل منها، ففي ما يتعلق بالمقاربة الأولى، إذا ما نظرنا إلى العلاقة بين الطائفة والمجتمع من منظور الجزء والكل، وهذا ما ينطبق على حال كل مجتمع تقليدي، لم يرتق اجتماعيا بعد ليمتلك بناه الاجتماعية الإنسانية الذاتية الخاصة، متجاوزا بذلك أطر الاجتماع التقليدية مادون أو ما تحت أو ما قبل المجتمعية، الممثلة بالطائفة والقبيلة والعرق، وما شابه ذلك من بنى، فعندها لن يكون هذا المجتمع إلا تجميعا كميا لطوائفه وجماعاته، وبالتالي فهو سيكون حالة جمع لمجموعة من البنى المأزومة بحد ذاتها، وعندها سيكون هذا المجتمع مجرد مجموع "مآزيم" أو أزمة محصلة لمجوع تلك الأزمات، ولن يكون ثمة عندها مجتمع حقيقي له وجوده المستقل، لنضعه في موضع الآخر، في الطرف المقابل للطائفة، وهذا الوجود المستقل للمجتمع، لا يكون حقيقيا إلا عندما يتجاوز المجتمع الطائفة، ولا تعود الطائفة فعليا جزءا مكونا من تكوينه وبنيته، وهنا، أي في هذا المجتمع المتطور، تنعسك الآية، والطائفة نفسها، لا تعود قطبا أو طرفا يتموضع في مواجهة المجتمع؛ لكن بين هاتين الحالتين الطرفيتين، ثمة واقعيا حالة وسطية، وهي فعليا حالة انتقالية، تكون قائمة كحالة تحول تدريجي يتم فيها الانتقال من اجتماع الجماعة، أي الطائفة والقبيلة وما شابه، إلى اجتماع المجتمع، وفي هذه العملية، يتم هذا الانتقال أو التغيير بشكل تحكمه ديناميكية اجتماعية شاملة، وتؤثر فيها كل عناصر الواقع بشكل جدلي ببعضها البعض، وهذا ما سنعود إليه لاحقا.
أما الحالة الثانية، التي يكون فيها المجتمع هو المذنب والطائفة هي الضحية، فهي الأخرى، حالة عجائبية، ومنطقيا يمكن القول أنها حالة افتراضية لا أكثر، فمرة أخرى، يمكننا القول، أنه إذا كنا ما نزال في مجتمع تقليدي، تكون العلاقة فيه وبينه وبين طوائفه وجماعاته، عبارة عن علاقة مجموع أجزاء مع أجزائه، فمن مجانبة المنطق ومخارجة العلم، الحديث عن أجزاء جيدة، ومجموع سيء، وإذا كنا في مجتمع حديث، فهو عندها سيكون جيدا بنوبيا بكليته الخاصة كمجتمع، وبما يتواجد ضمنه من طوائف، كبنى مصغرة تعكس بشكل عام الحالة الاجتماعية السائدة فيه، مع بعض احتمال أن تكون هذه البنى أفضل أو أسوأ نسبيا من المجتمع الكلي، وبالطبع، حداثة المجتمع، لا تعني قطعا الخلو من المشاكل، ومما لا شك فيه أن أية أزمة عامة تطال هذا المجتمع، هي بلا شك ستطال بأشكال مختلفة ما فيه من بنى خاصة كالجماعات الدينية وما يشبهها؛ وحالة كهذه على أية حال، لا تنطبق على مجتمعاتنا التقليدية، التي ما تزال بعيدة عن مستوى الحداثة، بالمفهوم الموسع لكلمة الحداثة، ولكن مع ذلك، فهذا لا يعني أن مجتمعاتنا منفصلة كليا عن هذه الحداثة، فهذه المجتمعات فعليا قد قطعت أشواطا تتفاوت بين مجتمع وآخر في الاقتراب من الحداثة، وبالتالي فهي مجتمعات انتقالية، ومن الطبيعي أن تمر في عملية انتقالها بفترات مد وجزر، وأن تكون هذه الانتقالية نفسها، وكما سلف الذكر، محكومة بجدلية كل العناصر الموجودة في الأجزاء الجماعاتية وفي الكل الجمعي لهذه الجماعات، وقي الشطر المجتمعي المستقل نسبيا عن بنى هذه المجتمعات، الذي لا تعني استقلاليته البنيوية خروجه من دائرة التأثير المتبادل، أو جدلية الفعل، مع تلك الجماعات.
وبهذا الشكل نكون قد قمنا بنقد سريع لكل من المقاربتين السابقتين، ولكن هاتين المقاربتين لا تستنفدان كل المقاربات التي تتناول العلاقة الإفسادية بين الطائفة والمجتمع المأزومين ودورها في إنتاج الطائفية، فعدا عن هاتين المقاربتين، ثمة مقاربة ثالثة تفسر الطائفية وفقا لـ "نظرية المؤامرة"، وهنا يصبح كل من المجتمع والطائفة معا بريئين وضحيتين، أما الجاني الذي ينتج آفة الطائفية، فهم المتآمرون، والأدق هو المتآمر الخارجي، الذي هو عادة "متآمر غربي"، وهو إما الماسونية أو الإمبريالية أو الصهيونية، أو كل هؤلاء معا بصفتهم كلا واحدا متحدا.
بالطبع، رغم عدم نفي وجود المؤامرة وخطورة دورها، فالتفسير المؤامراتي للتاريخ هو تفسير لا مكان له قطعا في الأنطقة العقلانية والعلمية، حيث يفسر التاريخ كحركة أو كدينامية اجتماعية تحكمها قوانين اجتماعية محددة وثابتة، كما هو الحال في حركة ونشاط الطبيعة، ما يعني أن العملية التاريخية هي ليست عملية اعتباطية ولا كيفية ولا إرادوية، ولكنها عملية قانونياتية مقوننة؛ أما بالنسبة لأولئك المؤامرتيين، فإذا ماشيناهم و"أخذناهم على قدر عقولهم"، لوجب عندها أن نسألهم: إذا كان كل من الطائفة والمجتمع بريئين من إنتاج آفة الطائفية، وهذه الآفة هي جريمة المتآمر الأجنبي، فهل تعني براءة المجتمع والطائفة هنا الاستلاب والسذاجة إلى الحد الذي يستطيع فيه ذاك المجرم المتآمر الخارجي أن يفعل بهما ما يشاء ويصنع بهما ومنهما ما يشاء، فلا يكونان أمامه والحال هذا إلا مجرد مفعولين بهما أو موضوعين للفعل بهما؟ فأية براءة هذه، وهل هي إلا براءة كبراءة الأرانب والنعاج أمام الثعالب والذئاب؟ وهذه ما هي ببراءة ولكنها عجز تامّ!
وهكذا يمكننا القول أن كل تلك المقاربات، وإن لم تكن أية منها خالية كليا من الصحة، هي مقاربات لا تصلح بحد نفسها لتفسير ظاهرة الطائفية، وماهية الدور الحقيقي لكل من الطائفة والمجتمع فيها.
فما هو التحليل والتفسير المنطقيين إذا؟
قبل معالجة هذه المسألة، لابد أولا من ضبط مفهوم مصطلح "الطائفية" نفسه، وإلا فلن يكون الحديث دقيقا.
"الطائفية" هي مصطلح مشتق كمصدر صناعي من "طائفة"، بنفس الآلية التي يشتق فيها مصطلح "قومية" من "قوم"، ووفقا للاستخدام الشائع راهنا، يحظى مصطلح "طائفية" بمفهوم شديد السلبية في استخدامه الراهن، أي أنه مصلح شديد في سمعته السيئة، وهو عادة يطلق على السلوك أو النشاط العنصريين المقترنين بالتعصب الطائفي، الذي ينتج عن المتعصبين الطائفيين سواء بشكل فردي أو عفوي أو منظم وممنهج، وهذا السلوك يكون محكوما بالغلو في العلاقة الإيجابية مع الذات، وبنفس الوقت في التطرف في العلاقة السلبية مع الغير، أي أنه يكون سلوكا متطرفا في "معيته" للذات وضديته "للغير"، وقد يمتد كسلوك أو نشاط من التمييز وحتى العنف، ومن الاعتراف المنقوص بالآخر إلى حد السعي لإلغائه بالكامل.
وكما نرى فالطائفية على هذا المستوى الذي تظهر فيه كسلوك أو نشاط من قبل المتطرفين الطائفيين، هي هنا عبارة عن "فعل عملي"، وهذا الفعل لكي يحدث لا بد له من "كمون قـِيـَويّ أو قووي"، ما يعني أن فعلا طائفيا لا يمكنه أن يحدث، أيا كان هذا الفعل، إلا إذا توفر الكمون اللازم له، وهو هنا لا بد أن يكون "كمونا طائفيا"؛ وهذا الكمون يمكن تسميته أيضا بـ "المحتوى الطائفي"، وهو بهذا المفهوم لا يمكنه أن يكون موجودا في الفراغ، بل في حاويته الطائفية، أي الطائفية، التي تتحرك في فعلها ونشاطها بهذا الكمون ووفقا لهذا الكمون، وبالطبع فعلاقة الطائفة بكمونها، هي ليست علاقة استلابية أحادية الجانب، تكون فيه هذه الطائفة محكومة لكمونها الطائفي وخاضعة له وحسب، فهذه العلاقة هي علاقة جدلية، والطائفة نفسها يمكنها أن تعمل على كمونها، فتغذيه وتنميه، كما يمكنها أن ترقيه أو ترديه، وقد يحدث هذا بدرجة ما بشكل ذاتي محض، ولكنه غالبا ما يحدث كعملية تعالق جدلي مع البيئة الاجتماعية التي تتواجد فيها وتنتمي إليها الطائفة، وهي المجتمع، وفي العمليات التي تحدث على الكمون أو المحتوى الطائفي الذي تمتلكه الطائفة، في حالة التعالق هذه قد يكون دورا كل من الطائفة والمجتمع متوازنين، وقد يغلب دور الطائفة أو دور المجتمع، ولكن في كل الأحوال يبقى كلا الدورين موجودين ومتعالقين جدليا، والفعل الطائفي الذي تنتجه الطائفة، أو ينتج بواسطتها في المحصلة، يكون له دور فاعل مؤثر على الطائفة نفسها وعلى مجتمعها ككل، وهكذا كما نرى تؤثر الطائفة في مجتمعها وتتأثر به، وبذلك نكون قد وصلنا إلى المقاربة المنطقية العقلانية لتفسير العلاقة بين الطائفية والطائفة والمجتمع، كعلاقة ثلاثية الأطراف.
وعندما نتعامل بشكل عقلاني واقعي مع الطائفة، فسنجد أنها بكاملها، أي من لحظة مولدها وعبر كل تاريخها وفي أية لحظة راهنة من لحظات وجودها، هي دوما منتج واقعي وعنصر واقعي جدلي العلاقة مع بقية عناصر واقعه، وإذا ما نظرنا في ماهية الطائفة، وفقا لمصطلح "الطائفة" الذي يطلق لدينا اليوم على الجماعات الدينية، فسنجد أن هذه الطائفة عندما تنشأ، فهي تنشأ كمجموعة من الناس تتبع مذهبا دينيا محددا، ومع مرور الزمن، وبفعل عوامل ذاتية موضوعية، تتطور وتتوطد وتتبلور العلاقة بين عناصر هذه المجموعة التي تجمعها وحدة المذهب، فيتحولون من "مجموعة" إلى "جماعة"، أي إلى "جماعة بشرية"، وفي هذه اللحظة، لا تعود العلاقة بين الجماعة وأعضائها مقترنة حصريا بالرباط المذهبي، بل تتجاوزه للتحول إلى علاقة ارتباط عصبوي، أو إلى "علاقة جماعاتية"، وفيها تصبح الجماعة نفسها هي الأساس الرئيس للارتباط بينها وبين أعضائها، وبين هؤلاء الأعضاء مع بعضهم البعض، ولا يعود المكنون أو المحتوى أو الرصيد أو الكمون الطائفي لهذه الطائفة مذهبيا وحسب، بل يصبح"جماعتيا"، وتصبح الطائفة أشبه ما تكون بقبيلة دينية المنشأ، وفي رصيدها كطائفة يدخل كل تاريخها وتجربتها ومعاناتها وعلاقاتها ونشاطاتها من ماضيها إلى حاضرها، وكما نرى فهذا كله عبارة عن فعل بشري واقعي تماما.
وإذا ما عدنا إلى منشأ الطائفة نفسه، أي قيامها على أساس مذهب ديني، فنحن هنا أيضا نبقى في صميم الواقع، فكل مجموعة من الناس عندما تتبع مذهبا محددا تكون في اتباعها لهذا المذهب محكومة بمدى ملاءمة هذا المذهب لاحتياجاتها الواقعية عند اتباعه، والمذهب نفسه، هو الآخر عندما ينشأ، حتى وإن كان منتجه الأساسي فردا، فهو أيضا ينتج كفهم خاص لدين محدد وفق عوامل شخصية يلعب الواقع الاجتماعي نفسه دورا رئيسا في تكونيها، فالوعي الاجتماعي لأي شخص كان، وإن كان غير تابع تماما للواقع الاجتماعي، إلا أنه يبقى وثيق الارتباط وقوي التأثر به.
والأمر لا يتوقف هنا قطعا، ويمكننا أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى الدين نفسه، وهذا ينطبق على كل الأديان بدون أي استثناء، فالدين، كل دين، هو منتج بشري واقعي أو تاريخي، وهو ينتج في الظروف الواقعية التاريخية المناسبة، وبشكل يتناسب مع هذه الظروف، ما يعني أن تناسبا جدليا بين الدين وواقعه لابد أن يتوفر عند نشأة أي دين، لكي ينشأ هذا الدين وينتشر ويستمر.
وهكذا نرى أن كل ما يتعلق بالدين والطائفة والمجتمع هو عبارة عن لعبة واقع، ولاشيء يخرج عن نطاق الواقع، وبالتالي فالطائفة في كل لحظة من لحظات وجودها هي عبارة عن عنصر من عناصر الكل الاجتماعي الذي تنتمي إليه، وهي تتأثر به وتؤثر فيه، وبقدر يكون لديها رصيد أو محتوى أو كمون سيّء في لحظة ما، فهي تتحوّل إلى "منتـِج طائفي" بفعل رصيدها الطائفي المتراكم حتى هذه اللحظة، وعند هذه اللحظة تكون الطائفة أحد الفواعل الهامة المتسببة في عرقلة الاتحاد والتطور المجتمعيين، وتصبح أحد أسباب إفساد وتردية مجتمعها، أو زيادة فساده وتردّيه إن كان فاسدا ورديئا من الأصل كما هو حال مجتمعاتنا العربية.
لكن عوامل الإفساد والتردية في المجتمع، لا تقترن بشكل حصري بما فيه من طوائف وجماعات أخرى تنتج بسبب رصيدها الطائفي المتخلف والمتعصب فعل الإفساد والتردي الطائفي، فهناك أيضا فواعل آخرين غير هؤلاء الفواعل الطائفيين والجماعتيين، إذ هناك القوى السلطوية والاقتصادية والسياسية والثقافية الداخلية في المجتمع، وهناك أيضا القوى الأجنبية الخارجية، الإقليمية منها والدولية، وهذا كله يؤثر بشكل شديد الفعالية على المجتمع، وعندما يكون هناك سلطة مستبدة استغلالية واقتصاديون طفيليون وسياسيون مغامرون أو انتهازيون ومثقفون يتخبطون في فلك الماضي أو يتبعون السلطة أو يستوردون تجارب أجنبية بشكل ميكانيكي، وما يشبه ذلك، إضافة إلى وجود القوى الخارجية المغرضة الضارية، وإلى وجود الطوائف ذات الإرث المتخلف المتعصب، فعندها لن يتطور المجتمع، بل على العكس سيتدهور أكثر فأكثر، وسينتج الأزمات الشديدة التي تدفعه إلى الخلف وإلى الأسفل، ليزداد سوءا على سوء، وهذا بالطبع سينعكس على وضع الطوائف، فأفرادها هم أفراد نفس المجتمع من ناحية، والطوائف نفسها كبنى هي بنى قائمة في نفس المجتمع، وفي الظروف المعيشية المتردية، يفقد الإنسان القدرة على تنمية وتطوير ذاته، وينكمش على نفسه، ويبقى في موقعه أو يتراجع، ويصبح أكثر التصاقا بطائفته أو جماعته لأنه يجد فيه العزوة والملجأ، وخصوصا عندما يصل الانهيار المجتمعي إلى الحد الذي تثور فيه النزاعات الفـِرقية، كالنزاعات الطائفية أو العرقية، فعندها لا مفر من أن تنمو، بل وتتضخم، عند هذا الشخص النزعة الطائفية أكثر فأكثر إما كفعل أو كردة فعل، وإن لم تنمُ لديه هذه النزعة، فمع ذلك سيجد نفسه مرغما قسريا بحكم الأمر الواقع على الخيار الطائفي، الذي عندها لن يعود خيارا قطعا.
وهكذا يمكننا القول أن أي سلوك أو نشاط أو فعل طائفي أو عصبوي أو فِرقي، هو محصلة إجمالية للمجوع الجدلي لمؤثرات كل من الجماعة العصبوية كالطائفة ومجتمعها المأزوم، وكل من المجتمع والجماعة، عندما يكونان في حال سيئة، يتبادلان الفعل ورد الفعل، فيجعل كل منها الآخر أسوا فأسوأ، ويدخلان معا في عملية تساوؤ تسلسلية تصاعدية، يتفاقم فيها سوء كل منها حتى يصلان معا إلى نقطة الكارثة.
وهذا ما يحدث في بلداننا العربية.
في بلداننا العربية لدينا ملل وطوائف وأقوام وما يشبهها، وكلها ما تزال تحمل مواريث الماضي المتخلف الحافل بالجهل والتعصب والعنف والنزاع والعلاقة الصدامية مع الآخر|، وهلم جرى، ولدينا مجتمعات تحكمها طغم متسلطة مستغلة،هي نفسها بدلا من أن تقود هذه المجتمعات على طرق التقدم والتطور والعصرنة، تفعل العكس تماما بشكل ممنهج وغير ممنهج لتحافظ على سلطتها ومصلحتها، وتحت نير استبدادها وفسادها، يتدهور الاقتصاد والأخلاق والثقافة والمعرفة والانتماء الوطني، وهي لا تكتفي بكل ذلك، بل تستغل العوامل الطائفية أو سواها من العوامل العصبوية الأخرى وتنمّيها وترسّخها في كل آن وحيث يمكنها فيهما أن تفعل ذلك.
وعدا عن ذلك هناك بالطبع القوى الأجنبية ومصالحها المتوحشة، وهي بدورها تستغل كل ما يمكن استغلاله، وتوظفه في ما يخدم مصلحتها إذا كان جاهزا للتوظيف، وإن لم يكن جاهزا، فهي إما أن تنميه كميا أو تعيد هندسته كيفيا، بحيث يصبح مناسبا للتوظيف، ولذلك نجد من هذه القوى من يدعم القوى الناشرة للتعصب والتطرف في المنطقة، ثم يعود فيدعم القوى التي يفرزها التعصب والتطرف؛ وهذه بالطبع مؤامرة، ولكنها مع ذلك لا تصنع ولا تحرك التاريخ والواقع في المنطقة، ولكنها فهم ذكي لحيثيات كل منهما، ثم توظيف ذكي لهذه الحيثيات مع المعالجة الإضافية المطلوبة وفقا للأغراض المراد تحقيقها؛ ويجد الذكر أن الطغم العربية المتسلطة هي بدورها تلعب أيضا هذه اللعبة حين يكون بمقدورها أن تلعبها.
وبالطبع في مسألة الاستغلال هذه، وهي مسألة جد خطيرة وجسيمة الشأن، يجب أن نقول أن كل استغلال يحدث للطائفية أو لأي عصبوية أخرى، هو دوما مرهون بالعلاقة الجدلية بين الفاعل والقابل، بحيث لا يفعل الفاعل إلا ضمن قابلية القابل، والفاعل هنا هو الجهة المستغِلة، كدولة أجنبية خارجية أو سلطة ديكتاتورية داخلية مثلا، والقابل هو الجماعة العصبوية المستغَلة، كالطائفة أو القبيلة أو الإثنية مثلا، كما أنه لا يخرج أيضا عن جدلية الجزء والكل، والجزء هنا هو الجماعة العصبوية المستغَلة، والكل هو المجتمع المتردي الذي يمكن فيه القيام هذا الاستغلال، والاستغلال هنا يشبه عملية شق قناة ليجري فيها الماء من مجمع مائي إلى منطقة مرادة، وهنا الجماعة العصبوية تقابل مجمع الماء، والكمون العصبوي يقابل ماء هذا المجمع، والفعل العصبوي يقابل حركة الماء في القناة، والخطة التوظيفية أو التآمرية تقابل القناة نفسها، والمتآمر المغرض يقابل حافر القناة، والهدف يقابل المنطقة النهائية التي يصل إليها الماء، والمجتمع الذي تتم فيه أو عليه المؤامرة يقابل المنطقة التي تشق فيها القناة وتفرض خصوصياتها الطبيعية على خارطة هذه القناة.
وكما نرى من مثالنا إن لم يكن هناك مجمع ماء من الأساس فلن يكون هناك رصيد مائي، وإن لم يكن هناك رصيد مائي فلن يكون هناك جريان مائي ولا تزويد مائي، وستصبح كل خطة التزويد المائي عبثا لا طائل له، وهذا ما ينطبق على الطائفية واستغلالها، وعلى استغلال أية عصبوية أخرى.
وبالطبع ليست كل الفعالية العصبوية أو الطائفية هي حكما فعل من النوع التوظيفي قطعا، فهذه الفاعلية أو الفعل يمكنها أن تكون بالقدر نفسه فعلا مبادريّا، أي بفعل ذاتي تقوم به الجماعة العصبوية نفسها ولا تدفع إليه أو تستوظف بوسطته، وهذه الحالة تشبه الحالة التي يندفع فيها الماء المتراكم من تلقاء ذاته، عندما لا يعود احتجازه ممكنا، فيشق مجراه بنفسه وفق ما تسمح طبيعة المحيط الجغرافي، ويصل إلى حيث يمكنه أن يصل، وهذه عملية عشوائية غائيا، رغم أنها قانونياتية فعليا، والطائفية أو أية عنصرية أخرى كنتاج يمكنها أن تفعل فعلا مماثلا، فتتم كفعل هدام بدون أية خطة محكمة أو أهداف محددة.
وهكذا يمكننا القول أن الآفات الطائفية والعنصرية والعصبوية التي نحن مبتلون بها عربيا، هي جزء تكويني وجدلي من آفة التخلف الشامل الموروث من ماضينا، والذي لم نتجاوزه بعد إلى حاضر عصري إنساني متقدم، ولكن بقاءها وفاعليتها المستمرين لا يرتهنان حصرا بهذا الإرث المتردي الموروث، فإلى جانبه هناك الديكتاتوريات العربية، وهناك التدخلات الأجنبية، وكل منهما شريك جسيم الحجم عظيم الخطر، وهذا كله يجب أن ندركه ونعترف به عند معالجتنا لمشكلة الطائفية أو العرقية أو ما يشبههما من مشاكل، وهذه كلها أجزاء من المشكلة الكلية الكبرى المتمثلة بالتخلف، ولا يمكن حل أي مشكلة من تلك المشاكل الجزئية بمفردها، وبمعزل عن المشكلة الكلية وما فيها من مشاكل جزئية مترابطة مباشرة مع بعضها البعض أو بشكل غير مباشر عن طريق المشكلة الكبرى نفسها.
وأي تركيز على تفسير أو تعليل أحادي الزاوية للطائفية أو العصبوية ، يرجعهما إما إلى المجتمع أو إلى الطائفة أو إلى الخارج بشكل إفرادي، هو إما قاصر الرؤية أو غير بريء الغاية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي