الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان كهف الدب الأسود طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 3 / 19
الادب والفن


رواية للفتيان







كهف الدب الأسود








طلال حسن





شخصيات الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ الأم

2 ـ هوما ـ الابنة

3 ـ دودا ـ الفتى













" 1 "
ـــــــــــــــــــ
مشت الفتاة هوما ببطء وانتباه ، على امتداد شاطئ النهر ، الحربة في يدها ، وعيناها تراقبان ما في المياه الضحلة الرقراقة ، لعلها ترى سمكة ، مهما كان حجمها ، فتطلق عليها حربتها ، وتصطادها .
إنها الآن تجاوزت الخامسة عشرة من عمرها ، وقد بدأت أمها تعلمها الصيد ، منذ أن بلغت العاشرة من العمر ، وفي البداية ، علمتها صيد الطيور ، ثم الأرانب ، وأخيراً صيد السمك ، ومع الزمن برعت في الصيد ، وراحت تتطلع إلى صيد الغزلان .
وها هي تخرج للصيد وحدها ، في الغابة ، وشاطئ النهر ، وقلما تعود إلى الكهف ، دون صيد في يدها ، تُفرح به أمها ، التي بقيت ملازمة للكهف ، منذ أن هاجمها خنزير شرس ، فأبعدت ابنتها ، وتصدت له ، مما أصابها بجروح كادت تودي بحياتها .
وهي الآن تخرج كلّ يوم من الكهف ، الذي تعيش فيه مع أمها ، فتذهب يوماً إلى الغابة ، تتصيد الأرانب والطيور ، وفي يوم آخر تمضي إلى النهر ، وتصيد بحربتها سمكة أو أكثر ، فهي وأمها تحبان السمك .
وتوقفت الفتاة على الشاطئ ، حين لمحت سمكة متوسطة الحجم ، تسبح بأناة واطمئنان في المياه الضحلة الرقراقة ، فرفعت الحربة ، وتقدمت خطوات من ماء النهر ، ويبدو أن السمكة انتبهت إلى وجودها ، فهمت بالهرب ، لكن الفتاة عاجلتها بضربة محكمة من حربتها ، فأصابتها في الصميم .
وخاضت الفتاة في المياه الضحلة ، لتأخذ الحربة والسمكة التي اصطادتها بها ، لكنها توقفت خائفة ، حين تناهى إليها ، وقع أقدام ثقيلة ، صادرة من بين الأحراش القريبة من شاطئ النهر .
وعلى الفور ، تراجعت الفتاة مسرعة ، ولاذت بشجرة ضخمة مطلة على النهر ، ومن مكانها ، وقلبها يخفق بشدة ، رأت حيواناً لم ترَ مثله من قبل ، يهبط من بين الأحراش ، ويمضي نحو النهر ، حتى بلغ منتصفه تقريباً ، وراح يخبط بيديه ، لعله يصطاد سمكة .
وحدقت الفتاة فيه ملياً ، إنه ليس خنزيراً ، ولو أن فراءه بلون شعر الخنزير ، وطبعاً ليس غزالاً ، ولا .. آه لابد أنه ما أسمته أمها .. الدب ، والذي رسمه أمها على جدران الكهف ، مع عدد من الحيوانات المتوحشة الأخرى ، لتعرفهم الفتاة ، وتتجنبهم ، وهي تتجول في الغابة بحثاً عن الطيور والأرانب .
وظل الدب يخبط بيديه في ماء النهر ، حتى اصطاد سمكة كبيرة ، راح يمزقها بأسنانه القوية ، ويلتهمها ، ثم خرج من النهر ، وصعد من الشاطئ ، ومضى متوغلاً في الغابة ، حتى اختفى بين الأشجار .
وتسللت الفتاة على حذر ، من وراء الشجرة الضخمة ، التي اختفت وراءها ، وهبطت إلى الشاطئ ، وخاضت في المياه الضحلة ، وهي تتلفت حولها متوجسة ، ثم أخذت الحربة والسمكة ، وقفلت عائدة إلى الكهف .
ومن مدخل الكهف ، الذي يكاد يختفي بين الصخور ، حيث كانت الأم تجلس ، رأت ابنتها الفتية ، تصعد الطريق الوعر ، المحاط بالصخور الضخمة ، وفي يدها حربة الصيد ، وسمكة متوسطة الحجم .
وتنهدت الأم بارتياح ، وقالت وهي تتابع ابنتها ، التي كانت تسير متثاقلة نحوها : ها هي بنيتي ، عادت من النهر سالمة ، ما أشدّ قلقي عليها .
ونهضت الأم مبتسمة ، تستقبل ابنتها الفتية هوما ، والحربة والسمكة في يدها ، فقالت الفتاة ، وهي تقدم السمكة لأمها : لم أصطد اليوم غير هذه السمكة .
وتناولت الأم السمكة من ابنتها ، وقالت مبتسمة : تكفينا هذه السمكة اليوم ، يا بنيتي ، ولدينا بعض الأرنب ، الذي اصطدته يوم أمس .
وتوقفت هوما ، والحربة في يدها ، وقالت : ماما ..
ونظرت الأم إليها متوجسة ، وقالت : نعم .
وتابعت هوما قائلة : رأيت اليوم الحيوان الأسود الضخم ، الذي رسمته على جدار الكهف ، مع الحيوانات الأخرى ، التي قلتِ أنها حيوانات شريرة مفترسة .
وشهقت الأم قائلة : الدب !
وهزت هوما رأسها ، وقالت : هذا ما رسمته ، نعم ، إنه الدب الأسود الضخم .
وتلفتت الأم حولها ، وهي تحاول أن تكتم خوفها ، نعم ، إنه الدب الأسود الضخم ، هذا ما توقعته ، وما كانت تخافه أشدّ الخوف ، فقد تناهى إليها ، ربما عند منتصف الليل ، صوت آت من بعيد ، لم يكن صوت بومة ، أو ثعلب ، أو حتى ذئب ، إنه .. الدب .
وخاطبت الأم ابنتها قائلة : هيا ندخل .
فردت هوما قائلة : دعيني أنظف السمكة ، وأشويها .
ودخلت الأم إلى الكهف ، بخطواتها البطيئة الثقيلة ، وقالت : لا يا بنيتي ، تعالي وارتاحي ، أنت متعبة ، أنا سأعدّ السمكة ، وستعجبكِ .
ودخلت هوما الكهف في اثر أمها ، وتهاوت على فراشها ، فنظرت إليها أمها ، وقالت وهي تكتم قلقها : لا عليكِ ، يا بنيتي ، أنت شجاعة ، والدببة حمقاء ، وقلما تبقى في مكان واحدة لفترة طويلة .
وتمددت هوما في فراشها ، دون أن تردّ على أمها ، وأغمضت عينيها المتعبتين ، وبالحركة البطيئة كانت ترى الدب الأسود الضخم ، ينزل إلى الشاطئ ، ثم يخوض في النهر ، ويصطاد سمكة كبيرة ، يمزقها بأسنانه الوحشية ، ثم يخرج من النهر ، ويلقي نظرة سريعة إلى الشجرة الضخمة ، التي كانت تختبئ وراءها ، ترى هل لمحها هناك ؟ من يدري .
















" 2 "
ــــــــــــــــــ
لم تخرج هوما من الكهف ، بعد الانتهاء من تناول طعام الغداء ، كما تفعل عادة كلّ يوم ، وحتى لو حاولت ذلك ، فإن أمها كانت لتمنعها من الخروج .
ولاحظت هوما خلال تلك الفترة ، أن أمها رغم الصعوبة ، التي تواجهها أثناء النهوض ، أو السير ولو خطوات قليلة ، كانت تتحامل على نفسها ، وتنهض بصعوبة ، وتخرج من الكهف ، وتقف في المدخل ، وتنصت ملياً ، ثم تعود أدراجها ، وقد بدا عليها الهمّ والقلق ، ترى إلامَ تنصت ؟ ومما تقلق ؟
وعند حوالي العصر ، تحاملت الأم على نفسها ، ونهضت بصعوبة ، وخاطبت هوما قائلة : بنيتي ..
ونظرت هوما إليها ، وقالت : نعم ماما .
فتابعت الأم قائلة : لنذهب إلى الخارج ، ونقطع بعض الأغصان ، من الشجرة القريبة من المدخل .
ونهضت هوما ، لكنها قالت : ماما ، لدينا الكثير من الحطب والخشب ، تكفينا أياماً .
وسارت الأم ببطء إلى الخارج ، وهي تقول : أعرف ، لكن هذه الأغصان ، التي سنقطعها الآن ، ليست لإيقاد النار ، وإنما لنسد بها مدخل الكهف أثناء الليل .
ولحقت هوما بأمها ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة ، ولعلها بهذا أدركت سبب همّ أمها وقلقها ، وراحت تشاركها في قطع الأغصان من الشجرة القريبة من الكهف ، وتقوم وحدها بنقلها إلى المدخل .
ومع المساء تقريباً ، انتهت الأم وابنتها هوما من سدّ المدخل بأغصان الأشجار ، التي قطعتاها من الشجرة القريبة من الكهف ، ثم تناولتا الطعام ، على الضوء المنبعث من النيران المشتعلة في الموقد ، وأوت كلّ منهما إلى فراشها ، وقد ران الصمت عليهما .
ونظرت الأم إلى ابنتها هوما ، وقالت : بنيتي ، القمر الليلة على ما يبدو بدر ، وهو يضيء الغابة ، ولعل هذا يغري بعض الحيوانات الليلية مثل الثعلب ، أو ابن آوى أو .. أو .. للدخول إلى الكهف ، ونحن نيام .
وهزت هوما رأسها موافقة ، وقالت : نعم ، أنت محقة ، يا أمي ، قد يدخلون إذا نمنا .
لكنها في أعماقها ، كانت تعرف أن ما تخافه أمها ، ليس هو الثعلب أو ابن آوى أو .. أو .. وإنما تخاف مما رأته عند النهر صباح هذا اليوم .
وأغمضت الأم عينيها ، ونامت مبكرة ، لكن .. هل نامت حقاً ؟ من يدري ، وتبعتها الفتاة ، فأغمضت عينيها هي الأخرى ، وسرعان ما غلبها النوم ، والحقيقة أن أمها لم تنم ، فقد كانت تفكر في الدب الأسود الضخم ، وقد تذكرت ما قالها زوجها ، قبل أن يقتله الدب : يبدو أن هذا الكهف ، الذي نعيش فيه الآن ، كان مأوى لأحد دببة ، التي تعيش في المنطقة .
ولا تدري هوما ، كم مرّ من الوقت على نومها ، حين فزّت خائفة ، على صوت بشع ، يشبه صوت الدب الأسود ، الذي رأته صباح اليوم عند النهر ، والتفتت إلى أمها ، لتوقظها من النوم ، وتحتمي بها ، لكنها رأتها قد اعتدلت في فراشها ، وقد بدا عليها الخوف والقلق ، فهتفت بها مستنجدة : ماما ..
ونظرت الأم خائفة إلى مدخل الكهف ، وقالت بصوت مرتعش : لا تخافي ، يا بنيتي .
وارتفع الصوت مرة أخرى ، ومعه ارتجت أغصان الشجرة ، التي سُدّ بها مدخل الكهف ، وهبت الفتاة من مكانها ، ولاذت بأمها ، وهي تقول مرتعبة : ماما ، يبدو أنه الدب الأسود الضخم .
وربتت الأم على كنف ابنتها ، وقالت بصوت مرتعش خائف : مهما يكن .. لا تخافي .. يا بنيتي .
وزحفت إلى الموقد ، وأذكت فيه النار ، بوضع المزيد من الحطب ، وقطع الخشب الجافة السريعة الاشتعال ، وهي تقول لابنتها ، محاولة منها لطمأنتها : حتى لو كان هو الدب الأسود ، فلا تخافي ، إن الدببة لا تدخل مكاناً فيه نار مشتعلة .
وعلى العكس مما قالته الأم ، أزاح الدب الأسود بعنف أهوج ، الأغصان التي تسد المدخل ، واندفع إلى الداخل ، وهو يجأر بأعلى صوته ، وقد كشر عن أنيابه الحادة المخيفة : آآآآآآآ .
وصرخت الفتاة خائفة : ماما ..
وبدل أن تلتفت الأم على ابنتها ، أو تحاول تهدئتها ، مدت يدها إلى الموقد ، الذي تعالت فيه ألسنة النار الحارقة ، وأمسكت بخشبة كانت النار تشتعل فيها ، ولوحت بها في وجه الدب الأسود الضخم .
وتوقف الدب غاضباً ، وراح يجأر بصوته المخيف البشع ، فضربته الأم بكل قوتها بالخشبة المشتعلة ، في وجهه ، وأصابته إصابة بالغة ، فتراجع متعثراً ، وهو يجأر من الألم ، ثم استدار وخرج راكضاً من الكهف ، وظل يركض متعثراً ، حتى غاب بين الأشجار .
ونهضت هوما مذهولة ، واقتربت من أمها ، التي كانت تقف جامدة ، والخشبة المشتعلة مازالت في يدها ، وقالت لها : ماما ، لا أكاد أصدق ما جرى ، كم أنت شجاعة وقوية ، إنه الدب الأسود الضخم ، الذي حدثتني عن قوته وشراسته و ..
وتحركت الأم متنفسة الصعداء ، وأعادت الخشبة المشتعلة إلى الموقد ، والتفتت إلى ابنتها هوما ، وضمتها إلى صدرها ، وقالت لها بصوت مرتعش : حبيبتي ، أنتِ ابنتي الوحيدة ، أنتِ حياتي بأكملها ، ولا حياة لي بدونكِ ، كنتِ في خطر ، وما كنتُ لأسمح لهذا الدب الأرعن ، أن يمس شعرة واحدة منكِ ، مهما كان الثمن .
ولم تنم الأم وابنتها ، تلك الليلة ، حتى أعادتا الأغصان إلى مكانها ، في مدخل الكهف ، وغذتا النار في الموقد من جديد ، بمزيد من الحطب ، وقطع الخشب اليابس ، الذي يحترق بسرعة ، لإبعاد أي حيوان يفكر في اقتحام الكهف ، ويهدد حياتهما بالخطر .















" 3 "
ــــــــــــــــــ
في منامها ، افتقدت الأم ابنتها ، وبحثت عنها ، وقلبها يخفق بشدة ، فلم تجدها ، ولم تجد لها أثراً ، لا في فراشها ، ولا في أي مكان آخر من الكهف .
وفتحت عينيها الناعستين الخائفتين ، وقلبها مازال يخفق بشدة ، وعلى أضواء النار ، المتراقصة على جدران الكهف ، الذي ملأته الأم برسوم الحيوانات المتوحشة المفترسة ، رأت ابنتها هوما ، رأتها وجهاً لوجه ، فابتسمت لها ، وقد أفرخ روعها بعض الشيء ، وقالت بصوت مرتعش : أبوك كان يقول لي دائماً ، ستفسدين البنت ، لقد كبرتْ ، دعيها تنام وحدها في فراشها .
ومدت يديها المرتجفتين ، واحتضنت ابنتها ، وتابعت قائلة : كنت أريدك إلى جانبي دائماً ، مهما كبرت ، وها أنت الليلة إلى جانبي .
واحتضنت هوما أمها ، وقالت لها بصوت حاولت أن تكتم ارتجافه : ماما ، هربت من فراشي ، ونمتُ إلى جانبك ، لقد رأيت الدب الأسود في المنام .
ومسدت الأم بيدها رأس ابنتها ، الذي يغطيه شعر أسود بنعومة الحرير ، وقالت لها : لا عليكِ ، يا بنيتي ، لن تري الدب الأسود ثانية .
وتابعت الفتاة قائلة : رأيته يهاجمك ، وقد كشر عن أنيابه المخيفة ، فتصديت له رغم خوفي ، ورفعت الحربة ، التي أصيد بها الأرانب والسمك ، وطعنته بها .
وقبلتها أمها على تفاحة وجنتها المحمرة ، التي تحبها كثيراً ، وقالت لها : لن تكوني وحدك في مواجهة الدب الأسود ، ها نحن اثنتان ، أنا بالخشبة المشتعلة ، وأنت بحربتكِ ، والويل له إذا فكر بالاقتراب منّا .
وسكتت لحظة ، حلقت عيناها خلالها بعيداً ، في فضاء الأيام الماضية ، ثم قالت وقد بدا صوتها ، وكأنه آتٍ من أعماق الماضي : منذ البداية ، وحتى قبل أن نهرب معاً ، أنا وأبوكِ ، ونأتي إلى هذا الكهف ، الذي كما ترين ، يقع في منطقة منقطة ، قلما يصلها أحد ، كان يقول لي ، أريد ولداً في جمالكِ وشجاعتكِ .
وسكتت ثانية ، ثم حدقت في ابنتها ، وابتسامتها ترفرف فوق شفتيها ، وتابعت قائلة : كانت عائلتانا متجاورتين ، ولكن متخاصمتين ، ما العمل ؟ كان يريدني ، وكنتُ أريده ، فقلت له ، لنهرب ، الأرض واسعة ، المهم أن نكون معاً ، وهربنا فعلاً ، وعبرنا الغابة الكبيرة كلها ، ووصلنا إلى هذا الكهف المنعزل ، وجئتِ أنتِ ، وقد أحبكِ أبوك جداً ، رغم أنه كان يريد ولداً ، وكان يقول دائماً ، سترافقني ابنتي في الصيد ، وستكون صيادة ماهرة ، وها أنتِ ، يا بنيتي ، صيادة ماهرة جداً .
وصمتت الأم ، وقد غشيها بعض الحزن ، فنظرت إليها الفتاة ، وقالت لها بصوت حزين : ماما ، لا تحزني ، بابا كان صياداً شجاعاً .
وتندت عينا الأم بالدموع ، وقالت بصوت مختنق : أحببته لجرأته وشجاعته ، رغم أنه كان فتياً ، ومنذ البداية كان يطمح أن يكون صياد دببة ، وقد حقق طموحه ، فصار صياد دببة معروفاً ، لكن ، ويا للأسف ، انتهى بين أنياب مخالب وأنياب دب أسود ضخم .
وران صمت حزين عليهما ، وأضواء النار في الموقد تتراقص على جدران الكهف ، وبدا وكأن الدب الأسود والنمر السياف وحتى الماموث يتحركون ، وكأنما يريدون أن ينفلتوا من مواقعهم على جدران الكهف ، وينطلقون رغم الليل إلى فضاء الغابة ، التي تمتد أشجارها حتى الآفاق البعيدة .
ونظرت هوما إلى أمها ، وقالت : ماما ..
وبادلتها أمها النظر ، وأجابتها : بنيتي الحبيبة ..
وتابعت هوما قائلة ، تحاول أن تطمئنها : نحن بخير هنا ، يا ماما ، نحن بخير .
وردت الأم قائلة بصوت دامع : أنا لا أفكر في نفسي ، يا بنيتي ، لقد عشتُ حياتي ، التي اخترتها بنفسي ، وإنما أفكر فيكِ أنتِ .
وحاولت هوما أن تدفع الحزن والضيق عن أمها ، فقالت لها : ها أنا إلى جانبكِ ، يا أمي ، أنمو كما تقولين ، كما تنمو شجرة التفاح .
وابتسمت الأم من خلال دموعها ، وقالت : وهذا بالضبط ، يا بنيتي ، ما يجعلني أطيل التفكير .
ولاذت هوما بالصمت ، وقد غشيها بعض الحزن ، لعلها أحست بما تفكر فيه أمها ، وربما لم يكن هذا بعيداً عما تفكر فيه هي نفسها أحياناً ، وخاصة عندما تغمض عينيها في الليل ، وتتهيأ للنوم .
وأطرقت الأم لحظة ، وقالت كمن تحدث نفسها : هذا المكان منقطع تماماً ، لا يكاد يصله أحد ، وحتى عندما نرى أحداً ، صياداً كان أو عابر سبيل ، شاباً أو ليس بشاب ، نتوارى عنه ، حتى يعود من حيث أتى .
وسكتت الأم لحظة ، ثم نظرت إلى هوما ، وقالت : عندما عرفت أباكِ ، كنتُ في عمرك تقريباً ، وكنا نعيش في منطقة ، يوجد فيها عدد من الكهوف المتقاربة ، تعيش فيها عوائل عديدة .
ولاذت هوما بالصمت ، وقد غشي عينيها الجميلتين غمامة شفافة من الحزن ، فمدت الأم يديها إليها ، وأخذتها إلى صدرها ، وقالت لها : نحن في منتصف الليل ، يا حبيبتي ، يا لي من مجنونة ، ما الذي أيقظ هذه الأيام النائمة في داخلي ، وجعلها تتنفس من جديد ، وتنفث غيومها الحزينة ، لننم ، يا صغيرتي ، فغداً تشرق الشمس على يوم جديد .
وهمت هوما أن تنهض ، وهي تقول : الفراش ضيق ، أريد أن ترتاحي ، سأذهب إلى فراشي .
فمدت الأم يديها ، وتشبثت بابنتها ، وأرقدتها إلى جانبها ، وهي تقول : لن تنامي الليلة إلا هنا إلى جانبي ، سأشم فيك الجميل من أيامنا الماضية .
وتمددتا جنباً إلى جنب ، الفتاة وأمها ، وسرعان ما أغفتا ، واستغرقتا في نوم عميق ، وأضواء النار المشتعلة في الموقد ، تتراقص على جدران الكهف ، وتوقظ الوحوش المرسومة على الجدران ، فتغادر أماكنها ، الواحد بعد الأخر ، وتمضي عبر مدخل الكهف ، الذي تسده أغصان الشجرة ، إلى غابات الليل الغامضة .










" 4 "
ـــــــــــــــــــ
على مدى الأيام القليلة التالية ، ترددت هومو في الخروج من الكهف ، والذهاب للصيد في الغابة أو في النهر ، وحتى لو أرادت هي ذلك ، لمنعتها أمها ، وأبقتها في الكهف ، خوفاً عليها من الدب .
وفي الأيام الأولى ، بعد أن نفد ما عندهم من طعام ، وألحّ بهم الجوع ، قالت الأم لابنتها : لو كنت أستطيع المشي ، لذهبت أنا وجلبت بعض الطعام .
فردت هوما عليها قائلة : دعيني أخرج ، وأذهب إلى الغابة ، لعلي اصطاد أرنباً أو طيراً .
واحتجت الأم قائلة : كلا ، لن أسمح لكِ أن تذهبي إلى الغابة ، إنني أخاف عليكِ .
وقالت هوما : سنموت من الجوع إذن .
ونظرت الأم إليها ، وقالت : هناك أقوام يعيشون على النباتات وثمار الأشجار .
وحاججتها هوما قائلة : هذه النباتات والثمار موجودة في الغابة أيضاً ، يا ماما .
فردت عليها أمها قائلة : هناك نباتات كثيرة في محيط الكهف ، بل وهناك أيضاً أشجار مثمرة ، ولا داعي أن تذهبي إلى الغابة ، حتى تهدأ الأمور .
وهذا ما فعلته هوما ، في الأيام القليلة التالية ، فقد جلبت بعض النباتات وقليلاً من الثمار ، من محيط الكهف ، وكانت في كلّ يوم ، وبحذر شديد ، توسع رقعة ما تجلب منه النباتات والثمار ، دون أن تغفل عن النظر حولها ، والتنصت إلى ما يدور في الجوار ، فهي لا تريد أن يفاجئها الدب الأسود الضخم ، ويفتك بها .
وبعد أيام ، والأم وابنتها تجلسان ليلاً قرب الموقد ، نظرت هوما إلى أمها ، وقالت : ماما ..
وتنهدت الأم ، فهي تعرف أن وراء " ماما " هذه شكوى ، فردت قائلة : نعم .
وتابعت الفتاة قائلة : مللتُ من النباتات والثمار .
ونظرت الأم إليها ، فقالت : أريد أن أصيد أرنباً .
ولاذت الأم بالصمت لحظة ، ثم قالت مستسلمة : لا بأس ، يا بنيتي ، اذهبي إلى الغابة ، لكن كوني حذرة ، ولا تتوغلي فيها كثيراً ، وما إن تسمعي صوتاً مريباً ، أسرعي بالعودة إلى الكهف .
وردت الفتاة قائلة : كما تشائين ، يا ماما .
وفي اليوم التالي ، خرجت هوما من الكهف ، وتبعتها أمها ، ووقفت تودعها عند المدخل ، وقالت لها : لا تنسي ما قلته لك البارحة ، يا بنيتي .
ولوحت الفتاة لأمها ، ومضت منحدرة نحو الغابة ، وهي تقول : لن أنسى ، يا ماما ، اطمئني .
ودخلت هوما الغابة متوجسة ، ورغم خوفها وترددها ، عادت إلى أمها في الكهف فرحة ، وفي يدها أرنب مكتنز الجسم ، ويوماً بعد يوم ، راحت تتوغل في الغابة شيئاً فشيئاً ، وسرعان ما عادت إلى روتينها السابق ، مع شيء من التحفظ والحذر ، سواء في الغابة ، أو في النهر ، عند صيدها للسمك .
وذات يوم ، توغلت في الغابة ، لعلها تصطاد أرنباً ، وإن كانت تتطلع إلى صيد غزال ، فأمها تحب لحم الغزلان ، هذا ما قالته الأم نفسها ، في إحدى الليالي : أبوك ، قبل أن نقترن ، أهداني قطعة من لحم الغزال ، وكانت ألذ قطعة لحم تذوقتها في حياتي .
وهمهمت الفتاة وقتها ، وقالت لأمها مازحة : قطعة اللحم تلك ، كانت لذيذة عندك ، ربما لأنها كانت هدية من بابا ، وليس لسبب آخر .
وانتبهت هوما إلى وقع أقدام متسارعة ، وبدت لها أنها خائفة ، أهو أرنب .. أم ثعلب .. أم ابن آوى .. أم .. ؟ ومن بين الأحراش ، اندفع غزال فتيّ ، إنه خائف فعلاً ، وبدا وكأنه يهرب من كائن مفترس أو .. مهما يكن ستحقق ما تصبو إليه أمها .
ومرّ الغزال الفتيّ ، على مقربة منها ، مسرعاً خائفاً ، دون أن ينتبه إلى وجودها ، فرفعت حربتها ، وأطلقتها نحوه بقوة ، فأصابته على ما يبدو إصابة طفيفة ، ولم تنغرز في جسمه الفتيّ ، وسقطت على الأرض ، وقد تلوثت بشيء من الدماء .
وفي الوقت نفسه ، أصيب الغزال بسهم في جنبه ، فتعثر وكاد يتهاوى على الأرض ، لكنه تمالك نفسه ، وسرعان ما واصل ركضه حتى اختفى .
وذهلت الفتاة ، ترى من أطلق السهم ؟ يا للعجب ، وسارت متجهة إلى حربتها ، وانحنت لتتناولها ، وإذا بشاب فتيَ ، يخرج من بين الأشجار القريبة ، ويتوقف حين يراها ، دون أن يتفوه بكلمة .
واعتدلت هوما مبهورة ، حتى أنها لم ترفع حربتها عن الأرض ، لكنها قالت بحدة : الغزال لي ، أنا رميته بحربتي أولاً ، ولن أسمح لك أن تأخذه .
ونظر الفتى إليها مبتسماً ، وقال : لا عليكِ ، خذيه ، إنه لكِ ، لن أنافسك عليه .
ولاذت هوما بالصمت ، وهي تتأمله ، فاقترب منها مبتسماً ، وقال : أنا دودا ..
ولبثت هوما صامتة ، وهي مازالت تتأمله ، فتابع قائلاً : هذا الغزال ، طاردته من وسط الغابة ، حتى هذا المكان ، ويبدو أنني محظوظ جداً .
وصمت الفتى ، وتلفت حوله ، ثم قال : هذه منطقة منقطعة ، ولولا إصراري على مطاردة ذلك الغزال ، لما جئت إليها مطلقاً .
وحدق الفتى في هوما ، التي ظلت معتصمة بالصمت ، وقال : أنا لم أرك من قبل ، لا في الغابة ، ولا في الكهوف ، التي تقع قريباً منها .
وأشارت هوما بيدها ، إلى حيث يقع الكهف الذي تقيم فيه مع والدتها ، وقالت بصوت مهادن : كهفنا هناك ، خلف الصخور ، في أعلى السفح .
وصمتت ، وقلبها يخفق بشدة ، حين ارتفع من بعيد صوت تعرفه جيداً ، فقالت خائفة : الدب ..
ونظر الفتى نحو مصدر الصوت ، ثم التفت إلى الفتاة ، وقال لها : لا تخافي ، إنه بعيد جداً .
لكن هوما انحنت ، والتقطت الحربة من الأرض ، ومضت على عجل مبتعدة نحو الكهف ، فهتف بها الفتى دودا : مهلاً ، نسيت أن تأخذي غزالكِ .
وردت عليه الفتاة قائلة ، دون أن تتوقف ، أو تلتفت إليه : من الأفضل أن تعود من حيث أتيت ، إن الدب الأسود الضخم ، ليس ببعيد .
ووقف الفتى يتابعها بناظريه مبتسماً ، وهتف بها : لم تقولي ما اسمكِ
فردت هوما بصوت متهدج ، قبل أن تغيب وراء الصخور : اسمي هوما .
وراح الفتى يتمتم ، دون أن يبرح مكانه .. هوما .. هوما .. يا له من اسم جميل .

" 5 "
ـــــــــــــــــــــــ
تحاملت الأم على نفسها ، وهمت أن تنهض بصعوبة من مكانها ، حيث كانت تجلس كعادتها ، عند مدخل الكهف ، والشمس تميل للغروب ، عندما لاح لها شاب فتيّ ، يسير صاعداً السفح نحوهم ، وعلى كتفه شيء ، لم تتبين حقيقته بالضبط .
وقبل أن تقف على قدميها ، وقلبها يخفق قلقاً ، نادت ابنتها ، وكانت في داخل الكهف ، متمددة في فراشها : بنيتي ، هوما ، تعالي .
وما إن سمعت الفتاة أمها ، تصيح بصوت يشوبه القلق ، حتى خبت من فراشها ، وأسرعت إليها ، وقالت بصوت متوجس : نعم ، ماما .
وأشارت الأم بيدها المرتجفة نحو الشاب ، الذي كان يسير صعداً بهمة ونشاط ، رغم وعورة الطريق ، وقالت بصوت متهدج : انظري ، يا بنيتي ، يبدو أنه الشاب ، الذي حدثتني عنة ليلة البارحة .
ونظرت هوما حيث تشير أمها ، ووقع نظرها على الشاب ، وهو يسير نحوهم ، وردت قائلة ، وقد تملكتها الدهشة : نعم ماما ، إنه هو .
وتطلعت الأم إليه ثانية ، وتأملته جيداً ، إنها لم ترَ إنساناً في محيط الكهف ، ولا في الغابة ، منذ مدة طويلة ، ثم تساءلت : ترى ماذا يحمل على كتفه ؟
ودققت الفتاة النظر في الشاب ، إنه هو ، ترى ما الذي يريده من المجيء إلى الكهف ؟ من يدري ، ردت قائلة : أظنّ أنه يحمل غزالاً .
وهزت الأم رأسها ، وهي مازالت تتابع الشاب بعينيها القلقتين ، وقالت : مهما يكن ، فإن مجيئه لا يبشر بخير ، علينا أن نكون على حذر ، يا بنيتي .
ومدت الفتاة يدها ، وربتت على كتف أمها ، وقالت بصوت مطمئن : لا عليك ، يا ماما ، هذا الشاب لا يبدو أنه شرير ، ومع ذلك سأحاول أن أصرفه ، بعيداً عنّا ، في أسرع وقت ممكن .
ووصل الشاب أخيراً ، حيث تقف الأم وابنتها ، وحياهما قائلاً ، والغزال على كتفه : طاب صباحكما ، هذا كهف جميل ، ومحيطه أجمل .
وردت الأم قائلة : طاب صباحك .
ونظرت الفتاة إليه ، دون أن تردّ على تحيته ، وقالت بصوت شبه جاف : ظننتُ أنك لم تبقّ في الغابة ، وأنك عدت من حيث أتيت .
وأنزل دودا الغزال عن كتفه ، ووضعه أمام الأم ، وردّ على الفتاة قائلاً : هذا ما أردته فعلاً ، لكني عثرتُ على الغزال ، الذي اصطدته بحربتك ، فرأيت أن أجلبه لك ، فأنت أحق به من أي شخص آخر .
ورمقت هوما أمها بنظرة سريعة ، ثم نظرت إلى دودا ، وقالت له : أنت أيضاً لك حق فيه ، فقد أطلقت عليه سهمك ، وأصبته كما أصبتُه .
وابتسم دودا ، وقال : نعم ، أطلقت عليه سهماُ ، لكن سهمي لم يصبه إلا إصابة طفيفة ، أما حربتك فقد أصابته في الصميم ، إذن فهو حقكِ أنتِ .
وهمت هوما أن تردّ عليه ، لكن الأم أرادت أن تهدىء الوضع ، فسبقتها قائلة : مهما يكن ، يا بني ، فنحن نشكرك ، وهذا كرم منك .
وابتسم دودا ثانية ، وقال للأم : هذا الغزال ، لو كنت أنا من اصطدته ، لأسعدني أن أقدمه هدية لكما ، فأنتما تستحقان كلّ خير .
ولاذ الجميع بالصمت ، وبدا الخوف والقلق على الأم والفتاة هوما ، حين تناهى من بعيد صوت الدب ، ونظر دودا نحو مصدر الصوت ، وأنصت ملياً ، ثم قال : هذا الدب ، لا يبدو بعيداً جداً ، ويجب الحذر منه .
ورمقت الأم ابنتها هوما بنظرة سريعة متوجسة ، ولاحظت أنها تبدو قلقة خائفة ، ثم نظرت إلى الشاب دودا ، وقالت له : الظلام سيخيم قريباً ، ونحن لا نطمئن عليك من السير ليلاً في الغابة ، ابق معنا هنا حتى الصباح ، ثم عد من حيث أتيت .
ونظر دودا إلى هوما ، لعله يعرف رأيها فيما قالته أمها ، وقبل أن يردّ على الأم بشيء ، قالت هوما بصوت هادئ : ابقَ ، فالكهف يتسع لنا جميعاً .
ولاذ دودا بالصمت لحظة ، ثم نظر إلى هوما وأمها ، وقال وهو يكتم ارتياحه : أشكركما ، أرجو أن لا يضايقكما وجودي .
وردت الأم قائلة ، وهي تنظر إليه : أبداً يا بني ، وعلى الرحب والسعة .
وأشار دودا بيده إلى الغزال ، وقد بدا مرتاحاً ، بل وفرحاً أيضاً ، وقال : سأنظف الغزال ، وأشويه للعشاء ، وأرجو أن يعجبك .
ورمقت الأم ابنتها هوما بنظرة سريعة ، وقالت مبتسمة وكأنها تتذكر قطعة لحم الغزال ، التي أهداها لها زوجها في يوم بعيد ، لكن ذكراه مازالت حية في أعماقها ، وقالت : لحم الغزال يعجبني جداً ، آه ما ألذه .
وانحنى دودا ، وحمل الغزال ، وقال وهو يسير به جانباً : فلأبد العمل إذن ، وسأعده بأسرع ما يمكن ، وسأشويه هنا في الخارج .
ولحقت به هوما ، وهي تقول : سآتي معك ، لأتعلم على الأقل ، كيف تعد الغزال للشواء .
وابتسمت الأم بشيء من الفرح والحنان ، وهي تتابع بعينيها المتعبتين ، دودا وهو يسير حاملاً الغزال ، والمدية في يده ، وابنتها هوما تسير في إثره ، وسرعان ما استدارت ، ومشت ببطء إلى داخل الكهف .
وجلست الأم في فراشها ، لكن رغم شعورها بالتعب ، كانت تحس بالارتياح ، وراحت تصغي إلى ما يدور بين ابنتها هوما والشاب دودا ، وهما يعدان الغزال للعشاء ، وغمرها الفرح ، رغم أنها لم تسمع كلمة واحدة مما كان يدور بينهما .














" 6 "
ـــــــــــــــــــ
أفاق دودا صباح اليوم التالي ، وإذا هوما وأمها قد نهضتا من فراشهما ، بل وأعدتا طعام الإفطار ، فاعتدل في فراشه ، وحياهما قائلاً : طاب صباحكما .
فردتا معاً : طاب صباحك .
وخاطبته الأم قائلة بصوت هادىء : طعام الإفطار جاهز ، تعال لنفطر معاً .
ونهوض دودا من فراشه ، بعد أن أبعد القوس والسهم ، اللذين وضعهما إلى جانبه ليلة البارحة ، وجلس معهما إلى السفرة ، وراحوا يأكلون صامتين .
ورمقت الأم دودا بنظرة سريعة ، وهي تتناول الطعام ، وقالت له : ليلة البارحة ، انتبهت إليك ، وأنت تنهض من فراشك مرات عديدة .
وردّ دودا قائلاً ، دون أن ينظر إليها : الكهف في الليل ، كان بارداً بعض الشيء ، فنهضت عدة مرات أتفقد النار في الموقد ، وأغذيها بالوقود اللازم .
ورمقته هوما بنظرة خاطفة ، وقالت له بصوت متردد : لا أدري ، ربما تراءى لي ، ولعلي مخطئة ، لقد سمعت الدب يصيح من مكان ما من الغابة .
ونظرت الأم إلى دودا ، وقالت : لا أظن أنكِ مخطئة ، أنا أيضاً سمعت الدب يصيح .
ونهض دودا ، ووقف في مدخل الكهف ، الذي أزاحت هوما وأمها الأغصان عنه ، وقال كأنما يتحدث إلى نفسه : فكرت أن أعود اليوم إلى أهلي ، في الطرف الآخر من الغابة ، لابدّ أنهم يفتقدونني الآن .
ونهضت هوما من مكانها ، وراحت تلملم بقايا الطعام ، دون أن تتفوه بكلمة ، ونهضت الأم بدورها ، ونظرت إلى الشاب ، وقالت له : هذا حق ، إنهم أهلك .
فالتفت دودا إلى الأم ، وقال وهو يرمق الفتاة بنظرة خاطفة : نعم ، أريد أن أذهب ، لكني لا أستطيع أن أترككما هنا وحدكما ، وهذا الدب في الجوار .
ورفعت هوما رأسها ، وحدقت في دودا ، لكنها لم تتفوه بكلمة واحدة ، فأخذ دودا قوسه وسهامه ، وقال : سأذهب إلى الغابة ، ثم أعرج إلى النهر ، لعلي أرى هذا الدب ، فأقتله ، وأخلصكما منه .
وبدون إرادة منها ، نظرت هوما إليه ، وهتفت به : كلا ، لا تذهب ، إنه حيوان شرس .
وصمتت مترددة ، وهي ترمق أمها بنظرة خاطفة ، فقالت الأم : بني ، ابنتي على حق .
وهزّ دودا رأسه ، وقال بإصرار : مهما يكن ، لابدّ من مواجهته عاجلاً أو آجلاً ، ما دمتما هنا ، وأنا أرى أن أواجهه عاجلاً .
ونظرت الأم إليه متأثرة ، وقالت له : كن حذراً ، يا بني ، هذا الدب الأسود الضخم شرس للغاية ، ونحن لا نريد أن تتأذى بسببنا .
وقبل أن يمضي دودا ، منحدراً نحو الغابة ، قال : لا تغادرا الكهف ، مهما كان السبب ، وكونا حذرتين ، وسأحاول أن لا أتأخر عنكما .
ولم يتأخر دودا فعلاً ، فقد عاد من الغابة ، عند حوالي منتصف النهار ، حاملاً قوسه وسهامه بيد ، وباليد الأخرى كان يحمل أرنباً .
واقترب دودا منهما ، والأرنب في يده ، وقال : لقد تجولتُ في الغابة ، ونزلت إلى النهر ، وعلى رمال الشاطئ ، رأيت آثار أقدام الدب ، فبحثت عنه ، لعلي أعثر عليه ، لكن دون جدوى .
ورفع الأرنب قليلاً ، ليريه للأم والفتاة ، ونظرت الفتاة إلى الأرنب مبتسمة ، ثم رمقت أمها بنظرة سريعة ، وقالت : مهما يكن ، نشكرك على هذا الأرنب .
وحدق الشاب في الأرنب ، وهو يغالب ابتسامته ، ثم قال للفتاة : أعرف أن هذا الأرنب ، الذي اصطدته أرنباً هزيلاً ، وأنك قد تصيدين أفضل منه ، لكن مهما كان الأمر ، فإنه .. أرنب .
وابتسمت هوما ، دون أن تردّ عليه ، فقالت الأم مازحة : إنها لا تقصد ذلك ، ولو أنها صيادة ماهرة ، في البر ، وكذلك في النهر .
وخاطب دودا الأم ، وهو ينظر إلى هوما : أنا أشهد لها بذلك ، فقد رأيتها بأم عيني ، وهي تطلق حربتها إلى الغزال ، وتصيبه ، رغم أنه كان يركض .
وهزت هوما رأسها ، وتمتمت : أشكرك .
ومدت هوما يدها ، وأخذت الأرنب منه ، ثم خرجت به من الكهف ، وهي تقول : مهما يكن ، سأجعل من هذا الأرنب ، وجبة طعام لذيذة .
ونظرت الأم إلى دودا ، وقالت مبتسمة : ابنتي تمزح ، يا بني ، نشكرك على الأرنب .
وابتسم دودا بدوره ، وهو يضع القوس والسهام جانباً ، وقال : أعرف ، ويسرني أنها تمزح .
وجلست الأم على فراشها ، فجلس دودا قبالتها ، ونظر إليها ملياً ، ثم قال : ما يثير استغرابي ، أنكما هنا وحدكما ، وهذا أمر صعب وخطر .
فلاذت الأم بالصمت برهة ، ثم نظرت إلى دودا ، وقالت : لم نكن أنا وابنتي وحدنا دائماً ، فقد كان معنا زوجي ، وهو صياد دببة شجاع .
وصمتت لحظة ، وقد تزاحمت الدموع في عينيها المتعبتين ، وتابعت قائلة : لكن دباً أسود ضخماً قتله ، وتركنا وحدنا في هذا المكان .
ولاذ دودا بالصمت لحظة ، وقد بدا متأثراً ، لكنه تمالك نفسه ، وقال للأم : ربما آن الأوان ، لتغادرا هذا الكهف ، وتذهبا إلى مكان مأهول ، وتعيشان حياتكما في أمان واطمئنان وسلام .
وهزت الأم رأسها ، وقالت : هذا ما أفكر فيه ، فهذا المكان لا يصلح لفتاة مثل ابنتي ، إنها شابة في مقتبل العمر ، لكن ماذا أستطيع أن أفعل ؟ إنني كما تراني ، لا أكاد أقوى على السير .
وصمتت الأم ، وقد غلبها الحزن ، فنهض دودا ، واتجه إلى الخارج ، وهو يقول : سأذهب إلى الخارج ، وأساعد هوما في إعداد الطعام .









" 7 "
ـــــــــــــــــــ
مرت ثلاثة أيام ، ودودا باقٍ مع هوما وأمها في الكهف ، وكلما سمع صوت الدب ، آتٍ من بعيد ، وخاصة في النهار ، حمل قوسه وسهامه ، وأسرع نحو مصدر الصوت ، لعله يتصدى للدب ، ويقتله .
وبعد ساعات من البحث ، في أرجاء الغابة ، وعلى شاطئ النهر ، يعود دودا متعباً ، وهو يحمل أرنباً ، أو طائراً من الطيور .
وذات ليلة ، وهم يجلسون حول موقد النار ، نظرت الأم إلى ابنتها ، وخاطبتها قائلة : هوما ..
ونظرت هوما إليها ، وقالت : نعم ماما .
فقالت الأم : أشتهي سمكة ، يا بنيتي .
فرمقت هوما الشاب دودا مبتسمة ، ثم قالت لأمها : غدا تأكلين سمكة ، يا ماما .
وقال الشاب مبتسماً : سأرافقك غداً ، لعلي أصيد سمكة ، مهما كان حجمها .
وقالت هوما : ليس لدينا غير حربة واحدة ، يا دودا .
فقال دودا : في كهف قريب من كهفا ، كان صياد عجوز يصيد السمك بالقوس والسهام .
وخاطبته الأم مبتسمة : حاول أنت أيضاً ، لعلك تنجح ، وتصطاد سمكة بالقوس والسهم .
وعند تناولهم لطعام الإفطار ، في صباح اليوم التالي ، تناهى إليهم من بعيد صوت الدب ، فنظر الشاب عبر مدخل الكهف ، نحو مصدر الصوت ، وقال بصوت متوجس : الدب .
والتمع شيء من الخوف في عيني هوما ، وقالت : لا بأس ، نحن نسمع صوته كلّ يوم تقريباً ، فلنذهب إلى النهر ، ونصطاد سمكة لماما .
وحاولت الأم أن تحتج ، وقالت : بنيتي ..
فقاطعتها هوما قائلة : ماما ، البارحة أردت سمكة ، ولابدّ أن تأكلي اليوم سمكة .
ونظرت الأم إلى دودا مستنجدة به ، فابتسم لها ، وقال : لا عليكِ ، سأكون معها ، وأحميها .
وعلى الفور ، حملت هوما حربتها ، ومضت إلى الخارج ، فأخذ دودا قوسه وسهامه ، ولحق بها ، ووقفت الأم في مدخل الكهف ، تنظر إلى هوما ، وهي تسير إلى جانب دودا ، وقد تضببت عيناها بالدموع .
ومن مكانها ، هتفت الأم بهوما ودودا : لا تتأخرا ، عودا إليّ قبل منتصف النهار .
ومال دودا على هوما ، وهمس لها : النهار يكاد ينتصف ، يا هوما .
فردت هوما قائلة : إنها ماما .
وحين وصلا حافة الغابة ، توقفت هوما منصتة ، وقد بدا عليها الخوف والقلق ، والتفتت إلى دودا ، وقالت له بصوت مرتجف : أنصت ، يا دودا ، إنه صوت غريب ، لا أظنه صوت الدب .
وتناهى إليهما الصوت ثانية ، وهو صوت ممطوط وواضح هذه المرة ، فتابعت هوما قائلة ، وهي تنظر إلى دودا : ولا صوت الذئب ، ولا ابن آوى ولا ..
وصمتت هوما مترددة خائفة ، فنظر دودا إليها ، وقال : صوت من إذن ؟
فحدقت هوما فيه ، وهي تنصت إلى الصوت الممطوط ، الذي يأتيها مرة أخرى ، وقالت : يبدو أنك تعرف صوت من هو هذا الصوت .
وهزّ دودا رأسه ، وقال : نعم ، أعرف .
ثم مال عليها ، وقال : هذا صوت كائن لم تريه إلا على جدران الكهف ، رسمه أمك يوماً ما .
واتسعت عينا هوما ، وقالت : الماموث !
وهز دودا رأسه ثانية ، وقال : نعم ، الماموث ، وما تسمعينه الآن ، آتٍ من بعيد ، هو صوته .
وقالت هوما : ليتني أراه .
فردّ دودا قائلاً : سأريك إياه ، ولكن ليس الآن ، إن أمك تنتظرنا في الكهف ، ويجب أن نصطاد لها ولو سمكة واحدة ، لقد وعدتها أنتِ بالذات .
وسارت هوما نحو النهر ، والحربة في يدها ، وهي تقول : سأرى الماموث في يوم قريب إذن ، وستكون أنت من يريني إياه ، لقد وعدتني .
وردّ دودا قائلاً : وأنا عند وعدي .
وتوقفت هوما ، ثم قالت : والآن ، يا دودا ، ها هو النهر ، إنه ينادينا أن تعالا ، وسنسرع إليه ، فلابد أن نصطاد سمكة منه لماما .
وبالفعل اصطادت هوما سمكة متوسطة الحجم بحربتها ، وانهمك دودا هو الآخر ، بمحاولة اصطياد سمكة ، ولكن بواسطة القوس والسهم .
ومن حسن حظه ، أن مرت بالقرب منه سمكة ، سمكة كبيرة بعض الشيء ، فأطلق عليها سهمه ، وأصابها بالصميم ، فرفعها عالياً ، والماء يقطر منها ، وصاح : هوما ، اصطدتُ سمكة ، وأي سمكة .
ونظرت هوما مبهورة إلى السمكة ، التي اصطادها دودا ، وقالت : آه ما أكبر هذه السمكة ، أنت صياد سمك ناهر ، يا دودا ، ستفرح ماما كثيراً بما اصطدته .
وخرج دودا من النهر ، حاملاً السمكة الكبيرة في يد ، وفي اليد الأخرى كان يحمل القوس والسهام ، وقال لهوما وقد تملكه الفرح : سأقيم اليوم وليمة لأمكِ ، يا هوما ، فأمك هي أمي أيضاً .
ووقفت هوما في المياه الضحلة ، وهي تحمل السمكة التي اصطادتها ، ونظرت إلى دودا ، وخاطبته بصوت أثار انتباهه : دودا ..
ونظر دودا إليها ، دون أن يستطيع أن يردّ عليها ، فقد كان قلبه يخفق بشكل غير مألوف عنده ، فتابعت هوما قائلة : ليتك تبقى معنا هنا .
فقال دودا : إنني هنا ، يا هوما ..
وأطرقت هوما رأسها ، ودودا ينظر إليها ، فتراجعت نحو الشاطئ ، وهي تحمل السمكة التي اصطادتها ، ثم استدارت ، وسارت على الرمال ، وقالت : لنعد إلى الكهف ، إن ماما تنتظرنا الآن .












" 8 "
ـــــــــــــــــــ
عند منتصف الليل ، أفاق دودا من النوم ، وفتح عينيه اللتين طار منهما النعاس ، ورأى أضواء النار ، التي راحت تخفت ، تتراقص بكسل على جدران الكهف ، وعلى الحيوانات المتوحشة المرسومة عليها .
وأنصت إلى غطيط هوما وأمها ، وأدرك أنهما نائمتان ، فنهض بهدوء ، واقترب من الموقد ، وغذى النار الخافتة ، بقطعتين من الخشب الجاف ، وسرعان ما راحتا تشتعلان ، وتشيعان الدفء في الكهف .
وبدل أن يعود دودا إلى فراشه ، تسلل إلى الخارج ، عبر المدخل المغطى بأغصان الشجرة ، دون أن يأخذ معه قوسه وسهامه .
ووقف على مقربة من المدخل ، وراح يتلفت حوله ، وهو ينصت ملياً ، وتطلع إلى البعيد ، ثم رفع عينيه إلى السماء ، التي ترصعها نجوم متغامزة ، ويطل من بينها قمر ، قضمه الحوت ، هذا ما تقوله أمه ، وسيظل يقضمه حتى يأتي عليه تماماً .
وابتسم دودا إذ تراءت له أمه ، وهي تتحدث إليه عندما كان صغيراً ، عن القمر المسكين ، والحوت الضخم المتوحش ، ويذكر أنه نظر إليها ذات مرة ، وقال : لكن القمر يظهر ثانية ، ويكبر حتى يكتمل .
فلاذت الأم بالصمت لحظة ، ثم ابتسمت ، وقالت : إنه ليس القمر نفسه ، وإنما ابنه أو أحد أحفاده ، فالقمر ابتلعه الحوت ، وحبسه في داخله .
وحدقت الأم في صغيرها ، وبدا لها أنه لم يقتنع تماماً بما قالته ، فقالت له : بني ، هذا ما يقوله الأسلاف ، والأسلاف على حق دائماً .
وانتبه دودا على تغريد طائر ، يأتيه من بعيد ، فجلس على صخرة قريبة ، وراح ينصت ، ثم قال في نفسه : يبدو أن هذا الطائر مسهد مثلي ، ترى هل لمثل هذا الطائر هموم ؟ من يدري .
وصمت لحظة ، وتراءى له أبوه وإخوته وأمه ، وتساءل بينه وبين نفسه : ترى هل أمي نائمة الآن ، أم أنها مسهدة تفكر فيّ ؟
وانتبه دودا إلى وقع أقدام خفيفة تقترب منه ، وأدرك في الحال أنها هوما ، هوما نفسها ، يا للعجب ، ترى ما الذي أيقظها في مثل هذا الوقت من الليل ؟
واقتربت هوما منه ، وجلست إلى جانبه على الصخرة ، ولبثت صامتة تصغي إلى أصوات الليل المختلفة ، ثم مالت برأسها ، الذي يغطيه حرير بني لامع ، وأحس بقلبه يخفق ، حين وضعته برفق على كتفه .
ولاذ دودا بالصمت ، آه ما ألذ هذا الصمت ، وتمنى أن يدوم ، ولا يقضمه كائن ما ، كما يقضم الحوت المتوحش القمر ، الذي في السماء .
وخاطبته هوما قائلة بصوت خافت : دودا ..
أجابها بنفس الصوت الخافت : نعم ، هوما .
وتابعت هوما بصوتها الخافت : أفقت عليك أول الأمر ، وأنت تغذي النار بقطع من الخشب .
فقال دودا : كادت النار أن تنطفئ في الموقد .
وقالت هوما ، ورأسها مازال على كتفه : توقعتُ أن تعود إلى فراشك ، لكنك لم تعد ، وإنما تسللت عبر البوابة إلى الخارج .
ولاذ دودا بالصمت لحظة ، ثم قال : الحقيقة ، يا هوما ، أنني رأيت أمي في المنام .
وصمت لحظة ، ثمّ قال بصوت بدا عليه التأثر : نظرت إليّ من بعيد ، وأشارت لي أن تعال .
ورفعت هوما رأسها المكلل بشعر بنيّ لامع ، وقالت : إنها أمك ، يا دودا .
ونظر دودا إليها على ضوء القمر الخافت ، وقال : ليتني أستطيع ، يا هوما ، ليتني أستطيع .
وأطرقت هوما رأسها ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : لو كنتُ أستطيع لأتيت معك ، لكن ..
وصمتت هوما ، وكأنها اختنقت بدموعها ، فمدّ دودا يده واحتوى يدها ، وبدل أن يتكلم ، راح ينصت إلى الطائر الصغير ، الذي يأتيه صوته من بعيد .
وأنصتت هوما بدورها إلى الطائر ، ثم نظرت إلى دودا ، وقالت : إنه بلبل ، وهو طائر صغير ، يغرد في الليل أحياناً ، رغم أن الليل لا يخلو من أخطار .
وصمتت لحظة ، ثم تنهدت وتابعت قائلة : لو أن هذا العالم بلا حيتان ودببة و ..
ومدّ دودا يده ، ورفع وجهها قليلاً ، وراح يحدق فيه على ضوء القمر الخافت ، الذي قضمه الحوت ، وقال لها : هذا العالم جميل ، يا هوما ، رغم ما فيه من دببة وحيتان ونمور سيافة ووحوش أخرى .
وهزت هوما رأسها ، وابتسمت قائلة : نعم ، أنا معك ، إن هذا العالم جميل .
وابتسم دودا لها ، وقال بصوت فرح : وكيف لا يكون العالم جميلاً ، وأنت قمره المنير ؟ هذا القمر لن أسمح لأي حوت أن يقضمه ، مهما كان الثمن .
ونهضت هوما ، ووقفت مبتسمة على مقربة من دودا ، وقالت : لا أدري ، ربما لن أستطيع أن أنام الليلة ، حتى لو بقيت في فراشي حتى الصباح .
وابتسم دودا لها ، وقال : اذهبي ، ياهوما ، ونامي .
وتراجعت هوما إلى الوراء ، وتساءلت : وأنتَ ؟
فرد دودا قائلاً : سأدخل بعدك ، وأحاول أن أنام .
وسارت هوما متجهة إلى مدخل الكهف ، وتباطأت قليلاً عند المدخل ، وقالت : سأحاول أن أنام أنا أيضاً ، لأني أريد أن أراك في المنام .
فابتسم دودا لها ، وقال : ستريني دائماً .
وتوقفت هوما عند المدخل ، عندما ارتفع من بعيد ، صوت خافت ممطوط ، فرفعت رأسها تنصت ، وقد بدا عليه بعض الخوف ، وتساءلت : الدب !
فرد دودا : لا ، إنه الماموث .
فقالت هوما لدودا ، قبل أن تدخل الكهف : تصبح على خير ، يا دودا .
فردّ دودا قائلاً : تصبحين على خير .









" 9 "
ـــــــــــــــــ
بعد أن تناولوا طعام الإفطار ، صباح اليوم التالي ، نهض دودا ، وأخذ قوسه وسهامه ، التي كانت إلى جانب فراشه ليلاً ، وقال : سنأكل اليوم طيراً .
ونهضت هوما ، وغمزت لأمها ، وقالت مازحة : سآتي معك ، وإلا قد لا نأكل إلا عصفوراً صغيراً .
ونظر دودا إليها ، وهو يغالب ابتسامته ، فقالت الأم : دعك منها ، أنت تعرفها ، إنها تمزح .
فقالت هوما : العصفور أيضاً طائر ، يا ماما .
ونظر دودا إلى هوما ، وقال : ابقي أنتِ هنا ، لا أريد أن تبقى الأم وحدها .
ونظرت هوما إلى أمها ، فقالت الأم : كلا ، لستُ طفلة صغيرة ، لأخاف من البقاء وحدي في الكهف .
وهمّ دودا أن يقول شيئاً ، لكنه توقف حين تناهت من بعيد ، ربما من أعماق الغابة ، أو شاطئ النهر ، أصداء صوت ممطوط ، فنظرت هوما إلى دودا ، وقالت : الماموث !
وأصغى دودا إلى الصوت ملياً ، ثم قال : نعم ، يا هوما ، إنه الماموث .
وهتفت هوما فرحة : هذه فرصتي لأرى الماوث .
واتجه دودا إلى الخارج ، وقوسه وسهامه في يده ، وهو يقول : هيا يا هوما ، لقد وعدتك أن أريك الماموث ، وسأريك إياه اليوم .
وعلى الفور حملت هوما حربتها ، وأسرعت في إثر دودا ، وهي تهتف : مهلاً يا دودا ، لا تستعجل ، انتظرني ، إنني قادمة .
ووقفت الأم في مدخل الكهف ، تنظر إلى دودا وابنتها هوما ، وهما يسيران جنباً إلى جنب ، ودمعت عيناها حين تذكرت زوجها ، وهو يسير إلى جانبها ، في طريقهما إلى النهر أو أعماق الغابة .
ونظرت هوما إلى دودا ، وهي تسير إلى جانبه ، والحربة في يدها : لا شك أنك رأيت الماموث ، في محيط منطقتكم ، أكثر من مرة .
وهزّ دودا رأسه ، وهو يواصل سيره ، والقوس والسهام في يده ، وقال : نعم رأيته ، رأيت الماموث مرة واحدة ، ولم أنسه ، فمن يرى الماموث لا ينساه .
وقالت هوما : يُقال أنه ضخم .
فقال دودا : ضخم جداً ، أضخم من الفيل نفسه .
ونظرت هوما إلى دودا صامتة ، فقال لها : لا تقولي ، إنك لم تري الفيل حتى الآن .
ورفعت هوما كتفيها ، وهزت رأسها ، ثم قالت : يُقال أنه يشبه الفيل ، الذي لم أره بعد .
وابتسم دودا ، وقال لها : سترين الفيل عندما ترين الماموث ، ولو أن الماموث أضخم منه ، وناباه طويلان ومعقوفان ، ويغطي جسمه الصوف ، لكنه مثله يكتفي بأكل الأعشاب رغم ضخامته .
وتوقف دودا منصتاً ، ومدّ يده إلى هوما وأوقفها ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، ونظرت هوما إليه ، وتساءلت قلقة : ما الأمر ؟
وقبل أن يردّ دودا عليها ، ارتفع من بين الأشجار القريبة وقع أقدام ثقيلة ، ثم ارتفع الصوت الممطوط ، فتشبثت هوما بدودا ، وتمتمت خائفة : يا ويلي ، الماموث .
فمدّ دودا يده ، وأمسك يدها ، وقال لها بصوت خافت : لا تخافي ، إنني معك ، و ..
وسكت مبهور الأنفاس ، وقد اتسعت عيناه ، حين برز من بين الأشجار مأموث ضخم جداً ، تتبعه أنثاه وهي أصغر حجماً منه ، وبينهما يسير صغيرهما ، وهو يكاد يلتصق بأمه ، ومال دودا على هوما ، وهمس لها : انظري ، إنها عائلة ، الضخم جداً هو الأب ، والأقل منه ضخامة هي الأم ، ومعهما صغيرهما .
ووقفت هوما مبهورة ، وإن كان قلبها يخفق بشيء من الخوف ، وهي تراقب المواميث الثلاثة وهم يسيرون ببطء ، وتمتمت : آه ما أجملهم .
ثم التفتت إلى دودا ، وقالت له : هذا الكائن الضخم ، لا أدري كيف يمكن أن يصيده الصيادون .
فردّ دودا ، وهو يتابع المواميث الثلاثة ، وهم يسرون صامتين : يصيدونه بالرماح ، أو يحفرون في طريقه حفرة كبيرة ، يغطونها بأغصان الأشجار ، فيقع فيها ، ولا يستطيع الخروج منها مهما حاول .
ونظرت هوما إلى الماموث الصغير ، الذي كان يسير بهدوء لصق أمه ، وقالت : هذا الكائن الجميل الوديع ، لن آكل من لحمه حتى لو متّ من الجوع .
ورمقها دودا بنظرة خاطفة ، وقال مبتسماً : لو تذوقتِ لحمه ، وهو مشوي ، لما قلتِ هذا .
وأشاحت هوما برأسها ، وقالت : لن أتذوقه .
ونظر دودا إليها ، فأضافت قائلة : ولن أدعك تتذوقه .
وكتم دودا ضحكته ، وقال لها : انظري إليهم ، إنهم يبتعدون ، وقد لا ترينهم مرة ثانية .
وصمت دودا ، وراح مع هوما يتابعان المواميث الثلاثة ، يسيرون مبتعدين بخطاهم الثقيلة البطيئة ، حتى اختفوا تماماً بين الأشجار ، وعندئذ قالت هوما ، وكأنها تحدث نفسها : لن تصدق ماما ما شاهدته .
فقال دودا : هذا إذا لم تكن قد رأته من قبل .
وهمَ دودا أن بسير ، والقوس والسهام في يده ، وقال : لقد وعدنا أمك بطير ، هيّا ..
وقاطعته هوما قائلة بصوت خائف : اسمع ..
وأصغى دودا ملياً ، ثم قال : لا أسمع أيّ شيء ، يا هوما ، ما الأمر ؟
واستدارت هونا ، وسارت بخطوات مضطربة نحو الكهف ، وهي تقول : إنني أشمّ رائحة الدب .
وتشمم دودا ، ثم لحق بها ، وقال : مهلاً ، يا هونا ، إنني لا أشمّ شيئاً .
وواصلت هونا سيرها المضطرب ، وهي تقول : الدب في مكان ما ، وأخشى أن يكون قريباً من الكهف ، فلنسرع هيّا .. وإلا ..
ولحق دودا بها ، وأمسك بيدها ، وقال : توقفي ..
فنزعت يدها منه بعنف ، وقالت : كلا ..
ووصلا قريباً من الكهف ، كان كلّ شيء هادئاً ، فتوقفت هوما ، وتوقف دودا إلى جانبها ، وقال لها : أرأيتِ ، كل شيء هادئ ، لا وجود للدب ..
وصمت لحظة ، ثم قال : تمالكي نفسكِ ، لا يجب أن تراكِ أمك هكذا ، هيا ندخل الكهف ، لابد أن أمك متمددة في فراشها ، تنتظر عودتنا بالطير الذي وعدناها به .





" 10 "
ـــــــــــــــــــــــ
أفاق دودا مبكراً ، في صباح اليوم التالي ، وما إن نهض من فراشه ، حتى انتفضت هوما من مكانها مبتسمة ، واعتدلت الأم ، ونظرت إلى دودا ، وقالت : طاب صباحك ، يا بنيّ .
وردّ دودا قائلاً : طاب صباحكِ .
والتفتت هوما إليه ، وقالت : أراك مبكراً هذا اليوم .
فابتسم دودا لها ، وقال وهو ينظر إلى الأم : سأذهب إلى الغابة ، وأصطاد الطير الذي وعدت به الأم البارحة ، ولم أفِ بوعدي .
فابتسمت الأم له ، وقالت : لن أدعكَ تذهب إلى الغابة ، قبل أن تتناول طعام الإفطار .
وقفزت هوما من الفراش ، وهي تقول : أنا سأعد طعام الإطار ، وطبعاً ليس بدون ثمن .
وهمهمت الأم ، وتمتمت : آه منكِ .
وعلى عجل ، أعدت هوما طعام الإفطار ، وجلسوا ثلاثتهم يتناولون الطعام ، ونظرت الأم إلى ابنتها هوما ، وقالت : أريد أن تصطادي لي سمكة .
ورمقت هوما الشاب دودا بنظرة سريعة ، وقالت : سأبقى اليوم إلى جانبك ، هذا هو الثمن .
ولاذ دودا بالصمت ، ونظر إلى الأم ، وبدا وكأنه يؤيد هوما ، لكن الأم قالت : كلا يا هوما ، ستذهبين مع دودا ، وتأتيني بسمكة من النهر .
وحاولت هوما إقناع أمها ، وقالت : ماما ..
لكن الأم قاطعتها قائلة : لن تبقي معي في الكهف ، أنا أمكِ ، اذهبي مع دودا ، واصطادي .
ونهض دودا ، ونظر إلى الأم ، وقال لها : إذا كانت هوما متعبه ، فلتبقّ في الكهف .
ولاذت هوما بالصمت ، وهي تنظر إلى أمها ، فابتسمت الأم ، وقالت : أنا أعرفها ، إنها ليست متعبة .
وابتسم دودا ، وقال ، وهو يحمل قوسه وسهامه ، ويتجه إلى الخارج : أنتِ أدرى .
ونظرت الأم إلى هوما ، وقالت : خذي حربتك ، والحقي به ، أريد سمكة جيدة .
وعلى الفور ، ودون أن تتفوه بكلمة واحدة ، أخذت هوما حربتها ، ولحقت بدودا ، وخرجت الأم في أثرهما ، ووقفت في مدخل الكهف ، تنظر إليهما ، وهما يسيران جنباً إلى جنب ، متجهين معاً إلى الغابة .
وهتفت الأم بهما بصوت تبلله الدموع : لا تتأخرا .
ولوحت لها هوما مبتسمة ، وقالت : لن أعود قبل أن أصطاد لكِ السمكة التي أردتها .
ولوح لها دودا ، وقال : سنعود سريعاً .
وتمتمت الأم ، وعيناها تغرقان بالدموع : رافقتكما السلامة ، الآن ومدى العمر .
وتباطأت خطوات هوما ، والحربة تراخت في يدها ، والتفت دودا إليها ، ولاحظت تأثره ، لكنه قال لها ليصرفها عما يثير همومها : لنسرع يا هوما ، هناك سمكة مسكينة تنتظر حربتك .
وردت هوما ، وكأنها تحدث نفسها : لست مرتاحة .
وابتسم لها دودا ، وهو يواصل سيره متوغلاً في الغابة : البارحة خدعكِ أنفك ، أنفك الجميل ..
وهزت هوما رأسها ، فقال دودا : هذه الأشجار مليئة بالطيور ، دعينا نصطاد طيراً منها ، ثم نذهب إلى النهر ، لتصطادي سمكتك الموعودة .
وتوقف دودا ، وأشار بيده إلى شجرة قريبة ، وقال بصوت خافت : انظري ، إنه طائر مكتنز الجسم ، سأصيده وآخذه إلى أمك .
وتوقفت هوما على مقربة منه ، لكنها كانت قلقة مشغولة البال ، حتى أنها لم تلتفت إلى دودا ، وهو يطلق سهمه على الطائر ، ويصيبه في الصميم ، وحالما سقط الطائر عل الأرض ، هتف دودا بهوما : هوما ، لقد اصطدت الطير ، اذهبي واجلبيه .
وذهبت هوما ، وجلبت الطائر المدمى ، فأخذه دودا منها ، وقال : والآن لنذهب إلى النهر ، لعلك تصطادين السمكة ، التي طلبتها منكِ أمك .
وسار دودا ، والقوس والسهام في يد ، وفي اليد الأخرى الطائر المدمى ، ويبدو أنه لم يسمع خطوات هوما وراءه ، فهتف قائلاً : هوما ، هيا فلنسرع ..
وتوقف حين قاطعته هوما قائلة : دودا ..
والتفت إليها ، ولاحظ أنها قلقة متوترة ، فقفل إليها عائداً ، وتساءل : ما الأمر ، يا هوما ؟
فنظرت إليه بعينين قلقتين ، وقالت : أمي ..
وسكتت مختنقة بدموعها ، فقال دودا يطمئنها : لا داعي للخوف والقلق ، أمكِ بخير ..
ونظرت هوما نحو الكهف ، المعلق بين الصخور في أعلى السفح ، دون أن تردّ عليه ، ثم مضت مسرعة ، وهي تقول : لست مرتاحة ، لا أدري لماذا ..
ولحق دودا بها مسرعاً ، والقوس والسهام في يده ، وقال لها ، وهو يصعد السفح إلى جانبها : سنصل الكهف بعد قليل ، وسترين أن قلقك لم يكن له داعٍ .
وقبل أن يصلا محيط الكهف ، توقفا مصدومين ، حين رأيا الدب الأسود يخرج مسرعاً من الكهف ، والدماء تلوث وجهه ومخالبه ، ويمضي مبتعداً بسرعة ، ويختفي بين صخور الجبل .
وصرخت هوما بحرقة : ماما .
وهمت أن تندفع نحو الكهف ، فأمسك دودا بها ، وقال لها : ابقي أنتِ هنا ، سأدخل أنا إلى الكهف .
وجثت هوما على الأرض ، وراحت تبكي ، وتصيح من بين دموعها : ماما .. ماما ..
وتوقف دودا عند المدخل ، ورمق هوما بنظرة سريعة ، ثم دخل إلى الكهف ، ولم يلبث أن خرج ، وقد إربدت ملامحه ، وحاولت هوما أن تزحف نحوه ، وهي تبكي ، فأسرع إليها ، وضمها إلى صدره ، وتركها تبكي وتهتف بحرقة : ماما .. ماما ..
وقبيل غروب الشمس ، وبعد أن واريا الأم التراب ، إلى جانب زوجها ، تحت الشجرة الضخمة ، جلسا على مقربة من مدخل الكهف حزينين متعبين .
وما إن حلّ الظلام ، حتى نهض دودا ، وقال لهوما : البرد سيكون شديداً هنا ، فلندخل .
وأوت هوما إلى الفراش ، الذي كانت تنام فيه مع أمها ، فجلس دودا إلى جانبها ، وقال لها : نامي مطمئنة ، إنني إلى جانبك ، وسأظل ساهراً حتى الصباح .
وقبل أن تنام ، مال عليها دودا ، وقال لها بصوت خافت : هوما : لم يعد لنا ما يبقينا هنا .
لم ترد هوما عليه ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، وفي صباح اليوم الثاني ، وقفا عند قبري الأم والأب ، وقالت هوما بصوت دامع : لا أدري كيف يمكن أن أترك ماما هنا وحدها .
فاقترب دودا منها ، وضمها إلى صدره ، وقال لها : أمك ليست وحدها ، إنها هنا مع الصياد الشجاع ، زوجها ، حيث عاشا حياتهما سعيدين .


23 / 9 / 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با