الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب شمس الرجاء (7) --- الفصل الخامس --- القصة الخامسة: رجاء الحائرين

توماس برنابا

2023 / 3 / 20
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية


شديد؛ ذلك المتشدد في كل شيء في حياته، يسير دائمًا في طريقه مُلقيًا تحية السلام على كل من يقابله، لا يهمه أبدًا من يرد السلام أم من لا يرده، فهو يلقي بالسلام ليقع على من يستحق السلام، فهو يلقيه فقط لوجه الله جلَّ عُلاه.. يركب الميكروباص ويحرص كل الحرص أن لا يجلس بجانب النساء.. دائم الاستغفار وذِكر الله في ابتهالات وتسابيح يلهج فيها نهارًا وليلًا.. لا يمكن أن يجعل لسانه يهدأ عن نشاطه ولو همسًا في قراءات دينية وابتهالات وأدعية..

شديد، المُراعي والمحافظ على مواقيت الصلاة بكل دقة.. لا يمكنه التأخر أبدًا عن الصلاة لأي سبب، حتى ولو كان العمل نفسه! فليذهب العمل للجحيم مهما كان وأينما يكون.. وهو يُراعي الزكاة والتصدق على الناس من قليل ماله وكثيره، ويساهم في بناء بيوت الله.. لا يمكن أن يفوته أي يوم صيام، وهو لا يصوم عن الطعام فقط، بل عن كل ما يُغضب الله تعالى، وعن كل ما يشغله عن ذِكره..

شديد؛ دائم التجهم في بيته، وفي الشارع، أيُّ شارع، وفي وسائل المواصلات، أيّ كانت، وفي عمله، وفي أدائه للعبادة، بل حتى أثناء نومه! وكأن التجهم واكفهرار الوجه سمة من سمات الصالحين!

كان مؤهل شديد التعليمي مؤهلًا متواضعًا؛ دبلوم تجارة أتاح له عمل متواضع يقتات منه قوت اليوم بيومه، وكان لا يَبغي أي غِنىّ في حياته الدنيا.. دائم التقشف والتصدق بما يزيد عن حاجته وحاجة بيته..

ولكنه وجد متعة لا حدود لها في دراسة الكتب الدينية وتعمق بشكل ملحوظ في الثقافة الدينية بالجهود الذاتية دون الدراسة الأكاديمية في أي معهد ديني للدرجة التي جعلته مُتمكنًا في اصطياد أي خطأ قد يقع فيه سهوًا أو عمدًا أي مُتكلم أو خطيب في شئون العبادة والدين..

لم يكن شديد مُتسامحًا أبدًا مع أي انسان، حتى ولو كان من بين جماعته الدينية المحلية، حينما يرتكب، ولو زلة من اللسان، أي خطأ في تلاوة نص ديني أو تفسيره! لم يكن ليعترف أو يقبل بإمكانية الخطأ عن جهل وضعف دراسة أو معرفة حتى ولو كان ذلك عن حسن نية!

نبذه الجميع؛ أهله، وجماعته، واصدقاؤه، بل حتى من يعرفهم من رجال الدين، لشدة تصلفه وعدم تسامحه.. وتجنبوا التعامل معه أو الخوض معه في أي حديث، حتى ولو كان هذا الحديث عابرًا بعيد كل البعد عن أي مسألة دينية!

كان هذا سلوكه مع أمه المريضة، ومع زوجته، وأيضًا مع ابنته الوحيدة.. لم يكن ليسمح لهن بالحديث مع أي غريب أو قريب.. وكان يجب أن يستروا جسدهن بالكامل حينما يخرجون.. ممنوع التزين بالحُلي أو مساحيق التجميل للبهرجة الفاضحة الخليعة!

ولم يسمح لابنته أبدًا أن تكمل دراستها بعد شهادة الدبلوم التي حازت عليها العام المُنصرم.. فالبنات يجب أن يوقرن بيوتهن حتى يرزقهن الله بعدلهم..

كان شديد مُتشددًا، كان أصوليًا بكل ما أوتيت هذه الكلمة من قوة، وكان يفتخر بذلك. ولكن رغم كل هذه الممارسات والسلوكيات الجبارة في ارضاء الله، كانت تملؤه الشكوك في رضى الله عنه! وكان يمقت نفسه لذلك.. وهذه الكراهية انطبعت في سلوكياته وتعاملاته مع كل من هم حوله، وكأنه يكره الجميع، بل يكره الحيوانات التي تسير في الشارع، حتى أنه يُسر بأن يضربها بعصا أو حجر لتبتعد عنه، وأيضًا يكره الحشرات بكل أنواعها حيث يحلو له أن يسحق أي نملة أو دودة قد تصادفه بيده أو قدمه، لا يسره أبدًا منظر الأشجار والزهور في الحدائق، فقد كان يكره الذهاب لزيارة أي حديقة!

كان شديد يُكثر تلاوة الأدعية ويطيلها ويكررها مرارًا وتكرارًا لعله يظفر براحة القلب والضمير التي تراوغه كلما بحث عنها أو طاردها.. لم يخطر بباله قط أن يُسلم أمره لله، وأن يجد في الله، لا الدين، الملاذ والملجأ من سقطاته وهفواته وسهواته التي تثير كراهيته لنفسه وتجعله يشعر أن الله غير راضي عنه.. جُل همه وجزيل تفكيره كان مُنصبان على الدراسة الدينية ولم يسعى أبدًا أن يعمق علاقته بالله نفسه!

كان هذا الصراع الداخلي يُدمره من الداخل، فَنَحف بدنه، وجحظت عيناه من قلة النوم.. وأصبح لا يجد متعة في حياته سوى في انتقاد وانتقاص الغير، خاصة من يظنهم كافرين.. وكان يجد متعة لا يضاهيها متعة في اضطهاد هؤلاء الكافرين، الخارجين عن صحيح الدين، خاصة في مكان عمله. وكم فكر كثيرًا في تدميرهم حتى ولو تطلب الأمر تدمير نفسه هو شخصيًا لتحقيق ذلك!

*****

قرأ مدحت هذه القصة حينما وصلته بالبريد الإلكتروني عصر اليوم التالي.. ووجد نفسه يكره بطل هذه القصة بصورة مُبالغ فيها.. فالدين لم يكن أبدًا مصدرًا للتشدد وعدم التسامح والكراهية ونبذ الأخر بهذا الشكل البغيض..

وأغلق مدحت جهاز الكومبيوتر سريعًا بعد قراءته لهذه القصة لمرة واحدة.. ثم نام قليلًا إلى أن يحين حواره مع الأستاذ نشأت.. ورن جرس المنبه في تمام الساعة السادسة وخمسة وأربعون دقيقة، وقام مدحت من نومه سريعًا، وغسل وجهه بالماء البارد، وفتح جهاز الكومبيوتر، وفعَّل تطبيق Skype ليجد الأستاذ نشأت نشطًا في انتظاره. فقام مدحت بالإتصال به وكان بينهما الحوار التالي:


حوار الليلة السادسة

- عُمت مساءً يا مدحت. كيف كان يومك؟

- كالعادة يا نشأت، فأنا تفرغت تمامًا لِلقاءاتنا، وأنا اتنسم فيك الأمل في أن أخرج من حالتي هذه..

- ليساعدنا الله في مَسّعَانا هذا يا مدحت.. هل قرأت القصة؟

- نعم! ذلك الرجل البغيض! كيف يكون لهذا الرجل رجاء الحائرين كما كتبت في عنوان هذه القصة؟ هذا الإنسان لا يمكن أن يكون له رجاء، يا صديقي، فهو يعيش الجحيم هنا على الأرض قبل أن يموت! وكأنه يتعجل وضعه ومصيره الأبدي!

- يا مدحت مثل هؤلاء الناس مساكين وبؤساء وغالبًا ما يمرضون ويموتون قبل أوانهم، وما هم عليه ما هو إلا رد فعل لإثبات قيمة للذات يفتقدونها.. ودائمًا هناك شرور دفينة في قلوبهم لم يتوبوا عنها في ماضيهم، تجعلهم غير راضين عن أنفسهم، وتوحي لهم أن الله غير راضي عنهم! وربما تكون لهم سقطات أخلاقية لا ذنب لهم فيها جعلتهم يشعرون أنهم دائمي النجاسة ويبحثون على الطهارة بشتى الطرق..


يا صديقي مثل هؤلاء حينما تتلامس قلوبهم مع قبسًا من فيض نور الله يتحولون بشكل جذري لمحبين لله، ولأنفسهم، وللناس أجمعين، ولجميع خليقة الله! سيشعرون ببهجة تفيض من قلوبهم إلى وجوههم لتعم على جميع من حولهم.. وأغلب أمثال هؤلاء الناس يتحولون بعد أن يُلامس النور كيانهم الداخلي لرجال دين مؤثرين بشكل فعال، يُشار لهم بالبنان واللسان لردهم الناس للخير والصلاح والفلاح..

- ولكن كيف يا نشأت يمكنني التعامل مع هؤلاء الناس قبل أن تتلامس قلوبهم مع النور الإلهي، كما قلت، وينير ما فيها من ظلام؟

- يا صديقي كن مُلتمسًا العذر، بل الأعذار، دائمًا للجميع.. ولله طرقه في التعامل مع الأمناء في حياتهم قولًا وفعلًا، والذين يطلبون وجه الله بكل صدق، لا عن غش ونفاق، بل عن أمانة ونقاء قلب. وإلى أن يتعامل الله مع قلوب هؤلاء، ارتقي بفكرك وسلوكياتك معهم دون أن تتحامل على نفسك.. فربما البعض منهم، يُفضلهم الله لأمانتهم عنك، ويسبقونك إلى النعيم الأخروي..

- ولكنني أتسائل.. ما الذي يربط هذه القصة بالسلسلة، التي نحن بصددها، ذات التوجه الواحد وهو رجاء المُبتلين والمساكين في هذه الدنيا؟

- ألم تشعر، يا مدحت، بِمَسّكَنْة شديد؟ فبرغم تشدده وتصلفه، كان في غاية الضعف في الداخل وبحاجة للحب والحنو أشد الإحتياج! وإن قَدرت أنت أن تقدم له الحب الذي يفتقده وليس النبذ والهجر والنكران، الذين يزيدونه تصلفًا، فلربما تحول على يديك إلى إنسان أخر يُشّفَيَّ من لمسات المحبة والحنان..

- حان الوقت لأسألك عن القصة التالية.. عن ماذا ستكون؟

- ستكون، يا صديقي، عن امرأة، يُقال عنها بأنها ممسوسة بالشياطين.. فلننتظر إلى الغد يا صديقي لعلك تُغير حين تقرأها من بعض أرائك بخصوص هذه المسألة.. فإلى اللقاء!

- إلى لقاء الغد يا صديقي العزيز








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القناة 12 الإسرائيلية: المؤسسة الأمنية تدفع باتجاه الموافقة


.. وزير خارجية فرنسا يسعى لمنع التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في




.. بارزاني يبحث في بغداد تأجيل الانتخابات في إقليم كردستان العر


.. سكاي نيوز ترصد آراء عدد من نازحي رفح حول تطلعاتهم للتهدئة




.. اتساع رقعة التظاهرات الطلابية في الولايات المتحدة للمطالبة ب