الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول مسألة الثقافة الأثرية

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2023 / 3 / 21
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الأركيولوجي الماركسي السوفييتي اليكسي بيتروفيتش سميرنوف*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

يحوز الأركيولوجيين اليوم كميةً هائلةً من المواد التي تم تحصيلها نتيجةً للحفريات الأركيولوجية والمُكتشفات العَرَضية واللُقى السطحية (عن سطح الأرض). تُتيح رُفات الماضي هذه، اعادة بناء التاريخ قبل ظهور الكتابة.
المرحلة الأولى في أي بحث تاريخي مُكرَس لتاريخ أي شعب، هي البحث عن المصدر، وهذا يعني، بالنسبة للأركيولوجيين، نظمنة المواد وتحديد مُجمعات الآثار المادية التي تُميّز شعب أو قبيلة مُعينة، أي تحديد الثقافة الأركيولوجية. لطالما أولى الأركيولوجيين اهتماماً كبيراً بهذه المسألة أثناء نظمنتهم لمواد العصر الحجري القديم الى العصور الوسطى. لا يُمكننا اليوم، تصوّر دراسة المواد الأثرية بدون تحديد الثقافة التي تنتمي اليها. ان مفهوم "الثقافة الأثرية" في كتابات الأركيولوجيين، هو الى حدٍ كبير ذو صفةٍ مُساعدة ومُرتبط بشكل وثيق بدراسة المُجتمع البدائي. لا يُمكن تطبيق مُضصطلح "الثقافة" المفهوم على هذا النحو، على المُجتمعات العبودية المُبكرة أو المُجتمع الاقطاعي. ان الثقافة، مُنطبقةً على المُجتمع القديم، الشرق الاخميني Achaemenian وايران الساسانية Sassanian وروسيا الكييفية Kievan Rus وروسيا الموسكوفية Muscovite لها معنىً ومُحتوىً مُختلفين تماماً. ان مصطلح الثقافة كما يُطبقه الأركيولوجيين، يتعلق فقط بالمُجتمع ما قبل الطبقي.
تعود المُحاولات الأولى لتحديد تاريخ الثقافات الى نهاية القرن التاسع عشر في وقتٍ واحدٍ تقريباً في كُلٍ من الغرب وروسيا. كان اوسكار مونتيليوس Oscar Montelius من بين الأوائل في الخارج، أما روادنا في هذا المجال كانا فيكينتي فياتشيسلافوفيتش خفويكا Vikenty Vyacheslavovich Khvoyka والكسندر اندريفيتش سبيتسين Alexander Andreevich Spitsyn. كانت أوائل الثقافات التي اكتُشِفَت في المنطقة الروسية، هي ثقافة كوكوتيني تريبيليا Cucuteni–Trypillia (أ)، وثقافة أنانيينو Ananyino(ب) وثقافة دياكوفو Dyakovo(جـ). بعد ذلك بقليل اكتَشَفَ فاسيلي اليكسيفيتش غورودتسوف Vasily Alekseevich Gorodtsov ثقافة الحفرة Pit القديمة(د) وثقافة الكاتاكومب(هـ) وثقافة الأُطُر الخشبية timber-frame(و) وثقافة المُدُن المُحصنة fortified townsite. قام سيرجي اليكساندروفيتش تيبلوخوف Sergei Alexandrovich Teploukhov بعمل تأسيسي جيد للكشف عن ثقافات العصر البرونزي والعصور الحديدية المُبكرة في جنوب سيبيريا. توصّلَ الباحثون الذين ذكرناهم الى استنتاجاتهم على أساس دراسة وتحليل عميق لمُعطيات أركيولوجية غنية. وظَفَ غورودتسوف، كما تُظهِر منشوراته، تصنيف وحساب العناصر الفردية لمواقع ثقافة العصر البرونزي، في عمله لتحديد الثقافة. اكتسبت الثقافات الأثرية المذكورة أعلاه مكاناً ثابتاً في مبحث الأركيولوجيا، ونحن نستخدمها اليوم.
يتضمن تاريخ مسألة الثقافة، تلك التي تحددت على أساس بيانات ثابتة ومُعترَف بها الى حدٍ ما، وكذلك الثقافات التي تم تحديدها على أساس معايير عشوائية ولم تصمد أمام اختبار الزمن.
يتم أخذ معايير مُتنوعة قائمة على المواد نفسها، والعصر، وآراء الباحثين، كأساس لتحديد الثقافة. تشمل هذه المعايير تشابه أشكال الفُخّار وتشابه زخرفتها، وأشكال الأدوات والتكنيكات المُستخدمة في صنعها، وعادات الدفن. تم التعرّف على الثقافات من خلال تركيب مجموعة من المعايير، أو من خلال معايير فردية في كثيرٍ من الأحيان، على سبيل المثال عادات الدفن أو تزيين الأدوات. يُطبّق مُعظم الاركيولوجيين مُصطلح "ثقافة" على مواقع من نفس الفترة الزمنية التاريخية التي اكتُشِفَت داخل منطقة مُعرّفة بوضوح تتميز بسمات ثقافة مادية قريبة ومُتفرّدة.
يرتبط مفهوم الثقافة الأثرية ارتباطاً وثيقاً بدراسة التاريخ الاثني. في السنوات الأخيرة، نتيجةً لتراكم المواد الأركيولوجية الغنية ودراسة المناطق التي ظلّت بعيدةً على الاكتشاف لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، ومع دراسة التاريخ الاثني، ظهَرَ اتجاه لاكتشاف ثقافات جديدة كيفما اتُّفِق، من العصر الحجري الحديث حتى العصور الوسطى. يُظهِر تاريخ المسألة بوضوح أن تحديد الثقافات يتطلب الكثير من المواد الاركيولوجية، والتي يجب الحصول عليها من خلال التنقيب في المواقع على مساحاتٍ مُعتَبَرة. لا تكفي المواد التي يُعثَرُ عليها في بعثات التنقيب، لحل هذه المسألة، ولا تلك الموجودة في المواقع الفردية. يعرف الاركيولوجيون جيداً أن كل رُكام أو تلة مُختلفة من ثقافة واحدة يُمكنها أن تخرُجَ بمواد مُختلفة تماماً. يُمكننا أن نستشهد بركام التنقيب العائدة لثقافتي الكاتاكومب أو الأُطُر الخشبية على سبيل المثال، والتي غالباً ما تختلف بطبيعة الدفن وشكل الأوعية وزخرفتها. ان طبقنا معيار الأُطر الخشبية، يُمكن للمرء تحديد عدد كبير من "الثقافات" داخل منطقة صغيرة. الوضع مُماثل بالنسبة للمستوطنات والتي تتحدد طبيعة موادها من خلال موقعها داخل الثقافة المعنية. كقاعدة عامة، تظهر مواد وأدوات ذات طبيعة مُختلطة في منطقة مُحيط الثقافة، بما في ذلك الأدوات والأغراض. أما مواقع التنقيب التي تقع في مكان مركزي، تُنتِج مجموعة من المواد الأقل اختلاطاً.
لا يُمكن اصدار حُكم ايجابي فيما يتعلق بوجود ثقافة أثرية الا من خلال مشاريع أركيولوجية واسعة ومُنظّمة. لسوء الحظ، غالباً ما ننسى هذا المَطلَب من ناحيةٍ عملية.
على الرغم من اختلاف وجهات النظر الحالية حول طبيعة الثقافة وأُسس تحديدها، فإن جميع الباحثين تقريباً يُدركون أن كل عصر تاريخي يُحدد الطابع المُحدّد للمراحل كُلٌّ على حدة في التاريخ الاثني للمُجتمع. هذه العملية مُختلفة في العصر الحجري القديم، والعصر الحجري الحديث، والعصر البرونزي والعصر الحديدي المُبكر والعصور الوسطى. تختلف عملية تطور المُجتمع كما حدثت في المُجتمع العشائري اختلافاً حاداً عن عملية التطور الحاصلة في فترة انحلاله. هنا، تحدث عملية دمج أفراد القبائل الأُخرى بطرق تختلف عما في السابق. أخيراً، يتبع التطور طُرُقاً مُختلفة في عصر هيمنة المشاعية المناطقية عندما تتوقف الروابط العشائرية عن لعبِ دورٍ حاسم، وفي عصر تطور العلاقات الاقطاعية.
تتحدد السمات التي تُميّز العملية الاثنية من خلال مُستوى تطور قُوى المُجتمع الانتاجية، والتي تؤثر على التاريخ الاثني. ولكن، سيكون من الخطأ التركيز بشكل وحيد على أدوات العمل عند تحديد الثقافات وتحديد التكوين الاثني للسُكّان. تجاوزَ التكوين الاثني للسكان، في وقتٍ مُبكرٍ من العصر البرونزي الحدود القَبَلية الضيقة واكتسب انتشاراً واسعاً. بطبيعة الحال، يُمكن أن تكون أدوات العمل الى حدٍ ما بمثابة مقياس في تحديد الثقافة. ولكن، هذا مُمكن فقط عندما تكون المواد مُتاحة وعندما يتم وضعها في سياقها بعناية. تفقد أدوات العمل، في وقتٍ لاحق، وبشكلٍ مُتزايد، السمات المحلية، ولا يُمكن بالطبع، استخدامها لهذا الغرض في فترة العصور الوسطى المُبكرة.
وهكذا، على سبيل المثال، فإن معيار تحديد ثقافة كلتيي الأنانيفو من خلال الأدوات، لا يصلح هُنا لأن تلك الأدوات انتشرت على نطاقٍ واسع وتجاوزت حدود الثقافة وعَبَرَت أراضي القبائل المُتنوعة.
بالحديث عن المساكن، تُخبرنا البيانات الاثنوغرافية أننا نجد هنا بالفعل سمات مُميزة بين مُختلف الشعوب في تقنيات البناء ونوع الهياكل والتخطيط والديكور. ومع ذلك، يستطيع الاركيولوجيين، كقاعدٍ عامة، العثور فقط على مواد غير مُكتملة، ليس أكثر من بقايا في أغلب الأحيان، مما يُصعّب اكتشاف السمات المُميزة لثقافة قبيلة مُعينة أو مجموعة من القبائل ذات الصلة. يكون لدى الأركيولوجيين، في عددٍ من الحالات، فقط تلك البيانات التي تسمح لهم بتحديد وجود مساكن تحت أرضية أو شبه تحت أرضية، أو غائرة قليلاً أو على السطح، أو فوق الأرض. غالباً ما تزال تقنيات البناء غير معروفة، وكقاعدة عامة، لا نعرف شيئاً عن الديكور الذي يُميّز القبيلة. صحيح أن الباحث، يكون في حالاتٍ فردية، قادراً على تحديد التفاصيل المُميزة التي تُمكنه من الوصول الى نتيجة فيما يتعلق بطبيعة السكن، والتي بدورها، قد يبدو أنها توفر الأساس لتحديد ثقافةٍ جديدة. لكن التجربة تُظهِر أن مثل هذه الحالات استثنائية، ولا يُمكن تحديد ثقافة جديدة فقط على أساس فئات مُتطابقة من المواد. تُشير الدلائل الى أن مثل هذه المواد لا يُمكن أن تكون بمثابة المصدر الرئيسي في تحديد الثقافة التي يتعامل المرء معها.
الأسلحة، الموجودة بأعداد كبيرة في حوزة المجموعات الأثرية، لا تمتلك خصائص تُمكننا من تحديد ثقافة مُعينة من خلالها. هذا واضح حتى من تحليل مواد العصر البرونزي. لاحقاً، في بواكير العصر الحديدي، لم يقتصر انتشار الأسلحة على طُرُق التجارة. نتيجةً للطبيعة التي تُميّز العملية التاريخية، عندما أسفَرَت التحالفات القَبَلية عن ترحالات طويلة للبشر، ظَهَرَ انتشار أفضل الأسلحة على نطاقٍ واسع. هذا صحيح بالنسبة لأنواع السهام السكيثية وسيوفهم القصيرة akinaka والسيوف والأسهم من نوع La Tène من العصر الحديدي. يُمكن العثور على هذه الأسلحة بشكلٍ عام خارج حدود القبيلة، أو بالأحرى، خارج حدود الثقافة التي نشأت منها. من الصعب للغاية تصنيف أي موقع في أي ثقافة أثرية مُعينة من خلال مُجرّد وجود الأسلحة. حتى عندما نعرف مركز انتاج الأسلحة (في العصر البرونزي وبواكير العصر الحديدي، وبالطبع فترة العصور الوسطى)، الا أن الانتشار الواسع لهذا النوع من الأشياء يُلغي امكانية استخدامها كمعايير لتمييز الثقافة. وينطبق نفس الشيء على الأدوات المنزلية، والتي، كقاعدة عامة، تنتشر على نطاقٍ واسعٍ ولا تقتصر عادةً على حدود ثقافةٍ مُعينة. في حين أن انتشار مثل هذه الأشياء خلال فترة العصر الحجري الحديث المُبكر كان محدوداً وكانت في الغالب أشياء تُميّز الثقافة المحلية، الا أن هذا الوضع لم يعد سارياً بحلول نهاية العصر البرونزي.
هذا هو الوضع مع نسبةٍ كبيرةٍ من الحُليّ التي ليست ذات طبيعة قَبَلية. هذه المجموعة هي أكثر تعقيداً وتتطلب فحصاً دقيقاً. نحن على دراية بعمل الكسندر اندريفيتش سبيتسين، الذي نجَحَ في تحديد السمات المُميزة لحُليّ القبائل السلافية الفردية. هذه المعايير احتفظت بأهميتها على مر القرون، عندما حلّت المشاعة المناطقية محل المشاعة العشائرية. معروفةٌ أيضاً، تلك الحُليّ المُنتشرة على نطاقٍ واسعٍ في أوراسيا والتي لا تتعلق بأي مُجتمع اثني. هذا ينطبق على السروج المُزخرفة وزخارف الأحزمة، التي لا تتشابه فقط في السهوب والناطق الشجرية، بل في غابات أوراسيا أيضاً. قد تشهد هذه الأشياء على التأثير الثقافي والروابط الثقافية، ولكن لا يُمكنها أن تكون مؤشرات على ثقافة أثرية مُحدّدة. وهكذا، انتشرَت المُنتجات القوقازية، في وقتٍ مُبكرٍ من الألفية الأولى قبل الميلاد، حتى المسار الأوسط لنهر الفولغا. وتُعَد مواقع أثرية مثل مدافن أكوزينكي Akkozinskii في جمهورية ماري خيرُ مثالٍ على ذلك. يُمكن ايجاد لُقى مُتميزة للغاية في موقع أنانيفو، تتخللها مُنتجات وأشياء من مناطق بعيدة.
من بينها، يجد المرء أشياء من أصول ساروماتية Sauromatian وسكيثية ويونانية-رومانية وقوقازية. كان لأوروبا الشرقية والغربية، في الألفية الأولى قبل الميلاد، روابط وثيقة. توجد في القوقاز فئات من الأدوات تُشبه تلك التي تعود الى ثقافة هالشتات Hallstatt(ز). تظهَر أدوات وقِطَع سكيثية في أوروبا الوسطى. باختصار، لا يُمكن استخدام تلك الأشياء مثل الأدوات المعدنية والخرز والزُجاج وما الى ذلك لتحديد ما ان كانت الثقافة فريدة من نوعها. لا يُمكن استخدام فئات الأدوات لها الغرض، سوى تلك الأدوات التي تنتشر على نطاقٍ ضيق.
ينطبق هذا في المقام الأول على الفخار المُقولَب يدوياً، والذي كان كُل ربة منزل تصنعه بتقنيات مُتوارثة عن التقاليد، وعلى الأواني المُزخرفة بأنماط لها معنى مُحدد للقبيلة المعنية. ليس من قبيل المُصادفة أن جميع الأركيولوجيين يولون مثل هذا الاهتمام للفخار وينسبون اليه أهميةً كبيرة. يُعتَبَر الفخار، انطلاقاً من العصر الحجري الحديث، معياراً لتحديد الثقافة. يظل هذا الوضع صحيحاً بالنسبة للعصر البرونزي. لا شك أن أواني جميع الثقافات المعروفة فريدةٌ من نوعها. وبالمثل، يعرف العصر الحديد المُبكر أشكالاً مُعينة من الأواني الفريدة للثقافات الفردية. يصح القول أيضاً، أنه كان من المُمكن للمجموعة الفخارية، في الألفية الأولى قبل الميلاد، أن تحتوي على أوانٍ من أشكال مُختلفة، تعكس الروابط الثقافية المُتنوعة وظهور عناصر اثنية جديدة. أصبحت هذه الخاصية أكثر وضوحاً في وقتٍ لاحق. كقاعدة، تتميز ثقافات الألفية الأولى قبل الميلاد، بتعدد أشكال الأواني. هذه سمة خاصة للجنوب، حيث سارت الحياة بوتيرة أسرع وأكثر كثافة، وحيث حَدَثَ الاختلاط الثقافي والعرقي باستمرار. هذا يخلق بعض الصعوبات في حل مسألة الثقافات الأثرية. ومع ذلك، في نفس الوقت، يوفّر الفخار أيضاً مُفتاحاً للاجابة على المسائل المُتعلقة بالثقافة وتمظهرها. هنا يحتاج الأركيولوجي الى مزيدٍ من التدقيق في تحليل المواد، وتحديد الأنواع الرئيسية للأواني، وهذا يتطلّب عدّ المجموعات الفردية. يُمكن الحصول على نتائج ايجابية عندما يتم ذلك بالمناهج المُناسبة. يتطلّب النظر في زخرفة الفخار بالضبط نفس النوع من العمل.
يُظهر البحث أن طريقة الدفن هي المسألة الأكثر اثارةً للجدل في مجال تحديد الثقافات. يعزو بعض الباحثين أهميةً كبيرةً للدفن في هذا الصدد، بينما ينفي آخرون ذلك. تُعتَبَر الأمور أكثر اثارةً للجدل فيما يتعلق بحرق الجُثث، والتي يعتبرها عدد من الباحثين الأركيولوجيين ليست طقوساً قَبَلية، بل ظاهرة تخص عصرٍ مُعيّن ترتبط أحياناً بانتشار زراعة (القَطع والحرق)(حـ) Slash-and-burn agriculture. يجب الاعتراف، بأن مسألة الدفن مُعقّدة وغير واضحة حقاً. ان طريقة الدفن ليست مُجرّد خاصية قَبَلية، ولكنها خاصية اجتماعية، وقد تكون المعيار لتحديد مكانة الانسان في المُجتمع. نحن نألَف عدداً من الحالات التي توجد فيها عدة أنماط من الدفن داخل نفس الثقافة. هذا صحيح بدءاً من العصر الحديدي المُبكر بشكلٍ خاص. لسوء الحظ، لا تستطيع الاثنوغرافيا أن تُساعدنا في حل هذه المسألة. هل دُفِنَ النساء والرجال، كبار السن والأحداث بالطريقة نفسها؟ كيف تم دفن الكهنة، والذين كان لديهم طقوس خاصة؟ كل هذه التفاصيل مُهمة لم ندرسها بعد، كقاعدةٍ عامة.
على الرغم من هذه الصعوبات، ظَهَرَت عدد من الدراسات التي تسعى الى تحديد الثقافة، بناءاً على تحليل طقوس الدفن وتفاصيلها وهياكل المقابر. تُظهِر الخبرة أن اعارة الدراسة الاهتمام ليس فقط لطريقة الدفن فحسب، بل أيضاً لهيكل القبر مع دراسة جميع التفاصيل، منها مكانة الميت في المُجتمع وكذلك الأدوات والحُليّ الجنائزية، فإنه سيكون تقديرها للموقف أقرب الى الصحة، حتى لو كان كان هناك موقف مُتشكك الى حدٍ ما تجاهها.
وبالمثل، فإن حرق الجُثث، الذي أسهَمَ في انتاج موقفٍ حذر من جانب الباحثين، له العديد من التنويعات، والمدافن في مناطق مُختلفة مُتباينة للغاية، بحيث يُمكن للمرء هنا التحدث عن سمة تُميّز طقوس الدفن، مما يجعل من المُمكن تحديد ثقافة مُعينة. نحن نعرف المدافن في الأرض وتحت التلال والحُفَر وعلى سطح الأرض. نحن نعرف حول حرق الجُثث في أقبية الدفن المُعقدة (في صقافة التاشتيك Tashtyk) وفي الحُفر السطحية. كانت هُناك عادة مُختلفة بين السلاف خلال فترة تشكّل الدولة الروسية. قام الكسندر سبيتسين ولاحقاً فاسيلي غورودتسوف بتحديد وجود ثقافات على أساس طقوس الدفن. نحن نستفيد من الدراسة المنهجية المُفصّلة للعصر البرونزي في سيبيريا التي قام بها غورودتسوف وتيبلولتشوف.
حقاً، لقد تم اجراء تحسينات واضافات لاحقة في تفسير وتوصيف طقوس الدفن في ثقافتي الحفرة والكاتكومب، وثقافة الاطار الخشبي. ومع ذلك، لا يُنكر الباحثون المُعاصرون أيضاً أهمية طقوس الدفن. أُذكّر القارئ بأن علماء الثقافة السكيثية يعتمدون على مسألة عادة الفن في تسليط الضوء على السمات الخاصة للثقافة المحلية. لقد تمت دراسة عادات الدفن لدى سكيثيي السهوب وأجزاء مُختلفة من حزام السهوب الحرجية بشكلٍ كافٍ الى حدٍ ما. تُعتَبَر مدافن السورماتيين Sauromatians (ط) والسارماتيين فريدةً من نوعها، وتُمكننا من التحدث حول وجود قبائل مُنفصلة. يُمكننا، على سبيل المثال، أن نستشهد بالعمل التحليلي الدقيق للغاية الذي قام به ليونيد رومانوفيتش كيزلاسوف Leonid Romanovich Kyzlasov حول ثقافة التاشتيك، والذي يصف فيه عادات الدفن في هذه الثقافة، مما جَعَلَ من المُمكن لهذا المؤلّف تحديد أصلها (أصل الثقافة) والتعرف على المكونات الاثنية الجديدة. قام فلاديمير الكيكساندروفيتش كوزنيتسوف Vladimir Aleksandrovich Kuznetsov أيضاً بعملٍ مُثيرٍ للاهتمام في نظمنة أبنية المقابر في ثقافة ألّان Alan في شمال القوقاز.
يبدو أن مواقع الدفن، يُمكنها أن تكون، عند النظر في جميع تفاصيل تصميمها وخصائص طقوس الدفن فيها، أداةً موثوقة في تحديد الثقافة. (يجب أن لا يفشل المرء في مُلاحظة أنه سيتعيّن على الأركيولوجيين دائماً أن يُعالجوا الوضعيات المُختلفة سواءاً في الجُزء المركزي للثقافة أو في أطرافها، حيث سيجد الأركيولوجي صورةً مُعقّدةً في عالم طقوس الدفن، كما هو في أي موضوعٍ آخر).
لا يُمكن أن يعتمد تحديد ثقافةٍ ما، على طريقة الدفن في مواقع فردية. يتطلّب الأمر مواد كثيرة، والكشف عن جميع السمات التي تُميّز العديد من البقايا الأركيولوجية، ومسح Mapping لمُختلف أنواع المدافن، وفي كُل هذا، يجب مُراعاة (مجموع) خصائصها، لا الخصائص الفردية، مهما كانت نموذجية. عندها فقط، سنتمكن من الاعتماد على مواقع الدفن في حل مسألة الثقافات الأثرية. يجب القول، بأن التسرع الذي نُظهِرُهُ أحياناً لا يؤدي الى الوصول الى حلٍّ كافٍ للمسألة.
إجمالاً، يُمكن الموافقة على أنه يُمكن للمرء، لدن تحديده لثقافةٍ ما، بالنسبة للفترة التي تبدأ من أواخر العصر البرونزي وبدايات العصر الحديدي، أن يعتمد على عادة الدفن والفخار وزخرفته وزينته، وهي خصائص تقتصر على المناطق الصغيرة ويُمكن قبولها على أنها قَبَلية. هذه المادة، أساسية في تحديد الثقافة التي يتعامل معها المرء. من الضروري أيضاً، بالطبع، النظر في عناصر الثقافة الأُخرى، وقبل كُل شيء، مُستوى تطور القُوى المُنتِجة.
هناك عدد من الحالات، كما يظهر في بعض مؤلفات وأعمال السنوات الأخيرة، التي يعتمد فيها تحديد الثقافة على الانطباع الكُلّي. هذا خطير بشكلٍ خاص فيما يتعلق بثقافات العصر الحديدي المُبكّر وفترة العصور الوُسطى، عندما كانت عملية الاندماج الاثني والثقافي تسير بوتيرةٍ أكثر نشاطاً. هُنا، نحن نحتاج الى منهجيات بحثية دقيقة. من الواضح، أن المسح Mapping (ي) هو أمر أساسي وإجباري، والمقصود، ليس مسح المعايير الفردية وبشكلٍ عشوائي، بل مسح تجمعات كاملة من مواقع الدفن والفخار والحُليّ. هذا يجعل من المُمكن عزل المنطقة المعنية. لقد تحدثنا منذ فترةٍ طويلة عن ضرورة مسح اللُقى الأركيولوجية من أجل حل مسائل تاريخية مُختلفة، ولكن لا يُمكن للمرء أن يذكر سوى عدد قليل من الأعمال المصحوبة بالمسح الأركيولوجي. هناك أيضاً حاجة للاستخدام الواسع لتقنية الاحصاء الرياضي. فقط العد الدقيق هو الذي يجعل من المُمكن تحديد عدد أنواع الأشياء الرئيسية وبالتالي فرز الأنواع الرائدة في المجموعات المُعطاة وتحديد السمات المُميزة للثقافة. عندما تُطرَح ثقافة جديدة، يحق لمبحث الأركيولوجيا أن يطلب من الباحثين المعنيين جمع الأدلة اللازمة لتأكيد أن العمل أُنجِزَ بشكلٍ صحيح. من غير المسموح به بأن يكون هناك موقف لا يطرح فيه المؤلفون الذين اكتشفوا ثقافةً جديدة، وحتى حددوا انتمائها الاثني، براهينهم وتحليلهم للمواد.
أحد المسائل التي لم تُحَل في الأركيولوجيا بعد هو العلاقة بين الثقافة والاثنية. هذه مسألة تتطلب مُناقشةً خاصة. ومع ذلك، يبدو أن الرفاق الذين يعتقدون أن الثقافة، في العصر الحجري الوسيط والحديث والعصر البرونزي المُبكر، هي مؤشر ليست فقط على الاثنية، بل على اللغة أيضاً، هم رفاق مُحقّون.
بالنسبة للأزمنة اللاحقة، من نهاية العصر البرونزي، وخاصةً أوائل العصر الحديدي والعصور الوسطى-وهي فترات الهجرات الرئيسية للاثنيات-تُحدد الثقافة مجموعة من القبائل المُختلفة والتي تتحدث لغاتٍ مُختلفة. في هذه الفترة يبدو أن الثقافة والاثنية واللغة لا تتوافق في الظاهر. يضطر المرء الى الاعتقاد بأن تحسين المنهجيات واستخدام الاحصاء الرياضي، مما يسمح بتحديد العُنصر الرئيسي الرائد في خليط المواد، يُساعدنا في حل مسألة الانتماء الاثني واللغوي للثقافات المُتأخرة أيضاً. دعونا نأمل أن يؤدي تحسين المنهجيات الى حل مسألة الثقافات المُستعصية، مثل ثقافة تشيرنياخوف Cherniakhov(ك). لم يقم أي مؤلّف كَتَبَ حول انتمائها الاثني ، حتى يومنا هذا، بأي عمل منهجي جاد لتأكيد اطروحته. يبدو الأمر كما لو أن خللاً منهجياً ما، وأحياناً، الايمان المُفرط بالانطباعات الشخصية، هو الذي يكمن وراء الوضع الحالي فيما يتعلق بثقافة تشيرنياخوف.
نحن نُلاحظ، كلما أصبحنا على درايةٍ بالثقافات، أنها تختلف فيما يتعلق بالأراضي التي تحتضنها. يحتل بعضها مناطق واسعة مثل (ثقافات كاتاكومب وأندرونوفو وأنانيفو)، فيما يحتضن بعضها الآخر مناطق صغيرة (كارغوبول Kargopol، بيليف Belev، ريازان Riazan، بيانوبورسك P’ianoborsk، غيليادينوفو Gliadenovo، وغيرها). تضم المجموعة الأولى عدة مجموعات قَبَلية تضم مُجتمعات ثقافية واثنية رئيسية، في حين تضم الأخيرة، مجموعات صغيرة من القبائل. يُمكن تحديد هذه الاختلافات الى حدٍّ ما من خلال الظروف الجُغرافية والنظام الاقتصادي، والتي كان مُختلفة عند بدو السهوب الرُحّل وسُكّان الغابات. ولكن، يُفسّر الاختلاف في الانتشار الاقليمي أيضاً من خلال حقيقة أن الباحثين، عند تحديدهم الثقافات، لا يستخدمون مجموعةً مُوحّدةً من المبادئ. يرى المرء، في احدى الحالات، مُحاولةً لتحديد مجموعة قَبَلية مُعينة، وفي حالاتٍ أُخرى، يتركز الاهتمام على قبائل فردية. تُبيّن التجربة، أن مُصطلح "الثقافة" ذاته يفتقر الى التحديد. هذا الافتقار في الاتفاق على المُصطلحات يتعارض مع اقامة صلات مع المباحث ذات الصلة (الاثنوغرافيا والانثروبولوجيا والتأريخ)، ومنها علم اللغة قبل كُل شيء، والذي يدرس كُلٍ من اللغات الفردية ومجموعات اللغات. ان عدم الاتفاق في فهم مُصطلح "الثقافة" يقف عائقاً أمام الفهم الدقيق للتاريخ الاثني لشعوب الاتحاد السوفييتي، وخصوصاً مسألة النشوء الاثني.
ظهَرَ في المُمارسة الأركيولوجية في السنوات الأخيرة، اتجاه، نحو تحديد تنتويعات محلية من الثقافات داخل الثقافات التي تقع في مناطق كبيرة (ناهيك عن المناطق الحدودية التي يَنتُج عنها بياناتٍ مُختلطة). في السنوات الأخيرة، تم تقسيم ثقافات كاتاكومب وآلان على هذا النحو. تشهد كل هذه الجهود على حقيقة أنه من الضروري الآن التمييز بين ثقافات القبائل الفردية أو التنويعات المحلية. من ناحيةٍ أُخرى، تتم مُعالجة مسألة المُجتمعات Communities الثقافية في العديد من الأعمال الأركيولوجية. نحن نشهد جهوداً لجمع الثقافات الصغيرة الى مجموعات قبلية مُعينة. كُل هذا يُشير بوضوح الى الحاجة الى انشاء نظام من مرحلتين لدراسة الثقافات.
تتعلق المسألة الثانية بتنقيح المُصطلحات. نحن نجد قصوراً ليس فقط في مُصطلح "الثقافة" بل أيضاً في أسماء الثقافات نفسها. يجب أن نتوصل الى اتفاق حول ما يجب أن نفهمه تحت مُصطلح الثقافة الأثرية. ان كانت هذه مُجتمعات ثقافية واثنية كبيرة، فيجب على تقسيماتها الفرعية الصغيرة أن تقع في لائحة "التنويعات المحلية". هناك حل آخر مُمكن للمسألة أيضاً: أن نُطلِق على التقسيم الأخير "مُجتمعات ثقافية" culture communities والتي بدورها تندمج في ثقافات أثرية فردية.
كما أن مسألة تقسيم الثقافات الى مراحل ليست ذات أهمية قليلة. هُنا، أيضاً، لا يوجد فقط عدم وضوح في المُصطلحات وحسب، بل هُناك اختلاف في المبادئ التي تُصنّف على أساسها الثقافات أيضاً. ان التصنيف المُناسب للثقافات الى مراحل مُهم جداً من أجل المُقارنات التاريخية مع المباحث العلمية القريبة من الأركيولوجيا.
اذا أدركنا أن العملية التاريخية في أماكن مُختلفة مُترابطة وأن تحديد تاريخ البقايا الأركيولوجية على وجه الخصوص، يعتمد على هذا، فإننا نتوصل حتماً الى استنتاج مفاده أننا بحاجة الى تقسيم مؤسس جيداً للثقافات الى مراحل أو مستويات. سيكون أبسط تصنيف وأكثرها وضوحاً هي تلك المراحل المُتمايزة تبعاً للتأثيرات الخارجية. يجب الاعتراف، أن هذه المنهجية غير كاملة، من وجهة النظر المنهجية. ومع ذلك، فهي توفر أساساً ثابتاً للتأريخ وتُساعد على تقسيم المواد الى مراحل مُحددة.
يُتيح الانتشار الواسع للُقى الأركيولوجية الجنوبية في أوائل العصر الحديدي إمكانية تقسيم الثقافات الى مراحل تتناسب مع التحقيب المقبول عموماً. يُشكّل القرنان الرابع والخامس قبل الميلاد، اللذات يُمثلان بداية فترة العصور الوُسطى، حدوداً واضحة المعالم ومُحددة على أساسٍ جيد. كما يَنتُجُ عن الانتشار الواسع للأدوات واللُقى السارماتية في شرق أوروبا تواريخ مُحددة تُساعدنا على تحديد مستويات تطور الثقافة.
في سعيه لايجاد مُفتاح نظمنة المواد في عملية تطور المُجتمع الداخلية، لا يكون الأركيولوجي قادراً دائماً على تتبعه (تتبع المُفتاح) في المواد نفسها، ويضطر حتماً الى البحث عنه في بعض التمظهرات الخارجية. في التحليل النهائي، من الأفضل أن يرتكز تصنيف المرء على العناصر التي تسمح بتقسيم المواد حسب التسلسل الزمني، بدلاً من السعي لايجاد منطق تطور داخلي والوقوف على أُسس افتراضات مُجرّدة لا تؤكدها اللُقى المُعطاة. لا يُمكن تحديد عدد مستويات التمرحلات الزمنية مُسبقاً: هذه مسألة مُتعلقة بتطور الأركيولوجيا والعلوم المُجاورة الأُخرى.
بقدر ما يرتبط مفهوم الثقافات الأثرية ارتباطاً وثيقاً بالاثنية، فإن خط الترسيم الفاصل لكُلٍّ من دراسة عملية التطور الداخلي، واتاحة الامكانية للتحديد النسبي السهل لذلك الخط الفاصل، هو وصول الوافدين وتدفّق القبائل التي نشأت في مكانٍ آخر. هذا يجد انعكاساً له في الأدوات واللُقى نفسها، وأحياناً في ظهور أنواع جديد من المساكن وظهور طقوس دفن جديدة. على سبيل المثال، ظَهَرَت مناطق تحتوي على أدوات من نوعٍ جنوبي، مما جَعَلَ بالامكان تحديد تاريخ ثابت لأحداث هجرة حَدَثَت في حوالي القرن الرابع على طول نهر كاما الأوسط. في وقتٍ لاحق، انحلّت هذه الموجة الصغيرة من الوافدين الجُدد في كُتلة السكان المحليين، وعادت العملية التاريخية الى مسارها الطبيعي. حدّدَ العُلماء حركَةً في جنوب بلادنا تعود الى الألفية الأولى قبل الميلاد، وهي تحركات سكيثيي السهول الى الغابات، وقد يُساهم هذا في تحديد مستوى تطور المُجتمع.
بطبيعة الحال، في بعض الحالات، ليس هناك حاجة لتحديد مراحل مُحددة. لا تتطلب الثقافات التي وُجِدَت لفترةٍ وجيزةٍ من الزمن أي تقسيمٍ فرعي لأغراض الدراسة. لكننا على درايةٍ بثقافاتٍ كانت موجودةً لفترةٍ طويلةٍ من الزمن، لا تقل عن 1000 عام، على سبيل المثال، ثقافتي ديكوفو وغوروديتس.
هناك أيضاً مُشكلة وضع خطوط فاصلة بين الثقافات الفردية. ان مسألة ترسيم الحدود الفاصلة بين ثقافات الحُفرة والكاتاكومب والأُطُر الخشبية، وترسيم الحدود بين ثقافات الفاتيانوفو Fatyanovo والأباشيفو Abashevo، والتمييز بين ثقافة الأفاناسيفسكايا Afanasevskaya والأندرونوفو Andronovo، ليست بتلك الصعوبة. لكن الوضع أسوأ بكثير فيما يتعلق بترسيم حدود الثقافات التي تعكس مراحل مُختلفةٍ من التطور التاريخي لشعبٍ واحد. هذا هو الوضع فيما يتعلق بشعوب حزام غابات أوروبا الشرقية الفينوأوغرية وشعوب سيبيريا الأوغرية. لقد سَكَن الناس هنا منذ العصور القديمة البعيدة، وحدثت التغيرات الاقتصادية ببطئٍ نسبياً، ولم يتغير التركيب الاثني في بعض الحالات. لذلك، فإن فرز هذه الثقافات يُمثّل صعوبةً كبيرة. في مثل هذه الحالات، من الضروري ايجاد بعض الخصائص المُميزة الجديدة التي من شأنها أن تُمكننا من تحديد ظهور ثقافة جديدة. من الواضح أن هذه المعايير الجديدة لا تسقط بباراشوت من السماء، ولكنها تظهر بشكلٍ جنيني في الثقافة السابقة، وتُصبح مُهيمنةً في الثقافة الجديدة.
هذه هي المسائل التي يُواجهها مُعظم الباحثين عندما يتوجهون لحل مسألة تحديد ثقافة جديدة.
ان مفهوم "الثقافة الأثرية"، الذي استخدمه الأركيولوجيين في أبنيتهم التاريخية، له أهمية مُساعدة صرف، ويُساعد على حل العديد من المسائل في تاريخ المُجتمعلات ما قبل الطبقية والتاريخ الاثني. من الضروري، عند تحديد الثقافات، طَرح تعريف دقيق لمعاييرها المُميزة وزمنها وأقاليمها. لا يُمكن تمييز ثقافةٍ ما، على أساس الاعتبارات التاريخية وحدها، والتي تكون أحياناً ذات طبيعة مُجرّدة. تُعدّ مسألة الثقافات الأثرية رابطاً مُهماً في عمل الأركيولوجيين ومؤرخي المُجتمعات ما قبل الطبقية. انها مسألة يجب أن نوليها الكثير من الاهتمام. هذه المسألة ليست شأناً خاصاً لباحثٍ فرديٍّ ما، بل هي شأن يخص المبحث بأكمله. قد يؤدي ارتكاب خطأً ما، الى ارتكاب رفاقٍ آخرين يعملون في المناطق المُتاخمة لأخطاء أُخرى. تتطلب مسألة المُصطلحات، وتحديد الثقافات اهتماماً كبيراً من جانب مبحث الأركيولوجيا بأكمله.

* اليكسي بيتروفيتش سميرنوف 1899-1974، مؤرّخ وأركيولوجي سوفييتي، مُتخصص في مجال في الآثار الفينوأوغرية (الفنلندية والاستونية والهنغارية) Finno-Ugric Cultures. دكتور في العلوم التاريخية، وبروفسور في جامعة موسكو الحكومية ونائب مُدير متحف التاريخ التابع لمعهد الأركيولوجيا في أكاديمية العلوم السوفييتية.
بدأ دراسته في جامعة موسكو الحكومية عام 1922 في قسم الأركيولوجيا التابع لكُليّة العلوم الاجتماعية. بعد تخرجّه من الجامعة عام 1926، التحقَ بكُلية الدراسات العليا في قسم الأركيولوجيا التابع لمعهد الأركيولوجيا وتاريخ الفن للرابطة الروسية لأكاديمية العلوم الاجتماعية. دافَعَ عام 1929 عن رسالة الدكتوراة بعنوان: (أركيولوجيا فنلندا من القرن الرابع وحتى الرابع عشر). صار استاذاً في جامعة موسكو الحكومية عام 1951.
قادَ منذ عام 1924-1937 أعمال البعثات الأركيولوجية في منطقتي موسكو وايفانوفو واقليم كراسنودار وكومي وادمورتيا (مستوطنات ادناكار وسابانشيكار ودونديكار وكونشكمانسكوي ومقابر بيغير شاي وغيرها). وقادَ عام 1957 البعثة الأركيولوجية لنهر الفولغا، وشارَكَ في البعثات الأركيولوجية لمُدن Golden Horde عام 1959.
لدى سميرنوف أكثر من 70 بحثاً علمياً، منها:
(فولغا بلغار) 1951، (مقالات عن تاريخ العصور الوسطى القديمة لشعوب مناطق الفولغا الوسطى) 1952، (العصر الحديد للباشكيريين) 1958، (العصر الحديد لمنطقة تشوفاش فولغا) 1961، (السكيثيين) 1966.

أ- كوكوتيني تريبيليا هي ثقافة أثرية من العصر الحجري الحديث-العصر الحجري النحاسي 5500-2750 قبل الميلاد في أوروبا الشرقية. امتدت من جبال الكاربات الى منطقتي دنيستر والدنيبر، وتركزت في مولدوفا المُعاصرة، وتُغطّي أجزاء كبيرة من غرب أوكرانيا وشمال شرق رومانيا، وتشكغل مساحة 350 ألف كيلو متر مربع، ويبلغ قُطرها 500 كيلومتر. كانت غالبية مستوطنات كوكوتيني صغيرة الحجم وذات كثافة عالية، مُتباعدة (من 3-4 كيلومترات)، وتتركز بشكلٍ كبير في أودية سيريت وبروت ودنيستر. بنى سُكانها، خلال مرحلتها الوسيطة 4000-3500 قبل الميلاد، أكبر مستوطنات أوروبا العصر الحجري الحديث،, والتي احتوى بعضها على ما يصل الى 3000 مبنى، وربما كان يسكنها من 20-46 ألف شخص.
بخصوص كوكوتيني تريبيليا، أُنظر أيضاً مقالة: (حول مُشكلة ثورة العصر الحجري الحديث في ضوؤ البيانات الأركيولوجية الجديدة)، من كتاب (مجموعة مقالات ماركسية سوفييتية-الجُزء الثالث: في الفلسفة والتاريخ، منشور الكتروني، ص257).
ب- ثقافة أنانيينو هي ثقافة أثرية امتدت من أواخر القرن الثامن الى القرن الثالث ىقبل الميلاد في تتارستان الحالية. يأتي الاسم من المدافن التي اكتُشِفَت لأول مرة بالقرب من مدينة انانيينو.
جـ- ثقافة دياكوفو، وهي ثقافة أثرية تعود الى العصر الحديدي واحتلت جُزءاً واسعاً من منطقة أنهر فولغا وفالادي وأوكا. امتدت اولى مراحل الاستيطان من أواخر القرن التاسع وحتى أوائل القرن الثامن في مستوطنات صغيرة تقع على نهر موسكو.
د- ثقافة الحُفرة القديمة، وهي منطقة جُغرافية عاشت فيها ثقافة اليامنايا Yamnaya، أو ثقافة الحُفرة القديمة النُحاسية-البرونزية 3300-2600 قبل الميلاد. كانت موجودةً على طول نهر الدنيبر، في منطقة السهوب وفي شبه جزيرة القرم بالقرب من مصب الدانوب، وفي مواقع شرق أوكرانيا حتى جبال الأورال. تم التنقيب عن المواقع في منتصف القرن التاسع عشر ودرسها غودورتسوف في أوائل القرن العشرين. اتخذت هذه الثقافة تسميتها من مقابر الحُفَر المًستخدمة للدفن. تضمنت الثقافة فخاراً بيضاوياً يحتوي على أدوات طعام وحجارة وعظام ونحاس وأسلحة وزينة. كانت المهنة الرئيسية لقبائل الثقافة هي تربية الحيوانات، مع أهمية ثانية للزراعة والصيد وصيد الأسماك. كشفت الحفريات في المواقع أيضاً عن عربات بدائية كانت تجرها الثيران وشواهد تحمل صوراً للبشر.
هـ- ثقافة الكاتاكومب، هي منطقة جُغرافية سادت فيها ثقافة العصر البرونزي منذ عام 2500-1950 قبل الميلاد في السهوب الأوكرانية. قام فاسيلي غورودتسوف بتحليل ثقافة الكاتاكومب بعد أعمال التنقيب التي قام بها في وادي نهر دونيتس في القرن العشرين. تنتشر آثار هذه الثقافة على نطاقٍ واسعٍ في شمال الضفة اليُسرى لأُوكرانيا والمنطقة الساحلية لبحر آزوف وشبه جزيرة القرم على طول نهر الدون. مارست قبائل هذه الثقافة الرعي وزراعة الكفاف البدائية وأنتجت أدوات معدنية. خلال وجود هذه الثقافة، حلّ النظام البطرياركي محل النظام الأُمومي. سُميَّت الثقافة حسب طريقة دفن الموتى، حيث وُضِعَت الجُثث في سراديب ورُشّت بالون الأحمر. كَشَفَت الحفريات عن فخار وسكاكين من الصوان وأدوات برونزية ومشربيات فضية. جَرَت أعمال التنقيب الرئيسية من قِبَل الأركيولوجيين السوفييت في الخمسينيات.
و- ثقافة الاطار الخشبي أو سروبنايا Srubnaia (بالروسية) هي ثقافة أثرية من أواخر العصر البرونزي (أوخر الألف الثاني وأوائل الألفية الأولى قبل الميلاد)، توزّعَت في مناطق السهوب والغابات في الجزء الأوروبي من الاتحاد السوفييتي. تمثّلَت ثقافة الاطار الخشبي في المستوطنات وأراضي الدفن والأغراض المعدنية والسبائك والأدوات المُستخدمة في صناعة المعادن. سُميَت على اسم الأُطُر الخشبية التي ميزت مقابرهم. تطورت الثقافة في منطقة الأورال والفولغا من تنويعة محلية لثقافة الحُفرة. أدى انتشار ثقافة الاطار الخشبي الى التوحيد الثقافي لسكان جبال الأورال في الشرق الى نهر الدنيبر في الغرب، ومن نهر كاما والروافد اليُمنى من نهر أوكا في الشمال الى سهوب البحر الأسود في الجنوب. كانت مُستوطنات ثقافة الاطار الخشبي تقع على ضفاف الأنهار، وفي المرحلة اللاحقة من الثقافة، أُقيمت السواتر التُرابية وحُفِرَت الحنادق حول المُستوطنات لحمايتها. عاش السكان في مساكن شبه أرضية مصنوعةً من جذوع الأشجار أو الحجارة. كان الدفن يتم في قبور فردية أُقيمت عليها أكَمات من التراب. شكّلَت الأواني الخارية، غالبية اللُقى. تتميز المرحلة الأولى من الثقافة بأوعية مُسطحة القاع مصبوبةً يدوياً في قوالب هندسية، وتميزت المرحلة اللاحقة بأوانٍ بسيطة كانت ذات زخرفة سيئة أكثر من الأواني السابقة وأحياناً كانت تُلصق بنُتؤات. ظَهَرَت الأواني المصقولة الدائرية في نهاية ثقافة الاطار الخشبي. كانت الأدوات والأسلحة والزخرفات مصنوعةً أساساً من البرونز، وشملت الفؤوس ذات المقبض والسكاكين والخناجر وبلطات حجرية مُسننة ورِماح خشبية بدائية في المراحل الأولى، وسيوف قصيرة ومناجل وغلايات ذات مقبض في المراحل اللاحقة. عُثِرَ على أفران ضخمة استُخدِمت في صناعة المعادن في منطقة فولغا-اورال ومنطقة شمال غرب البحر الأسود. يبدو ان الحديد استُخدِمَ لأول مرة، في المرحل اللاحقة من ثقافة الاطار الخشبي. كانت قبائل الثقافة، في منطقة السهوب من مُربي الماشية في المقام الأول، الذين ساروا في طريق الحياة المُتنقلة. كانت القبائل، في المناطق الحرجية، عبارة عن مُزارعين ومُربين مُستقرين. كانت مجموعات قبائل ثقافة الاطار الخشبي مُهمة في تشكيل الكيمريين Cimmerians وبعد ذلك السكيثيين.
ز- كانت ثقافة هالشتات هي الثقافة السائدة في أوروبا الغربية والوُسطى في أواخر العصر البرونزي الى أوائل العصر الحديدي (هالشتات A وهالشتات B) من القرن الثاني عشر الى القرن الثامن قبل الميلاد، وتطورت من القرن الثامن حتى القرن السادس قبل الميلاد (هالشتات C وهالشتات D)، وتبعها ثقافة لا تين La Tène. يتم ربطها في العادة بثقافة الكلتيين. سُميَّت باسم قرية في النمسا، حيث كان هناك منجم غني بالملح، وحوالي 1300 قبر معروف، ووُجِدَ فيها العديد من القِطَع الأثرية.
حـ- تاريخياً، كانت عملية القطع والحرق تتم في مناطق مختلفة من العالم سواء في الأراضي العشبية أو في الأراضي الغابية. خلال ثورة العصر الحجري الحديث، والتي تضمنت تقدم في الزراعة، قامت مجموعات من الصيادين وجامعي الثمار بتربية أنواع من النباتات والحيوانات، الأمر الذي سمح لهؤلاء بالاستقرار وممارسة الزراعة، وقدم مزيد من الغذاء من الزراعة بدلاً من الصيد وجمع الثمار.حدث هذا في حضارات الأنهار، بسبب النقص في الغذاء من الصيد. كلما ازداد عدد السكان، أصبحت الزراعة أكثر أهمية. تمكن بعض الجماعات زرع محاصيلها في الحقول المفتوحة عبر الوديان النهرية، بينما أخرون يوجد في أراضيهم غابات تمنع الزراعة فيها. في هذا المجال عمل الناس في أسلوب القطع والحرق لإنشاء مزيد من الأراضي للزراعة وتربية الحيوان.منذ زمن العصر الحجري القديم، استُخدِم أسلوب القطع والحرق بشكل واسعٍ لتحويل الغابات إلى أراضي زراعية ومراعي. استخدمت النار قبل العصر الحجري الحديث من قبل الصيادين-وجامعي الثمار حتى العصر الحالي. كانت تتم عمليات التنظيف بواسطة النار لعدة أسباب، لجذب الحيوانات وصيدها ولتشجيع أنواع معينة من النباتات على النمو مثل التوت.
ط- الثقافة السووروماتية، هي ثقافة تعود الى العصر الحديدي لبدو منطقة نهر الفولغا السُفلى في جنوب جمهورية روسيا الاشتراكية، ويرجع تاريخها الى القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. تطوّرَت هذه الثقافة من عناصر ثقافة سروبنايا (الاطار الخشبي) التي تعود من العصر البرونزي.
ي- يُستعمَل المسح عن طريق الخرائط في الأركيولوجيا من أجل ادارة موقع الحفر، ويوضع على أساس الدراسات القائمة والأعمال الميدانية الخاصة بالثقافة المعنية، وجميع البيانات المُتعلقة به.
ك- ثقافة تشيرنياخوف هي ثقافة أثرية ازدهرت بين القرنين الثاني والخامس الميلاديين (انتهت مع وصول قبائل الهان) في منطقة واسعة من أوروبا الشرقية، وتحديداً فيما يُعرَف الآن بأوكرانيا ورومانيا ومولدوفا وأجزاء من بيلاروسيا. يُعتَقَد أن هذه الثقافة هي نتاج لامتزاج ثقافي مُتعدد الاثنيات من القوطنيين والسارماتيين. كان ارتباط هذه الثقافة بالقوطيين هو الأمر المُثير للجدل فيها الى حدٍ كبير. هذه الثقافة اكتُشِفَت من قِبَل الأركيولوجي الروسي فيكينتي فياتشيسلافوفيتش خفويكا. كان النقاش حول هذه الثقافة يدور على صعيد عالمي.

ترجمة لمقالة:
A. P. Smirnov (1966) On the Question of the Archeological Culture, Soviet Anthropology and Archeology, 5:1, 3-10








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتقل متظاهرين في جامعة -أورايا كامبس- بولاية كولوراد


.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي




.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ




.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا