الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخرابة

دلور ميقري

2023 / 3 / 21
الادب والفن


فضاءُ عمله، كان محصوراً بين محطتيّ القطار والبولمان، المنتصبتين على طرف حيّ غيليز، الراقي، يفصل بينهما ثلاث دقائق مشياً على الأقدام ويوحدهما الطريقُ الأنيق، المتجه إلى الدار البيضاء. وكان في وسع ماسح الأحذية، ساعة الغداء، استخدامُ رصيف هذا الطريق للوصول مشياً إلى منزله، الكائن في عين مزوار؛ وهيَ منطقة شعبية، ازدهرت في العقدين الأخيرين بفضل قربها من شارع محمد السادس، الذي تقع على جانبيه أفخر الإقامات الفندقية في مراكش. وكان " حامو " وجهاً مألوفاً لحراس كلتا المحطتين، يراقبونه أحياناً بنظراتٍ ملؤها الحسد حينما يُنقده أحد السيّاح ورقةً مالية من عشرين درهماً. بدَوره، كان هذا الشابُ الأسمرُ يَمحض نفسَ النظرة لحلاق الحيّ الراقي، المتقاضي هنا ضعفيّ أجرة الحلاق الشعبيّ. ذلك أنها خمسة دراهم، التسعيرة الرسمية لماسح الأحذية، وكان من النادر أن يحظى بزبون مُعتبَر. بل إن تنقله الدائب بين المحطتين، كان من واردات مهنته، القليلة الحظ والمَردود سواءً بسواء.
أحلامُ اليقظة، كانت عزاءه في أوقات ندرة الزبائن، الممتدة إلى ساعتين في بعض الأيام، بالأخص إذا كان الطقسُ سيئاً. لكنها لم تكن العزاءَ الوحيد، طالما أن بين المسافرين ستخطرُ فتاةٌ جميلة بجسدٍ مثير، ومكشوف اللحم في الطقس الحار. عندئذٍ يخرجُ من أحلام اليقظة، لكي يتابع ارتجاجَ ردفِ وصدر هذه الفتاة أثناء تنقلها في أرجاء المكان، غير متأثر بنظرتها الفارغة عندما تلتقي عيناها المكحولتان بعينيه الجائعتين. أما لو كانت الحسناءُ سائحةً أوربية، فإنه يؤوب سريعاً إلى أحلام اليقظة، عقبَ اختفائها مع فتنتها وأريج عطرها: يحلم على الأثر أنه رافقها إلى مدينة الاصطياف البحرية ( أغادير أو الصويرة )، ثمة أين سيتمتعان بالسباحة بين الأمواج المزبدة ومن ثم يستسلمان لساعات الحب في الفندق الفخم.
بالرغم من معرفته الأكيدة لعقم أحلامه، إلا أنه كان يواظب عليها بمتعة ساعات الحب الحقيقية، التي يحظى بها غيره من الشبان المحظوظين. وكان على معرفة بأحد هؤلاء؛ جارٌ من جيله، ابتسم له القدرُ في خلال فترة عمله بالفندق، ليسوق إليه سائحة هولندية تكبره قليلاً بالعٌمر، وما لبثت أن اقترنت به ثم أخذته إلى بلادها، ليعود بعد عام واحد كي يتراقص بسيارته في شوارع مراكش.
وإنها ساعةٌ من الظهيرة، أفاقَ حامو في أثنائها من أحلام اليقظة حينَ دهمته حاجةٌ ملحّة للتبوّل. كان آنذاك مقتعداً على جانب مدخل محطة حافلات البولمان، المحميّ من الشمس اللاهبة بأفياء الأشجار، المشكّلة سياجاً طبيعياً للمحطة من جهة الشارع العام. عادةً، في مثل هذه الحالة، كان يستخدمُ حمّامَ المحطة. لكنه في أوقات زحام المسافرين، كان يقطع الشارع في طريقه لمكانٍ مُنعزل، يستطيع فيه تلبية حاجته. ذاك المكان، تنهض فيه أطلالُ بناءٍ قديم لم يبقَ منه تقريباً سوى الجدران ذات الأشكال المثلثة، الشبيهة بأسنان سور باب دُكالة. وهوَ ذا يتهيأ للنهوض كي يتوجه إلى تلك الخرابة، عندما أوقفه مرأى إحدى الحوريات الأوربيات، وكان على جسدها الرشيق قطعتان رهيفتان من الملابس الصيفية. خطرت بعضَ الوقت أمام عينيه، وما عتمت أن دخلت إلى المحطة هرباً من أشعة الشمس. عند ذلك استسلمَ لأحلام اليقظة، المعروفة مآلها.
أيقظه من ثمّ الضغطُ الحاد في مثانته، فهب واقفاً وخطا باتجاه الشارع العام. عندما كان يهمّ بقطع الطريق، في غمرة زعيق زمامير السيارات والدراجات النارية، تذكّر ملهوجاً أنه ترك عدّة العمل هناك في المحطة. ثم استدرك سريعاً: " مَن سيسرق عدّة ماسح أحذية، تافهة؟ ". هيمنت إذاً حاجةُ التبوّل على نفسه، ودفعته للهرولة باتجاه الخرابة. أحسّ بقشعريرة خوفٍ ( كانت دخيلة عليه في السابق )، وهوَ يجتاز مدخلَ المكان، الذي لم يكن فيه ما ينمّ عن الحياة سوى بعض شجيرات النخيل والليمون، المتبدية كأنها حارسته الأزلية. حقّ عليه ذلك الشعور بالرهبة، طالما أن الشمسَ كانت قد غربت فجأةً، لتمتلئ الأطلالُ بالظلال الزرقاء ومن ثم بالعتمة الكحلية. هواجسه المعلومة، جعلته يختارُ الجدارَ المقابل للمدخل كي يرش بوله على هيكله المتفتت. لكن عائقاً ما، لعله خوفه، منع ماءَ مثانته من الخروج. محاولاته المتكررة باءت بالفشل. وكان يستعدُ للانسحاب من المكان، والعودة إلى المحطة لاستخدام حمّامها، لما سمّره صوتُ وقع أقدام. الصوت، كان آتٍ ولا ريب من أعماق الخرابة. أضواء الشارع القريب، ما عتمت أن كشفت لعينيه ظلَّ شبحٍ، يتنقل بتثاقل وهوَ ينوءُ بحمل حقيبةٍ كبيرة. بدَوره، خطا بأثر الشبح، مدفوعاً بالفضول وقد زايله شعورُ الرهبة. الأضواء الشاحبة، ميّزت لعينيه بعدئذٍ ما يُشبه الحجرة، في صدرها قوسٌ حجريّ، أو محراب؛ وفي قاعدته هناك، بدأ الشبحُ بالحفر. الحقيبة الكبيرة، ما لبثت أن دُست في الحفرة ثم أهيل عليها الترابُ. الشبح، وكان يلوح أنه مرهقٌ ومكدود، ألقى نظرة أخيرة على القبر الاعتباطيّ ومن ثم تحرك بخطواتٍ مترنّحة باتجاه مدخل الخرابة. هنيهة على الأثر، مديدة أو مبتسرة، وكانت يدٌ أخرى تُخرج الحقيبة من الحفرة. ودائماً على أضواء الشارع ( وبالرغم من الضغط الهائل في مثانته )، تحققَ لماسح الأحذية أنه أضحى الآنَ في عداد أغنياء هذه المدينة، التي تجذب السيّاحَ كما تفعل الحلوى بالهوام: لقد كانت الحقيبة متخمة برزم، يحتوي كل منها على أوراق مالية بمئات الدولارات.
في تلك الظهيرة عينها، فتحَ حامو عينيه ليغمرهما ضوءُ الشمس الحاد، المتسللة بعضُ أشعتها خللَ أغصان الأشجار، التي تحجب محطة حافلات البولمان عن الشارع العام. ضغطُ مثانته، كان ما فتأ في أوجه. وكان من الممكن أن يُصاب بالجنون، بعدما فقدَ الكنزَ، لولا أنه سبقَ وخاضَ مراراً لُجَجَ أحلام النوم واليقظة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي